عرض مشاركة واحدة
  #344  
قديم 05-01-2023, 04:27 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,137
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2551 الى صـ 2565
الحلقة (344)






[ ص: 2551 ] وأما (القدرية الإبليسية والمشركية) فكثير منهم منسلخ عن الشرع، عدو لله ورسوله، لا يقر بأمر ولا نهي، وتلك وراثة عن شيوخه الذين قال الله فيهم: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ، وقال تعالى: وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين وقال تعالى: وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون وقال: وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين فهذه أربعة مواضع في القرآن بين سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل.

وقد افترق الناس في الكلام على هذه الآيات أربع فرق:

الفرقة الأولى: جعلت هذه الحجة حجة صحيحة، وأن للمحتج بها الحجة على الله. ثم افترق هؤلاء فرقتين: (فرقة) كذبت بالأمر والوعد والوعيد، وزعمت أن الأمر والنهي والوعد والوعيد، بعد هذا، يكون ظلما، والله لا يظلم من خلقه أحدا! و (فرقة) صدقت بالأمر والنهي والوعد والوعيد وقالت: ليس ذلك بظلم. والله يتصرف في ملكه كيف يشاء ويعذب العبد على ما لا صنع له فيه، بل يعذبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده. إذ العبد فعل له، والملك ملكه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فإن هؤلاء الكفار إنما قالوا [ ص: 2552 ] هذه المقالة - التي حكاها الله عنهم - استهزاء منهم، ولو قالوا - اعتقادا للقضاء والقدر، وإسنادا لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته - لم ينكر عليهم. ومضمون قول هذه الفرقة إن هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد - لا على جهة الاستهزاء - فيكون للمشركين على الله الحجة، وكفى بهذا القول فسادا وبطلانا.

الفرقة الثانية: جعلت هذه الآيات حجة لها في إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة؛ إذ لو صحت المشيئة العامة - وكان الله قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان - لكانوا قد قالوا الحق، وكان الله يصدقهم عليه ولم ينكر عليهم. فحيث وصفه بالخرص - الذي هو الكذب - ونفى عنهم العلم، دل على أن هذا الذي قالوه ليس بصحيح، وأنهم كاذبون فيه; إذ لو كان علما لكانوا صادقين في الإخبار به، ولم يقل لهم: هل عندكم من علم.

وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجة لها على التكذيب بالقضاء والقدر، وزعمت بها أن يكون في ملكه ما لا يشاء، ويشاء ما لا يكون، وإنه لا قدرة له على أفعال عباده من الإنس والجن والملائكة، ولا على أفعال الحيوانات. وإنه لا يقدر أن يضل أحدا، ولا يهديه، ولا يوافقه أكثر مما فعل به، ولا يعصمه من الذنوب والكفر، ولا يلهمه رشده، ولا يجعل في قلبه الإيمان، ولا هو الذي جعل المصلي مصليا والبر برا والفاجر فاجرا والمؤمن مؤمنا والكافر كافرا. بل هم جعلوا أنفسهم كذلك.

فهذه الفرقة شاركت الفرقة التي قبلها في إلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر. فالأولى تحيزت إلى القدر وحاربت الشرع. والثانية تحيزت إلى الشرع، وكذبت القدر. والطائفتان ضالتان، وإحداهما أضل من الأخرى.

و (الفرقة الثالثة): آمنت بالقضاء والقدر وأقرت بالأمر والنهي. ونزلوا كل واحد منزله: فالقضاء والقدر يؤمن به ولا يحتج به، والأمر والنهي يمتثل ويطاع. فالإيمان بالقضاء والقدر - عندهم - من تمام التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله. والقيام بالأمر [ ص: 2553 ] والنهي موجب شهادة أن محمدا رسول الله. وقالوا: من لم يقر بالقضاء والقدر، ويقم بالأمر والنهي فقد كذب بالشهادتين وإن نطق بهما بلسانه. ثم افترقوا في وجه هذه الآيات فرقتين: (فرقة) قالت: إنما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك. فجعلوا مشيئته له وتقديره له، دليلا على رضاه به ومحبته له؛ إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينه وبينهم. فإن الحكيم إذا كان قادرا على دفع ما يكرهه ويبغضه. دفعه ومنع من وقوعه. وإذا لم يمنع من وقوعه، لزم إما عدم قدرته وإما عدم حكمته. وكلاهما ممتنع في حق الله. فعلم محبته لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به.

