عرض مشاركة واحدة
  #348  
قديم 05-01-2023, 01:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,400
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2611 الى صـ 2625
الحلقة (348)






القول في تأويل قوله تعالى:

[4] وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون [5] فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين

وكم من قرية أهلكناها " أي أردنا إهلاكها بسبب مخالفة المنزل إليهم. فجاءها [ ص: 2611 ] بأسنا " أي: فجاء أهلها عذابنا بياتا " أي: بائتين، كقوم لوط . والبيتوتة: الدخول في الليل، أي ليلا قبل أن يصبحوا أو هم قائلون " أي قائلين نصف النهار، كقوم شعيب . والمعنى: فجاءها بأسنا غفلة، وهم غير متوقعين له. ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم قائلون وقت الظهيرة. وكل ذلك وقت الغفلة. والمقصود أنه جاءهم العذاب على حين غفلة منهم، من غير تقدم أمارة تدلهم على وقت نزول العذاب، وفيه وعيد وتخويف للكفار. كأنه قيل لهم: لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة، فإن عذاب الله إذا نزل، نزل دفعة واحدة. ونظير هذه الآية قوله تعالى: أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ؟

ثم تأثر تعالى عذابهم الدنيوي ببيان عذابهم الأخروي، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[6] فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين

فلنسألن الذين أرسل إليهم " أي: المرسل إليهم وهم الأمم، يسألهم عما أجابوا عنه رسلهم كما قال: ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ولنسألن المرسلين أي: عما أجيبوا به، كما قال سبحانه: يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم والمراد بالسؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم.

القول في تأويل قوله تعالى:

[7] فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين

فلنقصن عليهم " أي: على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم بعلم " أي: عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وما كنا غائبين " أي: عنهم وعما وجد منهم.

[ ص: 2612 ]



القول في تأويل قوله تعالى:

[9] ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون

ومن خفت موازينه " أي: حسناته في الميزان فأولئك الذين خسروا أنفسهم بالعقوبة بما كانوا بآياتنا يظلمون أي: يكفرون.

تنبيهات:

الأول: قال السيوطي في (الإكليل): في هذه الآية ذكر الميزان، ويجب الإيمان به. انتهى.

وقال الإمام الغزالي في (المضنون): تعلق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور. وبالموت ينكشف الغطاء، كما قال تعالى: فكشفنا عنك غطاءك ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده، وهي مقادير تلك الآثار، وإن بعضها أشد تأثيرا من البعض، ولا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يجري سببا يعرف الخلق في لحظة واحدة مقادير الأعمال، بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب والإبعاد. فحد الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان، ومثاله في العالم المحسوس مختلف، فمنه الميزان المعروف، ومنه القبان للأثقال، والإصطرلاب لحركات الفلك والأوقات، والمسطرة للمقادير والخطوط، والعروض لمقادير [ ص: 2613 ] حركات الأصوات. فالميزان الحقيقي، إذا مثله الله عز وجل للحواس، مثله بما شاء من هذه الأمثلة أو غيرها. فحقيقة الميزان وحده موجود في جميع ذلك، وهو ما يعرف به الزيادة من النقصان، وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل، وللخيال عند التمثيل، والله تعالى أعلم بما يقدره من صنوف التشكيلات. والتصديق بجميع ذلك واجب. انتهى.

الثاني: الذي يوضع في الميزان يوم القيامة. قيل: الأعمال وإن كانت أعراضا إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما.

قال البغوي : يروى هذا عن ابن عباس ، كما جاء في (الصحيح) : « أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان، أو فرقان من طير صواف » .

ومن ذلك في (الصحيح) قصة القرآن، وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللون، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي أسهرت ليلك، وأظمأت نهارك » ، وفي حديث البراء [ ص: 2614 ] في قصة سؤال القبر: فيأتي المؤمن شاب حسن اللون، طيب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح » . وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.

فالأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية، تبرز على هذا القول في النشأة الآخرة بصور جوهرية، مناسبة لها في الحسن والقبح. فالذنوب والمعاصي تتجسم هناك، وتتصور بصورة النار، وعلى ذلك حمل قوله تعالى: وإن جهنم لمحيطة بالكافرين وقوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا الآية وكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حق من يشرب من إناء الذهب والفضة: « إنما يجرجر في بطنه نار جهنم » ، ولا بعد في ذلك، ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن.

