عرض مشاركة واحدة
  #343  
قديم 05-01-2023, 04:21 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,122
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2536 الى صـ 2550
الحلقة (343)





قال في "فتح البيان": معنى الآية أنه تعالى أمره صلى الله عليه وسلم بأن يخبرهم أنه لا يجد في شيء مما أوحي إليه محرما غير هذه المذكورات. فدل على انحصار المحرمات فيها، لولا أنها مكية. وقد نزل بعدها بالمدينة سورة المائدة وزيد فيها على هذه المحرمات: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم كل ذي ناب من السباع [ ص: 2536 ] وكل ذي مخلب من الطير وتحريم الحمر الأهلية والكلاب، ونحو ذلك.

بالجملة، فهذا العموم إن كان بالنسبة إلى ما يؤكل من الحيوانات، كما يدل عليه السياق ويفيده الاستثناء، فيضم إليه كل ما ورد بعده في الكتاب أو السنة مما يدل على تحريم شيء من الحيوانات. وإن كان هذا العموم هو بالنسبة إلى كل شيء حرمه الله من حيوان وغيره، فإنه يضم إليه كل ما ورد بعده مما فيه تحريم شيء من الأشياء. وقد روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة; أنه لا حرام إلا ما ذكره الله في هذه الآية، وروي ذلك عن مالك. وهو قول ساقط ومذهب في غاية الضعف لاستلزامه لإهمال غيرها، مما نزل بعدها من القرآن، وإهمال ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد نزول هذه الآية. بلا سبب يقتضي ذلك ولا موجب يوجبه. وقول جابر: (لكن أبى ذلك البحر ابن عباس) في رواية البخاري المتقدمة، أقول: وإن أبى ذلك البحر؛ فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والتمسك بقول صحابي في مقابلة قول النبي صلى الله عليه وسلم من سوء الاختيار وعدم الإنصاف. انتهى كلام الفتح.

وفي "نيل الأوطار": الاستدلال بهذه الآية إنما يتم في الأشياء التي لم يرد النص بتحريمها. وأما الحمر الإنسية فقد تواترت النصوص على ذلك. والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل، وعلى القياس. وأيضا الآية مكية. انتهى.

وقد ثبت عن ابن عمر رجوعه عن التعلق بعمومها.

روى سعيد بن منصور والإمام أحمد وأبو داود عن نميلة الفزازي قال: كنت [ ص: 2537 ] عند ابن عمر، وإنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ عليه: قل لا أجد .. الآية. فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: خبيث من الخبائث. فقال ابن عمر: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال.

أي: والخبائث محرمة بنص القرآن، فهو مخصص لعموم هذه الآية.

وعن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله. فما وجدنا فيه حلالا استحللناه. وما وجدنا فيه حراما حرمناه. وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى. أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.

ولأبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه. لا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه. وما وجدتم فيه من حرام فحرموه. ألا لا يحل لكم (لحم) الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها. ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه. فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه. (أي: يأخذ منهم عوضا عما حرموه من القرى).

هذا والزمخشري فسر محرما ب (طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها) وجعل الاستثناء منقطعا. أي: لا أجد ما حرمتموه لكن أجد الأربعة محرمة. وهذا لا دلالة فيه على الحصر حتى ترد المحرمات الأخر؛ إذ الاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر. وغير الزمخشري لم يقيده بما ذكر؛ لأن الأصل الاتصال وعدم التقييد وأولوها بما قدمنا قبل. وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغا. بمعنى: لا أجد [ ص: 2538 ] شيئا من المطاعم المحرمات في وقت من الأوقات، أو حال من الأحوال، إلا في وقت أو حال كون الطعام أحد الأربعة؛ فإني أجد حينئذ محرما. فالمصدر للزمان أو الهيئة. وفيه أن المصدر المؤول من (أن والفعل) لا ينصب على الظرفية. ولا يقع حالا؛ لأنه معرفة. والله أعلم.

