عرض مشاركة واحدة
  #363  
قديم 10-01-2023, 09:01 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,531
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء الخامس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(349)
الحلقة (363)
صــ 271 إلى صــ 290





5603 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، قال : فزعم منصور بن المعتمر ، عن مجاهد : أنهم قالوا حين أحيوا : " سبحانك ربنا وبحمدك [ ص: 271 ] لا إله إلا أنت " فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى ، سحنة الموت على وجوههم ، لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن ، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم .

5604 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا عبد الرحمن بن عوسجة ، عن عطاء الخراساني : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " قال : كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر .

5605 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال ابن عباس : كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف ، حظر عليهم حظائر ، وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا ، فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح ، وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله ، فأماتهم الله ثم أحياهم ، فأمرهم بالجهاد ، فذلك قوله : " وقاتلوا في سبيل الله " الآية .

5606 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، [ ص: 272 ] عن وهب بن منبه أن كالب بن يوقنا لما قبضه الله بعد يوشع ، خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوزي وهو ابن العجوز ، وإنما سمي " ابن العجوز " أنها سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت ، فوهبه الله لها ، فلذلك قيل له " ابن العجوز " وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - كما بلغنا : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " . .

5607 - حدثني ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمد بن إسحاق قال : بلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء من الطاعون ، أو من سقم كان يصيب الناس حذرا من الموت ، وهم ألوف ، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله : " موتوا " فماتوا جميعا . فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع ، ثم تركوهم فيها ، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا . فمرت بهم الأزمان والدهور ، حتى صاروا عظاما نخرة ، فمر بهم حزقيل بن بوزي ، فوقف عليهم ، فتعجب لأمرهم ودخلته رحمة لهم ، فقيل له : أتحب أن يحييهم الله؟ فقال : نعم! فقيل له : نادهم فقل : " أيتها العظام الرميم التي قد رمت وبليت ، ليرجع كل عظم إلى صاحبه " . فناداهم بذلك ، فنظر إلى العظام تواثب يأخذ بعضها بعضا . ثم قيل له : قل : " أيها اللحم والعصب والجلد ، اكس العظام بإذن ربك " قال : فنظر إليها والعصب يأخذ العظام ثم اللحم والجلد والأشعار ، حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح . ثم دعا لهم بالحياة ، فتغشاه من السماء شيء [ ص: 273 ] كربه حتى غشي عليه منه ، ثم أفاق والقوم جلوس يقولون : " سبحان الله ، سبحان الله " قد أحياهم الله .

وقال آخرون : معنى قوله " وهم ألوف " وهم مؤتلفون .

ذكر من قال ذلك :

5608 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد في قول الله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم " قال : قرية كانت نزل بها الطاعون ، فخرجت طائفة منهم وأقامت طائفة ، فألح الطاعون بالطائفة التي أقامت ، والتي خرجت لم يصبهم شيء . ثم ارتفع ، ثم نزل العام القابل ، فخرجت طائفة أكثر من التي خرجت أولا فاستحر الطاعون بالطائفة التي أقامت . فلما كان العام الثالث ، نزل فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارهم ، فقال الله - تعالى ذكره - : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " ليست الفرقة أخرجتهم ، كما يخرج للحرب والقتال ، قلوبهم مؤتلفة ، إنما خرجوا فرارا . فلما كانوا حيث ذهبوا يبتغون الحياة ، قال لهم الله : " موتوا " في المكان الذي ذهبوا إليه يبتغون فيه الحياة . فماتوا ، ثم أحياهم الله ، إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون . قال : ومر بها رجل وهي عظام تلوح ، فوقف [ ص: 274 ] ينظر فقال : " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " فأماته الله مائة عام .

ذكر الأخبار عمن قال : كان خروج هؤلاء القوم من ديارهم فرارا من الطاعون .

5609 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا ابن أبي عدي ، عن الأشعث ، عن الحسن في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " قال : خرجوا فرارا من الطاعون ، فأماتهم قبل آجالهم ، ثم أحياهم إلى آجالهم .

5610 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : 34 " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " قال : فروا من الطاعون ، فقال لهم الله : " موتوا " ! ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم .

5611 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن عمرو بن دينار في قول الله - تعالى ذكره - : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " قال : وقع الطاعون في قريتهم ، فخرج أناس وبقي أناس ، فهلك الذين بقوا في القرية ، وبقي الآخرون . ثم وقع الطاعون في قريتهم الثانية ، فخرج أناس وبقي أناس ، ومن خرج أكثر ممن بقي . فنجى الله الذين خرجوا ، وهلك الذين بقوا . فلما كانت الثالثة خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم ، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم [ وقد أنكروا قريتهم ، ومن تركوا ] . وكثروا بها ، حتى يقول بعضهم لبعض : من أنتم؟ [ ص: 275 ] 5612 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح قال : سمعت عمرو بن دينار يقول : وقع الطاعون في قريتهم ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو ، عن أبي عاصم .