وقد وافق هؤلاء من قال: إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها. ولكن خالفهم في أنه نهى عنها وأمر بأضدادها ويعاقب عليها، فوافقهم في نصف قولهم وخالفهم في الشطر الآخر.

وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين، وإن مشيئة الله تعالى وقضاءه وقدره لا تستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءه وقدره.

وهؤلاء المشركون - لما استدلوا بمشيئته على محبته ورضاه - كذبهم وأنكر عليهم، وأخبر أنه لا علم لهم بذلك، وأنهم خارصون مفترون. فإن محبة الله للشيء ورضاه به، إنما يعلم بأمره به على لسان رسوله، لا بمجرد خلقه. فإنه خلق إبليس وجنوده - وهم أعداؤه - وهو سبحانه يبغضهم ويلعنهم وهم خلقه. فهكذا في الأفعال. خلق خيرها وشرها وهو يحب خيرها ويأمر به ويثيب عليه. ويبغض شرها وينهى عنه ويعاقب عليه. وكلاهما خلقه. ولله الحكمة البالغة التامة في خلقه ما يبغضه ويكرهه، من الذوات والصفات والأفعال، كل صادر عن حكمته وعلمه، كما هو صادر عن قدرته ومشيئته.

وقالت الفرقة الثانية: إنما أنكر عليهم معارضة الشرع بالقدر، ودفع الأمر بالمشيئة. فلما قامت عليهم حجة الله ولزمهم أمره ونهيه دفعوه بقضائه وقدره. فجعلوا القضاء والقدر [ ص: 2554 ] إبطالا لدعوة الرسل، ودفعا لما جاءوا به. وشاركهم في ذلك إخوانهم وذريتهم الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصي والذنوب في نصف أقولهم، وخالفوهم في النصف الآخر وهو إقرارهم بالأمر والنهي.

فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام، وورث كل قوم أئمتهم وأسلافهم، إما في جميع تركتهم، وإما في كثير منها، وإما في جزء منها. وهدى الله بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه، فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، بل آمنوا بقضاء الله وقدره ومشيئته العامة النافذة، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد، وأنه هو الذي جعل المؤمن مؤمنا والمصلي مصليا والمتقي متقيا، وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره، وأئمة الضلالة يدعون إلى النار، وأنه ألهم كل نفس فجورها وتقواها، وأنه يهدي من يشاء بعدله وحكمته، وأنه هو الذي وفق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه ولو شاء لخذلهم فعصوه، وأنه حال بين الكفار وقلوبهم - فإنه يحول بين المرء وقلبه - فكفروا به. ولو شاء لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه، وأنه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون .

و (القضاء والقدر) عندهم أربع مراتب جاء بها نبيهم وأخبر بها عن ربه تعالى:

الأولى: علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم.

الثانية: كتابة ذلك في الذكر عنده قبل خلق السماوات والأرض.

الثالثة: مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن عن مشيئته، كما لا خروج له عن علمه.

