عرض مشاركة واحدة
  #340  
قديم 05-01-2023, 04:10 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2493 الى صـ 2505
الحلقة (340)




القول في تأويل قوله تعالى:

[123] وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون

وقوله تعالى: وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. أي: كما جعلنا بمكة كبراء ليمكروا على أتباعهم في تزيين الباطل، وستر الحق - جعلنا في كل قرية، أرسلنا إليها الرسل، أكابرها المجرمين، متصفين بصفات [ ص: 2493 ] المذكورين، مزينا لهم أعمالهم، مصرين على الباطل، مجادلين به الحق، ليفعلوا المكر فيها على أتباعهم بالتلبيس، ليتركوا متابعة الرسل.

قال ابن كثير: المراد ب (المكر) ههنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف المقال والفعال، كقوله تعالى إخبارا عن قوم نوح: ومكروا مكرا كبارا وكقوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا الآية.

وقال الزمخشري: خص الأكابر لأنهم هم الحاملون على الضلال، والماكرون بالناس، كقوله: أمرنا مترفيها

وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون أي: ما يضرون بمكرهم إلا أنفسهم؛ لأن وباله يحيق بهم، كما قال تعالى: وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وقال: [ ص: 2494 ] ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون قال الزمخشري: هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقديم موعد بالنصرة عليهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[124] وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون

وإذا جاءتهم آية أي: برهان وحجة قاطعة: قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله أي: من الوحي والمعجزات المصدقة له. كقوله تعالى: وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنـزل علينا الملائكة أو نرى ربنا الآية.

وقوله سبحانه: بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة

الله أعلم حيث يجعل رسالته كلام مستأنف للإنكار عليهم، وأن لا يصطفي للنبوة إلا من علم أنه يصلح لها، فيليق للاستشراق بأنوار علمه، والأمانة على مكنون سره، مما لو انكشف لغيره انكشافه له، لفاضت له نفسه، أو ذهبت بعقله جلالته وعظمته، فهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه منهم.

وقد روى الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل. واصطفى من بني إسماعيل، بني [ ص: 2495 ] كنانة. واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم. واصطفاني من بني هاشم» . وانفرد بإخراجه مسلم أيضا.

وروى الإمام أحمد عن المطلب بن أبي وداعة عن العباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فريقين، فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل، فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتا، فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا، وخيركم نفسا» .

سيصيب الذين أجرموا صغار أي: ذلة وهوان بعد كبرهم وعظمتهم: عند الله أي: يوم القيامة، جزاء على منازعتهم له تعالى في كبره برد آياته ورسالته، واعتراضهم عليه في تخصيصه بالرسالة غيرهم وعذاب شديد يعني: في الآخرة بما كانوا يمكرون في الدنيا إضرارا بالأنبياء.

قال ابن كثير: لما كان المكر غالبا، إنما يكون خفيا، وهو التلطف في التحليل والخديعة، قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة، جزاء وفاقا. ولا يظلم ربك أحدا. وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ينصب لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان» .

[ ص: 2496 ] والحكمة في هذا، أنه لما كان الغدر خفيا لا يطلع عليه الناس، فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[125] فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون

فمن يرد الله أن يهديه أي: للتوحيد: يشرح أي: يوسع: صدره للإسلام بتصقيله بنور الهداية، فيقبل نور الحق، كما قال تعالى: ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم

[ ص: 2497 ] روى عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية: كيف يشرح صدره؟ قال: نور يقذف فيه فينشرح. قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم. قال ابن كثير: وللحديث طرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضا.

ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا أي: شديد الضيق، فلا يتسع للاعتقادات الصائبة في الله، والأمور الأخروية.

قال أبو البقاء: حرجا (بكسر الراء) صفة ل (ضيقا)، أو مفعول ثالث، كما جاز في المبتدأ أن تخبر عنه بعدة أخبار. أو يكون الجميع في موضع خبر واحد (حلو حامض). وعلى كل تقدير، هو مؤكد للمعنى. يقرأ بفتح الراء، على أنه مصدر. أي: ذا حرج. وقيل: هو جمع حرجة، مثل قصبة وقصب، والهاء فيه للمبالغة. انتهى.