5613 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا سويد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف " الآية ، مقتهم الله على فرارهم من الموت ، فأماتهم الله عقوبة ، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها ، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم .

5614 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن حصين ، عن هلال بن يساف في قوله تعالى : " ألم تر إلى الذين خرجوا " الآية ، قال : هؤلاء القوم من بني إسرائيل ، كان إذا وقع فيهم الطاعون خرج أغنياؤهم وأشرافهم ، وأقام فقراؤهم وسفلتهم . قال : فاستحر الموت على المقيمين منهم ، ونجا من خرج منهم . فقال الذين خرجوا : لو أقمنا كما أقام هؤلاء ، لهلكنا كما هلكوا ! وقال المقيمون : لو ظعنا كما ظعن هؤلاء ، لنجونا كما نجوا ! فظعنوا جميعا في عام واحد ، أغنياؤهم وأشرافهم وفقراؤهم وسفلتهم . فأرسل عليهم الموت فصاروا عظاما تبرق . قال : فجاءهم أهل القرى فجمعوهم في مكان واحد ، فمر بهم نبي فقال : يا رب لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك! قال : أو أحب إليك أن أفعل؟ قال نعم! قال : فقل : كذا وكذا ، فتكلم به ، فنظر إلى العظام ، وإن العظم ليخرج من عند العظم الذي ليس منه إلى العظم الذي هو منه . ثم تكلم بما أمر ، فإذا العظام تكسى لحما . ثم أمر بأمر فتكلم به ، فإذا هم قعود يسبحون ويكبرون . ثم قيل لهم : ( وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ) [ ص: 276 ] 5615 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، عن حماد بن عثمان ، عن الحسن : أنه قال في الذين أماتهم الله ثم أحياهم قال : هم قوم فروا من الطاعون ، فأماتهم الله عقوبة ومقتا ، ثم أحياهم لآجالهم .

قال أبو جعفر : وأولى القولين في تأويل قوله : " وهم ألوف " بالصواب ، قول من قال : " عنى بالألوف كثرة العدد " دون قول من قال : " عنى به الائتلاف " بمعنى ائتلاف قلوبهم ، وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم ولا تباغض ، ولكن فرارا : إما من الجهاد ، وإما من الطاعون لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الآية ، ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين .

وأولى الأقوال - في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم - بالصواب ، قول من حد عددهم بزيادة عن عشرة آلاف ، دون من حده بأربعة آلاف ، وثلاثة آلاف ، وثمانية آلاف . وذلك أن الله - تعالى ذكره - أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا ، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم : " ألوف " . وإنما يقال " هم آلاف " إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف . وغير جائز أن يقال : هم خمسة ألوف ، أو عشرة ألوف .

وإنما جمع قليله على " أفعال " ولم يجمع على " أفعل " مثل سائر الجمع القليل الذي يكون ثاني مفرده ساكنا للألف التي في أوله . وشأن العرب في كل [ ص: 277 ] حرف كان أوله ياء أو واوا أو ألفا ، اختيار جمع قليله على أفعال ، كما جمعوا " الوقت " " أوقاتا " و " اليوم " " أياما " و " اليسر " و " أيسارا " للواو والياء اللتين في أول ذلك . وقد يجمع ذلك أحيانا على " أفعل " إلا أن الفصيح من كلامهم ما ذكرنا ، ومنه قول الشاعر :


كانوا ثلاثة آلف وكتيبة ألفين أعجم من بني الفدام


وأما قوله : " حذر الموت " فإنه يعني : أنهم خرجوا من حذر الموت ، فرارا منه . كما : -

5616 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : [ ص: 278 ] حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " حذر الموت " فرارا من عدوهم ، حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه . فأمرهم فرجعوا ، وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله ، وهم الذين قالوا لنبيهم : ( ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ) [ سورة البقرة : 246 ] .

قال أبو جعفر : وإنما حث الله - تعالى ذكره - عباده بهذه الآية ، على المواظبة على الجهاد في سبيله ، والصبر على قتال أعداء دينه . وشجعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم ، أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه ، دون خلقه وأن الفرار من القتال والهرب من الجهاد ولقاء الأعداء ، إلى التحصن في الحصون ، والاختباء في المنازل والدور ، غير منج أحدا من قضائه إذا حل بساحته ، ولا دافع عنه أسباب منيته إذا نزل بعقوته ، كما لم ينفع الهاربين من الطاعون الذين وصف الله - تعالى ذكره - صفتهم في قوله : " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " فرارهم من أوطانهم ، وانتقالهم من منازلهم إلى الموضع الذي أملوا بالمصير إليه السلامة ، وبالموئل النجاة من المنية ، حتى أتاهم أمر الله ، فتركهم جميعا خمودا صرعى ، وفي الأرض هلكى ، ونجا مما حل بهم الذين باشروا كرب الوباء ، وخالطوا بأنفسهم عظيم البلاء .

