عرض مشاركة واحدة
  #341  
قديم 05-01-2023, 04:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2506 الى صـ 2520
الحلقة (341)





[ ص: 2506 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[130] يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين

يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم أي: في الدنيا: رسل منكم يقصون عليكم آياتي بالأمر والنهي: وينذرونكم يخوفونكم: لقاء يومكم هذا وهو يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه أفانين الأهوال قالوا يعني الجن والإنس شهدنا على أنفسنا أي: أقررنا بإتيان الرسل وإنذارهم، وبتكذيب دعوتهم، كما فصل في قوله تعالى: قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نـزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وغرتهم الحياة الدنيا أي: ما فيها من الزهرة والنعيم، وهو بيان لما أداهم في الدنيا إلى الكفر: وشهدوا على أنفسهم أي: في الآخرة. قال المهايمي: بعد شهادة جوارحهم: أنهم كانوا كافرين أي: في الدنيا بما جاءتهم الرسل.

تنبيهات:

الأول: استدل بقوله تعالى: ألم يأتكم رسل منكم من قال إن الله بعث إلى الجن رسلا منهم. وحكاه ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم، والأكثرون على أنه لم يكن من الجن رسول، وإنما كانت الرسل من الإنس فقط. نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة، من السلف والخلف.

قال ابن عباس: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر. وأجابوا عن ظاهر الآية بأن فيها [ ص: 2507 ] مضافا. أي: من أحدكم، وهم الإنس. أو من إضافة ما للبعض للكل، كقوله تعالى: يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وإنما يخرجان من أحدهما، وهو الملح دون العذب. وإنما جاز ذلك لأن ذكرهما قد جمع في قوله: مرج البحرين وهو جائز في كل ما اتفق في أصله. فلذلك لما اتفق ذكر الجن مع الإنس جاز مخاطبتهما بما ينصرف إلى أحد الفريقين، وهم الإنس. وهذا قول الفراء والزجاج.

وقال أبو السعود: المعنى: ألم يأتكم رسل من جملتكم، لكن لا على أنهم من جنس الفريقين معا، بل من الإنس خاصة. وإنما جعلوا منهما، إما لتأكيد وجوب اتباعهم، والإيذان بتقاربهما ذاتا، واتحادهما تكليفا وخطابا، كأنهما من جنس واحد. ولذلك تمكن أحدهما من إضلال الآخر. وإما لأن المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل. وقد ثبت أن الجن استمعوا القرآن، وأنذروا به قومهم، حيث نطق به قوله تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن إلى قوله تعالى: ولوا إلى قومهم منذرين انتهى.

وهكذا في عهد كل رسول لا يبعد أنه تعالى كان يلقي الداعية في قلوب قوم من جن عصره فيسمعون كلامهم، ويأتون قومهم من الجن، ويخبرونهم بما سمعوه من الرسل، وينذرونهم به. وقد سمى تعالى رسل عيسى رسل نفسه فقال: إذ أرسلنا إليهم اثنين وتحقيق القول فيه: أنه تعالى إنما بكت الكفار بهذه الآية؛ لأنه تعالى أزال العذر، وأزاح العلة، بسبب أنه أرسل الرسل إلى الكل مبشرين ومنذرين. فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا [ ص: 2508 ] الطريق، فقد حصل ما هو المقصود من إزاحة العذر، وإزالة العلة، فكان المقصود حاصلا. كذا قرره الرازي.

قال الحافظ ابن كثير: والدليل على أن الرسل من الإنس قوله تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده إلى قوله تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقوله تعالى عن إبراهيم: وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته. ولم يقل أحد: إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم، ثم انقطعت عنهم ببعثته. وقال تعالى: وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ومعلوم أن الجن تتبع الإنس في هذا الباب. انتهى.

الثاني: إن قيل: ما السبب في أنهم أقروا في هذه الآية بالكفر، وجحدوه في قوله: [ ص: 2509 ] والله ربنا ما كنا مشركين ؟ قلنا: يوم القيامة يوم طويل، والأحوال فيه مختلفة، فتارة يقرون، وأخرى يجحدون. وذلك يدل على شدة خوفهم، واضطراب أحوالهم، فإن من عظم خوفه، كثر الاضطراب في كلامه - أفاده الرازي.

