عرض مشاركة واحدة
  #334  
قديم 05-01-2023, 03:49 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2428 الى صـ 2436
الحلقة (334)



[ ص: 2428 ] فعدل إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته، واستحضارها لذهن السامع. ومنه: إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة فعدل عن (مسبحات) وإن كان مطابقا ل: محشورة لهذا السبب - والله أعلم -. ثم هذا المقصد إنما يجيء فيما يكون العناية به أقوى. ولا شك أن إخراج الحي من الميت أشهر في القدرة من عكسه. وهو أيضا أول الحالين، والنظر أول ما يبدأ فيه. ثم القسم الآخر وهو إخراج الميت من الحي بان عنه، فكان الأول جديرا بالتصديق والتأكيد في النفس، ولذلك هو مقدم أبدا على القسم الآخر في الذكر; حسب ترتيبهما في الواقع. وسهل عطف الاسم على الفعل وحسنه أن اسم الفاعل في معنى الفعل المضارع، فكل واحد منهما يقدر بالآخر، فلا جناح في عطفه عليه - والله أعلم - انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[96] فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم

وقوله تعالى: فالق الإصباح خبر آخر ل (إن)، أو لمبتدأ محذوف. و (الإصباح) مصدر سمي به الصبح. قال امرؤ القيس:


ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح فيك بأمثل


[ ص: 2429 ] أي: شاقه عن ظلمة الليل: وجعل الليل سكنا أي: صير الظلام يسكن إليه، ويطمئن به، استرواحا من تعب النهار. أو يسكن فيه الخلق، أي: يقروا ويهدؤا (من السكون) - وهو الأظهر لقوله: لتسكنوا فيه - وقرئ (وجاعل الليل).

والشمس والقمر حسبانا أي: على أدوار مختلفة، لتحسب بهما الأوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات. كما ذكره في سورة يونس في قوله: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب

ذلك أي: التسيير بالحساب المعلوم: تقدير العزيز العليم أي: الغالب على أمره العليم بتدبيرهما، ومراعاة الحكمة في شأنهما.

[ ص: 2430 ] تنبيهات:

الأول: قال الرازي: قوله تعالى: فالق الإصباح الآية. نوع آخر من دلائل وجود الصانع وعلمه وقدرته وحكمته. فالنوع المتقدم كان مأخوذا من دلالة أحوال النبات والحيوان. والنوع المذكور في هذه الآية مأخوذ من الأحوال الفلكية. وذلك لأن فلق ظلمة الليل بنور الصبح أعظم في كمال القدرة من فلق الحب والنوى بالنبات والشجر، ولأن من المعلوم بالضرورة أن الأحوال الفلكية أعظم في القلوب وأكثر وقعا من الأحوال الأرضية. ثم قرر الحجة من وجوه عديدة، وأجاد رحمه الله.

الثاني: قرئ: (الأصباح) بفتح الهمزة، على أنه جمع صبح، كقفل وأقفال.

الثالث: في "البحر الكبير": أن السنة الشرعية قمرية لا شمسية، والشمسية مما حدث في دواوين الخراج، وإنما أضيف الحساب في الآية إليهما؛ لأن بطلوع الشمس ومغيبها يعرف عدد الأيام التي تتركب منها الشهور والسنون، فمن هنا دخلت - انتهى.

الرابع: قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وكثيرا ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر يختم الكلام بالعزة والعلم، كما ذكر في هذه الآية، وكما في قوله: وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم ولما ذكر خلق السماوات والأرض وما فيهن في أول سورة (حم السجدة) قال: وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم انتهى.

وفي (العزة) معنى القهر، أي: الذي قهرهما بجعلهما مسخرين، لا يتيسر لهما إلا ما أريد [ ص: 2431 ] بهما، كما قال: والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ومعنى القدرة الكاملة أيضا.

