عرض مشاركة واحدة
  #345  
قديم 05-01-2023, 01:08 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,175
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2566 الى صـ 2580
الحلقة (345)




[ ص: 2566 ] تنبيه:

قال بعض (الزيدية): قوله تعالى: من إملاق خرج على العادة. وإلا فهو محرم، خشي الفقر أم لا. وقد دلت على تحريم قتل الأولاد.

قال الحاكم: فيدخل في ذلك شرب الدواء لقتل الجنين. قال الإمام يحيى: إذا نفخ فيه الروح دون إفساد النطفة والعلقة والمضغة قبل أن ينفخ فيها الروح. وفي "الأحكام" يجب على من انقطع حيضها أن توقى من الأدوية ما يخاف على الجنين منها، إذا كانت من ذوات البعول. وفي قوله تعالى: ذلكم وصاكم به تأكيد للزوم ما تقدم. انتهى.

لطيفة:

قال القاشاني: لما كان الكلام مع المشركين في تحريم الطيبات، عدد المحرمات ليستدل بها على المحللات. فحصر جميع أنواع الفضائل بالنهي عن أجناس الرذائل. وابتدأ بالنهي عن رذيلة القوة النطقية التي هي أشرفها. فإن رذيلتها أكبر الكبائر مستلزمة لجميع الرذائل. بخلاف رذيلة أخويها من القوتين البهيمية السبعية. فقال: ألا تشركوا به شيئا إذ الشرك من خطئها في النظر، وقصورها عن استعمال العقل ودرك البرهان. وعقبه بإحسان الوالدين. إذ معرفة حقوقهما تتلو معرفة الله في الإيجاد والربوبية؛ لأنه ما سببان قريبان في الوجود والتربية. وواسطتان جعلهما الله تعالى مظهرين لصفتي إيجاده وربوبيته ولهذا قال: (من أطاع الوالدين فقد أطاع الله ورسوله) فعقوقهما يلي الشرك ولا يقع الجهل بحقوقهما إلا عن الجهل بحقوق الله تعالى ومعرفة صفاته. ثم بالنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر. فإن ارتكاب ذلك لا يكون إلا عن الجهل والعمى عن تسبيبه تعالى الرزق لكل مخلوق. وأن أرزاق العباد بيده، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر. والاحتجاب عن سر القدر، فلا يعلم أن الأرزاق مقدرة بإزاء الأعمار كتقدير الآجال. فأولاها لا تقع إلا من خطئها في معرفة ذات الله تعالى. والثانية من خطئها في معرفة صفاته. والثالثة من معرفة أفعاله. فلا [ ص: 2567 ] يرتكب هذه الرذائل الثلاث إلا منكوس محجوب عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله; وهذه الحجب أم الرذائل وأساسها. ثم بين رذيلة القوة البهيمية؛ لأن رذيلتها أظهر وأقدم فقال: ولا تقربوا الفواحش ، ثم أشار إلى رذيلة القوة السبعية بقوله: ولا تقتلوا النفس الآية.

القول في تأويل قوله تعالى:

[152] ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون

وقوله تعالى: ولا تقربوا مال اليتيم أي: بوجه من الوجوه: إلا بالتي أي: بالخصلة التي: هي أحسن يعني أنفع له. كتثميره أو حفظه أو أخذه قرضا. لا بأكله، وإنفاقه في مآربكم وإتلافه، فإنه أفحش. وقد ذكرنا طرفا فيما رخص فيه لولي اليتيم أو وصيه في قوله تعالى في سورة النساء: ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف وقد روى أبو داود عن ابن عباس قال: لما أنزل الله: ولا تقربوا مال اليتيم الآية. و: إن الذين يأكلون أموال اليتامى [ ص: 2568 ] الآية. انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه. فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله، أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم فخلطوا طعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه. قيل: إنما خص تعالى مال اليتيم بالذكر، لكونه لا يدفع عن نفسه ولا عن ماله هو ولا غيره. فكانت الأطماع في ماله أشد. فعزم في النهي عنه لأنه حماه ومقدمته، وأمر بتنميته حتى يبلغ أشده أي: قوته التي يقر بها على حفظه واستنمائه، وهذا غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي، كأنه قيل: احفظوه حتى يصير بالغا رشيدا. فحينئذ سلموه إليه كما في قوله تعالى: فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم والأشد جمع (شدة) كنعمة وأنعم، أو شد ككلب وأكلب، أو شد كصر وآصر. وقيل: هو مفرد كآنك.

