عرض مشاركة واحدة
  #327  
قديم 20-12-2022, 04:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2342 الى صـ 2356
الحلقة (327)



[ ص: 2342 ] وهذا لفظ مسلم. فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأناهم، وسأل لهم التأخير، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا.

فالجواب: - والله أعلم - أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه، حال طلبهم له، لأوقعه بهم. وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم، بل عرض عليه ملك الجبال أنه، إن شاء أطبق عليهم الأخشبين، وهما جبلا مكة، يكتنفانها جنوبا وشمالا، فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم. انتهى.
ثم بين تعالى اختصاص المقدورات الغيبية به، من حيث العلم، إثر بيان اختصاص جميعها به تعالى من حيث القدرة، بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[59] وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين

وعنده مفاتح الغيب جمع (مفتح بكسر الميم، وهو المفتاح) وقرئ: "مفاتيح الغيب" شبه بالأمور الجليلة التي يستوثق منها بالأقفال، وأثبت لها المفاتح تخييلا.

وقوله تعالى: لا يعلمها إلا هو تأكيد لمضمون ما قبله، وإيذان بأن المراد الاختصاص من حيث العلم. والمعنى: ما تستعجلونه من العذاب ليس مقدورا لي، حتى ألزمكم بتعجيله، ولا معلوما لدي لأخبركم بوقت نزوله، بل هو مما يختص به تعالى قدرة وعلما، فينزله حسبما تقتضيه مشيئته، المبنية على الحكم والمصالح . أفاده أبو السعود.

ثم لما بين تعالى علمه بالمغيبات، تأثره بالمشاهدات، على اختلاف أنواعها، وتكثر أفرادها بقوله: ويعلم ما في البر والبحر من الخلق والعجائب. ثم بالغ في إحاطة علمه [ ص: 2343 ] بالجزئيات الفائتة للحصر بقوله سبحانه: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين أي: مكتوب ومحفوظ في العلم الإلهي.

تنبيهات:

الأول: قال الحاكم: دل قوله تعالى: وعنده مفاتح الغيب على بطلان قول الإمامية: إن الإمام يعلم شيئا من الغيب. انتهى.

وفي "فتح البيان": في هذه الآية الشريفة ما يدفع أباطيل الكهان والمنجمين والرمليين وغيرهم من مدعي الكشف والإلهام، ما ليس من شأنهم، ولا يدخل تحت قدرتهم، ولا يحيط به عملهم. ولقد ابتلي الإسلام وأهله بقوم سوء من هذه الأجناس الضالة، والأنواع المخذولة، ولم يربحوا من أكاذيبهم وأباطيلهم بغير خطة السوء المذكورة في قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: «من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد» .

قال ابن مسعود: أوتي نبيكم كل شيء إلا مفاتيح الغيب.

قال ابن عباس: إنها الأقدار والأرزاق.

وقال الضحاك: خزائن الأرض، وعلم نزول العذاب.

وقال عطاء: هو ما غاب عنكم من الثواب والعقاب.

[ ص: 2344 ] وقيل: هو انقضاء الآجال، وعلم أحوال العباد من السعادة والشقاوة وخواتيم أعمالهم. واللفظ أوسع من ذلك. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها [ ص: 2345 ] إلا الله تعالى. لا يعلم أحد ما يكون في غد إلا الله، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام إلا الله. ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا. ولا تدري نفس بأي أرض تموت. ولا يدري أحد متى يجيء المطر» - أخرجه البخاري - وله ألفاظ. وفي رواية: «ولا يعلم أحد متى تقوم الساعة إلا الله» . انتهى.

الثاني: قرئ: (ولا حبة ولا رطب ولا يابس) بالرفع، وفيه وجهان: أن يكون عطفا على محل (من ورقة) وأن يكون رفعا على الابتداء، وخبره: إلا في كتاب مبين كقولك: لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار. كذا في "الكشاف".

الثالث: ما أسلفناه في "الكتاب المبين" من أنه (اللوح المحفوظ) هو المتبادر من إطلاقه أينما ورد. وقيل: الكتاب المبين علم الله تعالى. والأظهر الأول.

