عرض مشاركة واحدة
  #342  
قديم 05-01-2023, 04:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,400
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2521 الى صـ 2535
الحلقة (342)




[ ص: 2521 ] لا يطعمها إلا من نشاء قال في "المدارك": كانوا إذا عينوا أشياء من حرثهم وأنعامهم لآتيناهم قالوا: لا يطعمها إلا من نشاء يعنون: خدم الأوثان، والرجال دون النساء.

بزعمهم حال من فاعل (قالوا) أي: متلبسين بزعمهم الباطل من غير حجة.

قال ابن كثير: وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى: قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون

وأنعام أي: وقالوا مشيرين إلى طائفة أخرى من أنعامهم: هذه أنعام: حرمت ظهورها يعنون بها البحائر والسوائب والحوامي: وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها أي: حالة الذبح، وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام: افتراء عليه أي: على الله وكذبا منهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه، فإنه لم يأذن لهم في ذلك، ولا رضيه منهم سيجزيهم بما كانوا يفترون أي: عليه، ويسندون إليه. وفيه وعيد وتهديد.
ثم بين تعالى فنا آخر من ضلالهم بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[139] وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم

وقالوا ما في بطون هذه الأنعام يعنون أجنة البحائر والسوائب: خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا يعنون أنه حلال للذكور دون الإناث، إن ولد حيا لقوله سبحانه: وإن يكن أي: ما في بطونها: ميتة فهم فيه شركاء فالذكور والإناث فيه سواء.

وفي رواية العوفي عن ابن عباس أن المعني ب (ما في بطونها) هو اللبن. كانوا يحرمونه [ ص: 2522 ] على إناثهم، ويشربه ذكرانهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكرا ذبحوه. وكان للرجال دون النساء. وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء.

وقال الشعبي: البحيرة، لا يأكل من لبنها إلا الرجال، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء. وكذا قال عكرمة وقتادة وابن أسلم.

سيجزيهم وصفهم أي: بالتحليل والتحريم على سبيل التحكم ونسبته إلى الله تعالى: إنه حكيم عليم أي: حكيم في أفعاله وأقواله وشرعه، عليم بأعمال عباده من خير أو شر، وسيجزيهم عليها.

تنبيه:

قال السيوطي في "الإكليل": استدل مالك بقوله: خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا على أنه لا يجوز الوقف على أولاده الذكور دون البنات، وأن ذلك الوقف يفسخ، ولو بعد موت الواقف؛ لأن ذلك من فعل الجاهلية. واستدل به بعض المالكية على مثل ذلك في الهبة. انتهى.

لطائف:

(التاء) في: خالصة إما للنقل إلى الاسمية، أو للمبالغة، أو لأن (الخالصة) مصدر كالعافية، وقع موقع (الخالص) مبالغة، أو بحذف المضاف. أي: ذو خالصة، أو للتأنيث بناء على أن (ما) عبارة عن الأجنة. والتذكير في (محرم) باعتبار اللفظ. وقرئ (خالصة) بالنصب على أنه مصدر مؤكد، والخبر: لذكورنا . ووصفهم واقع موقع مصدر: سيجزيهم بتقدير مضاف. أي: جزاء وصفهم بالكذب عليه تعالى في التحريم والتحليل من قوله تعالى: وتصف ألسنتهم الكذب

[ ص: 2523 ] قال الشهاب: وهذا من بليغ الكلام وبديعه، فإنهم يقولون: وصف كلامه الكذب، إذا كذب، وعينه تصف السحر، أي: ساحرة، وقد يصف الرشاقة، بمعنى رشيق، مبالغة. حتى كأن من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له. قال المعري:


سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا
القول في تأويل قوله تعالى:

[140] قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين

قد خسر الذين قتلوا أولادهم يعني: وأد بناتهم خشية السبي أو الفقر: سفها بغير علم لخفة أحلامهم وجهلهم بأن الله هو رازق أولادهم، لا هم.

وحرموا ما رزقهم الله من البحائر والسوائب ونحوهما: افتراء على الله قد ضلوا عن الصراط المستقيم وما كانوا مهتدين أي: إلى الحق والصواب.

