عرض مشاركة واحدة
  #349  
قديم 05-01-2023, 01:31 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,304
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2626 الى صـ 2640
الحلقة (349)





[ ص: 2626 ] وقال ابن تيمية رحمه الله في فتوى أخرى: والصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم، وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأي، ويحتجون بالقياس الصحيح أيضا. والقياس الصحيح نوعان:

أحدهما: أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرقا غير مؤثر في الشرع، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن، فقال: « ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم » ، وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصا بتلك الفأرة وذلك السمن، فلهذا قال جماهير العلماء: إنه أي نجاسة وقعت في دهن من الأدهان كالفأرة التي تقع في الزيت، وكالهر الذي يقع في السمن، فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن.

ومن قال من أهل الظاهر: إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن، فقد أخطأ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص الحكم بتلك الصورة، لكن لما استفتي عنها أفتى فيها، والاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو عن نوع، فأجاب المفتي عن ذلك، خصه لكونه سئل عنه، لا لاختصاصه بالحكم، ومثل هذا أنه سئل عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة مضمخة [ ص: 2627 ] بخلوق فقال: انزع عنك الجبة الخلوق، واصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك . فأجابه عن الجبة، ولو كان عليه قميص أو نحوه، كان الحكم كذلك بالإجماع.

والنوع الثاني من القياس: أن ينص على حكم لمعنى من المعاني، ويكون ذلك المعنى موجودا في غيره، فإذا قام دليل من الأدلة على أن الحكم متعلق بالمعنى المشترك بين الأصل والفرع سوى بينهما، وكان هذا قياسا صحيحا. فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يستعملونهما، وهما من باب فهم مراد الشارع. فإن الاستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه، وعلى أن يعرف مراده باللفظ، وإذا عرفنا مراده، فإن علمنا أنه حكم للمعنى المشترك، لا لمعنى يخص الأصل، أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك.

وإن علمنا أنه قصد تخصيص الحكم بمورد النص، منعنا القياس، كما أنا علمنا أن الحج خص به الكعبة ، وأن الصيام الفرض خص به شهر رمضان، وأن الاستقبال خص به جهة الكعبة ، وأن المفروض من الصلوات خص به الخمس، ونحو ذلك، فإنه يمتنع هنا أن نقيس على المنصوص غيره.

وإذا عين الشارع مكانا أو زمانا للعبادة، كتعيين الكعبة وشهر رمضان، أو عين بعض الأقوال والأفعال، كتعيين القراءة في الصلاة، والركوع والسجود، بل وتعيين التكبير وأم القرآن، فإلحاق غير المنصوص به يشبه حال أهل اليمن الذين أسقطوا تعيين الأشهر الحرم، وقالوا: المقصود أربعة أشهر من السنة، فقال تعالى: إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به [ ص: 2628 ] الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله وقياس الحلال بالنص على الحرام بالنص، من جنس قياس الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا

وكذلك قياس المشركين الذين قاسوا الميتة بالمذكى وقالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ قال تعالى: وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون فهذه الأقيسة الفاسدة، وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد، وكل من ألحق منصوصا بمنصوص يخالف حكمه، فقياسه فاسد. وكل من سوى بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد.

لكن من القياس ما يعلم صحته، ومنه ما يعلم فساده، ومنه ما لم يتبين أمره. فمن أبطل القياس مطلقا فقوله باطل. ومن استدل بالقياس المخالف للشرع فقوله باطل.

[ ص: 2629 ] ومن استدل بقياس لم يقم الدليل على صحته، فقد استدل بما لا يعلم صحته، بمنزلة من استدل برواية رجل مجهول لا يعلم عدالته، فالحجج الأثرية والنظرية تنقسم إلى ما يعلم صحته، وإلى ما يعلم فساده، وإلى ما هو موقوف حتى يقوم الدليل على أحدها. ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة، سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة، وهذا هو المراد من قول من قال: النصوص تتناول أفعال المكلفين.

ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض، كقوله: تلك عشرة كاملة و: الله الذي أنـزل الكتاب بالحق والميزان فالكتاب هو النص، والميزان هو العدل. والقياس الصحيح من باب العدل، فإنه تسوية بين المتماثلين، وتفريق بين المختلفين، ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص، فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد، ولا يوجد نص يخالف قياسا صحيحا، كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح، ومن كان متبحرا في الأدلة الشرعية، أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام [ ص: 2630 ] بالنصوص وبالأقيسة، فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم كما ذكرناه من الأمثلة، فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر، كما يدل النص على ذلك، فإن الله حرم الخمر لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء، وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، كما دل القرآن على هذا المعنى، وهذا المعنى موجود في جميع الأشربة المسكرة، لا فرق في ذلك بين شراب وشراب، فالفرق بين الأنواع المشتركة من هذا الجنس تفريق بين المتماثلين، وخروج عن موجب القياس الصحيح، كما هو خروج عن موجب النصوص. وهم معترفون بأن قولهم خلاف القياس، لكن يقولون: معنا آثار توافق، اتبعناها، ويقولون: إن اسم الخمر لم يتناول كل مسكر، وغلطوا في فهم النص، وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم. ومعرفة عموم الأسماء الموجودة في النص وخصوصها، من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، وقد قال تعالى: الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنـزل الله على رسوله والكلام في ترجيح نفاة القياس ومثبتيه يطول استقصاؤه ولا يحتمل المقام بسطه أكثر من هذا -والله أعلم- انتهى كلامه رحمه الله.

القول في تأويل قوله تعالى:

[13] قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين

قال " تعالى لإبليس فاهبط منها " أي: بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي، وأكثر المفسرين على أن الضمير عائد إلى الجنة، والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها.

قال ابن كثير : ويحتمل أن يكون عائدا إلى المنزلة التي هو فيها من الملكوت الأعلى –انتهى- .

وعليه اقتصر المهايمي حيث قال: فاهبط منها أي: من رتبة الملكية إلى رتبة العناصر: فما يكون لك أن تتكبر فيها أي: فما يصح ولا يستقيم، فإنها [ ص: 2631 ] مكان المطيعين الخاشعين فاخرج " تأكيد للأمر بالهبوط، متفرع على علته إنك من الصاغرين " أي: من الأذلاء وأهل الهوان على الله تعالى وعلى أوليائه.

القول في تأويل قوله تعالى:

[14] قال أنظرني إلى يوم يبعثون

قال أنظرني " أي: أمهلني ولا تمتني إلى يوم يبعثون " أي: آدم وذريته من القبور.

القول في تأويل قوله تعالى:

[15] قال إنك من المنظرين

قال " أي: الله له إنك من المنظرين " أي من المؤجلين إلى نفخة الصور الثانية.

قال ابن كثير : أجابه تعالى إلى ما سأل، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع، ولا معقب لحكمه.

وقال الإمام أبو سعد المحسن بن كرامة الجشمي اليماني في تفسيره (التهذيب): [ ص: 2632 ] ومتى قيل: ما وجه سؤاله مع أنه مطرود وملعون؟ فجوابنا علمه بإحسانه تعالى إلى خلقه من أطاع ومن عصى، فلم يمنعه من السؤال ما ارتكب من المعصية. ومتى قيل: هل خاطبه بهذا؟ قلنا: يحتمل ذاك، ويحتمل أنه أمر ملكا فخاطبه به. ومتى قيل: هل يجوز إجابة دعاء الكافر؟ قلنا: فيه خلاف.

الأول: قيل لا، لأنه إكرام وتعظيم -عن أبي علي - ولذلك يقال: فلان مستجاب الدعوة، وإنظاره لا على سبيل إجابة دعائه، لأنه ملعون ولأنه لم يسأل على وجه الخضوع.

[ ص: 2633 ] الثاني: يجوز إجابة دعائه استصلاحا له، لأنه تفضل -عن أبي بكر أحمد بن علي - وليس بالوجه. ومتى قيل: إذا أنظر هل يكون إغراء بالمعصية؟ قلنا: لا، لأنه لم يعلم ما الوقت [ ص: 2634 ] المعلوم، فلا يكون إغراء مع تجويزه هجوم الموت عليه، ولأنه تعالى لما أعلمه أنه يدخله النار، ولعنه -علم أنه لا يختار الإيمان أبدا.

ومتى قيل: ما فائدة إنظاره؟ قلنا: لطف له، لأنه يمكنه من استدراك أمره.