وقيل: صحائف الأعمال هي التي توزن، ويؤيده حديث البطاقة، فقد أخرج أحمد [ ص: 2615 ] والترمذي وصححه، وابن ماجه والحاكم والبيهقي وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة. فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، فيقول: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا، يا رب ! فيقول: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل، فيقول: لا. يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، فإنه لا ظلم عليك اليوم. فيخرج له بطاقة فيها (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله)، فيقول: يا رب ! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة » .

القول في تأويل قوله تعالى:

[10] ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون

ولقد مكناكم في الأرض " أي جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا، أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها.

وجعلنا لكم فيها معايش جمع معيشة، وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها. أو ما يتوصل به إلى ذلك من المتاجر والمزارع والصنائع.

قليلا ما تشكرون " الكلام فيه كالذي في قوله: قليلا ما تذكرون وقد مر قريبا، والتذييل مسوق لبيان سوء حال المخاطبين وتحذيرهم، أي ما مننا عليكم بذلك إلا لتشكروا بمتابعة ما أنزلنا إليكم، وترك متابعة من دوننا، فتحصلوا معايش السعادات الأبدية.

ثم بين تعالى نعمته على آدم التي سرت إلى بنيه، وبين لهم عداوة إبليس وما انطوى عليه من الحسد لأبيهم، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[11] ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين

" ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين هذا كقوله تعالى: وإذ قال ربك للملائكة [ ص: 2620 ] إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين وفي تصدير هذه الآية بالقسم وحرف التحقيق، كالتي قبلها، إعلام بكمال العناية بمضمونها.

قال أبو السعود : وإنما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين، مع أن المراد بهما خلق آدم عليه السلام وتصويره حتما، توفية لمقام الامتنان حقه، وتأكيدا لوجوب الشكر عليهم، بالرمز إلى أن لهم حظا من خلقه عليه السلام وتصويره، لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه، بل من الأمور السارية إلى ذريته جميعا، إذ الكل مخلوق في ضمن خلقه على نمطه، ومصنوع على شاكلته، فكأنهم الذي تعلق به خلقه وتصويره. أي: خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور، ثم صورناه أبدع تصوير، وأحسن تقويم، سار إليكم جميعا – انتهى-.
القول في تأويل قوله تعالى:

[12] قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين

قال " سبحانه وتعالى: ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك " أي أن تسجد كما وقع في سورة (ص). و " لا " مزيدة للتنبيه على أن الموبخ عليه ترك السجود، ولتوكيد لمعنى الفعل الذي دخلت عليه وتحقيقه، كما في قوله تعالى: لئلا يعلم أهل الكتاب كأنه قيل: ليتحقق علم أهل الكتاب ، وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك.

وتوقف بعض المحققين في وجه إفادة " لا " النافية تأكيد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه، واستظهر الشهاب أنها لا تؤكده مطلقا، بل إذا صحبت نفيا مقدما أو مؤخرا صريحا أو غير صريح، [ ص: 2621 ] كما في: غير المغضوب عليهم ولا الضالين وكما هنا، فإنها تؤكد تعلق المنع به –انتهى-.

وقيل: (ما منعك)، محمول على (ما حملك وما دعاك)، مجازا أو تضمينا.

وقال الراغب : المنع ضد العطية، وقد يقال في الحماية. والمعنى ما حماك عن عدم السجود. ولا يخفى أن السؤال عن المانع من السجود، مع علمه به، للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره، وافتخاره بأصله وتحقيره أصل آدم عليه السلام. كما أوضحه قوله تعالى: قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين قال ابن كثير : هذا من العذر الذي هو أكبر من الذنب -انتهى.

وإنما قال هذا، ولم يقل (منعني كذا) مطابقة للسؤال. لأن في هذه الجملة التي جاء بها مستأنفة، ما يدل على المانع، وهو اعتقاده أنه أفضل منه، والفاضل لا يفعل مثل ذلك للمفضول، مع ما في طيها من إنكار أن يؤمر مثله بالسجود لمثله. فالجملة متضمنة للجواب بقياس استدلالي ، وهي من الأسلوب الأحمق كما في قصة نمروذ .