زاد الزمخشري: أو أريد شهادة أيديهم وأرجلهم وجلودهم حين يختم على أفواههم.

الثالث: إن قيل: لم كرر ذكر شهادتهم على أنفسهم؟ أجيب: بأن الأولى حكاية لقولهم كيف يقولون ويعترفون; والثانية ذم لهم، وتخطئة لرأيهم، ووصف لقلة نظرهم لأنفسهم، وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا، واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه. وإنما قال ذلك تحذيرا للسامعين من مثل حالهم - كذا في "الكشاف" -.
القول في تأويل قوله تعالى:

[131] ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون

وقوله تعالى: ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون إعلام بأنه تعالى أعذر إلى الثقلين بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وتبيين الآيات، وإلزام الحجة بالإنذار والتهديد. وأنه تعالى لا يؤاخذ القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه، وهم لا تبلغهم دعوة رسول ينهاهم عنه، وينبههم على بطلانه؛ لأنه ينافي الحكمة. وجوز في ذلك أن يكون خبرا لمحذوف. أي: الأمر ذلك. أو مبتدأ وخبره محذوف. أي: كما ذكر. أو خبره: إن لم يكن ... إلخ. والمشار إليه إتيان الرسل، أو ما قص من أمرهم، أو السؤال المفهوم من قوله: ألم يأتكم . واستظهر أبو السعود أن الإشارة إلى شهادتهم على أنفسهم بالكفر، واستيجاب العذاب، وأنه مبتدأ خبره ما بعده، وأن (أن) مصدرية، و (اللام) [ ص: 2510 ] مقدرة قبلها. أو مخففة، واسمها ضمير الشأن، و: بظلم متعلق ب: مهلك . أي: بسبب ظلم، أو بمحذوف حالا من (القرى)، أي: متلبسة بظلم. والمعنى: ذلك ثابت لانتفاء كون ربك، أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب ظلم فعلوه قبل أن ينبهوا على بطلانه برسول.

تنبيه:

في الآية دليل على أنه لا تكليف قبل البعثة، ولا حكم للعقل. كقوله: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
القول في تأويل قوله تعالى:

[132] ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون

ولكل أي: من المكلفين: درجات أي: مراتب. مما عملوا أي: من أعمالهم، يبلغونها ويثابون بها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. واستدل بها، على هذا التأويل، بأن الجن يدخلون الجنة ويثابون.

قال ابن كثير: ويحتمل أن يعود قوله: ولكل لكافري الجن والإنس. أي: ولكل درجة في النار بحسبه، كقوله: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون

وما ربك بغافل عما يعملون
القول في تأويل قوله تعالى:

[133] وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين

وربك الغني عن جميع خلقه من جميع الوجوه، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم: [ ص: 2511 ] ذو الرحمة أي: يترحم عليهم بالتكليف، تكميلا لهم، ويمهلهم على المعاصي. وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من الإرسال ليس لنفعه سبحانه، بل لترحمه على العباد، وتمهيد لقوله: إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء أي: من الخلق يعملون بطاعته: كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ذهب بهم ثم بذريتهم، لكنه أبقاكم ترحما عليكم. وهذا كقوله تعالى: والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم
القول في تأويل قوله تعالى:

[134] إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين

إن ما توعدون أي: من البعث وأحواله: لآت أي: لكائن لا محالة: وما أنتم بمعجزين أي: بفائتين يعجز عنكم. وهذا رد لقولهم: من مات فقد مات. أي: هو قادر على إعادتكم، وإن صرتم رفاتا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[135] قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون

قل يا قوم اعملوا على مكانتكم أي: على غاية تمكنكم واستطاعتكم. يقال: مكن مكانة، إذا تمكن أبلغ التمكن. أو على جهتكم وحالتكم، من قولهم: مكان ومكانة، كمقام ومقامة. والمعنى: اثبتوا على كفركم إني عامل أي: ما أمرت به من الثبات على الإسلام فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار أي: التي بنيت لعبادته [ ص: 2512 ] تعالى وحده، دون غيرهم، - هل تكون للعدل الذي يضع العبادة في موضعها، أو للظالم بوضعها في غير موضعها. والمراد بالدار، الدنيا. وبالعاقبة، العاقبة الحسنى. أي: عاقبة الخير؛ لأنها الأصل، فإنه تعالى جعل الدنيا مزرعة الآخرة، وقنطرة المجاز إليها.