قال الشهاب: وفي قوله: وما كانوا مهتدين بعد قوله: قد ضلوا مبالغة في نفي الهداية عنهم؛ لأن صيغة الفعل تقتضي حدوث الضلال، بعد أن لم يكن. فلذا أردف بهذه الحال، لبيان عراقتهم في الضلال، وإنما ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض.

[ ص: 2524 ] تنبيه:

حمل كثير من المفسرين (الخسران) على ما يشمل الدارين. أما الدنيا فخسروا منافع أولادهم، وثمرة ما خلقوا له. وكذا منافع أنعامهم بما ضيقوا وحجروا فيها ابتداعا. وأما الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل. وهذا التعميم -وإن كان حقا- إلا أن الأظهر حمله على الآخرة، توفيقا بين النظائر، كقوله تعالى: قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون

روى الحافظ ابن مردويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب، فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام: قد خسر الذين قتلوا أولادهم الآية. - وهكذا رواه البخاري في "مناقب قريش" من "صحيحه".
القول في تأويل قوله تعالى:

[141] وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين

وقوله تعالى: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات تمهيد لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعام. أي: هو الذي أنعم عليكم بأنواع النعم، لتعبدوه وحده، فخلق لكم بساتين من الكروم وغيرها معروشات، أي: مسموكات بما عملتم لها من الأعمدة. يقال: عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكا تعطف عليه القضبان وغير معروشات متروكات على وجه الأرض لم تعرش "و" أنشأ: النخل المثمر لما هو فاكهة وقوت [ ص: 2525 ] والزرع المحصل لأنواع القوت: مختلفا أكله أي: ثمره وحبه في اللون والطعم والحجم والرائحة والزيتون والرمان متشابها في اللون والشكل، ورقهما: وغير متشابه في الطعم: كلوا من ثمره إذا أثمر أي: كلوا من ثمر كل واحد مما ذكر، إذا أدرك.

قال الرازي: لما ذكر تعالى كيفية خلقه لهذه الأشياء، ذكر ما هو المقصود الأصلي من خلقها، وهو انتفاع المكلفين بها، فقال: كلوا من ثمره واختلفوا ما الفائدة منه؟ فقال بعضهم: الإباحة. وقال آخرون: بل المقصود منه إباحة الأكل قبل إخراج الحق؛ لأنه تعالى لما أوجب الحق فيه كان يجوز أن يحرم على المالك تناوله، لمكان شركة المساكين فيه، بل هذا هو الظاهر. فأباح تعالى هذا الأكل، وأخرج وجوب الحق فيه من أن يكون مانعا من هذا التصرف. وقال بعضهم: بل أباح تعالى ذلك ليبين أن المقصد بخلق هذه النعم إما الأكل، وإما التصدق، وإنما قدم ذكر الأكل على التصدق؛ لأن رعاية النفس مقدمة على رعاية الغير. قال تعالى: ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك انتهى.

وآتوا حقه يوم حصاده قرئ بفتح الحاء وكسرها. وهذا أمر بإيتاء من حضر يومئذ ما تيسر، وليس بالزكاة المفروضة - وهكذا قال عطاء - أي: لأن السورة مكية، والزكاة إنما فرضت بالمدينة. وكذا قال مجاهد: إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه. وفي رواية عنه: عند الحصاد يعطي القبضة، وعند الصرام يعطي القبضة ويتركهم يتبعون آثار الصرام. وهكذا روي عن نافع وإبراهيم النخعي وغيرهم. وعند هؤلاء أن هذا الحق. [ ص: 2526 ] باق لم ينسخ بالزكاة، فيوجبون إطعام من يحضر الحصاد لهذه الآية. ومما يؤيده أنه تعالى ذم الذي يصرمون ولا يتصدقون، حيث قص علينا سوء فعلهم وانتقامه منهم. قال تعالى في سورة (ن): إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم أي: كالليل المدلهم، سوداء محترقة فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين الآيات.

وذهب بعضهم إلى أن هذا الحق نسخ بآية الزكاة، حكاه ابن جرير عن ابن عباس وثلة من التابعين. قال ابن كثير: في تسمية هذا نسخا نظر؛ لأنه قد كان شيئا واجبا. ثم إنه فسر بيانه وبين مقدار المخرج وكميته. انتهى.

ولا نظر، لما عرفت في المقدمة من تسمية مثل ذلك نسخا عند السلف، ومر قريبا أيضا، فتذكر!