قال الرازي: العزيز إشارة إلى كمال قدرته، و: العليم إشارة إلى كمال علمه، ومعناه: أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيأتها المحدودة، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البطء والسرعة لا يمكن تحصيله إلا بقدرة كاملة متعلقة بجميع الممكنات، وعلم نافذ في جميع المعلومات من الكليات والجزئيات. وذلك تصريح بأن حصول هذه الأحوال والصفات ليس بالطبع والخاصة. وإنما هو بتخصيص الفاعل المختار. والله أعلم.

الخامس: وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: حسبانا قال: يعني عدد الأيام والشهور والسنين. وقال قتادة: يدوران في حساب. قال السيوطي: فالآية أصل في الحساب والميقات. انتهى.
ثم بين تعالى نعمته في الكواكب، إثر بيان نعمته في النيرين إعلاما بكمال قدرته وحكمته ورحمته بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[97] وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون

وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر أي: [ ص: 2432 ] في ظلمات الليل في طرق البر والبحر: قد فصلنا الآيات أي: بينا الآيات على قدرته تعالى وحكمته واليوم الآخر. لقوم يعلمون أي: وجه الاستدلال بها. وإنما خلقت للاستدلال المتأثر بالعمل بموجبها، ألا وهو الاستدلال بها على معرفة الصانع الحكيم، وكمال قدرته وعلمه واستحقاقه العبادة وحده.

تنبيهان

الأول: ذكر تعالى في غير هذه السورة كون هذه الكواكب زينة للسماء، وكونها رجوما للشياطين. قال بعض السلف: من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه: أن الله جعلها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر. نقله ابن كثير.

أقول: مراده اعتقاد مناف للعقد الصحيح لا اعتقاد حكم وإسرار غير الثلاث فيها إذ فوائد المكونات غير محصور. وذكر حكمة في مكون لا ينفي ما عداها - فافهم.

الثاني: قال السيوطي في "الإكليل": هذه الآية أصل في الميقات، وأدلة العقليات،
ثم بين تعالى نوعا آخر من نعمه، وأدلة قدرته الباهرة بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[98] وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون

وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة يعني: آدم عليه السلام: فمستقر ومستودع قرئ: مستقر بفتح القاف وكسرها، وأما: مستودع فبفتح الدال لا غير. وهما على الأول، إما مصدران، أي: فلكم استقرار واستيداع، أو اسما مكان، أي: موضع استقرار واستيداع. والاستقرار إما في الأصلاب، أو فوق الأرض، لقوله تعالى: [ ص: 2433 ] ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين أو في الأرحام، لقوله تعالى: ونقر في الأرحام أو الاستيداع في الأرحام، فجعل الصلب مستقر النطفة، والرحم مستودعها؛ لأنها تحصل في الصلب، لا من قبل شخص آخر، وفي الرحم من قبل الأب، فأشبهت الوديعة، كأن الرجل أودعها ما كان عنده، أو في الأصلاب، أو تحت الأرض، أو فوقها، فإنها عليها، أو وضعت فيها لتخرج منها مرة أخرى كقوله:


وما المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوما أن ترد الودائع


ونقل الرازي عن الأصم أن المستقر من خلق من النفس الأولى، ودخل الدنيا واستقر فيها. والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق. وجعل الأصفهاني (المستقر) كناية عن الذكر، و (المستودع) كناية عن الأنثى. قال: إنما عبر عن الذكر ب (المستقر) لأن النطفة إنما تتولد في صلبه، وإنما تستقر هناك. وعبر عن الأنثى ب (المستودع) لأن رحمها شبيهة بالمستودع لتلك النطفة. والله أعلم.

[ ص: 2434 ] وعلى قراءة (مستقر) بكسر القاف اسم فاعل، أي: فمنكم قار، ومنكم مستودع، ووجه كون الأول معلوما. والثاني مجهولا، كون الاستقرار صادرا منا دون الاستيداع.