الرابعة: خلقه له وإيجاده وتكوينه، فإنه لا خالق إلا الله، والله خالق كل شيء. [ ص: 2555 ] فالخالق - عندهم - واحد وما سواه فمخلوق. ولا واسطة - عندهم - بين الخالق والمخلوق. ويؤمنون - مع ذلك - بحكمته، وأنه حكيم في كل ما فعله وخلقه. وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة هي التي اقتضت صدور ذلك وخلقه. وأن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته، وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره - كما تقوله نفاة الحكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها - بل هي أمر وراء ذلك، هي الغاية المحبوبة له المطلوبة التي هي متعلق محبته وحمده ولأجلها خلق فسوى وقدر فهدى، وأمات وأحيا، وأشقى وأضل وهدى، ومنع وأعطى. وهذه الحكمة هي الغاية والفعل وسيلة إليها، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفي للغايات، وهو محال، إذ نفي الغاية مستلزم لنفي الوسيلة. فنفي الوسيلة - وهي الفعل - لازم لنفي الغاية وهي الحكمة. ونفي قيام الفعل والحكمة به نفي لهما في الحقيقة; إذ فعل لا يقوم بفاعله، وحكمة لا تقوم بالحكيم - شيء لا يعقل. وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته. وهذا لازم لمن نفى ذلك ولا محيد له عنه، وإن أبى التزامه. وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل، لم يلزم من قوله محذور البتة، بل قوله حق، ولازم الحق حق، كائنا ما كان. والمقصود: أن ورثة الرسل وخلفاءهم - لكمال ميراثهم لنبيهم - آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحدودة في أفعال الرب وأوامره، وقاموا - مع ذلك بالأمر والنهي، وصدقوا بالوعد: فآمنوا بالخلق الذي من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة. وبالأمر الذي من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب; فصدقوا بالخلق والأمر ولم ينفوهما بنفي لوازمهما - كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر - وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة في هذا الميراث النبوي، و: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة، لا يجتمع إلا في قلوب خواص الخلق [ ص: 2556 ] ولب العالم، وليس الشأن في الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال؛ فإن القدرية تؤمن بلفظ (القدر)، ومنهم من يرده إلى العلم، ومنهم من يرده إلى الأمر الديني ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها، وهذا حقيقة إنكار القضاء والقدر. وكذلك (الحكمة) فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها، فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى وإرادته لمراده تعالى، فهي - عندهم - وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته. والقدرية النفاة لا يرضون بهذا، بل يرتفعون عنه طبقة، ويثبتون حكمة زائدة على ذلك، لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم، ويجعلونها مخلوقا من مخلوقاته، كما قالوا في كلامه وإرادته. فهؤلاء كلهم أقروا بلفظ (الحكمة) وجحدوا معناها وحقيقتها. وكذلك (الأمر) و (الشرع) فإن من أنكر كلام الله وقال: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، ولا يحب شيئا ولا يبغض شيئا، وجميع الكائنات محبوبة له، وما لم يكن فهو مكروه له، ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب ولا فرق في نفس الأمر بين الصدق والكذب والفجور والسجود للأصنام والشمس والقمر. ولا ريب أن هذا يرفع الشرائع والأمر والنهي بالكلية. ولولا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل، ولكن مشى الحال بعض الشيء بتناقضهم، وهو خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها.

والمقصود: أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهي والوعد والوعيد، حقيقة الإيمان، إلا أتباع الرسل وورثتهم.

والقضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته. ولهذا قال الإمام أحمد: القدر قدرة الله. واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال: إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر.

ولهذا، كان المنكرون للقدر فرقتين: فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته، وهم غلاتهم [ ص: 2557 ] الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة. وفرقة جحدت كمال القدرة، وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورة لله تعالى، وصرحت بأن الله لا يقدر عليها. فأنكر هؤلاء قدرة الرب، وأنكرت الأخرى كمال علمه. وقابلهم الجبرية: فجاءت على إثبات القدرة والعلم، وأنكرت الحكمة والرحمة.

ولهذا، كان مصدر الخلق والأمر والقضاء والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته. ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين والصفتين من هذه الثلاثة كثيرا كقوله: وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم وقال: تنـزيل الكتاب من الله العزيز العليم وقال: حم تنـزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم وقال في (حم فصلت، بعد ذكر تخليق العالم): ذلك تقدير العزيز العليم ، وذكر نظير هذا في (الأنعام) فقال: فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضي أن لا يخرج موجود عن قدرته. وارتباطه بعلمه التام يقتضي إحاطته به وتقدمه عليه. وارتباطه بحكمته يقتضي وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها، واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب سبحانه. وكذلك أمره بعلمه وحكمته وعزته، فهو عليم بخلقه وأمره، حكيم في خلقه وأمره. ولهذا كان (الحكيم) من أسمائه الحسنى. فالحكمة من صفاته العلى، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول [ ص: 2558 ] المبعوث بها مبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة. والحكمة هي سنة الرسول، وهي تتضمن العلم بالحق والعمل به والخبر عنه والأمر به. فكل هذا يسمى حكمة. وفي الأثر: الحكمة ضالة المؤمن. وفي الحديث: «إن من الشعر لحكمة» . فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته، فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده. وهو محمود على جميع ما في الكون من خير وشر حمدا استحقه لذاته، وصدر عنه خلقه وأمره. فمصدر ذلك كله عن الحكمة فإنكار الحكمة إنكار لحمده في الحقيقة، والله أعلم. انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في خلال بعض فتاويه، في حقيقة الاحتجاج بالقضاء والقدر، ما نصه:

