عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 13-12-2022, 02:50 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي امرؤ القيس والظمأ إلى الحب والموت

امرؤ القيس والظمأ إلى الحب والموت



أ. د. أحمد درويش


قدمت في 5 فبراير 1986م




على النحو الذي تقترب به الفراشات مِن مصدر الضوء، وتظل ترقص حوله وتُغني دون أن تحسبَ حسابًا للخطر الكامن قريبًا منها حتى تحترق، على هذا النحو كانتْ حياة علم الجاهلية القديم وأشهر شعرائها؛ بل وأشهر شعراء العربية على الإطلاق: امرؤ القيس.

كان قد اختار لنفسه أو اختارت له المقادير محورين من محاور الحياة، يبدوان متباعدين، ولكنه مزج بينهما وصهرهما في كيمياء الشعر حتى أصبحا محورًا واحدًا، يمزج بين الحب والموت، ويبحث في وحشة أحدهما عن لذة الآخَر، ولم تكن عبارته الشهيرة "اليوم خمر وغدًا أمر"، إلا معبرًا ربط بين هذين المحورين.

وكان امرؤ القيس قد شغل الدنيا والناس حوله، عاشقًا أو طالبًا للثأر، أو مغتربًا أو محاربًا، أو فتًى ناحلًا يذوي ويُقضى عليه، أو يموت في بلاد الأعاجم، ومن كل هذه الزوايا جَرَتْ حكايته على كل لسان، وجرى شعره معها، وتداخل جانب الأسطورة مع جانب الحقيقة فيها؛ فأصبح شعره أسطورةً، وأصبحت أسطورته شعرًا، ومن هنا أيضًا شغل الدارسين بعده لكي يُميِّزوا بين الجوانب المختلفة في تراثه الفني.

و"امرؤ القيس" ينتمي إلى قبيلة كندة التي هاجرتْ من اليمن، واستقرتْ في نجد، وقد عاش في القرن السادس الميلادي، ومات قبل ولادة الرسول بسنوات قليلة (بعض الروايات تقول: إنه مات سنة 565، وقد وُلد الرسول سنة 570)، وقد عاش نحو خمسين عامًا، ومعنى ذلك أنه ليس أقدم الشعراء الجاهليين كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكنه من أكثرهم تأثيرًا في شكل القصيدة العربية وتقاليدها، كما أشار إلى ذلك النقاد القدماء.

اسمه: امرؤ القيس، (وهي كلمة معناها: رجل الشدَّة)، وكان ابنًا لحُجْر بن الحارث ملك قبيلة بني أسد التي كانتْ تقطن منطقة نجد، التي كان ينتمي إليها الشاعر الجاهلي المشهور عبيد بن الأبرص، ولقد جنى الشعر على الأمير الصغير منذ بدء شبابه، فلقد عرف الحب والتغزُّل في بنات القبيلة والقبائل المجاورة، وكان ذلك يُوقع الملك في الحرج، ويبدو أن ذلك قد بلغ مداه بفاطمة بنت العبيد مِن قبيلة بني عُذرة، وهي التي يرِدُ اسمها في المعلَّقة حين يقول:


أفاطِمُ مهْلًا، بعضَ هذا التدلُّلِ

وإن كُنتِ قد أزْمَعْتِ[1] صَرْمي[2] فأجْمِلي



أغرَّكِ منِّي أنَّ حُبَّكِ قاتلِي

وأنَّكِ مهما تأْمُري القلبَ يفْعَلِ





وليست هذه الأبيات بالطبع التي أغضبت أباه، ولكنها أبيات أخرى في المعلقة يُشير فيها إلى مغامرات جرَتْ داخل الخيام تحت جُنح الليل مع هذه الفتاة وغيرها، وأبيات في قصائدَ أخرى تُكرِّر نفس النغمة...

لكن الملك يُقرِّر أن يطرد ابنه بعيدًا عن حماه، وتبدأ في حياة امرئ القيس مرحلة مِن الصعلكة، يلتقي خلالها كما يقول صاحب الأغاني بأخلاط مِن شُذَّاذ العرب، فإذا صادف غديرًا أو روضة أو موضع صيد أقام فذبح لمن معه في كل يوم، وخرج إلى الصيد فتصيد ثم عاد فأكَل، وأكلوا معه، وشرب الخمر، وسقاهم وغنى قيانه، ولا يزال كذلك حتى ينفد ماء ذلك الغدير فينتقل إلى غيره.

ولعل هذه المرحلة هي التي عرفت ذلك الاتصال القوي بين الشاعر والطبيعة التي ساعدتْ على استخراج أجمل اللوحات الخالدة في تاريخ الشعر العربي، والتي جرى فيها تأمل عميق لليل والنهار، والمطر والامتداد اللامتناهي للصحراء ولقمم الجبال، التي تجثو ساكنة كأنها شيخ غطَّى رأسه بعباءة مخططة، ثم أيضًا لحيوانات هذه الطبيعة التي ترافق الشاعر في وحشتها وتتحدث إليه في سلوكها: الناقة والجمل على الأرض، والنسر والعقاب في السماء، وفي مرمى أبصارها ومدى وقع تحرك خطاها أو خفق أجنحتها تكمن عشرات أخرى من الحيوانات أو الطيور الصغيرة التي توشي لوحات الشاعر المتعددة.

