
13-12-2022, 02:46 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,245
الدولة :
|
|
العنوان بوابة النص
العنوان بوابة النص (1)
محمد صادق عبدالعال
العنوان هو العتبة الأولى للوُلوج لمفاد ومَغزى النص، أو الفهم الظاهر لما يُريد الكاتب الحديث عنه، أو إن شئت قل: هو اللحظة التنويرية المبدئية لفحوى النص، والعنوان مُقوِّم رئيس من مقوِّمات عُروج النصوص لمنصَّة الإبداع، أو هو البوابة الرئيسية ذات الجهات الأربع الأصلية اللواتي يصنعن المطابقة بين النص وشخصية الكاتب والبيئة المحيطة وميوله الأدبية.
ومعلوم أنَّ كثيرًا من الكُتَّاب الذين يُشار إليهم بالبنان تروّج لكُتبهم وأعمالهم أسماؤهم، وصيتُهم وخبرات الذين سبقوا بالقراءة والاطِّلاع لهم، وبكونهم ثقاتٍ لهم باع وصاع، وذيوع شهرة وانبهار الكثير بأقلامهم، وفيض أحبارهم، وليس هذا الأمر هو ما يعنينا مِن المقال، فمقصد القلم في ذلك هو العنوان أيًّا كان صاحبُه.
والكُتَّاب في صناعة وابتكار العنوان على مستويات وأنماط عديدة، تتبايَن وتختلف، وربما كانت العناوين كاشفاتِ الظنون لمن لم يدرِ من صاحب الكتاب! فترى مثلًا من الكُتَّاب من يختار العنوان اليسير السهل الكاشف، وبدهي أن يكون النص المنسدل تحت مظلَّته من صيغته، حتى ولو وُصِف من قِبَل النُّقَّاد بالسطحية والمباشرة، فذلك في الكتابة ديدنه، والناس أهواء وأذواق.
ومنهم من يختار العنوان المعبِّر بمهارة عالية، يحار فيه من ليس له أرض راسخة من فضل اكتساب العلم والثقافة أو التعرُّف على نمطية هذا الكاتب في سياق عناوين أعماله، ومنهم من يكون بين هذا وذاك، أو كما يقولون: المعتدل، لا إلى الفلسفية العالية يميل، ولا إلى السطحية المباشرة يقيل.
• من أشكال العنوان الأدبي:
نجد "العنوان الإيحائي" الذي يتوسَّط المباشرة والتعمُّق، وهو ما يستخدم دلالةً مُعبِّرة أو عناوينَ مُغايرةً، لكنها تصُبُّ في نطاق الموضوع صبًّا صبًّا، يتَّضح ذلك جليًّا لمن كانت له العين الثالثة كما قلنا قبل، "ترى ما لا يراه المطَّلعون، وهذا النوع من العناوين غالب شيوعه في مناطق القهر الفكري أكثر من أخريات تتمتَّع بالحريَّات، ولا يُعدُّ "العنوان الإيحائي" ذو الدلالة أو "كلمة السرِّ" بين المثقَّفين وأَمثلهم طريقةً هو ما يخدم هذا الغرض الوقائي فقط؛ بل من سماته الكشف عن إبداعات الكاتب وموروثه الثقافي المكنون الذي يلجأ إليه حال مخاض الكتابة.