وقد علل ما ادعاه من الخيرية والفضل بزعمه أن عنصر النار أفضل من عنصر الطين، لأنها جوهر نوراني، وهو ظلماني، ولقد أخطأ اللعين حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل، كما أنبأ عنه قوله تعالى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أي: بغير واسطة، وباعتبار الصورة، كما نبه عليه بقوله: ونفخت فيه من روحي وباعتبار الغاية وهو ملاك الأمر، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له لما بين لهم أنه أعلم منهم بما يدور عليه [ ص: 2622 ] أمر الخلافة في الأرض، وأن له خواص ليست لغيره.

وبالجملة فالشيء كما يشرف بمادته، يشرف بفاعله وغايته وصورته، والثلاثة في آدم عليه السلام دونه، فاستبان غلطه.

وفي (اللباب) أن عدو الله إبليس جهل وجه الحق، وأخطأ طريق الصواب، لأن من المعلوم أن من جوهر النار الخفة والطيش والارتفاع والاضطراب، وهذا الذي حمله، مع سابقة شقائه، على الاستكبار عن السجود لآدم عليه السلام، والاستخفاف بأمر ربه، فأورده ذلك العطب والهلاك.

ومن جوهر الطين الرزانة والأناة والصبر والحلم والحياء والتثبت، وهذا كان الداعي لآدم عليه السلام، مع سابقة سعادته، إلى التوبة من خطيئته، ومسألته ربه العفو عنه والمغفرة.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم » . رواه مسلم .

تنبيه:

روى ابن جرير بإسناد صحيح عن الحسن في قوله تعالى: خلقتني من نار وخلقته من طين قال: قاس إبليس وهو أول من قاس . وأخرج أيضا بإسناد صحيح عن ابن سيرين قال: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس .

ولذا احتج بهذه الآية من ذهب إلى عدم جواز تخصيص النص بالقياس، وإلا لما استوجب إبليس هذا الذم الشديد.

قال الرازي : بيان الملازمة أن قوله تعالى للملائكة اسجدوا لآدم " خطاب عام يتناول جميع الملائكة، ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس، وهو أنه مخلوق [ ص: 2623 ] من النار، والنار أشرف من الطين، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف، والأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدنى، والدليل عليه أن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر، ولا معنى للقياس إلا ذلك.

وقد ثبت أن إبليس لما خصص العموم بهذا القياس استحق الذم، وما ذاك إلا لعدم جوازه. وأيضا ففي الآية دلالة على ذلك من وجه آخر: وذلك لأن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى: فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فوصفه الله تعالى بكونه متكبرا، بعد أن حكى عنه ذلك القياس الذي يوجب تخصيص النص، وهذا يقتضي أن من حاول تخصيص عموم النص بالقياس تكبر على الله.

ودلت هذه الآية على أن التكبر عليه تعالى يوجب العقاب الشديد، والإخراج من زمرة الأولياء. ثبت أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز، وهذا هو المراد مما نقله الواحدي في (البسيط) عن ابن عباس أنه قال: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس، فعصى ربه وقاس، وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه، قرنه الله مع إبليس - هذا ما نقله الواحدي في (البسيط) عن ابن عباس ، وأفاده الرازي .

وقد روي عن السلف آثار كثيرة في ذم القياس، منها ما تقدم عن الحسن وابن سيرين وابن عباس ، وعن مسروق قال: لا أقيس شيئا بشيء، فتزل قدمي بعد ثبوتها .

وعن الشعبي : إياكم والقياس، وإنكم إن أخذتم به أحللتم الحرام، وحرمتم الحلال، ولأن أتغنى غنية، أحب إلي من أن أقول في شيء برأيي .