ها هي لوحة الليل الشهيرة عنده تقول:


وليلٍ كمَوْج البحْرِ أرْخى سُدُولَه

عليَّ بأنواع الهُمُومِ ليَبْتَلي[3]



فقلتُ له لَمَّا تمطَّى بصُلْبه

وأرْدَفَ أعْجازًا وناءَ بكَلْكَلِ[4]



ألَا أيُّها الليلُ الطَّويلُ ألَا انْجَلي

بصُبْحٍ وما الإصْباحُ مِنكَ بأمْثَلِ



فيالَكَ من ليلٍ كأنَّ نُجومَه

بكُلِّ مُغارِ الفَتْلِ شُدَّتْ بيَذْبُلِ[5]



كأنَّ الثُّريَّا عُلِّقَتْ في مَصَامِها

بأمْراسِ كتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدلِ[6]





وها هو يمزج الحصان بالصقر في لقطة واحدة عندما يعلو غلامه ظهر الحصان لكي يصطاد به أرنبًا بريًّا، فهو يهوي عليه كالصقر يُطارده بنظرات قلِقة لا تستقرُّ في مكان:


كأنَّ غُلامي إذْ عَلا حالَ مَتْنِه

على ظَهْرِ بازٍ في السَّماءِ مُحَلِّقِ[7]



رأى أرْنبًا فانْقَضَّ يَهْوي أمامَه

إليها وجلَّاها بِطَرْفٍ مُلَقْلَقِ[8]





لكن هذه المرحلة التي جرَّت امرأ القيس إلى أقصى طرف محور المتعة واللهو ممثلًا في الصيد والشراب والغزل وحرية الانتقال من مكان إلى مكان - لم تدم طويلًا، فقد تطوَّرت على نحو مفاجئ في العلاقة بين قبيلة بني أسد وبني حُجْر بن الحارث ملكها ووالد امرئ القيس، فقد تمرَّد بعض أبناء القبيلة على دفع الضرائب أولًا، فغالى الملك في عقابهم وإهانتهم وطردهم، وآلمتهم الإهانة، فقرروا الانتقام، وكان أن فاجؤوا الملك في خيمته فقتلوه، وتقول الروايات: إن الملك عندما أُصيب كتَب وصيةً يطلب من أولاده فيها أن يثأروا له من بني أسد، وأعطى الوصية لرجل، وطلب منه أولًا أن يمرَّ على أولاده بادئًا بأكبرهم، وأن يخبرهم بقتل أبيه، فمن أظهر منهم الجزع والحزن لا يُعطيه الوصية، ومن تماسك منهم أعطاها إياه، ويمرُّ الرجل عليهم جميعًا فيُظهرون الجزَع والحزن، حتى يصل إلى أصغرهم امرئ القيس، فيجده مُنشغلًا باللعب والشراب، وحين يُخبره يُكمل جولة اللعب التي كانتْ معه، ثم يلتفت إلى الرجل فيسأله عن الأمر، وعندما يعرف يقول: "ضيَّعني صغيرًا، وحمَّلني دمه كبيرًا، لا صحو اليوم ولا سُكْر غدًا، اليوم خمر وغدًا أمر، حرام عليَّ المتعة حتى أقتل من بني أسد مائة، وأجزُّ نواصي مائة".

منذ هذه تبدأ رحلة امرئ القيس، نحو الطرف الآخر من رحلة الحياة نحو الموت، وهي رحلة سوف يُعطيها كلَّ همِّه وطاقته، ولن يكفَّ عن الدوران حولها حتى يحترق فيها، لكنه خلال الدوران سيُعطينا هذه المرة خلاصة رائعة لكثير من جوانب الحكمة في الحياة: سمو الهدف وكيف يُعذَّب الجسد في سبيله، بُعد الهِمَّة وكيف يتحوَّل إلى خيط مرئي، الصداقة وكيف لا تصمد أحيانًا للحظات الشدة القاسية، الغُربة البعيدة وكيف تبعث كل معاني الحنين والشوق في النفس البشرية، الإحساس بشبح الموت يقترب وكيف يذوقه الشاعر ويحس ريحه.

لقد أصرَّ امرؤ القيس في هذه المرحلة على أن يستنفر القبائل لنُصْرته ومساعدته على الثأر من بني أسد، وهو في سبيل هذا لا يكفُّ عن أن يسلك كل الطرق ولا يمل، فهو لا يرضى بشيء دون هدفه:


فلَوْ أنَّ ما أسْعى لأدْنى مَعيشةٍ

كَفاني، ولم أطلُبْ، قَلِيلٌ مِنَ المالِ



ولكنَّما أسْعى لمجْدٍ مؤثَّلٍ

وقد يُدْرِكُ المجْدَ المؤثَّلَ أمْثالي[9]




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 24.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.50 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.60%)]