وذهب بعضهم إلى أن الآية مدنية، ضمت إلى هذه السورة في نظائر لها، بيناها أول السورة، وأن الحق هو الزكاة المفروضة. روي عن أنس وابن عباس وابن المسيب.

والأمر بإيتائها يوم الحصاد، للمبالغة في العزم على المبادرة إليه. والمعنى: اعزموا على إيتاء الحق واقصدوه، واهتموا به يوم الحصاد، حتى لا تؤخروه عن أول وقت يمكن فيه الإيتاء. قال الحاكم: وقيل: إنما ذكر وقت الحصاد تخفيفا على الأرباب، فلا يحسب عليهم ما أكل قبله.

[ ص: 2527 ] وقد روى العوفي عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا زرع فكان يوم حصاده، لم يخرج مما حصد شيئا، فقال تعالى: وآتوا حقه يوم حصاده وذلك أن يعلم ما كيله وحقه من كل عشرة واحد، وما يلقط الناس من سنبله.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن جابر بن عبد الله قال: «أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل جاد عشرة أوسق من التمر، بقنو يعلق في المسجد للمساكين» .

قال ابن كثير: إسناده جيد قوي.

تنبيه:

قال في "الإكليل": استدل بالآية من أوجب الزكاة في كل زرع وثمر، خصوصا الزيتون والرمان المنصوص عليهما. ومن خصها بالحبوب، قال: إن الحصاد لا يطلق حقيقة إلا عليهما. وفيها دليل على أن الزكاة لا يجب أداؤها قبل الحصاد. واستدل بها أيضا على أن الاقتران لا يفيد التسوية في الأحكام؛ لأنه تعالى قرن الأكل، وهو ليس بواجب اتفاقا، بالإيتاء، وهو واجب اتفاقا. انتهى.

وقوله تعالى: ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين النهي عن الإسراف، إما في التصدق، أي: لا تعطوا فوق المعروف. قال أبو العالية: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئا ثم تبادروا فيه وأسرفوا، فنزلت: ولا تسرفوا وقال ابن جريج: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. جد نخلا له فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته، فأطعم حتى أمسى وليس له ثمرة، فنزلت. ولذا قال السدي: أي: لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. وإما في الأكل قبل الحصاد، وهذا عن أبي مسلم قال: ولا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء. وإما في كل شيء، قال عطاء: نهوا عن السرف في كل شيء. [ ص: 2528 ] وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله، فهو سرف. اختار ابن جرير قول عطاء. قال ابن كثير: ولا شك أنه صحيح، لكن الظاهر - والله أعلم - من سياق الآية، حيث قال تعالى: كلوا من ثمره إذا أثمر أن يكون عائدا على الأكل. أي: لا تسرفوا في الأكل، لما فيه من مضرة العقل والبدن، كقوله تعالى: وكلوا واشربوا ولا تسرفوا الآية..

وفي صحيح البخاري تعليقا: كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة. وهذا من هذا - والله أعلم - انتهى.
وقد جنح إلى هذا المهايمي في تفسيره حيث قال: ولا تسرفوا في أكلها لئلا يبطل، باستيفاء الشهوات، معنى المزرعة.
ثم بين تعالى حال الأنعام، وأبطل ما تقولوا عليه في شأنها بالتحريم والتحليل، بقوله:

[ ص: 2529 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[142] ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين

ومن الأنعام حمولة وفرشا أي: وأنشأ لكم من الأنعام ما يحمل الأثقال، وما يفرش للذبح (أي: يضجع) أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش.

وعن ابن عباس: الحمولة الكبار التي تصلح للحمل، والفرش الصغير كالفصلان والعجاجيل والغنم; لأنها دانية من الأرض، للطافة أجرامها، مثل الفرش المفروش عليها. فعلى الوجهين الأولين: الفرش بمعنى المفروش، وعلى الثالث: الكلام على التشبيه.

كلوا مما رزقكم الله أي: من الثمار والزروع والأنعام، لحفظ الروح، واستزادة القوة.

ولا تتبعوا خطوات الشيطان أي: أوامره في التحليل والتحريم، كما اتبعها أهل الجاهلية، فحرموا ما رزقهم الله افتراء عليه - كما مر -.