وأوفوا الكيل والميزان بالقسط أي: بالعدل والتسوية في الأخذ والإعطاء. وقد توعد تعالى على تركه في قوله: ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين

قال ابن كثير: وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال. روى الترمذي عن ابن عباس; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب الكيل والميزان: «إنكم [ ص: 2569 ] وليتم أمرين هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم» . ثم ضعفه وصحح وقفه على ابن عباس. وروى نحوه ابن مردويه مرفوعا، ولفظه: «إنكم معشر الموالي قد بشركم الله بخصلتين، بهما هلكت القرون المتقدمة: بالمكيال والميزان» .

لا نكلف نفسا أي: عند الكيل والوزن: إلا وسعها أي: جهدها بالعدل. وهذا الاعتراض جيء به عقيب الأمر بالعدل، لبيان أن مراعاة الحد من القسط، الذي لا زيادة فيه ولا نقصان، مما يجري فيه الحرج، لصعوبة رعايته. فأمر ببلوغ الوسع، وأن الذي ما وراءه معفو عنه. وقد روى ابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «: أوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها : من أوفى على يده في الكيل والميزان، والله أعلم بصحة نيته بالوفاء فيهما، لم يؤاخذ» .

قال ابن المسيب: وذلك تأويل (وسعها).

قال ابن كثير: هذا مرسل غريب.

وفي "العناية": يحتمل رجوع قوله تعالى: لا نكلف نفسا إلا وسعها إلى ما تقدم. أي: جميع ما كلفناكم ممكن، ونحن لا نكلف ما لا يطاق. انتهى. والأول أولى.

وإذا قلتم أي: في حكومة أو شهادة ونحوهما: فاعدلوا أي: فيها أي: لا تقولوا إلا الحق: ولو كان أي: المقول له أو عليه: ذا قربى أي: ذا قرابة منكم. فلا تميلوا في القول له أو عليه، إلى زيادة أو نقصان.

قال بعض الزيدية: معنى قوله تعالى: وإذا قلتم فاعدلوا أي: اصدقوا في مقالتكم. قال: وهذه اللفظة من الأمور العجيبة في عذوبة لفظها وقلة حروفها وجمعها لأمور كثيرة من الإقرار والشهادة والوصايا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والفتاوى والأحكام والمذاهب.

ثم إنه تعالى أكد ذلك، وبين أنه يلزم العدل في القول، ولو كان المقول له ذا قربى. كقوله تعالى: ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين

[ ص: 2570 ] وبعهد الله أوفوا أي: ما عهد إليكم من الأمور المعدودة، أو أي عهد كان. فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا. أو ما عاهدتم الله عليه من الأيمان والنذور: ذلكم إشارة إلى ما ذكر في هذه الآيات: وصاكم به أي: أمركم بالعمل به في الكتاب: لعلكم تذكرون أي: تتعظون. وفي قوله تعالى: ذلكم وصاكم به تأكيد آخر.

القول في تأويل قوله تعالى:

[153] وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون

وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه يقرأ بفتح همزة (أن) والتشديد. ومحلها مع ما في حيزها بحذف لام العلة. أي: ولأن هذا الذي وصيتكم به. من الأمر والنهي طريقي وديني الذي ارتضيته لعبادي قويما لا اعوجاج فيه، فاعلموا به. وجوز أن يكون محلها مع ما في حيزها النصب على (ما حرم) أي: وأتلو عليكم أن هذا صراطي. وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف ولا تتبعوا السبل يعني الأديان المختلفة أو طرق البدع والضلالات: فتفرق بكم عن سبيله أي: فتفرقكم عن صراطه المستقيم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده. روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه [ ص: 2571 ] سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه. ثم قرأ: وأن هذا صراطي مستقيما الآية.. ورواه الحاكم وصححه.

لطائف:

قال الكيا الهراسي: في الآية دليل على منع النظر والرأي، مع وجود النص.