وهل يضل به أحد؟ قال أبو علي : لا، لقوله تعالى: ما أنتم عليه بفاتنين [ ص: 2635 ] إلا من هو صال الجحيم ولأنه لو ضل به أحد، لكان بقاؤه مفسدة ، فكان الله تعالى لا ينظره. فأما أبو هاشم فيجوز أن يضل به أحد، ويكون بمنزلة زيادة الشهوة، ويجوز أن يكون لطفا من وجوه: أحدها أن المكلف مع وسوسته إذا امتنع من القبيح، كان ثوابه أكثر، ولأنه تعالى عرفنا عداوته، والعاقل يجتهد في أن يغيظ عدوه ويغمه، وذلك إنما يكون بطاعة ربه، ومن أطاعه فمن قبل نفسه أتي، لا من قبل ربه. انتهى كلام الجشمي ، وهو جار على أصول المعتزلة .

القول في تأويل قوله تعالى:

[16] قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم

قال فبما أغويتني " أي أضللتني عن الهدى، أو حكمت بغوايتي، والباء للقسم، كما في قوله تعالى: قال فبعزتك لأغوينهم أي: فأقسم بإغوائك إياي، وقيل: هي بمعنى لام التعليل، أي: لأجل إغوائك إياي لأقعدن لهم " أي: لآدم وبنيه ترصدا كما يقعد القطاع للطريق على السابلة صراطك المستقيم " أي طريقك السوي، وهو طريق الحق، ومعناه لا أفتر عن إفسادهم. وانتصابه على الظرفية أو على نزع الجار.

[ ص: 2636 ]



القول في تأويل قوله تعالى:

[17] ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين

" ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم أي من جميع الجهات الأربع. مثل قصده إياهم بالتسويل والإضلال من أي وجه يمكنه، بإتيان العدو من الجهات الأربع التي يعتاد هجومه منها. ولذلك لم يذكر الفوق والتحت.

ولا تجد أكثرهم شاكرين أي مستعملين لقواهم وجوارحهم وما أنعم الله به عليهم في طريق الطاعة والتقرب إلى الله.

وإنما قال ذلك لما رآه من الأمارات على طريق الظن، كقوله: ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين روى الإمام أحمد عن سبرة بن الفاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟ قال: فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول، قال: فعصاه فهاجر. قال: ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له: هو جهاد النفس والمال، فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال؟ قال: فعصاه فجاهد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان حقا على الله عز وجل أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابته كان حقا على الله أن يدخله الجنة» .

وقال الحافظ : ورد في الحديث استعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته [ ص: 2637 ] كلها، فروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم عن عبد الله بن عمر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي: اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي . ورواه البزار عن ابن عباس .

فائدة:

قال الجشمي : تدل الآية أنه سأل الإنظار، وأنه تعالى أنظره، وقد بينا ما قيل فيه، وتدل على شدة عداوته لبني آدم وحرصه على إضلالهم، وتدل على أن أكثر بني آدم غير شاكرين، وتدل على أن الإضلال فعل إبليس، والقبول عنه فعلهم، لذلك أضافه إليهم، وذمهم عليه، ولو كان خلقا له لما صح ذلك. انتهى- والكلام في أمثالها معروف.

ثم أكد تعالى على إبليس اللعنة والطرد والإبعاد عن محل الملأ الأعلى، بقوله سبحانه:

[ ص: 2638 ]



القول في تأويل قوله تعالى:

[18] قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين

قال اخرج منها مذءوما " بالهمزة في القراءة المشهورة، من (ذأمه)، إذا حقره وذمه، وقرئ " مذوما " بذال مضمومة وواو ساكنة، وهي تحتمل أن تكون مخففة من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها، وأن تكون من المعتل، وكان قياسه (مذيم) كمبيع، إلا أنه أبدلت الواو من الياء، على حد قولهم (مكول) في مكيل، و (مشوب) في مشيب.