وقوله تعالى: كأنما يصعد في السماء أي: يتكلف الصعود في جهة السماء، وطبعه يهبط إلى الأرض، فشبه، للمبالغة في ضيق صدره، بمن يزاول أمرا غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد من الاستطاعة، وتضيق عنه المقدرة. وقيل: معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق، وتباعدا في الهرب منه. وأصل (يصعد) يتصعد من (الصعود).

كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون في الاعتقادات والأخلاق. والرجس ما استقذر من العمل، وسمي بذلك مبالغة في ذمه.
[ ص: 2498 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[126] وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون

وهذا أي: البيان الذي جاء به القرآن، أو طريق التوحيد، وإسلام الوجه إلى الله. صراط ربك أي: طريقه الذي ارتضاه: مستقيما لا ميل فيه إلى إفراط وتفريط في الاعتقادات والأخلاق والأعمال. أو لا اعوجاج فيه إلى النظر إلى الغير والشرك به.

قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون أي: المعارف والحقائق التي هي مركزة في استعداهم، فيهتدوا بها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[127] لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون

لهم دار السلام أي: السلامة من المكاره، وهو الجنة، لكونهم في مقام القرب: عند ربهم وهو وليهم يتولاهم بمحبته، ويجعلهم في أمانة. بما كانوا يعملون أي: بسبب أعمالهم الصالحة في سلوكهم صراطه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[128] ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم

ويوم يحشرهم جميعا أي: اذكر يا محمد فيما تقصه عليهم، وتنذرهم به، يوم نحشرهم جميعا، يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، ويعوذون بهم، ويطيعونهم، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.

[ ص: 2499 ] يا معشر الجن أي: نقول: يا معشر الجن! يعني: الشياطين. قال المهايمي: خصهم بالنداء لأنهم الأصل في المكر قد استكثرتم من الإنس أي: من إغوائهم وإضلالهم. أو منهم، بأن جعلتموهم أتباعكم، وتسويلكم وتزيينكم الحطام الدنيوية، واللذات الجسمانية عليهم، ووسوستكم لهم بالمعاصي، فحشروا معكم. وهذا بطريق التوبيخ والتقريع. وقال أولياؤهم أي: الذين أطاعوهم وتولوهم: من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض قال الحسن: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت، وعلمت الإنس. أي: فالجن نالت التعظيم منهم فعبدت، والإنس بوسوستهم تمتعوا بإيثار الشهوات الحاضرة، على اللذات الغائبة: وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا أي: بالموت، أو بالمعاد الجسماني على أقبح صورة، وأسوأ عيش.

قال أبو السعود: قالوا اعترافا بما فعلوا من طاعة الشياطين، واتباع الهوى، وتكذيب البعث، وإظهارا للندامة عليها، وتحسرا على حالهم، واستسلاما لربهم. ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين، للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلا.

قال النار مثواكم أي: منزلكم، كما أن دار السلام مثوى المؤمنين.

خالدين فيها إلا ما شاء الله قال القاشاني: أي: إلا وقت مشيئته أن تخفف، أو ينجى منكم من لا يكون سبب تعذيبه شركا راسخا في اعتقاده.

وقال المهايمي: أي: إلا وقت مشيئته أن ينقلكم منها إلى الزمهرير، انتقالكم من شهوة إلى أخرى.

وقال الزمخشري: أي: يخلدون في عذاب النار، الأبد كله، إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير. فقد روي أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم. أو يكون من قول [ ص: 2500 ] الموتور الذي ظفر بواتره، ولم يزل يحرق عليه أنيابه، وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه: أهلكني الله إن نفست عنك إلا إذا شئت. وقد علم أنه لا يشاء إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف والتشديد. فيكون قوله: (إلا إذا شئت) من أشد الوعيد، مع تهكم بالموعد، لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع. انتهى.