قال ابن كثير: إنما وحد (سبيله) لأن الحق واحد؛ ولهذا جمع (السبل) لتفرقها وتشعبها. كما قال تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات

قال ابن عطية: وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية، وسائر أهل الملل وأهل البدع والضلالات، من أهل الأهواء والشذوذ في الفروع، وغير ذلك من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام. وهذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد.

قال قتادة: اعلموا أن السبيل سبيل واحد. جماعة الهدى، ومصيره الجنة. وأن إبليس استبدع سبلا متفرقة. جماعة الضلالة، ومصيرها إلى النار. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وفي قوله: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.

ذلكم إشارة إلى ما ذكر من اتباع سبيله تعالى وترك اتباع سائر السبل: وصاكم به لعلكم تتقون أي: اتباع الكفر والضلالة. وفيه تأكيد أيضا. روى الترمذي وحسنه، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول [ ص: 2572 ] الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه، فليقرأ هؤلاء الآيات: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا - إلى قوله -: لعلكم تتقون وروى الحاكم، وصححه عن ابن عباس قال: في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ثم قرأ: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الآيات.

وروى الحاكم وصححه وابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم قوله تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم حتى فرغ من ثلاث آيات. ثم قال: ومن وفى بهن فأجره على الله. ومن انتقص منهن شيئا، فأدركه الله في الدنيا، كانت عقوبته. ومن أخره إلى الآخرة. كان أمره إلى الله. إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه» .

لطيفة:

قال النسفي: ذكر أولا (تعقلون) ثم (تذكرون) ثم (تتقون) لأنهم إذا عقلوا تفكروا، ثم تذكروا، أي: اتعظوا، فاتقوا المحارم. انتهى.

القول في تأويل قوله تعالى:

[154] ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون

ثم آتينا أي: أعطينا: موسى الكتاب يعني التوراة: تماما على الذي أحسن يقرأ بفتح النون على أنه فعل ماض وفاعله إما ضمير (الذي) أي: تماما للكرامة والنعمة على الذي أحسن. أي: على من كان محسنا صالحا. يريد جنس المحسنين. وتدل عليه قراءة عبد الله: (على الذين أحسنوا) وإما ضمير موسى عليه السلام ومفعوله محذوف. أي: تتمة للكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وفي كل ما أمر به. أو تماما على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع. من (أحسن الشيء) إذا أجاد معرفته، أي: زيادة على علمه على وجه التتميم [ ص: 2573 ] وعلى الأول ف (تماما) في موقع المفعول له. وجاز حذف اللام لكونه في معنى (إتماما) أو مصدر لقوله (آتينا) من معناه؛ لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة. كأنه قيل: أتممنا النعمة إتماما. ف (تمام) بمعنى (إتمام) كنبات في قوله تعالى: والله أنبتكم من الأرض نباتا أو (أصله إيتاء تمام). وعلى الوجه الثاني هو حال من الكتاب. وقرأ يحيى بن يعمر (على الذي أحسن) بالرفع أي: على الذي هو أحسن، أو على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب. ف (تماما) حال من الكتاب بمعنى (تاما) أي: حال كون الكتاب تاما كائنا على أحسن ما يكون. قال ابن جرير: هذه قراءة لا أستجيز القراءة بها. وإن كان في العربية له وجه صحيح. وتفصيلا لكل شيء أي: وبيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل في الدين: وهدى لهم إلى ربهم في سلوك سبيله: ورحمة عليهم بإفاضة الفوائد: لعلهم أي: أهل الكتاب: بلقاء ربهم يؤمنون يصدقون بلقائه للجزاء.

لطيفة:

قال السيوطي في "الإكليل": استدل بقوله تعالى: ثم آتينا من قال إن: ثم لا تفيد الترتيب. انتهى

قال ابن كثير و: ثم ههنا لعطف الخبر بعد الخبر، لا للترتيب كما قال الشاعر:


قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم ساد قبل ذلك جده


وقال أبو السعود: و: ثم للتراخي في الأخبار كما في قولك: بلغني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت أمس أعجب. أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل: ذلك وصاكم به قديما وحديثا. ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى التوراة. فإن إيتاءها مشتملة على الوصية المذكورة وغيرها، أعظم من التوصية بها فقط. انتهى.