مدحورا " مقصيا مطرودا لمن تبعك منهم " اللام فيه، لتوطئة القسم، وجوابه لأملأن جهنم منكم أجمعين " ، أي: لمن أطاعك من الجن والإنس، لأملأن جهنم من كفاركم، كقوله تعالى: قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا

قال الجشمي : وإنما قال ذلك لأنه لا يكون في جهنم إلا إبليس وحزبه من الشياطين، وكفار الإنس وفساقهم، الذين انقادوا له وتركوا أمر الله لأمره، فجمعهم في الخطاب، ومتى قيل: لم ضيق جهنم ووسع الجنة؟ قلنا: لأن جهنم حبس، والجنة دار ملك. ومتى قيل: فما الفائدة في قوله: لأملأن جهنم منكم قلنا: لطفا ليكون المكلف تبعا للأنبياء دون الشياطين، ولطفا لإبليس وحزبه، لأنه غاية في الزجر والنهي.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على الوعيد لمن تبع إبليس، وأنه يملأ جهنم منهم. ولا بد فيه من شرط، وهو أن لا يتوب، أو لا يكون معه طاعة أعظم. وتدل على إذلال إبليس وطرده ولعنه بسبب عصيانه، تحذيرا عن مثل حاله.

[ ص: 2639 ]

القول في تأويل قوله تعالى:

[19] ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين

وقوله تعالى: ويا آدم " أي: وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " أي جنة الخلد، أو جنة في الأرض.


قال الجشمي : وقد تقدم ذكر هذه القصة، والفائدة في إعادتها أن القرآن نزل في بضع وعشرين سنة، والعوارض تعرض، والوفود تقدم، فكانت القصة تعاد، ليسمع من لم يسمع، استصلاحا ولطفا. لأن في إعادة قصة واحدة، في مواضع بألفاظ مختلفة، كل واحد منها في نهاية الحسن، من إعجاز القرآن. فكلا من حيث " أي: من كل مكان شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " أي فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[20] فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين

فوسوس لهما الشيطان " أي: إبليس بأكل الشجرة مخيلا لهما النفع ليبدي لهما " أي: يظهر لهما ما ووري " أي: ستر عنهما من سوآتهما " أي: عوراتهما واللام في ليبدي " إما للعاقبة، لأنه لم يعلم صدوره منهما، أي: فكان عاقبة وسوسته أن أظهر سوآتهما، أو للتعليل والغرض، وهو الأصل فيها، بناء على حدسه أو علمه بطريق ما.

تنبيه:

في الآية دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور، وأنه مستهجن في الطباع، ولذلك سميت سوأة، لأنه يسوء صاحبها..

[ ص: 2640 ] قال الحاكم : وقد استدل قوم بالآية على وجوب ستر العورة، وأنه كان في شريعة آدم عليه السلام.

قال القاضي : لا دليل في الآية على الوجوب، لأنه ليس فيها إلا أنهما فعلا ذلك.

قال الأصم : في الآية دليل على أنهما كرها التعري، وإن لم يكن لهما ثالث، ففي ذلك دليل على قبح التعري، وإن لم يكن مع المتعري أحد، إلا لحاجة.

وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا أي: إلا كراهة أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين أي: من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين.

وقد استدل بهذا من رأى تفضيل الملائكة على الأنبياء، لارتكابهما ذلك طمعا في نيل ما ذكر، وأجاب، من لم ير هذا، باحتمال أن تكون هذه الواقعة قبل نبوة آدم . ولئن كانت بعدها، فلعل آدم رغب في الملكية للقوة والشدة والقدرة، أو لخلقة الذات، بأن يصير جوهرا نورانيا -أشار له الرازي -.

وقال الناصر : لا يلزم من اعتقاد إبليس لذلك ووسوسته بأن الملائكة أفضل، أن يكون الأمر كذلك في علمه تعالى، ألا ترى إبليس قد أخبر أن الله تعالى منعهما من الشجرة حتى لا يخلدا أو لا يكونا ملكين، وهو في ذلك كاذب مبطل فلا دليل فيه إذا، وليس في الآية ما يوجب تقرير الله تعالى لإبليس على ذلك، ولا تصديقه فيه، بل ختمت الآية بما يدل على أنه كذب لهما وغرهما، إذ قال الله تعالى: فدلاهما بغرور " فلعل تفضيله الملائكة على النبوة من جملة غروره -انتهى.

قال السيوطي في (الإكليل): وأنا أقول: لا أزال أتعجب ممن أخذ يستدل من هذه الآية. والكلام الذي فيها، حكاه الله تعالى عن قول إبليس في معرض المناداة عليه بالكذب والغرور والزور والتدليس، وإنما يستدل من كلامه تعالى، أو من كلام حكاه عن بعض أنبيائه. وإن لم يكن ذلك، فكلام حكاه راضيا به مقرا له -انتهى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.61 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.56%)]