عرض مشاركة واحدة
  #346  
قديم 05-01-2023, 01:11 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2581 الى صـ 2595
الحلقة (346)





قال ابن حجر: سنده جيد. وأخرجه أحمد والدارمي وعبد بن حميد من حديثه أيضا [ ص: 2581 ] بلفظ: لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها. وروى الإمام أحمد عن ابن السعدي; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل» . فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه، وكفي الناس العمل» .

قال ابن كثير: هذا الحديث حسن الإسناد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.

وهاهنا مسائل:

الأولى: ذهب الجمهور إلى أن المراد ب (البعض) في الآية هو طلوع الشمس من مغربها. كما في حديث الصحيحين السابق. ولا يقال يخالف ذلك حديث مسلم: ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها.. الحديث. وفي ثبوت ذلك بخروج الدجال نظر؛ لأن نزول عيسى صلى الله عليه وسلم بعده. وفي زمنه خير كثير دنيوي وأخروي. فالإيمان مقبول وقتئذ. لأنا نقول: لا منافاة. وذلك لأن (البعض) في الآية، إن كان عدة آيات، فطلوع الشمس هو آخرها المتحقق به عدم القبول، وإن كان إحدى آيات، فهو محمول على المعين في الحديث؛ لأنه أعظمها. كذا في "العناية".

قال ابن عطية: إذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بتخصيص مانع القبول بالطلوع، في الحديث الصحيح، لم يجز العدول عنه، وتعين أنه معنى الآية. انتهى.

وقال القاضي عياض: المعنى: لا تنفع توبة بعد ذلك. بل يختم على عمل كل أحد بالحالة التي هو عليها. والحكمة في ذلك أن هذا أول ابتداء قيام الساعة بتغير العالم العلوي. فإذا [ ص: 2582 ] شوهد ذلك حصل الإيمان الضروري بالمعاينة. وارتفع الإيمان بالغيب. فهو كالإيمان عند الغرغرة وهو لا ينفع. فالمشاهدة لطلوع الشمس من المغرب مثله. الثانية: قال السيوطي في "الإكليل": استدل المعتزلة بهذه الآية على أن الإيمان لا ينفع مع عدم كسب الخير فيه. وهو مردود. ففي الكلام تقدير. والمعنى: لا ينفع نفسا لم تكن آمنت من قبل إيمانها حينئذ، ولا ينفع نفسا لم تكسب خيرا قبل توبتها حينئذ.

وقال الشهاب السمين: قد أجاب الناس بأن المعنى في الآية إنه إذا أتى بعض الآيات لا ينفع نفسا كافرة، إيمانها الذي أوقعته إذ ذاك. ولا ينفع نفسا سبق إيمانها ولم تكسب فيه خيرا. فقد علق نفي الإيمان بأحد وصفين: إما نفي سبق الإيمان فقط، وإما سبقه مع نفي كسب الخير. ومفهوم الصفة قوي فيستدل بالآية لمذهب أهل السنة. ويكون فيه قلب دليل المعتزلة، دليلا عليهم.

وأجاب ابن المنير في "الانتصاف" فقال: هذا الكلام من البلاغة يلقب (اللف) وأصله: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا، لم تكن مؤمنة قبل، إيمانها بعد. ولا نفسا لم تكسب خيرا قبل، ما تكتسبه من الخير بعد، فلف الكلامين فجعلهما كلاما واحدا إيجازا. وبهذا التقرير يظهر أنها لا تخالف مذهب أهل الحق. فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير ولو نفع الإيمان المتقدم من الخلود. فهي بالرد على المعتزلة أولى من أن تدل لهم.

وقال ابن الحاجب في "أماليه": الإيمان قبل مجيء الآية نافع لو لم يكن عمل صالح غيره، ومعنى الآية: لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح، لم يكن الإيمان قبل الآية، أو لم يكن العمل مع الإيمان قبلها. فاختصر للعلم.