إنه لكم عدو مبين أي: ظاهر العداوة، يمنعكم مما يحفظ روحكم، ويزيد قوتكم، ويدعوكم إلى الافتراء على الله إن نسبتموه إلى أمره، أو إلى دعوى الإلهية لكم إن استقللتم به.
القول في تأويل قوله تعالى:

[143] ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين

وقوله تعالى: ثمانية أزواج بدل من: حمولة وفرشا أو مفعول (كلوا). [ ص: 2530 ] (ولا تتبعوا) معترض بينهما، أو فعل دل عليه، أو حال من (ما) بمعنى مختلفة أو متعددة. والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه. قال تعالى: وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى وقد يقال لمجموعهما، والمراد الأول.

من الضأن زوجين: اثنين الكبش والنعجة: ومن المعز اثنين التيس والعنز قل أي: تبكيتا لهم، وإظهارا لانقطاعهم عن الجواب: آلذكرين من الضأن والمعز: حرم الله عليكم أيها المشركون: أم الأنثيين منهما: أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أي: أم ما حملت إناث الجنسين ذكرا كان أو أنثى، كما قالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة الآية.
نبئوني بعلم أي: بدليل نقلي من كتب أوائل الرسل، أو عقلي في الفرق بين هذين النوعين، والنوعين الآتيين. قاله المهايمي.
إن كنتم صادقين أي: في دعوى التحريم.
وفي قوله تعالى: نبئوني بعلم تكرير للإلزام وتثنية للتبكيت والإفحام.
القول في تأويل قوله تعالى:

[144] ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين

ومن الإبل اثنين عطف على قوله تعالى: من الضأن اثنين أي: وأنشأ من [ ص: 2531 ] الإبل اثنين هما الجمل والناقة ومن البقر اثنين ذكرا وأنثى قل أي: إفحاما لهم أيضا في هذين النوعين: آلذكرين منهما: حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أي: من ذينك النوعين. والمعنى إنكار أن الله سبحانه وتعالى حرم عليهم شيئا من الأنواع الأربعة، وإظهار كذبهم في ذلك. وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها - للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم. فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى. مسندين ذلك كله إلى الله سبحانه. وإنما عقب تفصيل كل واحد من نوعي الصغار ونوعي الكبار بما ذكر من الأمر بالاستفهام والإنكار مع حصول التبكيت بإيراد الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال: قل آلذكور حرم أم الإناث أم ما اشتملت عليه أرحام الإناث - لما في التثنية والتكرير من المبالغة في التبكيت والإلزام. أفاده أبو السعود.

ثم كرر الإفحام بقوله تعالى: أم كنتم شهداء حاضرين: إذ وصاكم الله بهذا أي: حين وصاكم بتحريم بعض وتحليله. وهذا من باب التهكم: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أي: فنسب إليه تحريم ما لم يحرم: ليضل الناس بغير علم أي: دليل. إن الله لا يهدي القوم الظالمين قال ابن كثير: أول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي بن قمعة؛ لأنه أول من غير دين الأنبياء وأول من سيب السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي. كما ثبت ذلك في الصحيح.

[ ص: 2532 ] وقال أبو السعود: المراد كبراؤهم المقرون لذلك. أو عمرو بن لحي وهو المؤسس لهذا الشر. أو الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه، سبحانه وتعالى.

لطيفة:

قال الزمخشري: فإن قلت: كيف فصل بين بعض المعدود وبعضه ولم يوال بينه؟ قلت: قد وقع الفاصل بينهما اعتراضا غير أجنبي من المعدود. وذلك أن الله عز وجل من على عباده بإنشاء الأنعام لمنافعهم وبإباحتها لهم. فاعترض بالاحتجاج على من حرمها. والاحتجاج على من حرمها تأكيد وتسديد للتحليل. والاعتراضات في الكلام لا تساق إلا للتوكيد. انتهى.

تنبيه:

دلت الآية على إباحة أكل لحوم الأنعام. وذلك معلوم من الدين ضرورة. وكذلك الانتفاع بالركوب فيما يركب، والافتراش للأصواف والأوبار والجلود. وعلى رد ما كانت الجاهلية تحرمه بغير علم.