قال الزجاج: يجوز أن يكون الله جل ثناؤه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق، كما قال عز وجل: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها وفائدة هذا الكتاب أمور:

[ ص: 2346 ] أحدها: أنه تعالى إنما كتب هذه الأحوال في اللوح المحفوظ لتقف الملائكة على نفاذ علم الله تعالى في المعلومات، وأنه لا يغيب عنه مما في السماوات والأرض شيء. فيكون ذلك عبرة تامة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ؛ لأنهم يقابلون به ما يحدث في صحيفة هذا العالم، فيجدونه موافقا له.

وثانيها: يجوز أن يقال: إنه تعالى ذكر ما ذكر، من الورقة والحبة، تنبيها للمكلفين على أمر الحساب، وإعلاما بأنه لا يفوته من كل ما يصنعون في الدنيا شيء؛ لأنه إذا كان لا يهمل الأحوال التي ليس فيها ثواب ولا عقاب ولا تكليف، فبأن لا يهمل الأحوال المشتملة على الثواب والعقاب أولى.

وثالثها: أنه تعالى علم أحوال جميع الموجودات، فيمتنع تغييرها عن مقتضى ذلك العلم، وإلا لزم الجهل، فإذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام، امتنع أيضا تغييرها، وإلا لزم الكذب، فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب موجبا تاما، وسببا كاملا في أنه يمتنع تقدم ما تأخر، وتأخر ما تقدم، كما قال صلوات الله عليه: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» . انتهى.

الرابع: روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: وما تسقط من ورقة إلا يعلمها قال: ما من شجرة في بر ولا بحر، إلا ملك موكل بها، يكتب ما يسقط منها.

[ ص: 2347 ] وأخرج أيضا عن عبد الله بن الحارث قال: ما في الأرض من شجرة، ولا كمغرز إبرة، إلا عليها ملك موكل يأتي الله بعلمها. يبسها إذا يبست ورطوبتها إذا رطبت. وكذا رواه ابن جرير.

وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خلق الله النون وهي الدواة، وخلق الألواح، فكتب فيها أمر الدنيا حتى تنقضي، ما كان من خلق مخلوق، أو رزق حلال أو حرام، أو عمل بر أو فجور، وقرأ هذه الآية: وما تسقط من ورقة إلى آخر الآية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[60] وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون

وهو الذي يتوفاكم بالليل أي: ينيمكم فيه. استعير (التوفي) من الموت للنوم، لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز، فإن أصله قبض الشيء بتمامه.

ويعلم ما جرحتم بالنهار أي: فيه: وتخصيص الليل بالنوم، والنهار بالكسب، جريا على المعتاد. ثم يبعثكم أي: يوقظكم. أطلق البعث ترشيحا للتوفي: فيه أي: في النهار: ليقضى أجل مسمى أي: ليتم مقدار حياة كل أحد.

ثم إليه مرجعكم أي: رجوعكم بالبعث بعد الموت ثم ينبئكم بما كنتم تعملون أي: في ليلكم ونهاركم، بالمجازاة عليه، مبالغة في عدله.

تنبيهان:

الأول: ظاهر الخطاب في الآية على العموم. وخصه في "الكشاف" بالكفرة، ذهابا إلى أن قوله: ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم يدل على تهديد شديد، لا يليق إلا [ ص: 2348 ] بالمعاندين الجاحدين، وأن المقصود بيان حالهم المذمومة في الليل، كما أن قوله: ما جرحتم بيان حالهم المذمومة في النهار. وحمل (البعث) لا على الإيقاظ، بل على البعث من القبور. وفي (فيه) بمعنى (من أجله) كقولك: فيم دعوتني؟ فتقول: في أمر كذا، والمعنى: أنكم ملقون كالجيف بالليل كاسبون للآثام بالنهار. وأنه تعالى مطلع على أعمالكم، يبعثكم من القبور في شأن ما قطعتم به أعماركم، من النوم بالليل، وكسب الآثام بالنهار ليقضي الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى، وجزائهم على أعمالهم. والذي حمله على ذلك زعمه أن قوله: ويعلم ما جرحتم بالنهار دال على حال اليقظة، وكسبهم فيها. وكلمة: ثم تقضي تأخير البعث عنها.