ونقل الطيبي كلام الأئمة في ذلك. ثم قال: المعتمد ما قال ابن المنير وابن الحاجب. وبسطه: [ ص: 2583 ] أن الله تعالى لما خاطب المعاندين بقوله تعالى: وهذا كتاب أنـزلناه مبارك فاتبعوه الآية. علل الإنزال بقوله: أن تقولوا إنما أنزل الكتاب إلخ. إزالة للعذر وإلزاما للحجة. وعقبه بقوله: فقد جاءكم بينة إلخ، تبكيتا لهم وتقريرا لما سبق ممن طلب الاتباع. ثم قال: فمن أظلم ممن كذب الآية. أي: أنه أنزل هذا الكتاب المنير كاشفا لكل ريب وهاديا إلى الطريق المستقيم ورحمة من الله للخلق، ليجعلوه زادا لمعادهم فيما يقدمونه من الإيمان والعمل الصالح. فجعلوا شكر النعمة أن كذبوا بها ومنعوا من الانتفاع بها. ثم قال: هل ينظرون الآية.. أي: ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا أن يأتيهم عذاب الدنيا بنزول الملائكة بالعقاب الذي يستأصل شأفتهم. كما جرى لمن مضى من الأمم قبلهم. أو يأتيهم عذاب الآخرة بوجود بعض قوارعها، فحينئذ تفوت تلك الفرصة السابقة فلا ينفعهم شيء مما كان ينفعهم من قبل، من الإيمان، وكذا العمل الصالح مع الإيمان، فكأنه قيل: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها العمل الصالح في إيمانها حينئذ؛ إذ لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا من قبل. ففي الآية لف. لكن حذفت إحدى القرينتين بإعانة النشر، ونظيره قوله تعالى: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا

قال: فهذا الذي عناه ابن المنير بقوله: إن هذا الكلام في البلاغة يقال له (اللف) والمعنى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا، لم تكن مؤمنة من قبل ذلك، إيمانها من بعد ذلك، [ ص: 2584 ] ولا ينفع نفسا كانت مؤمنة، لكن لم تعمل في إيمانها عملا صالحا قبل ذلك، ما تعمله من العمل الصالح بعد ذلك. قال: وبهذا التقرير يظهر مذهب أهل السنة. فلا ينفع بعد ظهور الآية اكتساب الخير، أي: لإغلاق باب التوبة ورفع الصحف والحفظة، وإن كان ما سبق قبل ظهور الآية من الإيمان ينفع صاحبه في الجملة.

ثم قال الطيبي: وقد ظفرت، بفضل الله بعد هذا التقرير، على آية أخرى تشبه هذه الآية وتناسب هذا التقرير معنى ولفظا، من غير إفراط ولا تفريط. وهي قوله تعالى: ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم فإنه يظهر منه أن الإيمان المجرد قبل كشف قوارع الساعة نافع، وأن الإيمان المقارن بالعمل الصالح أنفع. وأما بعد حصولها أنفع. وأما بعد حصولها فلا ينفع شيء أصلا. والله أعلم. انتهى ملخصا.

الثالثة: قال في "الوجيز" في قوله تعالى: أو يأتي ربك أي: لفصل القضاء بين خلقه. وإتيانه نؤمن به ولا نعرف كيفه. انتهى.

وفي حواشي "جامع البيان": كيف لا يؤمن بإتيانه ومجيئه تعالى يوم القيامة، وقد جاء في القرآن في عدة مواضع: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وجاء ربك والملك صفا صفا إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك وأي أمر أصرح منه في القرآن؟.

[ ص: 2585 ] وروى الطبري في "تفسيره" عن ابن عباس مرفوعا: إن في الغمام طاقات يأتي الله فيها، محفوفا. وذلك قوله: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر

قال عكرمة: والملائكة حوله، فهذا من صفات الله تعالى. يجب علينا الإيمان بظاهرها ونؤمن بها كما جاءت وإن لم نعرف كيفيتها. وعدم علمنا بكيفيتها، بمنزلة عدم علمنا بكيفية ذاته. فلا نكذب بما علمناه لعدم علمنا بما لم نعلمه. وهذا هو مذهب سلف هذه الأمة وأعلام أهل السنة. انتهى.