إنه لا يفلح الظالمون أي: الكافرون. ووضع الظلم موضع الكفر، إيذانا بأن امتناع الفلاح يترتب على أي فرد كان من أفراد الظلم، فما ظنك بالكفر الذي هو أعظم أفراده؟

لطائف:

في إيراد التهديد بصيغة الأمر، أعني قوله: اعملوا على مكانتكم مبالغة في الوعيد، كأن المهدد يريد تعذيبه، مجمعا عليه، فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه. وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر، كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتقصى عنه.

وفي قوله تعالى: فسوف تعلمون مع الإنذار، إنصاف في المقال، وحسن الأدب، حيث لم يقل: (العاقبة لنا) وفوض الأمر إلى الله. وهذا من الكلام المنصف، كقوله تعالى: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين

وفيه تنبيه على وثوق المنذر بأنه محق.

وفيه تبشير بأن العاقبة له.

قال ابن كثير: وقد أنجز الله موعوده لرسوله صلوات الله عليه، فمكن له في البلاد، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد، وفتح له مكة، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب، وكذلك اليمن والبحرين، وكل ذلك في حياته. ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته، في أيام خلفائه رضي الله عنهم أجمعين. كما [ ص: 2513 ] قال تعالى: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز وقال: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار وقال تعالى: فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد وقال تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا وقد فعل تعالى ذلك بهذه الأمة، وله الحمد والمنة.
ثم بين تعالى نوعا من جهالات مشركي مكة وضلالاتهم، وهو ترجيحهم جانب الأصنام على جانبه سبحانه، بعد تشريكهم إياه فيما اختص بخلقه، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[136] وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون

وجعلوا لله مما ذرأ أي: خلق: من الحرث أي: الزرع: والأنعام نصيبا [ ص: 2514 ] يصرفونه إلى الضيفان والمساكين. أي: ولأصنامهم نصيبا يصرفونه إلى التنسك والسدنة. وإنما لم يذكر اكتفاء بما بعده.

فقالوا هذا لله بزعمهم بالفتح والضم (وقال الشهاب: الزعم مثلث كالود). أي: هذا مستقر له الآن، من غير استقرار له في المستقبل العارض وهذا لشركائنا وهو مستقر لهم، بل يستقر لهم ما ليس لهم أيضا، فكانوا إذا سقط في نصيب الله شيء من نصيبها التقطوه، أو في نصيبها شيء من نصيبه تركوه كما قال تعالى: فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله أي: عند نمائه أو سقوطه فيما هو لله. أو هلاك ما هو لله لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم أي: عند نمائه أو سقوطه فيما هو للأصنام، أو هلاك مالها، فينفقون عليها، بذبح نسائك عندها، والإجراء على سدنتها، ونحو ذلك. وعللوا ذلك بأن الله غني، وهي محتاجة: ساء ما يحكمون أي: ما يقسمون؛ لأنهم أولا عملوا ما لم يشرع لهم، وضلوا في القسم؛ لأنه تعالى رب كل شيء ومليكه وخالقه، لا إله غيره، ولا رب سواه. ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة، لم يحفظوها، بل جاروا فيها؛ إذ رجحوا جانب الأصنام في الحفظ والرعاية سفها.

وقال المهايمي: ساء ما يحكمون أي: من ترجيح جانب الأصنام على جانب الله، بعلة تقتضي ترجيح جانب الله لإلهيته، وعدم صلاحيتها للإلهية مع الحاجة.

وما ذكرناه في الآية هو الذي قاله أئمة التفسير.