ثم أشار إلى أن التوراة. وإن كانت تماما على النهج الأحسن، فالقرآن أتم منه وأزيد حسنا. فهو أولى بالمتابعة، فقال:

[ ص: 2574 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[155] وهذا كتاب أنـزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون

وهذا أي: القرآن: كتاب أنـزلناه مبارك أكثر نفعا من التوراة دينا ودنيا: فاتبعوه أي: اعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي والأحكام: واتقوا يعني مخالفته واتباع غيره لكونه منسوخا به: لعلكم ترحمون أي: لترحموا بواسطة اتباعه، وهو العمل بما فيه. وفيه إشارة إلى أنه لا رحمة بمتابعة المنسوخ وإن آمن صاحبها بلقاء ربه.

قال بعض الزيدية: وفي قوله تعالى: فاتبعوه دلالة على وجوب تعلم القرآن ليمكن الاتباع له. لكن هو كسائر العلوم فرض كفاية إلا ما يتعين على كل مكلف، كتعلم ما لا تصح الصلاة إلا به، فإنه يجب عليه. انتهى.

لطيفة:

قال ابن كثير: إنه كثيرا ما يقرن بين الكتابين كقوله: ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا وقوله أول السورة: قل من أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى ثم قال: وهذا كتاب أنـزلناه مبارك الآية. [ ص: 2575 ] وقوله تعالى مخبرا عن المشركين: فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى وقوله تعالى مخبرا عن الجن أنهم قالوا: يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنـزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه الآية.

القول في تأويل قوله تعالى:

[156] أن تقولوا إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين

أن تقولوا علة ل (أنزلناه). أي: كراهة أن تقولوا يوم القيامة. أو لئلا تقولوا: إنما أنـزل الكتاب على طائفتين من قبلنا اليهود والنصارى: وإن كنا عن دراستهم عن تلاوة كتابهم: لغافلين لا علم لنا بشيء منها لأنها ليست بلغتنا.

قال أبو السعود: ومرادهم بذلك دفع ما يرد عليهم من أن نزوله عليهما لا ينافي عموم أحكامه. فلم لم تعملوا بأحكامه العامة؟ والمعنى: وإن كنا لا ندري ما في كتابهم، إذ لم يكن على لغتنا حتى نتلقى منه تلك الأحكام العامة ونحافظ عليها، وإن لم يكن منزلا علينا. وبهذا تبين أن معذرتهم هذه، مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم، أن قطع تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله أيضا عليها، لا على سائر الشرائع والأحكام فقط. انتهى.

[ ص: 2576 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[157] أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون

أو تقولوا لو أنا أنـزل علينا الكتاب أي: كما أنزل عليهم: لكنا أهدى منهم أي: إلى الحق وأسرع منهم إجابة للرسول لمزيد ذكائنا وجدنا في العمل: فقد جاءكم قال أبو السعود: متعلق بمحذوف ينبئ عنه الفاء الفصيحة، إما معلل به، أي: لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم. وإما شرط له. أي: إن صدقتم فيما كنتم تعدون من أنفسكم من كونكم أهدى من الطائفتين على تقدير نزول الكتاب عليكم، فقد حصل ما فرضتم وجاءكم: بينة أي: كتاب حجة واضحة: من ربكم متعلق ب (جاءكم) أو بمحذوف صفة ل (بينة) أي: بينة كائنة منه تعالى لا يتوهم فيه السحر: وهدى بإقامة الدلائل ورفع الشبه: ورحمة بإفاضة الفوائد وتسهيل طريقكم وتيسيرها إلى أشرف الكمالات: فمن أظلم قال أبو السعود: الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها. فإن مجيء القرآن المشتمل على الهدى والرحمة موجب لغاية أظلمية من يكذبه. أي: وإذا كان الأمر كذلك: فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها أي: صرف الناس وصدهم عنها. فجمع بين الضلال والإضلال. والمعنى إنكار أن يكون أحد أظلم منه أو مساويا له: سنجزي الذين يصدفون الناس: عن آياتنا أي: التي لو لم يصدفوا عنها لعرفوا إعجازها: سوء العذاب أي: العذاب السيئ. بما كانوا يصدفون وهذا كقوله تعالى: الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون
[ ص: 2577 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[158] هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون

هل ينظرون يعني قد أقمنا حجج الوحدانية وثبوت الرسالة وأبطلنا ما كانوا يعتقدون من الضلالة. فما ينتظر هؤلاء بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن وصدهم عن آيات الله؟

قال البيضاوي: يعني أهل مكة. وهم ما كانوا منتظرين لذلك. ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر، شبهوا بالمنتظرين إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك يعني للحكم وفصل القضاء بين الخلق يوم القيامة.

قال ابن كثير: وذلك كائن يوم القيامة. وقد تقدم الكلام في معنى الآية في سورة البقرة عند قوله تعالى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام بما فيه كفاية.

ومذهب السلف: إمرار ذلك بلا كيف، كما مر مرارا.

قيل: إلا أن تأتيهم الملائكة أي: ملائكة الموت لقبض أرواحهم: أو يأتي بعض آيات ربك وذلك قبل يوم القيامة، كائن من أمارات الساعة وأشراطها حين يرون شيئا من ذلك. كما روى البخاري في تفسير هذه الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها. فإذا رآها الناس آمن [ ص: 2578 ] من عليها. فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل. ورواه مسلم أيضا، ولمسلم والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل صفة (نفسا): أو كسبت في إيمانها خيرا عطف على (آمنت) والمعنى أن بعض أشراط الساعة إذا جاء، وهي آية ملجئة مضطرة، ذهب أوان التكليف عندها، فلم ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها من قبل ظهور الآيات. أو مقدمة الإيمان غير كاسبة في إيمانها خيرا لفسقها. فتوبتها حينئذ لا تجدي.

قال الطبري: معنى الآية: لا ينفع كافرا لم يكن آمن قبل الطلوع، إيمان بعد الطلوع. ولا ينفع مؤمنا -لم يكن عمل صالحا قبل الطلوع- عمل صالح بعد الطلوع؛ لأن حكم الإيمان والعمل الصالح حينئذ، حكم من آمن أو عمل عند الغرغرة. وذلك لا يفيد شيئا. كما قال تعالى: فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا وكما ثبت في الحديث الصحيح: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» . انتهى.

وبالجملة: فالمعنى أنه لا ينفع من كان مشركا إيمانه. ولا تقبل توبة فاسق عند ظهور هذه الآية العظيمة التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة. وذلك لذهاب زمن التكليف.

[ ص: 2579 ] قال الضحاك: من أدركه بعض الآيات، وهو على عمل صالح مع إيمانه، قبل الله منه العمل الصالح بعد نزول الآية، كما قبل منه قبل ذلك. فأما من آمن من شرك أو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية، فلا يقبل منه؛ لأنها حالة اضطرار. كما لو أرسل الله عذابا على أمة فآمنوا وصدقوا. فإنهم لا ينفعهم إيمانهم ذلك، لمعاينتهم الأهوال والشدائد، التي تضطرهم إلى الإيمان والتوبة.

وقال ابن كثير: إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ لم يقبل منه. فأما من كان مؤمنا قبل ذلك، فإن كان مصلحا في عمله، فهو بخير عظيم. وإن لم يكن مصلحا، فأحدث توبة حينئذ، لم تقبل منه توبته. كما دلت عليه الأحاديث. وعليه يحمل قوله تعالى: أو كسبت في إيمانها خيرا أي: لا يقبل منها كسب عمل صالح، إذا لم يكن عاملا به قبل. انتهى.

والأحاديث المشار إليها، منها ما رواه (مسلم) عن أبي هريرة; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تاب قبل طلوع الشمس من مغربها تاب الله عليه.» وروى الترمذي وصححه [ ص: 2580 ] عن صفوان بن عسال المرادي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «باب من قبل المغرب مسيرة عرضه - أو قال: يسير الراكب في عرضه - أربعين أو سبعين سنة خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض. مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه» . ولأبي داود والنسائي من حديث معاوية رفعه: «لا تزال تقبل التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.04 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.41 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.39%)]