قال الخفاجي: لما كان الخطاب للكفرة، وهم لا يخرجون من النار؛ لأن ما قبله بيان حالهم، فيبعد جعله شاملا للعصاة، ليصح الاستثناء باعتباره، مع أن استعمال (ما) للعقلاء قليل - وجهوه بأن المراد النقل من النار إلى الزمهرير، أو المبالغة في الخلود، بمعنى أنه لا ينتفي إلا وقت مشيئة الله، وهو مما لا يكون مع إبرازه في صورة الخروج وإطماعهم في ذلك تهكما وتشديدا للأمر عليهم. و (ما) مصدرية وقتية. أو إن المستثنى زمان إمهالهم قبل الدخول. ورد الأول بأن فيه صرف النار من معناها العلمي، وهو دار العذاب، إلى اللغوي. وأجيب عنه بأنه لا بأس بالصرف إذا دعت إليه ضرورة. وقيل عليه: إن المعترض لا يسلم الضرورة، لإمكان غير ذلك التأويل. مع أن قوله: مثواكم يقتضي ما ذهب إليه المعترض بحسب الظاهر. ورد الأخير أبو حيان بأن في الاستثناء يشترط اتحاد زمان المخرج، والمخرج منه، فإذا قلت: قام القوم إلا زيدا، فمعناه: إلا زيدا ما قام. ولا يصح أن يكون المعنى: إلا زيدا ما يقوم في المستقبل. وكذلك سأضرب القوم إلا زيدا، معناه: إلا زيدا فإني لا أضربه في المستقبل، ولا يصح أن يكون المعنى: إلا زيدا فإني ما ضربته قبل، إلا إذا كان استثناء منقطعا، فإنه يسوغ، كقوله: لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى . فإنهم ذاقوها. ولك أن تقول: إن القائل بل يلتزم انقطاعه، كما في الآية التي ذكرها، ولا محذور فيه، مع ورود مثله في القرآن، وفيه نظر. وقيل: إنه غفلة عن تأويل الخلود بالأبد، والأبد لا يقتضي الدخول. انتهى.

وقال الناصر في "الانتصاف": قد ثبت خلود الكفار في العذاب ثبوتا قطعيا، فمن ثم [ ص: 2501 ] اعتنى العلماء بالكلام على الاستثناء في هذه الآية، وفي أختها في سورة هود. فذهب بعضهم إلى أنها شاملة لعصاة الموحدين وللكفار، والمستثنى العصاة؛ لأنهم لا يخلدون. وقد علمت بعده.

ثم قال: وذهب بعضهم إلى أن هذا الاستثناء محدود بمشيئة رفع العذاب، أي: مخلدون إلا أن يشاء الله لو شاء. وفائدته إظهار القدرة، والإعلان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى قد شاءه، وكان الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم، ولو عذبهم لا يخلدهم، وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه، وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل. وفيها على هذا الوجه دفع في صدر المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة، وأنه لا يجوز في العقل أن يشاء خلاف ذلك.

وذهب الزجاج إلى وجه لطيف، إنما يظهر بالبسط فقال: المراد - والله أعلم - إلا ما يشاء من زيادة العذاب. ولم يبين وجه الاستثناء. والمستثنى على هذا التأويل لم يغاير المستثنى منه في الحكم، ونحن نبينه فنقول: العذاب - والعياذ بالله - على درجات متفاوتة، كأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب إلا ما شاء ربك من زيادة تبلغ الغاية، وتنتهي إلى أقصى النهاية، حتى تكاد لبلوغها الغاية، ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة، تعد ليس من جنس العذاب، وخارجة عنه. والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد، كما تقدم في التعبير عن كثرة الفعل ب (رب) و (قد)، وهما موضوعان لضد الكثرة من القلة، وذلك أمر يعتاد في لغة العرب. وقد حام أبو الطيب حوله فقال:


لقد جدت حتى كاد يبخل حاتم للمنتهى ومن السرور بكاء


[ ص: 2502 ] فكأن هؤلاء إذا نقلوا إلى غاية العذاب، ونهاية الشدة، فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج من اسم العذاب المطلق، حتى يسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير. وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط.

وفي تفسير ابن عباس رضي الله عنه ما يؤيده. انتهى.

وفي الآية تأويلات أخر:

منها: ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى استثنى قوما قد سبق علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكي، وأن (ما) بمعنى (من).

[ ص: 2503 ] ومنها: أنهم يفتح لهم أبواب الجنة، ويخرجون من النار، فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم. وهو معنى قوله: فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . قال الشريف المرتضى في "الدرر": فإن قيل: أي فائدة في هذا الفعل، وما وجه الحكمة فيه؟ قلنا: وجه الحكمة فيه ظاهر؛ لأن ذلك أغلظ على نفوسهم، وأعظم في مكروههم، وهو ضرب من العقاب الذي يستحقونه بأفعالهم القبيحة؛ لأن من طمع في النجاة والخلاص من المكروه، واشتد حرصه على ذلك، ثم حيل بينه وبين الفرج، ورد إلى المكروه، يكون عذابه أصعب وأغلظ من عذاب من لا طريق للطمع عليه. كذا في "العناية".