وإن هؤلاء القدرية الجبرية الجهمية أهل الفناء في توحيد الربوبية. حقيقة قولهم من جنس قول المشركين الذين قالوا: لو شاء الله ما أشركنا الآية. فإن هؤلاء المشركين لما أنكروا ما بعثت به الرسل من الأمر والنهي، وأنكروا التوحيد - الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له - وهم يقرون بتوحيد الربوبية وأن الله خالق كل شيء، ما بقي عندهم من فرق، من جهة الله تعالى، بين مأمور ومحظور فقالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء وهذا حق؛ فإن الله لو شاء أن لا يكون هذا لم يكن. ولكن أي فائدة لهم في هذا؟ غايته أن هذا الشرك والتحريم بقدر، ولا يلزم إذا كان مقدرا أن يكون [ ص: 2559 ] محبوبا مرضيا لله. ولا علم عندهم بأن الله أمر به ولا أحبه ولا رضيه، بل ليسوا في ذلك إلا على ظن وخرص. انتهى.

وقال بعض المحققين في حقيقة العقيدة:

ثبت بالبرهان أن قدرة الله تعالى متصرفة في الممكنات عن إرادة واختيار. وأن الإرادة لا تخرج عما ينكشف بالعلم من مواقع الحكمة، ووجوه النظام. وأنه خالق كل شيء، وإليه يرجع الأمر كله. ومن الممكنات التي اقتضتها الحكمة والنظام وجود مخلوق ذي قدرة وإرادة وعلم، يعمل بقدرته ما تنبعث إليه إرادته بمقتضى علمه بوجوه المصلحة والمنفعة لنفسه، وهو الإنسان. وهذا - عند البعض - هو معنى كونه خليفة الله في الأرض يعمرها ويظهر حكمة الله وبدائع أسراره فيها، ويقيم سننه الحكيمة حتى يعرف كماله بمعرفة كمال صنعه. ولا يزال الإنسان يظهر الآيات من هذه المكونات آنا بعد آن، ولا يعلم مبلغه من ذلك إلا الله تعالى. والمشهور أن الخلافة خاصة بأفراد من الإنسان وهم الأنبياء عليهم السلام. ولا يستلزم واحد من القولين أن الله تعالى استخلفهم لحاجة به إلى ذلك. حاشاه.

قال البيضاوي في "بيان أن كل نبي خليفة": استخلفهم في عمارة الأرض، وسياسة الناس، وتكميل نفوسهم، وتنفيذ أمره فيهم - لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه - بل لقصور المستخلف عليه من قبول فيضه وتلقي أمره بغير وسط. ولذلك لم يستنبئ ملكا كما قال: ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا . انتهى. وكذلك إذا قلنا: إن كل النوع خليفة في العوالم الأرضية.

فعلم من كل من القولين; أن في الإنسان معنى ليس في غيره. فإذا كانت خلقة الملك لا تساعد على إرشاد الناس؛ لأنه ليس من جنسهم ولا يمكن لكل واحد التلقي منه، فكذلك لا تساعد خلقته. وليس من وظيفتها، إظهار خواص الأجسام وقواها ووجوه الانتفاع [ ص: 2560 ] بها. ولو كان إيجاد مخلوق - على ما ذكرنا في خلق الإنسان - غير ممكن لما وجد. ولا ينكر كونه على ما ذكرنا إلا من ينكر الحس والوجدان، وهما أصل كل برهان. ومثل هذا لا يخاطب ولا يطلب منه التصديق بشيء ما.

إذن، معنا قضيتان قطعيتا الثبوت:

إحداهما: كون الإنسان يعمل بقدرة وإرادة يبعثها علمه على الفعل أو الترك والكف، وهي بديهية.

و (الثانية): هي أن الله هو الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء، وهي نظرية ويتولد من هاتين القضيتين القطعيتين مسألتان نظريتان:

الأولى: ما الفرق بين علم الله تعالى وإرادته وقدرته، وبين علم الإنسان وإرادته وقدرته؟ والجواب من وجوه:

إحداها: أن صفات الله قديمة بقدمه فهي ثابتة له لذاته. وصفات الإنسان حادثة بحدوثه وهي موهوبة له من الله تعالى كذاته.