قال الرازي: مقصود الآية أن الناس إنما تولدوا من شخص واحد وهو آدم عليه السلام، ثم اختلفوا في المستقر والمستودع بحسب الوجوه المذكورة فنقول: الأشخاص الإنسانية متساوية في الجسمية، ومختلفة في الصفات التي باعتبارها حصل التفاوت في المستقر والمستودع. والاختلاف في تلك الصفات لا بد له من سبب ومؤثر، وليس السبب هو الجسمية ولوازمها، وإلا لامتنع حصول التفاوت في الصفات، فوجب أن يكون السبب هو الفاعل المختار الحكيم. ونظير هذه الآية في الدلالة قوله تعالى: واختلاف ألسنتكم وألوانكم

قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: (يعلمون) مع ذكر النجوم، و (يفقهون) مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت: كان إنشاء الإنس من نفس واحدة، وتصريفهم بين أحوال مختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا. فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر، مطابقا له. انتهى - وهذا بناء على أن الفقه شدة الفهم والفطنة، ومن قال: إنه الفهم مطلقا، وليس بأبلغ من العلم - قال: إنه تفنن، حذرا من صورة التكرير.

قال الناصر في "الانتصاف": جواب الزمخشري صناعي، وإلا فلا يتحقق هذا التفاوت، ولا سبيل إلى الحقيقة.

قال: والتحقيق أنه لما أريد فصل كليهما بفاصلة تنبيها على استقلال كل واحدة منهما بالمقصود من الحجة كره فصلهما بفاصلتين متساويتين في اللفظ، لما في ذلك من التكرار، فعدل إلى فاصلة مخالفة، تحسينا للنظم، واتساقا في البلاغة، ويحتمل [ ص: 2435 ] وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم، والثانية بالفقه، وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله، ولا يعتبر بمخلوقاته، وكانت الآيات المذكورة أولا خارجة عن أنفس النظار ومنافية لها، إذ النجوم والنظر فيها، وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها، أمر خارج عن نفس الناظر، ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة، وتقلباتهم في أطوار مختلفة، وأحوال متغايرة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر، ولا يتجاوزها. فإذا تمهد ذلك. فجهل الإنسان بنفسه وأحواله، وعدم النظر فيها والتفكر، أبشع من جهله بالأمور الخارجية عنه، كالنجوم والأفلاك، ومقادير سيرها وتقلبها. فلما كان الفقه أدنى درجات العلم، إذ هو عبارة عن الفهم، نفي من أبشع القبيلين جهلا، وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم، ونفي الأدنى أبشع من نفي الأعلى درجة، فخص به أسوأ الفريقين حالا. و (يفقهون) ههنا مضارع فقه الشيء - بكسر القاف - إذا فهمه، ولو أدنى فهم. وليس من (فقه) بضم القاف؛ لأن تلك درجة عالية، ومعناه صار فقيها - قاله الهروي في معرض الاستدلال على أن (فقه) أنزل من (علم) -. وفي حديث سلمان أنه قال وقد سألته امرأة جاءته: فقهت أي: فهمت، كالمتعجب من فهم المرأة عنه. وإذا قيل: فلان لا يفقه شيئا كان أذم في العرف من قول: فلان لا يعلم شيئا. وكأن معنى قولك: (لا يفقه شيئا) ليست له أهلية الفهم وإن فهم. وأما قولك: (لا يعلم شيئا) فغايته نفي حصول العلم له، وقد يكون له أهلية الفهم والعلم، لو يعلم. والذي يدل على أن التارك للفكرة في نفسه أجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غيره قوله تعالى: وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون فخص التبصر [ ص: 2436 ] في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات، وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكارا مستأنفا. وقولنا، في أدراج الكلام: (إنه نفى العلم عن أحد الفريقين، ونفى الفقه عن الآخر) يعني: بطريق التعريض، حيث خص العلم بالآيات المفصلة، والتفقه فيها بقوم. فأشعر أن قوما غيرهم لا علم عندهم، ولا فقه - والله الموفق - فتأمل هذا الفصل، وإن طال بعض الطول، فالنظر في الحسن غير مملول. انتهى. وهذا من دقة النظر في الكتاب العزيز، وإبراز محاسنه ولطائفه.
ثم بين تعالى حجة كبرى على كمال قدرته، ومنة أخرى من جسيم نعمته بقوله:




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.96 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.93%)]