وقوله تعالى: قل انتظروا أي: قل لهؤلاء الكافرين، بعد بيان حقيقة الحال على وجه التحديد: انتظروا ما تنتظرونه من إتيان أحد الأمور الثلاثة لتروا أي شيء تنتظرون.

إنا منتظرون أي: لذلك، لنشاهد ما يحل بكم من سوء العاقبة.

ثم بين تعالى أحوال أهل الكتاب، إثر بيان حال المشركين بقوله سبحانه.

القول في تأويل قوله تعالى:

[159] إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون

إن الذين فرقوا دينهم أي: اختلفوا فيه، مع وحدته في نفسه، فجعلوه أهواء متفرقة: وكانوا شيعا أي: فرقا تشيع كل فرقة إماما لها بحسب غلبة تلك الأهواء.

فلم يتعبدوا إلا بعادات وبدع، ولم ينقادوا إلا لأهواء وخدع: لست منهم في شيء أي: من عقابهم. أو أنت بريء منهم محمي الجناب عن مذاهبهم. أو المعنى: اتركهم؛ فإن لهم ما لهم.

وقال القاشاني: أي: لست من هدايتهم إلى التوحيد في شيء؛ إذ هم أهل التفرقة [ ص: 2586 ] لا يجتمع هممهم، ولا يتحد قصدهم: إنما أمرهم إلى الله أي: في جزاء تفرقهم ومكافأتهم، لا إليك. ثم ينبئهم يعني إذا وردوا يوم القيامة: بما كانوا يفعلون أي: من السيئات والتفرقة، لمتابعة الأهواء. ويجازيهم على ذلك بما يماثل أفعالهم.

تنبيه:

قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى. وروى العوفي عن ابن عباس في الآية; أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا، وحمل بعضهم الآية على أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة. وآخر على الخوارج، وأسندوا في ذلك حديثا رفعوه.

قال ابن كثير: وإسناد ذلك لا يصح. ثم قال: والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفا له، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق. فمن اختلف فيه (وكانوا شيعا) أي: فرقا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات، فإن الله تعالى قد برأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه، وهذه الآية كقوله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك الآية. وفي الحديث: «نحن معاشر الأنبياء أولاد علات. ديننا واحد» . فهذا هو الصراط المستقيم، [ ص: 2587 ] وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء. والرسل برآء منها كما قال الله تعالى: لست منهم في شيء

ثم قال: وقوله تعالى: إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون كقوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة انتهى.

وقد أخرج أبو داود عن معاوية قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة. وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين. اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة» . ورواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو، وفيه: قالوا من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي.

ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة. فقال تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى:

[160] من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون .

من جاء بالحسنة أي: جاء يوم القيامة بالأعمال الحسنة: فله عشر أمثالها يعني: عشر حسنات أمثالها في الحسن.

قال المهايمي: كمن أهدى إلى سلطان عنقود عنب يعطيه بما يليق بسلطنته، لا قيمة [ ص: 2588 ] العنقود. انتهى.

والعشر أقل ما وعد من الأضعاف. وقد جاء الوعد بسبعين، وبسبعمائة وبغير حساب؛ ولذلك قيل: المراد بذكر العشر بيان الكثرة لا الحصر في العدد الخاص: ومن جاء بالسيئة أي: بالأعمال السيئة: فلا يجزى إلا مثلها في القبح.

قال المهايمي: فمن كفر خلد في النار، فإنه ليس أقبح من كفره. كمن أساء إلى سلطان يقصد قتله. ومن فعل معصية عذب بقدرها كمن أساء إلى آحاد الرعية. انتهى.