الثاني: في قوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما إيذان التحريم إنما بالوحي لا بالهوى. قال الشهاب: كنى بعدم الوجدان عن عدم الوجود. ومبنى هذه الكناية على أن طريق التحريم التنصيص منه تعالى. وتفسيره بمطلق الوحي استظهروه. ولذا قال: أوحي ولم يقل: أنزل.

الثالث: قال السيوطي في "الإكليل": استدل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: على طاعم يطعمه على أنه إنما حرم من الميتة أكلها. وأن جلدها يطهر بالدبغ. فأخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت: يا رسول الله! ماتت فلانة (يعني الشاة) فقال: فلولا أخذتم مسكها؟ فقالت: نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما قال الله عز وجل: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنـزير فإنكم لا تطعمونه. إن تدبغوه تنتفعوا به. فأرسلت إليها فسلخت مسكها فدبغته، فاتخذت منه قربة، حتى تخرقت عندها.

الرابع: استدل بقوله تعالى: مسفوحا على إباحة غيره؛ وذلك لأن الدم المسفوح هو ما سال من الحيوان في حال الحياة، أو عند الذبح - لا كالكبد والطحال - وكذا ما اختلط باللحم من الدم لأنه غير سائل. قال عمران بن جدير: سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم، وعن القدر يرى فيها حمرة الدم فقال: لا بأس بذلك! إنما نهي عن الدم المسفوح.

[ ص: 2539 ] وقال إبراهيم النخعي: لا بأس بالدم في عرق أو مخ، إلا المسفوح.

وقال عكرمة: لولا هذه الآية لتتبع المسلمون الدم من العروق ما تتبع اليهود.
ثم بين تعالى أنه حرم على اليهود أشياء أخرى غير هذه الأربعة، تحقيقا لافتراء المشركين فيما حرموه، إذ لم يوافق شيئا مما أنزله تعالى، فقال سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[146] وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون

وعلى الذين هادوا أي: اليهود خاصة: حرمنا كل ذي ظفر قال سعيد بن جبير: هو الذي ليس منفرج الأصابع - كالجمل والوبر والأرنب - فإنها من ذوات الأظفار الغير المشقوقة - أي: المنفرجة - وأما ذو الظفر المشقوق وهو يجتر من البهائم، فلم يحرم عليهم.

ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما لا لحومهما: إلا ما حملت ظهورهما يعني: ما علق بالظهر من الشحوم: أو الحوايا أي: الأمعاء والمصارين - أي: ما حملته من الشحوم -: أو ما اختلط بعظم كالمخ والعصعص: ذلك أي: تحريم تلك الأطايب عليهم: جزيناهم ببغيهم بسبب ظلمهم، وهو قتلهم الأنبياء بغير حق، وأكلهم الربا - وقد نهوا عنه - وأكلهم أموال الناس بالباطل كقوله تعالى: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا

قال المهايمي: أي: ولم يكن لغيرهم ذلك البغي، فلا وجه لتحريمها عليهم مع كونها أطايب في أنفسها.

وإنا لصادقون أي: في جميع أخبارنا التي من جملتها هذا الخبر; وهو تخصيص التحريم بهم، لبغيهم. [ ص: 2540 ] قال ابن جرير: لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه.

قال أبو السعود: ولقد ألقمهم الحجر قوله تعالى: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنـزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين
القول في تأويل قوله تعالى:

[147] فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين

فإن كذبوك الضمير إما لليهود لأنهم أقرب ذكرا، ولذكر المشركين بعد ذلك بعنوان الإشراك; وإما للمشركين، وإما للفريقين. أي: فإن كذبتك اليهود في التخصيص وزعموا أن تحريم الله لا ينسخ، وأصروا على ادعاء قدم التحريم; في أو المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم، أو هما فيما ادعيا: فقل ربكم ذو رحمة واسعة يمهلكم على التكذيب فلا تغتروا بإمهاله فإنه لا يهمل: ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين أي: ومع رحمته فهو ذو بأس شديد. وفيه ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة، وذلك في اتباع رضوانه، وترهيب من المخالفة.