قال شراحه: ولا يخفى ما فيه من التكلف، وأنه لا حاجة إليه؛ لأن قوله: ويعلم ما جرحتم بالنهار إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل، ولا دلالة فيه على الإيقاظ من هذا التوفي، وأن الإيقاظ متأخر عن التوفي. وإن قولنا: (يفعل ذلك التوفي لنقضي مدة الحياة المقدرة) كلام منتظم غاية الانتظام.

الثاني: قال الشريف المرتضى في "الدرر والغرر" فيما وقع من القرآن من ذكر الرجوع إلى الله نحو: وإلى الله ترجع الأمور كيف ترجع إليه، وهي لم تخرج من يده؟ وأجاب: بأنه في دار التكليف قد يغير البعض، فيضيف بعض أفعاله تعالى إلى غيره. فإذا انكشف الغطاء، انقطعت حبال الآمال عن غيره، فيرجع إليه. أو أن المراد أن الأمور في يده من غير خروج ورجوع حقيقي. ف (رجع) بمعنى (صار). تقول العرب: رجع علي من فلان مكروه، بمعنى صار، ولم يكن سبق. فهو بمعنى المصير إليه، كما تشهد به اللغة. أو أنه في دار الدنيا ما يكون للعباد ظاهرا كالعبد لسيده، فإذا أفضى الأمر إلى الآخرة، زال ذلك، ورجع الأمر كله إلى الله، ظاهرا وباطنا.
[ ص: 2349 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[61] وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون

وهو القاهر فوق عباده قد مر تفسيره، وأنه المتصرف في أمورهم لا غيره، يفعل بهم ما يشاء. ويرسل عليكم حفظة أي: ملائكة تحفظ أعمالكم وتحصيها، وهم الكرام الكاتبون، كقوله تعالى: وإن عليكم لحافظين وقوله: إذ يتلقى المتلقيان الآية.

لطيفة:

الحكمة في ذلك أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه، وتعرض على رؤوس الأشهاد، كان أزجر عن المعاصي. وأن العبد إذا وثق بلطف سيده، واعتمد على عفوه وستره، لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه - أفاده القاضي.

حتى إذا جاء أحدكم الموت أي: أسبابه ومباديه: توفته رسلنا أي: ملائكة موكلون بذلك وهم لا يفرطون أي: بالتواني والتأخير. وقال ابن كثير: أي: في حفظ روح المتوفى، بل يحفظونها ويتركونها حيث شاء الله عز وجل، إن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار في سجين.
[ ص: 2350 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[62] ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين

ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق أي: الذي يتولى أمورهم. و (الحق): العدل الذي لا يحكم إلا بالحق. قال ابن كثير: الضمير للملائكة. أو للخلائق المدلول عليهم ب (أحد). والإفراد أولا، والجمع آخرا لوقوع التوفي على الانفراد، والرد على الاجتماع. أي: ردوا بعد البعث، فيحكم فيهم بعدله، كما قال: قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم وقال: وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا إلى قوله: ولا يظلم ربك أحدا ولهذا قال: مولاهم الحق

ألا له الحكم يومئذ لا حكم فيه لغيره وهو أسرع الحاسبين يحاسب الخلائق في أسرع زمان.

فوائد:

الأولى: قال ابن كثير: ونذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الميت تحضره الملائكة، [ ص: 2351 ] فإذا كان الرجل الصالح، قالوا: اخرجي أيتها النفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان. فلا يزال يقال ذلك حتى تخرج. ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال فلان. فيقولون: مرحبا بالنفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير غضبان، فلا زال يقال لها حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل. وإذا كان الرجل السوء، قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج. فلا يزال حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقال فلان! فيقال: لا مرحبا بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث. ارجعي ذميمة، فإنه لا يفتح لك أبواب السماء، فترسل من السماء، ثم تصير إلى القبر. فيجلس الرجل الصالح، فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول، ويجلس الرجل السوء فيقال له ما قيل في الحديث الأول.» . قال الحافظ ابن كثير: هذا حديث غريب.