• ومن فضل الله عليَّ بنعمة القراءة اقتنائي لكتاب ذات يوم وأنا قادمٌ من مدينة "دمياط الجديدة"؛ إذ رأيتُ شابًّا بناصية الطريق يعرض كُتبًا للبيع قديمة هي في تاريخ صدورها، وأنا من يعشق القديم عشقًا، وكأن عبق التراث نابضٌ فيها، فأمسكتُ برواية ذات غلاف أزرق زُرْقة النيل ومخطوط عليها أسفل صورة صاحبها المرسومة بالريشة: "البحث عن الشمندورة"، تضاءلتْ عزيمتي في اقتنائها؛ وكدتُ أتراجع عن شرائها ظنًّا منِّي أنها شبيهة بالقصص البوليسية أو حكايات "ميكي"، مع احترامي لأربابها، لكنه لونٌ لا يستهويني، ولما تنقلتُ سريعًا بين سطورها وصفحاتها وجدتُها ذات قيمة أدبية ونقدية تستحقُّ الاقتناء؛ ضممتُها إلى صدري، وناولت البائع الشابَّ ما طلب بعد فصال اتَّسم بالتسامُح مِن كلينا، وهأنا اليوم أُفتِّش عنها من بين الكُتب بمكتبتي فعثرتُ عليها ليقين عندي أن هذا العنوان "إيحائي" يستحقُّ الاستشهاد به داخل تلك الصفحات القليلة، وبالفعل صدق حدسي حين اعتدلتُ أقرأ من أول التقدمة لثلاثة من الأدباء والنقاد لصاحب العمل الكاتب الأديب "محمد خليل قاسم"، تنقُّلًا بين حياته في البيئة النوبية المصرية، وكيف كانت "الشمندورة" عنوانًا رمزيًّا مواكبًا موفَّقًا للكاتب "محمد خليل قاسم" - وهو من مواليد النوبة المصرية - استنْزَف الأحبار من أقلامه استِنْزافًا، ونزع خيوط الرواية من بين براثن القهر، وتحدَّى الظروف، حتى خرجت "الشمندورة" تحكي حلمه الكبير عن التحام النوبة بالقطر المصري من الجنوب، والدعوة لعدم حرمانه بالانعزالية التي قد تدفع بالكاره لهذا الوطن أن يصنع جبهةً مضادةً للبلد الأمِّ بدلتاه وشماله وشرقه، داعيًا إلى النهضة الفكرية والالتفات لمتطلَّبات هذا الجنوب المعزول برغم استشرافه فيض النيل، وأن سبب كتابة الرواية جاء بعدما قامت حكومة "صدقي باشا" بما هو غير إنساني حين التعلية الثانية لسدِّ أسوان، وتهجير سُكَّانها بطريقة مُفزعة - حسب قوله - والمستخلَص أن العنوان حين يكون مُناسبًا معبرًا فمؤكَّد أن تكون ثنايا السطور مرايا له ولفكرة اختياره.
• ويحضرني الآن وأنا على منصة الكتابة التي أتَّكِئ عليها - روايةُ أستاذنا الأديب الكبير المبدع "إبراهيم السيد طه"، من كبار كُتَّاب الرواية والقصة في وطننا العربي، وهو ابن أرض "الدقهلية - مصر"، وروايته بعنوان: "رياح الخليج"، والعنوان إيحائيٌّ يَغُوص في حقبة زمنية بعينها ربما عاصرتها كثرةٌ من محافظات مصر، يتناول فيها بأسلوبه الرائع والمتنقِّل بين السرد والحوار أحوال قُرى وأرياف مصر عقب السفر لبلاد الخليج لقاء الدينار "والدولار"، وتغيُّر الظروف وانقلاب موازين القُرى من اليسر وقلَّة الاحتياجات إلى المعاصرة وغلبة الكماليات على الضرورات، وأثر ذلك على العلاقات الإنسانية والأواصر الاجتماعية.
• أما رواية "الوتد" للمبدع "خيري شلبي"، التي تستدعي من القارئ حالةً من يقظة الذهن مع الربط بين ما هو مُجتمعي مَحلِّي قروي وإقليمي وعربي، وكيف أن (أُمًّا) استطاعت أن تجمع حولها الأبناء لتُجاهد بهم تحوُّلات الأيام ومعايشة الخلق بما لا يسمح لأحد أن يَتِرَهم حقوقهم، أو يبغي في الأرض الفساد، والقصة مِن عُمق الأعماق بريف مصر، لكنها درس وإسقاط لواقع عربي مطلوب، فما أحوج الأُمَّة الآن للمثل المحتذى به! وعنوانها رمزيٌّ - أعني الرواية - حيث استخدم الكاتب رمزًا شاع بين الناس الأخذ به لمن يجمع حوله أشياعه بقوَّة الجماعة وغلبة العقل، فضلًا عن اقتباسه من القرآن الكريم لقوله تعالى: ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ [النبأ: 7]، فالوتد فسَّره (معجم المعاني التقني كالآتي: وَتَد / وَتِد، الجمع: أوتاد.
• الوَتِدُ: ما ثُبِّتَ في الأرض أو الحائط من خشب ونحوه، لدعم سور، أو تثبيت خيمة، أو ربط حيوان، أو تعليم نقاط في مسح، أو كسلاح عندما يُسنَّن طرفه.
•أوتادُ الأرض: جبالُها، أوتادُ البلاد: رُؤساؤها، زعماؤها - أوتادُ الفم: الأسنان، - ذو الأوتاد: فرعون).
لذا نشهد بأن الكاتب القدير "خيري شلبي" قد وُفِّق في انتقاء العنوان الرمزي الدال على مضمون العمل توفيقًا شامَ سماء الإبداع.