وليعلم أن المشركين لما لزمتهم الحجة - ببطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله - أخبر تعالى عنهم بما سيقولونه من شبهة يتشبثون بها لشركهم وتحريم ما حرموا. وفائدة الإخبار بما سوف يقولونه، توطين النفس على الجواب، ومكافحتهم بالرد، وإعداد الحجة قبل أوانها، فقال تعالى:
[ ص: 2541 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[148] سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون

سيقول الذين أشركوا يعني مشركي قريش والعرب: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء يعني ما حرموه من البحائر والسوائب وغيرهما: كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا أي: حتى أنزلنا عليهم العذاب: قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا أي: أمر معلوم يصح الاحتجاج به فيما قلتم فتظهروه لنا: إن تتبعون إلا الظن أي: فيما أنتم عليه من الشرك وتحريم ما حرمتم: وإن أنتم إلا تخرصون تكذبون.
القول في تأويل قوله تعالى:

[149] قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين

قل فلله الحجة البالغة البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات. ومنه: (أيمان بالغة) أي: مؤكدة. أو (البالغة) التي بلغ بها صاحبها صحة دعواه فهي (كعيشة راضية) فلو شاء لهداكم أجمعين أي: ولكنه لم يشأ ذلك. بل شاء هداية بعض صرفوا اختيارهم إلى سلوك طريق الحق. وضلال آخرين صرفوا كسبهم إلى خلاف ذلك، من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم، فوقع ذلك على الوجه الذي شاءه.

قال الإمام أبو منصور الماتريدي في "تأويلاته": قيل: الآية في مشركي العرب. قالوا ذلك حين لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم في تحريم ما حرموا من الأشياء. وأضافوا [ ص: 2542 ] ذلك إلى الله، وهو صلة قوله: ثمانية أزواج - إلى قوله -: أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فلما لزمتهم المناقضة وانقطع حجاجهم فزعوا إلى هذا القول: لو شاء الله ما أشركنا . انتهى.

والقصد: الاعتذار عن كل ما يقدمون عليه من الإشراك وتحريم الحلال. أي: ولكنه لم يشأ الترك وشاء الفعل، ففعلنا طوع مشيئته، وهو لا يشاء إلا الحق؛ لأنه قادر. فلو لم يكن حقا يرضاه لمنعنا منه. وهو لم يمنعنا منه فهو حق. وفي حكاية هذه المناظرة والمجادلة بيان لنوع من كفرهم شنيع جدا..!

تنبيه:

هذه الآية تكرر نظيرها في التنزيل الكريم في عدة سور، وهي من الآيات الجديرة بالتدبر لتمحيص الحق في المراد منها.

فقد زعم المعتزلة أن فيها دلالة واضحة لمذهبهم من أن الله لا يشاء المعاصي والكفر، كما تبجح بذلك منهم الطبرسي الشيعي في "تفسيره" وقال: إن فيها تكذيبا ظاهرا لمن أضاف مشيئة ذلك إلى الله سبحانه; وكذا الزمخشري في "تفسيره".

[ ص: 2543 ] ومعلوم أن عقيدة الفرقة الناجية، الإيمان بأن: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وهو خالق لأفعال العباد.!

وقد خالف في ذلك عامة القدرية - الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة - فقالوا: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئا من أفعال العباد. فعندهم أكثر ما يقع من أفعال العباد على خلاف إرادته تعالى. ولما كان قولهم هذا في غاية الشناعة. تبرأ منهم الصحابة. وأصل بدعتهم - كما قال ابن تيمية - كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله والإيمان بأمره ونهيه. وسنبين تحقيق ذلك بعد أن نورد شبهتهم في هذه الآية وندمغها - بعونه تعالى - بعدة وجوه فنقول:

قالوا: إن الله تعالى حكى عن المشركين أنهم قالوا: أشركنا بإرادة الله تعالى. ولو أراد عدم إشراكنا لما أشركنا، ولما صدر عنا تحريم المحللات فقد أسندوا كفرهم وعصيانهم إلى إرادته تعالى كما تزعمون أنتم. ثم إنه تعالى رد عليهم مقالتهم وبين بطلانها وذمهم عليها وأوعدهم عليها وعيدا شديدا. فلو كان يجوز إضافة المشيئة إلى الله تعالى في ذلك، على ما تضيفون أنتم، لم يكن يرد ذلك عليهم ويتوعدهم؟