قال المؤيد بالله: ويدخل الإنسي والوحشي في قوله: من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ورد بأن قوله تعالى: ثمانية أزواج بيان للأنعام. والأنعام لا تطلق على الوحشي. أفاده بعض مفسري الزيدية.
ثم أمر تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت - بأن يبين لهم ما حرمه عليهم، فقال سبحانه:

[ ص: 2533 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[145] قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنـزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم

قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما أي: طعاما محرما من المطاعم: على طاعم أي: أي: طاعم كان من ذكر أو أنثى. ردا على قولهم: محرم على أزواجنا وقوله: يطعمه لزيادة التقرير: إلا أن يكون أي: ذلك الطعام: ميتة قال المهايمي: والموت سبب الفساد. فهو منجس، إلا أن يمنع من تأثيره مانع من ذكر اسم الله، أو كونه من الماء، أو غيرهما: أو دما مسفوحا أي: سائلا لا كبدا أو طحالا: أو لحم خنـزير فإنه رجس لتعوده أكل النجاسات: أو فسقا أي: خروجا عن الدين الذي هو كالحياة المطهرة: أهل لغير الله به أي: ذبح على اسم الأصنام ورفع الصوت على ذبحه باسم غير الله. وإنما سمي (ما أهل به لغير الله) فسقا، لتوغله في باب الفسق، ومنه قوله تعالى: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق فمن اضطر أي: أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء مما ذكر: غير باغ أي: على مضطر مثله، تارك لمواساته: ولا عاد متجاوز قدر حاجته من تناوله: فإن ربك غفور رحيم لا يؤاخذه. وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة والمائدة بما فيه كفاية.

تنبيهات:

الأول: قال ابن كثير: الغرض من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوا من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك. فأمر تعالى رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه إليه أن ذلك محرم. وأن الذي حرمه هو الميتة وما ذكر معها. [ ص: 2534 ] وما عدا ذلك فلم يحرم. وإنما هو عفو مسكوت عنه. فكيف تزعمون أنه حرام؟ ومن أين حرمتموه ولم يحرمه تعالى؟ وعلى هذا، فلا ينفي تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا. كما جاء النهي عن لحوم الحمر الأهلية ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير - انتهى - وبالجملة فالآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية غيره. ولا ينافيه ورود التحريم بعد ذلك في شيء آخر، كالموقوذة والمنخنقة والمتردية والنطيحة وغيرها. وذلك لأن هذه السورة مكية. فما عدا ما ذكر تحريمه فيها مما حرم أيضا، طارئ. قيل: إذا حرم غير ما ذكر كان نسخا لما اقتضته هذه الآية من تحليله. وجوابه أن ذلك زيادة تحريم وليس بنسخ لما في الآية. فصح تحريم كل ذي ناب من السبع ومخلب من الطير. ومن الناس من يسمي هذا نسخا بالمعنى السلفي. وقد بيناه مرارا.

قال بعض الزيدية: وقد تعلق ابن عباس بالآية في تحليل لحم الحمر الأهلية. وعائشة في لحوم السباع. وعكرمة في إباحة كل شيء سوى ما في الآية. وعن الشعبي; أنه كان يبيح لحم الفيل ويتلو هذه الآية.

ولا تعلق لجميعهم بالآية؛ لأنه تعالى بين ما يحرم في تلك الأحوال. انتهى.

وقال السيوطي في "الإكليل": احتج بها كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكور فيها. فمن ذلك الحمر الأهلية، أخرجه البخاري عن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن يزيد: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حمر الأهلية. فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة. ولكن أبى ذلك البحر (ابن عباس) وقرأ: [ ص: 2535 ] قل لا أجد في ما أوحي إلي الآية.

وأخرج أبو داود عن ابن عمر أنه سئل عن أكل القنفذ؟ فقرأ: قل لا أجد الآية.. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره. بسند صحيح عن عائشة أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير؟ تلت: قل لا أجد الآية.

وأخرج عن ابن عباس أنه قال: ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله في كتابه قل لا أجد الآية.. انتهى.

وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا. فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه. فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام. وما سكت عنه فهو معفو. وتلا: قل لا أجد الآية..

وذكرنا ضعف التعلق بهذه الآية على ما ذهبوا إليه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.99 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.36 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.40%)]