وهم لا يظلمون أي: بنقص الثواب وزيادة العقاب.

لطيفة:

قال القاشاني في قوله تعالى: فله عشر أمثالها هذا أقل درجات الثواب. وذلك أن الحسنة تصدر بظهور القلب والسيئة بظهور النفس. فأقل درجات ثوابها أنه يصل إلى مقام القلب الذي يتلو مقام النفس في الارتقاء، تلو مرتبة العشرات للآحاد في الأعداد. وأما في السيئة فلأنه لا مقام أدون من مقام النفس. فينحط إليه بالضرورة. فيرى جزاءه في مقام النفس بالمثل. ومن هذا يعلم أن الثواب من باب الفضل. فإنه يزيد به صاحبه ويتنور استعداده ويزداد قبوله لفيض الحق. فيتقوى على أضعاف ما فعل ويكتسب به أجورا متضاعفة إلى غير نهاية، بازدياد القبول على فعل كل حسنة وزيادة القدرة والشغف على الحسنة عند زيادة الفيض إلى ما لا يعلمه إلا الله. كما قال بعد ذكر أضعافها إلى سبعمائة: والله يضاعف لمن يشاء ، وأن العقاب من باب العدل؛ إذ العدل يقتضي المساواة. ومن فعل بالنفس، إذا لم يعف عنه، يجازي بالنفس سواء. انتهى.

[ ص: 2589 ] تنبيه:

وردت أحاديث كثيرة في معنى الآية. فروى الإمام أحمد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيما يروي عن ربه تعالى: «إن ربكم تبارك وتعالى رحيم. من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة. فإن عملها كتبت له عشرة إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة. فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله ولا يهلك على الله إلا هالك» . ورواه البخاري ومسلم والنسائي. وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تبارك وتعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها أو أزيد. ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر. ومن تقرب مني [ ص: 2590 ] شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا. ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة بعد أن لا يشرك بي شيئا، لقيته بمثلها مغفرة» . وروى الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها؛ فإن عملها فاكتبوها بمثلها. وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة» لفظ البخاري. وروى الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام. وذلك لأن الله تعالى قال: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها » . وروى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله» . ورواه النسائي والترمذي وزاد: فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، اليوم بعشرة أيام. وبقيت أخبار أخرى. وفيما ذكر كفاية.
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخبر أولئك المفرقين دينهم بما أنعم سبحانه عليه من إرشاده إلى دينه القويم بقوله:

[ ص: 2591 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[161] قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين

قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم وهو دين الإسلام الذي ارتضاه لعباده المخلصين: دينا نصب على البدل من محل (إلى صراط) لأن معناه: هداني صراطا.

بدليل قوله: ويهديهم إليه صراطا مستقيما ، أو مفعول لمضمر يدل عليه المذكور. أي: عرفني دينا. أو مفعول (هداني). و (هدى) يتعدى إلى اثنين: قيما صفة (دينا) يقرأ بالتشديد أي: ثابتا أبدا لا تغيره الملل والنحل، ولا تنسخه الشرائع والكتب، مقوما لأمر المعاش والمعاد. ويقرأ بالتخفيف. على أنه مصدر نعت به. وأصله قوم كعوض. فأعل لإعلال فعله كالقيام.

ملة إبراهيم المتفق على صحتها وهي التي أعرض بها عن كل ما سواه تعالى. عطف بيان ل (دينا): حنيفا حال من: إبراهيم أي: مائلا عن كل دين وطريق باطل، فيه شرك ما، وقوله تعالى: وما كان من المشركين اعتراض مقرر لنزاهته عليه السلام عما عليه المفرقون لدينه من عقد وعمل. أي: ما كان منهم في أمر من أمور دينهم أصلا وفرعا. صرح بذلك ردا على الذين يدعون أنهم على ملته من مشركي مكة واليهود والنصارى. أفاده أبو السعود.