قلنا: إن المشيئة في الآية تتخرج على وجوه:

أحدها: ما قال الحسن والأصم - إن المشيئة ههنا الرضا - فمرادهم: أن الله رضي بفعلنا وصنيعنا - حيث فعل آباؤنا ما فعلنا - فلم يحل الله بينهم وبين ذلك، ولا أخذ على أيديهم، ولا منعهم عن ذلك; فلو لم يرض بذلك عنهم لكان يمنعهم عنه!

قال أبو منصور: وإنما استدلوا بالرضا من الله والإذن فيما كانوا فيه، أنهم كانوا يخوفون بالهلاك والعذاب على صنيعهم، ثم رأوا آباءهم ماتوا على ذلك ولم يأتهم العذاب، فاستدلوا بتأخير نزول العذاب عليهم على أن الله رضي بذلك.

[ ص: 2544 ] وبالجملة، أرادوا بقولهم ذلك. أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله. ولما كانت حجتهم داحضة باطلة - لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم وأدال عليهم رسله الكرام - قال تعالى: قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا أي: بأن الله راض عليكم فيما أنتم فيه! وهذا من التهكم والشهادة بأن مثل قولهم محال أن يكون له حجة.

وفي "الوجيز": الحاصل أن المشركين اعتقدوا عدم التفرقة بين المأمور المرضي والمشيئة، كما اعتقدت المعتزلة، فاحتجوا على حقية الإشراك. وينادي على ذلك قوله: كذلك كذب فإنه لو كان المراد أن ذلك ليس بمشيئة الله تعالى لقال (كذلك كذب) بالتخفيف لا التشديد. وهذه الآية - عند من له أذن واعية - تصيح على المعتزلة بالويل والثبور، لكن في آذانهم وقر، ومن لم يهده الله فلا هادي له. انتهى.

الوجه الثاني: إن المشيئة في الآية بمعنى الأمر والدعاء إلى ذلك. أي: يقولون: إن الله أمرهم بذلك ودعاهم إليه، كما أخبر عنهم في سورة الأعراف بقوله: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها فرد تعالى عليهم بقوله: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء

الوجه الثالث: إن قولهم ذلك كان على سبيل الاستهزاء والسخرية دافعا لدعوته صلى الله عليه وسلم، وتعللا لعدم إجابته وانقياده، لا تفويضا للكائنات إلى مشيئة الله تعالى. فما صدر عنهم كلمة حق أريد بها باطل. ولذلك ذمهم الله بالتكذيب لأنهم قصدوا به تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم في وجوب اتباعه والمتابعة، فقال: كذلك كذب بالتشديد، ولم يذمهم بالكذب في قولهم ذلك، وإلا لقال (كذلك كذب) بالتخفيف، إشارة إلى أن ذلك الكلام في نفسه حق وصدق.

وقال آخر: قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين فأشار إلى صدق مقالتهم وفساد غرضهم. فالعتاب الذي لحقهم والوعيد الذي أوعدهم، إنما كان لاستهزائهم.

[ ص: 2545 ] كما ذكر في قوله تعالى: ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا وهي كلمة حق. لكن قالها استهزاء فلحقه الذم.

وهذا الوجه اقتصر عليه العضد في "المواقف" وقرره أيضا أبو منصور في "تأويلاته".

قال الحسن بن الفضيل: لو قالوا هذه المقالة تعظيما لله وإجلالا له ومعرفة بحقه وبما يقولون، لما عابهم بذلك. ولكنهم قالوا هذه المقالة تكذيبا وجدلا. من غير معرفة بالله وبما يقولون.

الوجه الرابع: ما يستفاد من قول الإمام: إن في كلام المشركين مقدمتين:

إحداهما: أن الكفر بمشيئة الله تعالى.

والثانية: أنه يلزم منه اندفاع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم. وما ورد من الذم والتوبيخ إنما هو على الثانية، إذ الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فله أن يشاء من الكافر الكفر ويأمره بالإيمان ويعذبه على خلافه ويبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى دار السلام، وإن كان لا يهدي إلا من يشاء.