ثانيها: إن علم الله محيط بكل شيء: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وأما الإنسان فما أوتي: من العلم إلا قليلا ! وإرادة الله تعالى لا تتغير ولا تقبل الفسخ لأنها عن علم تام. بخلاف إرادة الإنسان فإنها تتردد لتردده في العلم بالشيء. وتفسخ لظهور الخطأ في العلم الذي بنيت عليه. وتتجدد لتجدد علم لمن لم يكن له من قبل. وقدرة الله تعالى متصرفة في كل ممكن. فيفعل كل ما يعلم أن فيه الحكمة. وقدرة الإنسان لا تصرف لها ولا كسب إلا في أقل القليل من الممكنات. [ ص: 2561 ] فكم من أمر يعلم أن فيه مصلحته ومنفعة له وهو لا يقدر على القيام به.

ثالثها: أن صفات الإنسان عرضة للضعف والزوال، وصفات الله تعالى أبدية كما أنها أزلية. وبالجملة: إن المشاركة بين صفات الله تعالى وصفات عباده إنما هي في الاسم، لا في الجنس كما زعم بعضهم، فبطل زعم من قال: إن إثبات كون الأفعال التي تصدر من الإنسان هي بقدرته وإرادته - يقتضي أن يكون شريكا لله تعالى: سبحان ربك رب العزة عما يصفون

المسألة الثانية: وهي عضلة العقد ومحك المنتقد - أن القضاء عبارة عن تعلق علم الله تعالى أو إرادته في الأزل; بأن الشيء يكون على الوجه المخصوص من الوجوه الممكنة، والقدر وقوع الأشياء فيما لا يزال على وفق ما سبق في الأزل.

ومن الأشياء التي يتعلق بها القضاء والقدر أفعال العباد الاختيارية. فإذا كان قد سبق القضاء المبرم - بأن زيدا يعيش كافرا ويموت كافرا - فما معنى مطالبته بالإيمان وهو ليس في طاقته؟ ولا يمكن في الواقع ونفس الأمر أن يصدر منه؛ لأنه في الحقيقة مجبور على الكفر في صورة مختار له؟ كما قال بعضهم.

والجواب عن هذا: أن تعلق العلم والإرادة بأن فلانا يفعل كذا، لا ينافي أن يفعله باختيار، إلا إذا تعلق العلم بأن يفعله مضطرا كحركة المرتعش مثلا. ولكن أفعال العباد الاختيارية قد سبق في القضاء بأنها تقع اختيارية، أي: بإرادة فاعليها لا رغما عنهم. وبهذا صح التكليف ولم يكن التشريع عبثا ولا لغوا.

وثم وجه آخر في الجواب، وهو: لو كان سبق العلم أو الإرادة بأن فاعلا يفعل كذا، يستلزم أن يكون ذلك الفاعل مجبورا على فعله، لكان الواجب، تعالى وتقدس، مجبورا على [ ص: 2562 ] أفعاله كلها؛ لأن العلم الأزلي قد تعلق بذلك، وكل ما تعلق به العلم الصحيح لا بد من وقوعه.

فتبين - بهذا - أن الجبرية ومن تلا تلوهم قد غفلوا عن معنى الاختيار، واشتبهت عليهم الأنظار، فكابروا الحس والوجدان، ودابروا الدليل والبرهان، وعطلوا الشرائع والأديان، وتوهموا أنهم يعظمون الله ولكنهم ما قدروه حق قدره، ولا فقهوا سر نهيه وأمره، حيث جرؤا الجهال على التنصل من تبعة الذنوب والأوزار، وادعاء البراءة لأنفسهم والإحالة باللوم على القضاء والقدر، وذلك تنزيه لأنفسهم من دون الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. بل ذلك إغراء للإنسان بالانغماس في الفسوق والعصيان. فيا عجبا لهم كيف جعلوا أعظم الزواجر من الإغراء، وهو الاعتقاد بإحاطة علم الله بالأشياء! أليس من شأن من لم يفسد الجبر فطرته، ويظلم الجهل بصيرته، أن يكون أعظم مهذب لنفسه، ومؤدب لعقله وحسه، اعتقاده بأن الله عليم بما يسر ويعلن، ويظهر ويبطن، وأنه ناظر إليه ومطلع عليه؟ بلى! إن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وأما الذين ضلوا السبيل، [ ص: 2563 ] واتبعوا فاسد التأويل، فيقولون كما قال من قبلهم وقص الله علينا ذلك بقوله عز وجل: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا الآية. فانظر كيف رماهم العليم الحكيم بالجهل، وجعل احتجاجهم بالقدر من أسباب وقوع البأس والبلاء بهم.