فقد روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا، أو كانت لهم ثمرة، جعلوا لله منه جزءا، وللوثن جزءا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه. وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد، ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن، فسقى شيئا [ ص: 2515 ] جعلوه لله، جعلوا ذلك للوثن. وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله، فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا: هذا فقير، ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله تعالى، فقال تعالى: وجعلوا لله مما ذرأ الآية.

قال ابن كثير: وهكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[137] وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون

وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم أي: مثل ذلك التزيين، وهو تزيين الشرك في القسمة المتقدمة، زين لهم أولياؤهم من الشياطين ما هو أشد منه قبحا في باب القربان، وهو قتل أولادهم خشية الإملاق، ووأد البنات خشية العار، وإنما سميت الشياطين شركاء؛ لأنهم أطاعوهم فيما أمروهم به من قتل أولادهم، فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم،: ليردوهم أي: يهلكوهم بالشرك وقتل الولد. من (الإرداء. وهو، لغة، الإهلاك). وليلبسوا عليهم دينهم أي: ليخلطوا عليهم ما هم عليه، بدين إبراهيم في ذبح إسماعيل عليهما السلام. أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به؛ لأنهم كانوا على دين إسماعيل. فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق ولو شاء الله ما فعلوه أي: فلا تحزن على هلاكهم بما يفعلونه؛ لأنه بمشيئة الله فذرهم وما يفترون أي: لأن له فيما شاءه حكما بالغة: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى.

تنبيه:

شركاؤهم فاعل زين أخر عن الظرف والمفعول اعتناء بالمقدم، واهتماما به؛ [ ص: 2516 ] لأنه موضع التعجب؛ لأنهم يقدمون الأهم، والذين هم بشأنه أعنى. وقرأ ابن عامر وحده: "زين" على البناء للمفعول الذي هو القتل، ونصب الأولاد، وجر الشركاء بإضافة القتل إليه، مفصولا بينهما بمفعوله. وقد زيف الزمخشري، عفا الله عنه، هذه القراءة، وعد ذلك من كبائر كشافه: حيث قال: وأما قراءة ابن عامر، فشيء لو كان في مكان الضرورات، وهو الشعر، لكان سمجا مردودا، كما سمج ورد:


زج القلوص أبي مزاده


[ ص: 2517 ] فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته؟ قال: والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف: "شركائهم" مكتوبا بالياء، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء - لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم - لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب. انتهى.