الوجه الخامس: إن قولهم ذلك كان على سبيل العناد والعتو.

قال البقاعي في قوله تعالى: كذلك كذب الذين من قبلهم أي: بما أوقعوا من نحو هذه المجادلة في قولهم: إذا كان الكل بمشيئة الله كان التكليف عبثا، فكانت دعوى الأنبياء باطلة. وهذا القول من المشركين عناد بعد ثبوت الرسالات بالمعجزات وإخبار الرسل بأنه يشاء الشيء ويعاقب عليه لأن ملكه تام، لا يسأل عما يفعل.

وقال الإمام القاشاني قدس الله سره، في قوله تعالى: كذلك كذب الذين من قبلهم أي: كذب المنكرون الرسل من قبلهم بتعليق كفرهم بمشيئة الله، عنادا وعتوا، فعذبوا بكفرهم.

ثم قال في قوله تعالى: قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا أي: إن كان لكم [ ص: 2546 ] علم بذلك وحجة، فبينوا. وإنما قال ذلك، إشارة إلى قولهم: لو شاء الله ما أشركنا لأنهم لو قالوا ذلك عن علم لعلموا أن إيمان الموحدين وكل شيء لا يقع إلا بإرادة الله. فلم يعادوهم ولم ينكروهم بل والوهم، ولم يبق بينهم وبين المؤمنين خلاف. ولعمري إنهم لو قالوا ذلك عن علم، لما كانوا مشركين بل كانوا موحدين، ولكنهم اتبعوا الظن في ذلك، وبنوا على التقدير والتخمين لغرض التكذيب والعناد، وعلى ما سمعوا من الرسل إلزاما لهم وإثباتا لعدم امتناعهم عن الرسل؛ لأنهم محجوبون في مقام النفس. وأنى لهم اليقين؟ ومن أين لهم الاطلاع على مشيئة الله؟ وقوله تعالى: قل فلله الحجة البالغة أي: إن كان ظنكم صدقا في تعليق شرككم بمشيئة الله، فليس لكم حجة على المؤمنين وعلى غيركم من أهل دين، لكون كل دين حينئذ بمشيئة الله، فيجب أن توافقوهم وتصدقوهم، بل لله الحجة عليكم في وجوب تصديقهم وإقراركم بأنكم أشركتم، بمن لا يقع أمر إلا بإرادته، ما لا أثر لإرادته أصلا. فأنتم أشقياء في الأزل مستحقون للبعد والعقاب. وقوله تعالى: فلو شاء لهداكم أجمعين أي: بلى، صدقتم. ولكن كما شاء كفركم لو شاء لهداكم كلكم، فبأي شيء علمتم أنه لم يشأ هدايتكم حتى أصررتم؟ وهذا تهييج لمن عسى أن يكون له استعداد منهم فيقمع ويهتدي فيرجع عن الشرك ويؤمن. انتهى.

الوجه السادس: ما في "لباب التأويل" من أنه قيل في معنى الآية: أنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة - وهو قولهم: لو شاء الله ما أشركنا - إلا أنهم كانوا يعدونه عذرا لأنفسهم، ويجعلونه حجة لهم في ترك الإيمان، والرد عليهم في ذلك: أن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته; فإن الله تعالى مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد، فعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته، فإن مشيئته لا تكون عذرا لأحد عليه في فعله، فهو تعالى يشاء الكفر من الكافر ولا يرضى به ولا يأمر به، ومع هذا فيبعث الرسل إلى العبد ويأمره بالإيمان. وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع. فالحاصل: أنه [ ص: 2547 ] تعالى حكى عن الكفار أنهم يتمسكون بمشيئة الله تعالى في شركهم وكفرهم، فأخبر الله تعالى أن هذا التمسك فاسد باطل؛ فإنه لا يلزم من ثبوت المشيئة لله تعالى في كل الأمور دفع دعوة الأنبياء عليهم السلام. انتهى.

