شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)
كتاب الصلاة
شرح سنن أبي داود [097]
الحلقة (128)
شرح سنن أبي داود [097]
في الصلاة أحكام عظيمة مهمة ينبغي للمسلم العناية بها، ومن تلك الأحكام ما يتعلق بموضع الاعتماد حال النهوض من السجدة الثانية إلى الركعة الأخرى، ومنها ما يتعلق برفع اليدين إلى الأذنين أو إلى المنكبين ومواطنه في الصلاة، وغير ذلك من الأحكام العملية التي لا يليق بمسلم جهلها.
تابع افتتاح الصلاة
شرح حديث (فلما سجد وقعتا ركبتاه إلى الأرض قبل أن تقع كفاه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن معمر قال حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام حدثنا محمد بن جحادة عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال: (فلما سجد وقعتا ركبتاه إلى الأرض قبل أن تقع كفاه، قال: فلما سجد وضع جبهته بين كفيه، وجافى عن إبطيه) قال حجاج : وقال همام : وحدثنا شقيق حدثني عاصم بن كليب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا، وفي حديث أحدهما -وأكبر علمي أنه حديث محمد بن جحادة - (وإذا نهض نهض على ركبتيه واعتمد على فخذه) ]. يذكر المصنف رحمه الله تعالى تحت ترجمة افتتاح الصلاة في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه ما يتعلق ببيان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يقول فيما حدث به من حديثه: [ (فلما سجد وقعتا ركبتاه إلى الأرض قبل أن تقع كفاه) ] أي أنه قدم ركبتيه على يديه حين سجوده، وحديث وائل بن حجر رضي الله عنه يدل على تقديم الركبتين، وقال به جماعة من أهل العلم، وقال جماعة منهم بتقديم اليدين على الركبتين أخذاً بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه) فمن أهل العلم من رجح حديث وائل بن حجر ، ومنهم من رجح حديث أبي هريرة فقدم اليدين على الركبتين. والذين قالوا بتقديم الركبتين على اليدين قالوا: إن حديث أبي هريرة فيه قلب. وقد ذكر ذلك ابن القيم في كتابه (زاد المعاد) قال: والأصل أن يكون: وليضع ركبتيه قبل يديه. فحصل القلب بالتقديم والتأخير. والعلماء -كما ذكرت- اختلفوا فمنهم من صحح أو قوى حديث أبي هريرة وهو فيه كلام، ومنهم من قوى حديث وائل بن حجر -وفيه كلام- فقدم الركبتين على اليدين. وقوله في هذه الرواية: [ (وقعتا ركبتاه) ] هذا فيه جمع بين الضمير والاسم الظاهر، مع أن الأصل أن لا يذكر الضمير مع الاسم الظاهر، بل الصواب المعروف (وقعت ركبتاه) لكن هذه الصيغة هي لغة مشهورة، وهي التي يسمونها لغة (أكلوني البرغيث) وقد جاء مثالها في القرآن وكذلك في السنة، فمما جاء في القرآن: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء:3] ففيه الاسم الظاهر الذي هو (الَّذِينَ) وفيه الضمير الذي هو الواو في قوله: (وَأَسَرُّوا)، وفي الحديث: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار). قال: [ (فلما سجد وضع جبهته بين كفيه وجافى عن أبطيه) ]. قوله: [ (بين كفيه) ] معناه أن رأسه بين كفيه، فلم تكن يداه تحت رأسه ولا كان مباعداً لهما، ولا كان مفترشاً، وإنما وضع جبهته أو رأسه بين كفيه وجافى بين عضديه، بمعنى أنه لم يلصق عضده بجنبه ولم يعتمد على فخذيه بمرفقيه، بل اعتمد على يديه وعلى ركبتيه وعلى قدميه وعلى جبهته مع أنفه، فهذه الأعضاء السبعة مكنت من الأرض.
شرح حديث الاعتماد على الركبتين عند القيام
قوله: [ قال حجاج : وقال همام : وحدثنا شقيق حدثني عاصم بن كليب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذا ]. أي: جاء الحديث من طريق أخرى مروياً عن عاصم بن كليب عن أبيه بمثل هذا اللفظ، وذكر أمراً آخر، وهو عند القيام من الركعة الثانية، فإنه يقوم معتمداً على ركبتيه وليس على يديه، وقال الراوي: يحتمل أن يكون هذا اللفظ من شقيق أو من محمد بن جحادة ، لكن أكبر علمي أنه من محمد بن جحادة . ولفظ هذا الحكم هو قوله: [ (وإذا نهض نهض على ركبتيه واعتمد على فخذه) ]. فهذا هو اللفظ الذي قال عنه: أكبر علمي أنه لفظ محمد بن جحادة . لأنه ذكر من طريقين: الطريق الأولى التي أسندها طريق محمد بن جحادة . والطريق الثانية التي علقها طريق شقيق عن عاصم بن كليب عن أبيه، فالحجاج بن منهال يروي عن همام عن شقيق ، و الحجاج بن منهال كذلك يروي عن همام عن محمد بن جحادة ، فهو قال: أكبر علمي أنه حديث محمد بن جحادة . يعني هذا اللفظ الذي هو كونه يقوم معتمداً على ركبتيه واضعاً يديه على فخذيه. وقوله: [ حدثني عاصم بن كليب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ]. أبوه هو كليب بن شهاب الجرمي الكوفي ، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدركه. وعليه فإن الحديث الذي ليس فيه ذكر وائل بن حجر حديث مرسل.