قال الناصر في "الانتصاف": لقد ركب الزمخشري متن عمياء، وتاه في تيهاء، وأنا أبرأ إلى الله، وأبرئ حملة كتابه، وحفظة كلامه، مما رماهم به، فإنه تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة، اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا، لا نقلا وسماعا، فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه، وأخذ يبين أن وجه غلطه رؤيته الياء ثابتة في (شركائهم)، فاستدل بذلك على أنه مجرور، وتعين عنده نصب (أولادهم) بالقياس؛ إذ لا يضاف المصدر إلى أمرين معا فقرأه منصوبا. قال: وكانت له مندوحة من نصبه إلى جره بالإضافة، وإبدال الشركاء منه، وكان ذلك أولى مما ارتكبه. فهذا كله كما ترى ظن من الزمخشري أن ابن عامر قرأ قراءته هذه رأيا منه، وكان الصواب خلافه، والفصيح سواه. ولم يعلم الزمخشري أن هذه القراءة بنصب الأولاد، والفصل بين المضاف والمضاف إليه بها. يعلم ضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأها على جبريل، كما أنزلها عليه، ثم تلاها النبي صلى الله عليه وسلم على عدد التواتر من الأئمة، ولم يزل عدد التواتر [ ص: 2518 ] يتناقلونها، ويقرؤون بها، خلفا عن سلف، إلى أن انتهت إلى ابن عامر، فقرأها أيضا كما سمعها. فهذا معتقد أهل الحق في جميع الوجوه السبعة أنها متواترة جملة وتفصيلا عن أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم. فإذا علمت العقيدة الصحيحة، فلا مبالاة بعدها بقول الزمخشري، ولا بقول أمثاله ممن لحن ابن عامر، فإن المنكر عليه إنما أنكر ما ثبت أنه براء منه قطعا وضرورة. ولولا عذر أن المنكر ليس من أهل الشأنين: أعني علم القراءة وعلم الأصول، ولا يعد من ذوي الفنين المذكورين، لخيف عليه الخروج من ربقة الدين. وإنه على هذا العذر لفي عهدة خطرة، وزلة منكرة، تزيد على زلة من ظن أن تفاصيل الوجوه السبعة، فيها ما ليس متواترا، فإن هذا القائل لم يثبتها بغير النقل. وغايته أنه ادعى أن نقلها لا يشترط فيه التواتر. وأما الزمخشري فظن أنها تثبت بالرأي، غير موقوفة على النقل، وهذا لم يقل به أحد من المسلمين. وما حمله على هذا الخيال إلا التغالي في اعتقاد اطراد الأقيسة النحوية، فظنها قطعية، حتى يرد ما خالفها. ثم إذا تنزل معه اطراد القياس الذي ادعاه مطردا، فقراءة ابن عامر هذه لا تخالفه. وذلك أن الفصل بين المضاف إليه، وإن كان عسرا، إلا أن المصدر إذا أضيف إلى معموله، فهو مقدر بالفعل، وبهذا التقدير عمل. وهو وإن لم تكن إضافته غير محضة، إلا أنه شبه بما إضافته غير محضة. حتى قال بعض النحاة: إن إضافته ليست محضة؛ لذلك فالحاصل أن اتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره، وقد جاء الفصل بين المضاف غير المصدر، وبين المضاف إليه بالظرف، فلا أقل من أن يتميز المصدر على غيره، لما بيناه من انفكاكه في التقدير، وعدم توغله في الاتصال، بأن يفضل بينه وبين المضاف إليه، بما ليس أجنبيا عنه، وكأنه بالتقدير: فكه بالفعل، ثم قدم المفعول على الفاعل، أضافه إلى الفاعل، وبقي المفعول مكانه حين الفك. ويسهل ذلك أيضا تغاير حال المصدر؛ إذ تارة يضاف إلى الفاعل، وتارة يضاف إلى المفعول. وقد التزم بعضهم اختصاص الجواز بالفصل بالمفعول بينه وبين الفاعل، لوقوعه في غير مرتبته، إذ ينوي به التأخير، فكأنه لم يفصل. كما جاز تقدم المضمر على الظاهر إذا حل في غير رتبته؛ لأن النية به التأخير، وأنشد أبو عبيدة:

[ ص: 2519 ]
فداسهم دوس الحصاد الدائس


وأنشد أيضا:


يفركن حب السنبل الكنافج بالقاع فرك القطن المحالج


ففصل كما ترى بين المصدر وبين الفاعل بالمفعول. ومما يقوي عدم توغله في الإضافة جواز العطف على موضع مخفوضه رفعا ونصبا. فهذه كلها نكت مؤيدة بقواعد، منظرة بشواهد من أقيسة العربية، تجمع شمل القوانين النحوية، لهذه القراءة. وليس غرضنا تصحيح القراءة بقواعد العربية، بل تصحيح قواعد العربية بالقراءة. وهذا قدر كاف إن شاء الله في الجمع بينهما - والله الموفق - وما أجريناه في أدراج الكلام من تقريب إضافة المصدر من غير المحضة، إنما أردنا انضمامه إلى غيره من الوجوه التي يدل باجتماعها على أن الفصل غير منكر في إضافته، ولا مستبعد من القياس، ولم نفرده في الدلالة المذكورة. إذ المتفق على عدم تمحضها لا يسوغ فيها الفصل، فلا يمكن استقلال الوجه المذكور بالدلالة - والله الموفق - انتهى كلام الناصر رحمه الله تعالى.
ثم بين تعالى نوعا آخر من مفترياتهم بقوله:

[ ص: 2520 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[138] وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون

وقالوا هذه إشارة إلى ما جعلوه لآلهتهم، والتأنيث للخبر: أنعام وحرث حجر أي: حرام (والجمهور على كسر الحاء وسكون الجيم) فعل بمعنى مفعول، كالذبح والطحن، يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع؛ لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات. أي: محرمة علينا، أو محجرة علينا في أموالنا للأوثان. ويقرأ بضم الحاء.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.72 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.45%)]