الوجه السابع: ما قرره الناصر في "الانتصاف": إن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم، وإن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار، وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله ورسله بذلك. فرد الله قولهم وكذبهم في دعواهم - عدم الاختيار لأنفسهم - وشبههم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل. وأشرك بالله، واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك كله بمشيئة الله، ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة. ثم بين الله تعالى أنهم لا حجة لهم في ذلك وأن الحجة البالغة له لا لهم، بقوله: فلله الحجة البالغة . ثم أوضح تعالى أن كل واقع بمشيئته، وإنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم. وأنه لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون بقوله: فلو شاء لهداكم أجمعين : والمقصود من ذلك: أن يتمحض وجه الرد عليهم، ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة، وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد; وينصرف الرد إلى دعواهم بسلب الاختيار لأنفسهم، وإلى إقامتهم الحجة بذلك خاصة. وإذا تدبرت هذه وجدتها كافية في الرد على من زعم من أهل القبلة أن العبد لا اختيار له ولا قدرة البتة. بل هو مجبور على أفعاله مقهور عليها. وهم الفرقة المعروفون ب (المجبرة). والزمخشري يغالط في الحقائق فيسمي أهل السنة مجبرة وإن أثبتوا للعبد اختيارا وقدرة؛ لأنهم يسلبون تأثير قدرة العبد ويجعلونها مقارنة لأفعاله الاختيارية مميزة بينها وبين أفعاله القسرية. فمن هذه الجهة سوى بينهم وبين المجبرة، ويجعله لقبا عاما لأهل السنة. وبإجماع الرد على المجبرة - الذين ميزناهم عن أهل السنة - في قوله تعالى: سيقول الذين أشركوا - إلى قوله تعالى: قل فلله الحجة البالغة وتتمة الآية رد صراح على (طائفة الاعتزال) القائلين بأن الله تعالى شاء الهداية منهم أجمعين. فلم تقع من أكثرهم! ووجه الرد: أن (لو) إذا دخلت على فعل [ ص: 2548 ] مثبت نفته; فيقتضي ذلك أن الله تعالى لما قال: فلو شاء لم يكن الواقع أنه شاء هدايتهم. ولو شاءها لوقعت. فهذا تصريح ببطلان زعمهم ومحل عقدهم. فإذا ثبت اشتمال الآية على رد عقيدة الطائفتين المذكورتين - المجبرة في أولها والمعتزلة في آخرها - فاعلم أنها جامعة لعقيدة السنة منطبقة عليها؛ فإن أولها - كما بينا - يثبت للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان، وآخرها يثبت نفوذ الله في العبد، وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية، خيرا أو غيره. وذلك عين عقيدتهم؛ فإنهم - كما يثبتون للعبد مشيئة وقدرة - يسلبون تأثيرها، ويعتقدون أن ثبوتهما قاطع لحجته، ملزم له بالطاعة على وفق اختياره. ويثبتون نفوذ مشيئة الله أيضا وقدرته في أفعال عباده. فهم - كما رأيت- تبع للكتاب العزيز: يثبتون ما أثبت، وينفون ما نفى، مؤيدون بالعقل والنقل. والله الموفق. انتهى.

وقد أخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قيل له: إن ناسا يقولون: ليس الشر بقدر. فقال ابن عباس: بيننا وبين أهل القدر هذه الآية: سيقول الذين أشركوا - إلى قوله: فلو شاء لهداكم أجمعين .

وبتحقيق هذه الوجوه يسقط قول الطبرسي المعتزلي: لو كان الأمر على ما قاله أهل الجبر - من أن الله تعالى شاء منهم الكفر - لكانت الحجة للكفار على الله، من حيث فعلوا ما شاء الله، ولكانوا بذلك مطيعين له؛ لأن الطاعة هي امتثال الأمر المراد، ولا تكون الحجة لله عليهم على قولهم، من حيث إنه خلق فيهم الكفر وأراد منهم الكفر. فأي حجة له عليهم مع ذلك؟ انتهى.