وقد ذكر الحافظ ابن عبد البر رحمه الله من هذا المعنى آثارا وافرة في (جامع بيان العلم وفضله) وقال: احتج من نفى القياس بهذه الآثار ومثلها. وقالوا في حديث معاذ : إن معناه أن يجتهد رأيه على الكتاب والسنة. وتكلم داود في إسناد حديث معاذ ، ورده ودفعه من أجل أنه عن أصحاب معاذ ، ولم يسموا، قال الحافظ ابن عبد البر : وحديث معاذ صحيح مشهور، رواه الأئمة العدول، وهو أصل في الاجتهاد والقياس على الأصول. ثم قال: وسائر الفقهاء وقالوا في هذه الآثار وما كان مثلها [ ص: 2624 ] في ذم القياس: إنه القياس على غير أصل، أو القياس الذي يرد به أصل، والقول في دين الله بالظن. ألا ترى إلى قول من قال منهم: أول من قاس إبليس؟ لأن إبليس رد أصل العلم بالرأي الفاسد، والقياس لا يجوز عند أحد ممن قال به إلا في رد الفروع إلى أصولها، لا في رد الأصول بالرأي والظن. وإذا صح النص من الكتاب والأثر، بطل القياس وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة الآية، وأي أصل أقوى من أمر الله تعالى لإبليس بالسجود، وهو العالم بما خلق منه آدم ، وما خلق منه إبليس؟ ثم أمره بالسجود له فأبى واستكبر لعلة ليست بمانعة من أن يأمره الله بما يشاء، فهذا ومثله لا يحل ولا يجوز. وأما القياس على الأصول، والحكم للشيء بحكم نظيره، فهذا ما لا يختلف فيه أحد من السلف، بل كل من روي عنه ذم القياس قد وجد له القياس الصحيح منصوصا. لا يدفع هذا إلا جاهل أو متجاهل، مخالف للسلف في الأحكام.

وقال مسروق الوراق :


كنا من الدين قبل اليوم في سعة حتى ابتلينا بأصحاب المقاييس قاموا من السوق إذ قلت مكاسبهم
فاستعملوا الرأي عند الفقر والبوس أما العريب فقوم لا عطاء لهم
وفي الموالي علامات المفاليس



فلقيه أبو حنيفة فقال: هجوتنا، نحن نرضيك، فبعث إليه بدراهم فقال:


إذا ما أهل مصر بادهونا بآبدة من الفتيا لطيفه
أتيناهم بمقياس صحيح صليب من طراز أبي حنيفه
إذا سمع الفقيه به وعاه وأثبته بحبر في صحيفه



قال ابن عبد البر : اتصلت هذه الأبيات ببعض أهل الحديث والنظر من أهل ذلك [ ص: 2625 ] الزمن، فقال:


إذا ذو الرأي خاصم عن قياس وجاء ببدعة منه سخيفه
أتيناهم بقول الله فيها وآثار مبرزة شريفه



هكذا حكاه ابن عبد البر في (جامع فضل العلم). وله فيه في (باب ما جاء في ذم القول في دين الله بالرأي والقياس على غير أصل)، مقالات سابغة جديرة بالمراجعة.

ومما ذكر فيه: أن أهل الحديث أفرطوا في أبي حنيفة ، وتجاوزوا الحد.

قال: والسبب الموجب لذلك، عندهم، إدخاله الرأي والقياس على الآثار، واعتبارهما، وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صح الأثر بطل النظر. وكان رده لما رد من أخبار الآحاد بتأويل محتمل، وكثير منه قد تقدمه إليه غيره، وتابعه عليه مثله ممن قال بالرأي: وجل ما يوجد له من ذلك ما كان منه اتباعا لأهل بلده، كإبراهيم النخعي وأصحاب ابن مسعود . إلا أنه أغرق هو وأصحابه في تنزيل النوازل، والجواب فيها برأيهم واستحسانهم.

فأتى منهم في ذلك خلاف كبير للسلف.

ثم قال: وما أعلم أحدا من أهل العلم إلا وله تأويل في آية، أو مذهب في سنة، رد من أجل ذلك المذهب سنة أخرى بتأويل سائغ، أو ادعاء نسخ. إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيرا، وهو يوجد لغيره قليل.

وعن الليث بن سعد أنه قال: أحصيت على مالك بن أنس سبعين مسألة كلها مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، مما قال مالك فيها برأيه. قال: وقد كتبت إليه أعظه في ذلك. هذا كلام ابن عبد البر ملخصا.

وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض فتاويه: أنه روي عن علي وزيد أنهما احتجا بقياس، فمن ادعى إجماعهم -أي: الصحابة- على ترك العمل بالرأي والقياس، مطلقا فقد غلط، ومن ادعى أنه من المسائل ما لم يتكلم فيها أحد منهم إلا بالرأي والقياس، فقد غلط، بل كان كل منهم يتكلم بحسب ما عنده من العلم، فمن رأى دلالة الكتاب ذكرها، ومن رأى دلالة الميزان ذكرها -انتهى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.80 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.17 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.54%)]