القول في تأويل قوله ( إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ( 243 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : إن الله لذو فضل ومن . على خلقه ، بتبصيره إياهم سبيل الهدى ، وتحذيره لهم طرق الردى ، وغير ذلك من نعمه التي [ ص: 279 ] ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم ، وأنفسهم وأموالهم - كما أحيا الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم ، وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يتعظون بهم ، عبرة يعتبرون بهم ، وليعلموا أن الأمور كلها بيده ، فيستسلموا لقضائه ، ويصرفوا الرغبة كلها والرهبة إليه .

ثم أخبر - تعالى ذكره - أن أكثر من ينعم عليه من عباده بنعمه الجليلة ، ويمن عليه بمننه الجسيمة ، يكفر به ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره ، ويتخذ إلها من دونه ، كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه ، ومن الحمد ما يثقله ، فقال - تعالى ذكره - : " ولكن أكثر الناس لا يشكرون " يقول : لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم ، وفضلي الذي تفضلت به عليهم ، بعبادتهم غيري ، وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا .

[ ص: 280 ] القول في تأويل قوله ( وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم ( 244 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : " وقاتلوا " أيها المؤمنون " في سبيل الله " يعني : في دينه الذي هداكم له ، لا في طاعة الشيطان ، أعداء دينكم ، الصادين عن سبيل ربكم ، ولا تحتموا عن قتالهم عند لقائهم ، ولا تجبنوا عن حربهم ، فإن بيدي حياتكم وموتكم . ولا يمنعن أحدكم من لقائهم وقتالهم حذر الموت وخوف المنية على نفسه بقتالهم ، فيدعوه ذلك إلى التعريد عنهم والفرار منهم ، فتذلوا ، ويأتيكم الموت الذي خفتموه في مأمنكم الذي وألتم إليه ، كما أتى الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت ، الذين قصصت عليكم قصتهم ، فلم ينجهم فرارهم منه من نزوله بهم حين جاءهم أمري ، وحل بهم قضائي ، ولا ضر المتخلفين وراءهم ما كانوا لم يحذروه ، إذ دافعت عنهم مناياهم ، وصرفتها عن حوبائهم ، فقاتلوا في سبيل الله من أمرتكم بقتاله من أعدائي وأعداء ديني ، فإن من حيي منكم فأنا أحييته ، ومن قتل منكم فبقضائي كان قتله .

[ ص: 281 ] ثم قال - تعالى ذكره - لهم : واعلموا ، أيها المؤمنون ، أن ربكم " سميع " لقول من يقول من منافقيكم لمن قتل منكم في سبيلي : لو أطاعونا فجلسوا في منازلهم ما قتلوا " عليم " بما تجنه صدورهم من النفاق والكفر وقلة الشكر لنعمتي عليهم ، وآلائي لديهم في أنفسهم وأهليهم ، ولغير ذلك من أمورهم وأمور عبادي .

يقول - تعالى ذكره - لعباده المؤمنين : فاشكروني أنتم بطاعتي فيما أمرتكم من جهاد عدوكم في سبيلي ، وغير ذلك من أمري ونهيي ، إذ كفر هؤلاء نعمي . واعلموا أن الله سميع لقولهم ، وعليم بهم وبغيرهم وبما هم عليه مقيمون من الإيمان والكفر ، والطاعة والمعصية ، محيط بذلك كله ، حتى أجازي كلا بعمله ، إن خيرا فخيرا ، وإن شرا فشرا .

قال أبو جعفر : ولا وجه لقول من زعم أن قوله : " وقاتلوا في سبيل الله " أمر من الله الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف بالقتال ، بعد ما أحياهم . لأن قوله : " وقاتلوا في سبيل الله " لا يخلو - إن كان الأمر على ما تأولوه - من أحد أمور ثلاثة :

إما أن يكون عطفا على قوله : " فقال لهم الله موتوا " وذلك من المحال أن يميتهم ، ويأمرهم وهم موتى بالقتال في سبيله .

أو يكون عطفا على قوله : " ثم أحياهم " وذلك أيضا مما لا معنى له . لأن قوله : " وقاتلوا في سبيل الله " أمر من الله بالقتال ، وقوله : " ثم أحياهم " خبر عن فعل قد مضى . وغير فصيح العطف بخبر مستقبل على خبر ماض ، لو كانا جميعا خبرين ، لاختلاف معنييهما . فكيف عطف الأمر على خبر ماض؟

أو يكون معناه : ثم أحياهم وقال لهم : قاتلوا في سبيل الله ، ثم أسقط " القول " [ ص: 282 ] كما قال - تعالى ذكره - : ( إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا ) [ سورة السجدة : 12 ] ، بمعنى يقولون : ربنا أبصرنا وسمعنا . وذلك أيضا إنما يجوز في الموضع الذي يدل ظاهر الكلام على حاجته إليه ، ويفهم السامع أنه مراد به الكلام وإن لم يذكر . فأما في الأماكن التي لا دلالة على حاجة الكلام إليه ، فلا وجه لدعوى مدع أنه مراد فيها .