الثانية: قال بعض أهل الكلام: إن لكل حاسة من هذه الحواس روحا تقبض عند النوم، ثم ترد إليها إذا ذهب النوم. فإما الروح التي تحيا بها النفس، فإنها لا تقبض إلا عند انقضاء الأجل. والمراد بالأرواح، المعاني والقوى التي تقوم بالحواس، ويكون بها السمع والبصر، والأخذ والمشي والشم، ومعنى: ثم يبعثكم فيه أي: يوقظكم، ويرد إليكم أرواح الحواس، فيستدل به على منكري البعث؛ لأنه بالنوم يذهب أرواح هذه الحواس، ثم يردها إليها. فكذا يحيي الأنفس بعد موتها - نقله النسفي -.

الثالثة: قال الخازن: فإن قلت: قال الله في آية: الله يتوفى الأنفس حين موتها [ ص: 2352 ] وقال في آية أخرى: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم وقال هنا: توفته رسلنا فكيف الجمع بين هذه الآيات؟.

قلت: وجه الجمع أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى. فإذا حضر أجل العبد، أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة، يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده. فإذا وصلت إلى الحلقوم، تولى قبضها ملك الموت نفسه، فحصل الجمع.

قال مجاهد: جعلت الأرض لملك الموت، مثل الطشت، يتناول من حيث شاء، وجعلت له أعوان ينزعون الأنفس ثم يقبضها منهم. انتهى.

ثم أمر تعالى أن يبكت المشركون بانحطاط شركائهم عما زعموا لها، بأنهم يخصون الحق تعالى بالالتجاء إليه عند الشدائد بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[63] قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين

قل من ينجيكم من ظلمات البر أي: شدائده، كخوف العدو، وضلال الطريق والبحر كخوف الغرق، والضلال، وسكون الريح. استعيرت الظلمة للشدة، لمشاركتهما في الهول، وإبطال الأبصار، ودهش العقول. يقال لليوم الشديد: يوم مظلم، ويوم ذو كواكب. أي: اشتدت ظلمته حتى عاد كالليل، وظهرت الكواكب فيه.

تدعونه تضرعا أي: تذللا إليه، تحقيقا للعبودية وخفية بضم الخاء، [ ص: 2353 ] وقرئ بكسرها. أي: سرا، تحقيقا للإخلاص لئن أنجانا حال من الفاعل بتقدير القول. أي: قائلين، وعدا بالشكر، لئن أنجيتنا: من هذه أي: الشدة المعبر عنها بالظلمات لنكونن من الشاكرين أي: لك، باعتقاد أنك المخصوص بالثناء الجميل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[64] قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون

ثم أمره تعالى بالجواب تنبيها على ظهوره وتعينه عندهم، أو إهانة لهم؛ إذ لا يلتفتون لخطابه بقوله: قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب أي: من غير شفاعة أحد ولا عون ثم أنتم تشركون أي: ثم أنتم بعد ما تشاهدون من النجاة عنها، الموعود فيها بالشكر وعدا وثيقا بالقسم، تشركون، بعبادته والثناء عليه، غيره. وتنسبون النجاة الحاصلة بعد تخصيصه بالدعوة، إلى شفاعة الشريك، فقد جعلتم الشرك مكان الشكر.

تنبيهات:

الأول: ما قدمناه من أن ظلمات: البر والبحر مجاز عن مخاوفها وأهوالها، هو ما قاله المحققون.

قال الرازي: ومنهم من حمله على حقيقته فقال: أما ظلمات البحر، فهي أن تجتمع ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة السحاب، ويضاف الرياح الصعبة، والأمواج الهائلة إليها، فلم يعرفوا كيفية الخلاص، وعظم الخوف، وأما ظلمات البر، فهي ظلمة الليل، وظلمة السحاب، والخوف الشديد من هجوم الأعداء والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب. والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد، لا يرجع [ ص: 2354 ] الإنسان إلا إلى الله تعالى. وهذا الرجوع يحصل ظاهرا وباطنا؛ لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى. وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى. وهو المراد من قوله: تضرعا وخفية . فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة، والخلقة الأصلية في هذه الحالة، بأنه لا ملجأ إلا الله، ولا تعويل إلا على فضل الله، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات. ولكنه ليس كذلك؛ فإن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة. يحيل تلك السلامة إلى الأسباب، ويقدم على الشرك. ومن المفسرين من يقول: المقصود من هذه الآية الطعن في إلهية الأصنام والأوثان.

