عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 13-12-2022, 02:46 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,373
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العنوان بوابة النص

العنوان بوابة النص (1)
محمد صادق عبدالعال







وعناوين النصوص الأدبية على اختلاف وتعدُّد أنواعها من قَصٍّ تنسدل تحت مظلته الرواية والقصة الطويلة والقصة القصيرة، وصولًا إلى مستحدثات القَصِّ، وانتهاءً بما تُسمَّى (الومضة)، تتباين ولا قياس عليها، إلَّا في حالات نادرة، تخضع جميعًا للزمان والمكان و"ديناميكية" الكاتب نفسه في أسلوبه واختيار مفرداته.


ولو تتبَّعنا الأمثلة لذلك لظهرتْ لنا اختلافات كثيرة، قد تُشكِّل الناحية البيئية عليها مُنحنًى ظاهرًا، ولربما فرضت على الكاتب اختيار العنوان أو الاقتراب من بيئته، ولو عُدْنا بالذاكرة مثلًا لقديمٍ بدايةً من قرض الشعر في البيئة العربية مثلًا، ونحن نعلم أسبقية الشعر على القص كأنموذج لجنس أدبي مُصنف، حتى ولو كانت ثنايا الشعر العربي القديم نفسه قصصًا لبطولات ومغامرات العربي والفروسية والغزل لأهل البداوة منهم والحضر، لكننا لا نعني ذلك؛ بل إن المبتغى هو الوصول إلى أن البيئة الثقافية العربية قديمًا كانت تتجاهل عنونة النصِّ الأدبي، فيُنسب النصُّ لصاحبه دون عنونته أو ضمِّه لباب من أبواب افتخار العربي بشيعته أو رثائه أو وقوفه على الأطلال أو هجاء بينه وبين الآخر لشقيقة وخصام، فنجد مثلًا (في الفخر أو الغزل لعنترة العبسي أو العتاب للمتنبي، أو في الهجاء لجرير أو الحطيئة، أو في الحكمة للسهروردي، أو في الزهد لأبي العتاهية، وفي الزهر للشيخ ناصيف اليازجي بعد ذلك ...إلخ)، ومن الشعراء من كان له مجال معين يرتع فيه ولا يبرحه، فأصبح عالقًا بذاكرة الناس مهما تعاقبت الأزمنة؛ كالفرزدق مثلًا وجرير صاحبي قصائد الهجاء المتبادل بينهما؛ أو كامرئ القيس في الوصف للخيل والليل، وكثير من أرباب وجهابذة تلك الحقبة الذين نُسبت عناوين أعمالهم إلى أغراضهم الشِّعرية.


ونستطيع القول منطقيًّا وبعيدًا عن تاريخ الأدب: إن اهتمام العربي قديمًا بالنصِّ، وجودته وربما تلقائية إلقاء الشعر والنثر جعلته لا يلتفت إلى اختيار عنوانه لحفظ عمله من الاندثار والضياع مع أشباه الغرض الواحد.


وللتوضيح: فما نحن بصدده هو العنوان الخاص بالقصة والشعر والنصوص السردية والنثرية الأدبية، ولم نتطرَّق بعد لما يُسمَّى "بالعنوان المسجوع"، الذي كان من أبرز السمات في كتابات السلف من العصور الوسطى وما قبلها وبعدها، وبدا ذلك العنوان ظاهرًا في تسمية المعاجم والمراجع في شتى صنوف المعرفة، وهذا هو الآخر كان يتطلَّب من صاحب العمل إنشاء العنوان الجذَّاب ذي الجرس الموسيقي الرنَّان ليكون مميزًا وجديدًا؛ مثال: "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" للقلقشندي، "كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون" لحاجي خليفة، "الآثار الباقية عن القرون الخالية" للبيروني، ولو أراد الله لنا أن نسرد منها لما وسعت صفحاتنا تلك التراثيَّات الرائعة ذات الأسماء المشبعة رغبات محبي الاطِّلاع وموروث الثقافة العربية الأصيل.


ولو تتبَّعنا كما قلنا الأعمال الأدبية من بعد ظهور الإِسلام وفترة من الخلافة وما تلاها، والعصور العباسية التي هي أوج عصور ازدهار الأدب العربي، وصولًا لعهد ليس ببعيد - لوجدنا أن النمطية والمباشرة التي كانت عليها العناوين لا نستطيع الحكم بها على روائع أعمال الكُتَّاب والشعراء؛ ذلك لأن العنوان حينها لم يكن من أساسيات صنع القصيدة أو صياغة القصة.


بل إن كثيرًا من القصائد والنصوص الأدبية رحل عنها أصحابها وما وُضِعت لها عناوين إلا بعدما رحلوا، ومنها ما تاه في مواكب النسيان وتقلُّبات الدهور، فأصبح المشهور مغمورًا؛ وحار الناس لمن ينسبون العمل فإن عُثر على صاحبه لم يعد مطلب التنقيب عن اسمه وعنوانه مطلوبًا حين كُتب، فتولوا هم ذلك، فالغالب منها - أقصد عناوين الأعمال الأدبية- مجهولة الاسم، منها ما هو وضعيٌّ أي مِن صُنع المؤرخين والدارسين لأجل الفهرسة بنوعيها الوصفي والموضوعي والتصنيف والحِفْظ الرقمي.