• وحتى لا يختلط علينا الأمر، فمَن يقرأ لفظة "العنوان الإيحائي" تُراوده مفردة أخرى تكاد تقترب منها أو ترتفع عنها قليلًا، ألا وهي: "العنوان الرمزي أو الإسقاطي" الذي يذهب بفكر القارئ لمنطقة مماثلة ليكشف النقب عن حالة مشابهة ليس له من خيار سوى التلاعُب وإيجاد البديل الرمزي الذي يصبح هو الآخر كلمة سرٍّ سرعان ما تشيع بين جمهور المثقَّفين، وقد تمتدُّ للبسطاء ممَّن لهم باع في الثقافة والقراءة.
• وأغراض العنوان الرمزي أو الإسقاطي لا تختلف كثيرًا عن العنوان الإيحائي، إلا في مجانبة المخاطر والمساءلة، غير أنهما يلتقيان في بوتقة واحدة لينتجَا الإبداع الخالص.
• (العنوان حَمَّال أوجه): وبما مَنَّ الله عليَّ من نعمة الكتابة، والمحاولة في خوض تجربة القصِّ، كانت العناوين تُمثِّل عندي حالة من القلق والهدوء في آن واحد، حتى لا أكون شبيه من ذكرتُ باختيار العنوان المبهر الخَلَّاب، وباطنه لا ينمُّ عن ظاهره، أو أتخيَّر العنوان الكاذب؛ وممَّا ذهبت إليه ذاكرتي من منشوراتي بالشبكة العربية الألوكة الطيبة قصتي بعنوان: "المدينة"، تلك التي قدح ومدح فيها كثيرٌ ممَّن قرأتُ عليهم، لكن الذي أسعدني وأفردني بالانتشاء بها هو أستاذي الذي ذكرهم بمفردة من أصول التراث الأدبي النقدي وهي: "الكلام حمَّال أوجه"، فالعنوان هنا "حمَّال أوجه"، فقد ذهب البعض منهم للقول: بأنها "المدينة المنورة" لسمات تكاد تقترب منها، ومنهم من قال: "المدينة الفاضلة" حلم أفلاطون، ومنهم من أصاب موضع النجابة فسطا على فكرتي فنال منها، وأدرك مقصدي بأنها "القبور"، حين رتَّب المفردات والجمل، واستدعى التراكيب الموحية بذلك، وعلى أية حالة حُمِل العنوان الرائع فإنها نالت إعجاب الكثير، وحازت شرف النشر بشبكة الألوكة العربية الراقية.
• ولن أتورَّع أن أسوق المثال الآخر لشكل من أشكال العنوان الإسقاطي الرمزي، لكن هيهات أن أناظر الرائع أستاذنا "خيري شلبي" في رمزيته "الوتد"، فكتبتُ "المستضعفون في الحقل"، وهي شبيهة "كليلة ودمنة" التراثية، فيها من الترميز ربما يكون مكشوفًا للكثير، لكن لا ضير من استخدام الإسقاط الذي لا يضرُّ صاحبه، ويسوق الفكرة - وهي الرسالة المنوط بها الكاتب في الوقت ذاته - لتصل للناس، وقد نُشرت بشبكة الألوكة/ حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة / جاء فيها: المستضعفون في الحقل (ثلاثة هم: اثنان منهم يجوبان الأرض قهرًا تحت ظُلمة مُصطنعة، فما زالت شمس النهار تلسع أجسادهم لسعًا، عطاشٌ برغم خرير الماء الناشئ عن هديرِ، وأما الثالث فمطية لكلِّ راكب، مكبَّل بعربة الحصاد والزراعة، فضلًا عن كونه الوسيلة لصاحب الحقل في المكوث والنقل، وشاهد عيان على الخديعة الكبرى التي يظنُّ صاحباه بها أنهما في سياحة، وما يُغادران الساحة، لكنه صامت يخشى أن يُفصح، وأما الرابع، وما أدراك ما الرابع؟! فمُتابع وملاحق، ولاهث خلف صاحب الحقل يُحيِّيه أينما حلَّ، مُدلَّل رغم أنف الثلاثة سالفي الذِّكر؛ فطعامه النضيج، ومقامه الظل، فباتت عيون الثلاثة ترمقه حسدًا وبُغضًا، ينتظرون هدأة الليل وسكونه، ودفْء المكان وشموله، حتى يُفصح كلٌّ منهم عما يُكِنُّه صدره حيال هذا المدلَّل).
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|