تنبيه:

قال ابن كثير: هذه الآية كقوله تعالى: ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين وليس يلزم من كونه أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية، [ ص: 2592 ] أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها؛ لأنه عليه السلام قام بها قياما عظيما، وأكملت له إكمالا تاما لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال. ولهذا قال: أنا خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم على الإطلاق وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق، حتى الخليل عليه السلام، وروى ابن مردويه عن ابن أبزى عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: «أصبحنا على ملة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا وملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين» . وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال: «الحنيفية السمحة» ، وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبيه لأنظر إلى زفن الحبشة. حتى كنت التي مللت، فانصرفت عنهم. وقالت عائشة: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: «ليعلم يهود أن في ديننا فسحة. إني أرسلت بحنيفية سمحة» .
القول في تأويل قوله تعالى:

[162] قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين

قل إن صلاتي لما أن المأمور به متعلق بفروع الشرائع، وما سبق بأصولها. أي: إن صلاتي إلى الكعبة: ونسكي أي: طوافي وذبحي للهدايا في الحج والعمرة، أو عبادتي كلها: ومحياي ومماتي أي: وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح. أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات، كالوصية والتدبير. أو الحياة والممات أنفسهما: لله رب العالمين
[ ص: 2593 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[163] لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين

لا شريك له أي: خالصة لله لا أشرك فيها غيره: وبذلك أي: القول أو الإخلاص: أمرت وأنا أول المسلمين أي: من هذه الأمة؛ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته.

قال ابن كثير: يأمر تعالى نبيه أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى ويذبحون لغير اسمه; أنه مخالف لهم في ذلك. فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له.
القول في تأويل قوله تعالى:

[164] قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون

قل أغير الله أبغي ربا فأشركه في عبادته، وهو جواب عن دعائهم له عليه الصلاة والسلام إلى عبادة آلهتهم، وفي إيثار نفي البغية والطلب، على نفي العبادة، أبلغية لا تخفى: وهو رب كل شيء حال في موضع العلة للإنكار والدليل له. أي: وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية، فلا أكون عبدا لعبده.

قال ابن كثير: أي: فلا أتوكل إلا عليه ولا أنيب إلا إليه؛ لأنه رب كل شيء ومليكه وله الخلق والأمر. ففي هذه الآية الأمر بإخلاص العبادة والتوكل. كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة له لا شريك له. وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيرا. كقوله تعالى مرشدا لعباده أن يقولوا: إياك نعبد وإياك نستعين وقوله: فاعبده وتوكل عليه [ ص: 2594 ] وقوله: قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا وقوله: رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا وأشباه ذلك من الآيات.

ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى

قال ابن كثير: إخبار عن الواقع يوم القيامة من جزاء الله تعالى وحكمه وعدله أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد. وهذا من عدله تعالى.

وقال أبو السعود: كانوا يقولون للمسلمين: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم إما بمعنى ليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم، وإما بمعنى لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا - فهذا رد له بالمعنى الأول. أي: لا تكون جناية نفس من النفوس إلا عليها. ومحال أن يكون صدورها عن شخص وقرارها على شخص آخر، حتى يتأتى ما ذكرتم، وقوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى رد له بالمعنى الثاني. أي: لا تحمل يومئذ نفس حاملة، حمل نفس أخرى، حتى يصح قولكم.

تنبيه:

قال السيوطي في "الإكليل": هذه الآية أصل في أنه لا يؤاخذ أحد بفعل أحد، وقد ردت عائشة به على من قال: إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه. أخرجه البخاري، وأخرج [ ص: 2595 ] ابن أبي حاتم عنها; أنها سئلت عن ولد الزنى؟ فقالت: ليس عليه من خطيئة أبويه شيء. وتلت هذه الآية.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.96 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.33 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.43%)]