وفي هذا القدر كفاية لمن لم ينطمس نور الفطرة من قبله، والله عليم حكيم.

القول في تأويل قوله تعالى:

[150] قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون

قوله تعالى: قل هلم شهداءكم أي: أحضروهم: الذين يشهدون أن الله حرم هذا يعني ما تقولون من الأنعام والحرث. والمراد ب (شهدائهم) قدوتهم الذين ينصرون قولهم. وإنما أمروا باستحضارهم ليلزمهم الحجة، ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم، وأنه لا متمسك لهم، [ ص: 2564 ] كمن يقلدهم فيحق الحق ويبطل الباطل. فإن شهدوا أي: بعد حضورهم بأن الله حرم هذا: فلا تشهد معهم أي: فلا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم، لما علمت من افترائهم على الله ومشيهم مع أهويتهم.

وفي "العناية": فلا تشهد استعارة تبعية. وقيل: مجاز مرسل، من ذكر اللازم وإرادة الملزوم؛ لأن الشهادة من لوازم التسليم. وقيل: كناية. وقيل: مشاكلة.

ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون من وضع المظهر موضع المضمر، للدلالة على أن من كذب بآيات الله وعدل به غيره، أي: سوى به الأصنام، فهو متبع للهوى لا غير؛ لأنه لو اتبع الدليل لم يكن إلا مصدقا بالآيات، موحدا لله تعالى.

ولما بين تعالى فساد ما ادعوا من أن إشراكهم وإشراك آبائهم وتحريم ما حرموه، بأمر الله ومشيئته، بظهور عجزهم عن إبراز ما يتمسك به في ذلك، وإحضار شهداء يشهدون بذلك، بعد ما كلفوه مرارا - أمر الرسول بأن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[151] قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون

فقال تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا من الأوثان: وبالوالدين إحسانا أي: وأحسنوا بالوالدين إحسانا. قال الحاكم: [ ص: 2565 ] والإحسان ما يخرج عن حد العقوق، ومثل هذا قوله تعالى: وصاحبهما في الدنيا معروفا ولما كان إيجاب الإحسان تحريما لترك الإحسان، ذكر في المحرمات. وكذا حكم ما بعده من الأوامر. فإن الأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده. بل هو عينه عند البعض. كأن الأوامر ذكرت وقصد لوازمها، ومن سر ذلك هنا - أعني وضع: وبالوالدين إحسانا موضع (النهي عن الإساءة إليهما) - المبالغة والدلالة على أن ترك الإساءة في شأنهما غير كاف في قضاء حقوقهما، بخلاف غيرهما ولا تقتلوا أولادكم من إملاق أي: من أجل فقر، ومن خشيته. والمراد بالقتل: وأد البنات وهن أحياء، وكانت العرب تفعل ذلك في الجاهلية. فنهاهم الله عن ذلك وحرمه عليهم: نحن نرزقكم وإياهم لأن رزق العبيد على مولاهم: ولا تقربوا الفواحش يعني: الزنى لقوله: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وإنما جيء بصيغة الجميع قصدا إلى النهي عن أنواعه أو مبالغة باعتبار تعدد من يصدر منه: ما ظهر منها وما بطن يعني: علانيته وسره: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله أي: قتلها لإيمانها أو أمانها: إلا بالحق أي: بالعدل، يعني بالقود والرجم والارتداد: ذلكم وصاكم به تلطفا ورأفة. لعلكم تعقلون يعني: لتعقلوا عظمها عند الله تعالى فتكفوا عن مباشرتها.

قال المهايمي: فالشرك وعقوق الوالدين وقتل الأولاد للفقر، منشؤه الجهل بما في الشرك من استهانة المنعم بالإيجاد، وبما في الإساءة إلى الأبوين من مقابلة الإحسان بالإساءة، وقربان الفواحش من متابعة الهوى، والقتل من متابعة الغضب; وكلها أضداد العقل.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.52 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.89 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.44%)]