وكذا قول الزمخشري: ما حكي عن المشركين كمذهب المجبرة بعينه. ولذا قال النحرير: نعم! هو كمذهبهم في كون كل كائن بمشيئة الله. لكن الكفرة يحتجون بذلك على حقية [ ص: 2549 ] الإشراك وتحريم الحلال وسائر ما يرتكبون من القبائح. وكونها ليست بمعصية لكونها موافقة للمشيئة التي تساوي معنى الأمر، على ما هو مذهب القدرية: من عدم التفرقة بين المأمور والمراد، وأن كل ما هو مراد لله فهو ليس بمعصية منهي عنها. والمجبرة - اعتقدوا أن الكل بمشيئة الله - لكنهم يعتقدون أن الشرك وجميع القبائح معصية ومخالفة للأمر يلحقها العذاب بحكم الوعيد، ويعفو عن بعضها بحكم الوعد. فهم - في ذلك - يصدقون الله فيما دل عليه العقل والشرع من امتناع أن يكون أكثر ما يجري في ملكه على خلاف ما يشاء. والكفرة يكذبونه في لحوق الوعيد على ما هو بمشيئته تعالى. انتهى.

فصل

قال الإمام شمس الدين ابن القيم الدمشقي رحمه الله في كتابه: "طريق الهجرتين" بعد أن أطال في سرد أحاديث القدر وآثاره، ما نصه:

فالجواب أن ههنا مقامين: مقام إيمان وهدى ونجاة، ومقام ضلال وردى وهلاك، زلت فيه أقدام فهوت بأصحابها إلى دار الشقاء.

فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة، فمقام إثبات القدر والإيمان به، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها، وأن ما شاء كان وإن لم يشأ الناس. وما لم يشأ لم يكن، وإن شاء الناس. وهذه الآثار - التي كلها تحقق هذا المقام - تبين أن من لم يؤمن بالقدر فقد انسلخ من التوحيد، ولبس جلباب الشرك، بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه. وهذا في كل كتاب أنزله الله على رسله.

وأما المقام الثاني وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على الله، وحمل العبد ذنبه على ربه، وتنزيه نفسه الجاهلة الظالمة الأمارة بالسوء، حتى يقول قائل هؤلاء:


ألقاه في اليم مكتوفا وقال له: إياك! إياك! أن تبتل بالماء


[ ص: 2550 ] ويقول قائلهم:


دعاني وسد الباب دوني. فهل إلى دخولي سبيل؟ بينوا لي قصتي


ثم ساق - رحمه الله - قصصا غريبة في ذلك، ثم قال:

وسمعته - يعني شيخ الإسلام ابن تيمية - يقول:

القدرية المذمومون في السنة وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاثة: نفاة القدر وهم (القدرية المجوسية). والمعارضون به للشريعة الذين قالوا: لو شاء الله ما أشركنا وهم (القدرية المشركية). والمخاصمون به للرب سبحانه وتعالى وهم أعداء الله وخصومه وهم (القدرية الإبليسية) وشيخهم إبليس. وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال: فبما أغويتني . ولم يعترف بالذنب ويبؤ به كما اعترف به آدم. فمن أقر بالذنب وباء به ونزه ربه فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. ومن برأ نفسه واحتج على ربه بالقدر فقد أشبه إبليس. ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والمشركية شر من القدرية النفاة؛ لأن النفاة إنما نفوه تنزيها للرب وتعظيما له أن يقدر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب. ونزهوه أن يعاقب العبد على ما لا صنع للعبد فيه البتة. بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه. ونحو ذلك. كما يحكى عن بعض الجبرية إنه حضر مجلس بعض الولاة. فأتى بطرار (وهو الذي يقطع الهمايين أو الأكمام ويستل ما فيها). أحول. فقال له الوالي: ما ترى فيه؟ فقال: اضربه خمسة عشر - يعني سوطا - فقال له بعض الحاضرين - ممن ينفي الجبر - بل ينبغي أن يضرب ثلاثين سوطا: خمسة عشر لطره ومثلها لحوله. فقال الجبري: كيف يضرب على الحول ولا صنع له فيه؟ فقال: كما يضرب على الطر ولا صنع له فيه عندك.. فبهت الجبري.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.77 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.14 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.31%)]