ومنها: إن هذا الاستثناء إشارة إلى فناء النار. أي: إلا وقت مشيئته فناءها، وزوال عذابها.

قال السيوطي في "الدر المنثور": أخرج ابن المنذر عن الحسن قال: قال عمر رضي الله عنه: لو لبث أهل النار في النار، كقدر رمل عالج، لكان لهم يوم على ذلك يخرجون فيه. وأخرجه عبد بن حميد عن الحسن أيضا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ونقل هذا عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم. انتهى. وقد انتصر لهذا القول جماعة. قالوا: وما ورد من الخلود فيها والتأبيد وعدم الخروج، وأن عذابها مقيم، كله حق مسلم لا نزاع فيه. وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد، ففرق بين من يخرج من الحبس، وهو حبس على حاله، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه. وقد بسط البحث في ذلك وجوده الإمام ابن القيم في كتابه "حادي الأرواح"، ومع كونه انتصر لهذا القول انتصارا عظيما، وذكر له خمسة وعشرين دليلا، لم يصححه، حيث قال: أما أبدية الجنة، وأنها لا تفنى ولا [ ص: 2504 ] تبيد، فمما يعلم بالاضطرار، ولم يقل بفنائها أحد. ومن قال به - كالجهمية - فهو ضال مبتدع منحرف عن الصواب وليس له في ذلك سلف. وأما أبدية النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف، والأصح عدم فنائها أيضا. انتهى.

وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذا المقام في آية هود.

وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه. لا ينزلهم جنة ولا نارا.

إن ربك حكيم فلا يعذب إلا على ما تقتضيه الحكمة عليم أي: بمن يعذب بكفره، فيدوم عذابه. أو بسيئات أعماله، فيعذب على حسبها، ثم ينجو منه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[129] وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون

وكذلك نولي بعض الظالمين أي: من الإنس: بعضا أي: نجعلهم بحيث يتولونهم بالإغواء والإضلال، كما فعل الشياطين وغواة الإنس بما كانوا يكسبون أي: بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي.

قال الرازي:

لأن الجنسية علة الضم. فالأرواح الخبيثة تنضم إلى ما يشاكلها في الخبث. وكذا القول في الأرواح الطاهرة، فكل أحد يهتم بشأن من يشاكله في النصرة والمعونة والتقوية.

[ ص: 2505 ] تنبيه:

قال السيوطي في "الإكليل": الآية معنى حديث: «كما تكونون يولى عليكم» ، أخرجه ابن قانع في معجم الصحابة من حديث أبي بكرة. انتهى.

وأسند في "الجامع الصغير" تخريجه إلى الديلمي في "الفردوس (عن أبي بكرة وإلى البيهقي، عن أبي إسحاق السبيعي مرسلا - ورمز له بالضعف -.

وأسند في "الدر المنثور" عن منصور بن الأسود قال: سألت الأعمش عن قوله تعالى: وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أمر عليهم شرارهم.

وأخرج نحوه عن مالك بن دينار وكعب والحسن.

قال أبو الليث السمرقندي في "تفسيره": ويقال في معنى الآية: نسلط على بعض الظالمين بعضا فيهلكه أو يذله. قال: وهذا كلام لتهديد الظالم، لكي يمتنع عن ظلمه. ويدخل في الآية جميع من يظلم: من راع في رعيته، وتاجر في تجارته، وسارق، وغيرهم.

قال الفضيل بن عياض: إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم، فقف وانظر فيه متعجبا. انتهى.

وقال ابن كثير: معنى الآية الكريمة: كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن، كذلك نفعل بالظالمين، نسلط بعضهم على بعض، ونهلك بعضهم ببعض، وننتقم من بعضهم ببعض، جزاء على ظلمهم وبغيهم.
ثم بين تعالى ما سيكون من توبيخ الكفار من الفريقين يوم القيامة، إثر بيان توبيخ الجن بإغواء الإنس وإضلالهم، واعلم أنه لا يكون لهم إلى الجحود سبيل، فيشهدون على أنفسهم بالكفر، وأنهم لم يعذبوا إلا بالحجة، فقال تعالى:




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.02 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.39 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.53%)]