ومن العناوين التي تَنسلُّ إلى مسامع الناس ما يوضع زكاةً لقافية الشاعر أو الناظم لطولها ولوفرة الحكمة العالية بها واشتمالها على المناقب والمحامد؛ مثل: لامية العجم "جامعة الأمثال والحكم، التي أصبح لها شروح ومناهج دراسية" للوزير الشاعر الطغرائي، ومطلعها:
أصالةُ الرأي صانتْني عن الخَطَلِ ♦♦♦ وحِليةُ الفَضْلِ زانَتْني لدَى العَطَلِ


ونونية البستي لأبي الفتح البستي، ومطلعها:
زيادَةُ المرء في دُنياهُ نُقصانُ ♦♦♦ وربْحُهُ غير مَحْضِ الخَيْرِ خُسرانُ


ونونية القحطاني حديثًا، وهي من عيون القصائد السلفية، ومطلعها:
يا مُنْزِلَ الآياتِ والفُرْقانِ
بَيْني وبينكَ حُرْمةُ القُرْآنِ

اشرحْ به صَدْرِي لِمَعْرِفةِ الْهُدَى
واعْصِمْ به قلبي من الشَّيْطانِ




والقصيدة الهائية، وهي عنوان لأكثر من صاحب، فتلك لحُجَّة الإسلام الغزالي، ومطلعها:
ما بال نفسي تطيل شَكْواها ♦♦♦ إلى الورى وهي ترتجي اللهَ


و"القصائد العينية"؛ حيث اندرج تحت هذا العنوان الكثير منها على سبيل النقل والذكر: (القصيدة العينية لابن سينا الشيخ الرئيس، والقصيدة العينية للإمام الجيلي حفيد الإمام الجيلاني، والعينية للجواهري، وللإمام الحداد"، والكثير ممَّا يجعل الطالب لواحدة منهن أن يُحدِّد صاحب "العينية" بغية الحصول عليها دون مشقة، وربما كانت تلك العناوين مفاتح لحفظ واستظهار تلك الروائع التراثية في أدبنا العربي الجميل.


العنوان "المستهلك والمستعار" ومع مرور الزمن وسطوع بدر القصة وثبوت أهليتها في أقطارنا العربية، واستخراج المضمون القصصي من بين ثنايا التراث الشعري والسردي أيضًا، رضي بذلك الناقد أو قال بأن لها أرباب صناعة غربيين، نقول ولا ننثني:
إنه مع الزخم الكثير من نتاج القصة وشيوع الرواية وتعدُّد أقلام الشعر، أصبحت العناوين من مقوِّمات النجاح؛ بل قل من مُسوِّغات الملكية الفكرية للعمل، فنجد أعمالًا تتشابه مع أعمال أخرى لكُتاب في العناوين وتختلف في المضامين، وهذا هو الفيصل، ويجيز ذلك المصطلح النقدي "توارُد الأفكار وابتعاث الحكمة بعضها بعضًا"، أو كما يقول العلماء اللغويون: "النص ابن النص، أو لا يوجد نصٌّ وليد الساعة"، "فيجتمع الكاتبان أو أكثر على عنوان واحد، لكن اختلاف وجهات النظر، والفكرة المكنونة داخل النص، والمعالجة، هي الحَكم أو الدليل لبراءة اختراع العمل، وسلامة صاحبه من تهمة الجَور على ممتلكات غيره، وإن لم يكن ذلك فنقول له كما قيل في سارق قصيدة عمر بن الفارض: "وقع الحافر على الحافر، من الأول إلى الآخر".


وقد تأتي المطابقة والتشابه في العناوين بسبيل المصادفة أكثر من العَمْد، والفكرة والتناول هما الفيصل كما بيَّنَّا؛ فالعنوان يعدُّ من خصوصيات الكاتب واتجاهه الثقافي والأدبي، ولقد صادف ذلك الأمر عندي في اختيار عنوان قصة قصيرة بعنوان: "قصة نظرة" تطابقًا مع نفس العنوان لعَلَم من أعلام الرواية والأدب في عصرنا الحديث رحمة الله عليه هو الأستاذ يوسف إدريس، صاحب قصة "نظرة "مع حفظ المقامات بالطبع.


والناظر في كلتا القصتين يجد أن أستاذنا "يوسف إدريس" قد سلَّط الضوء تسليطًا شديدًا على القهر الطبقي في تلك الفترة، وبدا ذلك من مفردات القصة، ووصفه الواضح لسمات الطفلة التي كانت تحمل فوق رأسها صينية الطعام، ولا أراني قد ادَّعيت الاستعارة لعنوان إبداعي لكاتب كبير كـ"يوسف إدريس"، إلا لما رأيتُ شبه مواكبة بين كلتا نظرتينا؛ فنظرتي أي - "قصة نظرة" الخاصة بي - لا علاقة لها بالطبقية، ولا أشكال القهر الطفولي لحقبة معينة؛ بل إن النظرة كلها سلطت ضوءها وومضتها على لحظة مُفجعة حين يكتشف المتبرِّع بملاحقة اللصِّ السارق لحقيبة السيدة المسنة كان لأجل صورة شابٍّ قطع بأنه ولدها الراحل مع المعايشة في جو الضوضاء المعاصرة والقهر الغوغائي والهمجية المنظمة، ممَّا حدا بالعجوز أن تلتزم يمين الطريق مخافة المتهورين.


• وللمقال جزء ثانٍ بإذن الله.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.79 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.68%)]