تراجم رجال إسناد حديث (فلما سجد وقعتا ركبتاه إلى الأرض قبل أن تقع كفاه)
قوله: [ حدثنا محمد بن معمر ]. هو محمد بن معمر البحراني ، صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة، بل هو شيخ لأصحاب الكتب الستة، رووا عنه مباشرة وبدون واسطة. [ حدثنا حجاج بن منهال ]. حجاج بن منهال ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا همام ]. هو همام بن يحيى ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا محمد بن جحادة ]. محمد بن جحادة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عبد الجبار بن وائل ]. عبد الجبار بن وائل ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن. [ عن أبيه ]. هو وائل بن حجر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه أخرجه البخاري في (جزء القراءة) و مسلم وأصحاب السنن. وهذا الحديث منقطع ليس بمتصل؛ لأن عبد الجبار لم يسمع من أبيه، ولكن الذي سمع منه علقمة . فهذا الحديث نفسه بهذا الطريق لا يصح، لكنه جاء من طريق أخرى متصلاً من غير طريق عبد الجبار .
تراجم رجال إسناد حديث الاعتماد على الركبتين عند القيام
قوله: [ قال حجاج : وقال همام : وحدثنا شقيق ]. شقيق هو أبو ليث ، وهو يروي عن عاصم بن كليب . [ حدثني عاصم بن كليب ]. عاصم بن كليب صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن. [ عن أبيه ]. هو كليب بن شهاب ، وهو صدوق، أخرج له البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن.
شرح حديث (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة يرفع إبهامه إلى شحمة أذنيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا عبد الله بن داود عن فطر عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع إبهاميه في الصلاة إلى شحمة أذنيه) ]. أورد أبو داود حديث وائل بن حجر من طريق أخرى، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع إبهاميه إلى شحمة أذنيه، وهذا موافق لما جاء في الأحاديث الأخرى أنه كان يرفع إلى أذنيه وكان يرفع إلى منكبيه، وكل ذلك ثابت. والذي ذكر هنا هو من طريق عبد الجبار بن وائل عن أبيه وفيه انقطاع، ولكنه موافق للأحاديث الأخرى التي فيها الرفع إلى الأذنين. ومعناه أن إبهامية تكونان عند شحمة الأذنين، وهي اللحمة الرقيقة المتدلية أسفل الأذن.
تراجم رجال إسناد حديث (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع إبهامه في الصلاة إلى شحمة أذنيه)
قوله: [ حدثنا مسدد ]. هو مسدد بن مسرهد البصري ، ثقة، أخرج له البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي . [ حدثنا عبد الله بن داود ]. هو عبد الله بن داود الخريبي ، ثقة، أخرج له البخاري وأصحاب السنن. [ عن فطر ]. هو فطر بن خليفة ، وهو صدوق، أخرج له البخاري وأصحاب السنن. [ عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه ]. قد مر ذكرهما.
شرح حديث (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة جعل يديه حذو منكبيه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث حدثني أبي عن جدي عن يحيى بن أيوب عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة جعل يديه حذو منكبيه، وإذا ركع فعل مثل ذلك، وإذا رفع للسجود فعل مثل ذلك، وإذا قام من الركعتين فعل مثل ذلك) ]. أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه الرفع في المواضع الأربعة التي مرت في حديث أبي حميد الساعدي ، وهي عند تكبيرة الإحرام، وعند الركوع، وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول، فهذه المواضع في حديث أبي هريرة قد جاءت في حديث أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنهما، وهو موافق لما تقدم. قوله: [ (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة جعل يديه حذو منكبيه) ]. يعني: رفعهما حتى حاذا المنكبين. وقوله: [ (وإذا رفع للسجود فعل مثل ذلك) ] يعني: إذا قام من الركوع ليسجد فعل مثل ذلك، وليس المقصود منه أنه قام للسجود، فالعبارة هذه معناها أنه قام من ركوعه ليسجد، والسجود -كما هو معلوم- ليس فيه قيام له، وإنما فيه نزول، فيكون معنى العبارة: وإذا قام من ركوعه ليسجد فعل مثل ذلك. فهو مطابق لحديث أبي حميد الساعدي المتقدم. الملقي: [ (وإذا قام من الركعتين فعل مثل ذلك) ]. يعني: إذا قام من التشهد الأول، سواء أكانت الصلاة ثلاثية أم رباعية.
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة جعل يديه حذو منكبيه)
قوله: [ حدثنا عبد الملك بن شعيب بن الليث ]. عبد الملك بن شعيب بن الليث ثقة، أخرج له مسلم و أبو داود و النسائي . [ حدثني أبي ]. أبوه شعيب كذلك ثقة، أخرج له مسلم و أبو داود و النسائي . [ عن جدي ]. هو الليث بن سعد ،ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن يحيى بن أيوب ]. يحيى بن أيوب ، صدوق ربما أخطأ، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ]. عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن شهاب ]. هو محمد بن مسلم بن عبيدالله بن شهاب الزهري ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ]. أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة على أحد الأقوال الثلاثة في السابع منهم، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي هريرة ] هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر الصحابة حديثاً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه. والحديث ضعفه الألباني ، ولكن ابن القيم يقول: إنه على شرط مسلم . يعني أن هذا الحديث على شرط مسلم ، وذلك لأن الرواة كلهم خرج لهم الشيخان إلا عبد الملك و شعيباً فقد انفرد مسلم عن البخاري في إخراجه لهما.
يتبع