ثم قال الرازي رحمه الله، وأنا أقول: التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية، يقرب من أن يكون تعلقا بالوثن؛ ولذلك فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفي. انتهى.

الثاني: قال بعض المفسرين: دل قوله تعالى: تدعونه تضرعا وخفية على أن دعاء السر أفضل. قيل: وكان جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء ليعلم غيره. انتهى.

وهذا بناء على أن قوله تعالى: تضرعا تذللا، لا جهرا. وكثير من المفسرين ذهب إلى أن المعنى جهرا وسرا، ولعله الصواب. فإن العيان يؤيده، إذ لا يتمالك من اشتد عليه الأمر، وأظلم عليه طريق الخلاص، على الاقتصار على دعاء السر وحده. والله أعلم.

وفي القاموس وشرحه: تضرع إلى الله تعالى، أي: ابتهل وتذلل. وقيل: أظهر الضراعة، وهي شدة الفقر والحاجة إلى الله تعالى. ومنه قوله تعالى: تضرعا وخفية أي: مظهرين الضراعة، وحقيقة الخشوع. انتهى.

الثالث: المراد بالكرب ما يعم ما تقدم، ولا محذور في التعميم بعد التخصيص، لكثرة وروده. أو ما يعتري المرء من العوارض النفسية التي لا تتناهى، كالأمراض والأسقام، [ ص: 2355 ] وما قيل: إن المراد بالأول كرب مخصوص، أو الأولى نعمة رفع، وهذه نعمة دفع، وأنه من قبيل (متقلدا سيفا ورمحا) - تكلف لا داعي له. كذا في "العناية".

الرابع: وضع (تشركون)، موضع (لا تشركون) الذين هو مقتضى الظاهر المناسب لقوله: لنكونن من الشاكرين لأن إشراكهم تضمن عدم صحة عبادتهم، وشكرهم؛ لأنه عبادة، بل نفيها لعدم الاعتداد بها معه؛ إذ التوحيد ملاك الأمر، وأساس العبادة، فوضعه موضعه توبيخا لهم، لعدم الوفاء بالعهد. ولم يذكر متعلقه لتنزيله منزلة اللازم، تنبيها على استبعاد الشرك في نفسه. كذا في "العناية".
القول في تأويل قوله تعالى:

[65] قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون

قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال المهايمي: أي: قل للمشركين بعد النجاة الموعود فيها بالشكر: إنما أشركتم لأمنكم من الشدائد، لكن لا وجه للأمان منها، لاستمرار منشأ الخوف، وهو القدرة الإلهية على أنواع الشدائد من الجهات كلها. إذ هو القادر على إرسال عذاب أعظم من تلك الشدة من فوقكم، كإمطار النار أو الحجارة، أو إسقاط السماء.

أو من تحت أرجلكم كالخسف والطوفان أو يلبسكم شيعا أي: يخلطكم فرقا خلط اضطراب، فيجعلكم متحزبين مختلفين في القتال، بأن يقوي أعداءكم: ويذيق بعضكم بأس أي: شدة: بعض يعني: يسلط بعضكم على بعض بالقتل والتعذيب.

[ ص: 2356 ] انظر كيف نصرف الآيات أي: نحولها من نوع إلى آخر لعلهم يفقهون أي: يفهمون ويعتبرون، فيكفوا عن كفرهم وعنادهم.

تنبيهان:

الأول: روى البخاري عن جابر رضي الله عنه قال. لما نزلت هذه الآية: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك! أو من تحت أرجلكم قال: أعوذ بوجهك! أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال: هذا أهون، أو أيسر» .

قال الحافظ ابن حجر: وقد روى ابن مردويه من حديث ابن عباس ما يفسر به حديث جابر، ولفظه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «دعوت الله أن يرفع عن أمتي أربعا، فرفع عنهم اثنتين، وأبى أن يرفع عنهم اثنتين. دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء والخسف من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض; فرفع الله عنهم الخسف والرجم، وأبى أن يرفع عنهم الأخريين» . فيستفاد من هذه الرواية بقوله: من فوقكم أو من تحت أرجلكم ويستأنس له أيضا بقوله تعالى: أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.52 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.89 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.51%)]