القول في تأويل قوله ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : من هذا الذي ينفق في سبيل الله ، فيعين مضعفا ، أو يقوي ذا فاقة أراد الجهاد في سبيل الله ، ويعطي منهم مقترا؟ وذلك هو القرض الحسن الذي يقرض العبد ربه .

وإنما سماه الله - تعالى ذكره - " قرضا " لأن معنى " القرض " إعطاء الرجل غيره ماله مملكا له ، ليقضيه مثله إذا اقتضاه . فلما كان إعطاء من أعطى أهل الحاجة والفاقة في سبيل الله ، إنما يعطيهم ما يعطيهم من ذلك ابتغاء ما وعده الله عليه من جزيل الثواب عنده يوم القيامة ، سماه " قرضا " إذ كان معنى " القرض " في لغة العرب ما وصفنا .

وإنما جعله - تعالى ذكره - " حسنا " لأن المعطي يعطي ذلك عن ندب الله إياه وحثه له عليه ، احتسابا منه . فهو لله طاعة ، وللشياطين معصية . وليس [ ص: 283 ] ذلك لحاجة بالله إلى أحد من خلقه ، ولكن ذلك كقول العرب : " عندي لك قرض صدق ، وقرض سوء " للأمر يأتي فيه للرجل مسرته أو مساءته ، كما قال الشاعر :


كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا أو سيئا ، ومدينا بالذي دانا


فقرض المرء : ما سلف من صالح عمله أو سيئه . وهذه الآية نظيرة الآية التي قال الله فيها - تعالى ذكره - : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) [ سورة البقرة : 261 ] .

وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول :

5617 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " قال : هذا في سبيل الله " فيضاعفه له أضعافا كثيرة " قال : بالواحد سبعمائة ضعف .

5618 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم قال : لما نزلت : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " جاء ابن الدحداح إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا نبي الله ، ألا أرى ربنا يستقرضنا؟ إنما أعطانا لأنفسنا! وإن لي أرضين : إحداهما بالعالية ، والأخرى بالسافلة ، وإني قد جعلت خيرهما صدقة! قال : فكان النبي صلى الله [ ص: 284 ] عليه وسلم يقول : " كم من عذق مذلل لابن الدحداح في الجنة! .

5619 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن رجلا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سمع بهذه الآية قال : " أنا أقرض الله " فعمد إلى خير حائط له فتصدق به . قال : وقال قتادة : يستقرضكم ربكم كما تسمعون ، وهو الولي الحميد ويستقرض عباده .

5620 - حدثنا محمد بن معاوية الأنماطي النيسابوري قال : حدثنا خلف بن خليفة ، عن حميد الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " قال أبو الدحداح : [ ص: 285 ] يا رسول الله ، أوإن الله يريد منا القرض؟! قال : نعم يا أبا الدحداح ! قال : يدك! قال :

فناوله يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي ، حائطا فيه ستمائة نخلة . ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها ، فناداها : يا أم الدحداح ! قالت : لبيك ! قال : اخرجي! قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمائة نخلة .


[ ص: 286 ] وأما قوله : " فيضاعفه له أضعافا كثيرة " فإنه عدة من الله - تعالى ذكره - مقرضه ومنفق ماله في سبيل الله من إضعاف الجزاء له على قرضه ونفقته ، ما لا حد له ولا نهاية ، كما : -

5621 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " قال : هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو .

وقد : -

5622 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن عيينة ، عن صاحب له يذكر عن بعض العلماء قال : إن الله أعطاكم [ ص: 287 ] الدنيا قرضا ، وسألكموها قرضا ، فإن أعطيتموها طيبة بها أنفسكم ، ضاعف لكم ما بين الحسنة إلى العشر إلى السبعمائة ، إلى أكثر من ذلك . وإن أخذها منكم وأنتم كارهون ، فصبرتم وأحسنتم ، كانت لكم الصلاة والرحمة ، وأوجب لكم الهدى .

قال أبو جعفر : وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله : ( فيضاعفه ) بالألف ورفعه ، بمعنى : الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له ، نسق " يضاعف " على قوله : " يقرض " .

وقرأه آخرون بذلك المعنى : ( فيضعفه ) ، غير أنهم قرءوا بتشديد " العين " وإسقاط " الألف " .

وقرأه آخرون : ( فيضاعفه له ) بإثبات " الألف " في " يضاعف " ونصبه ، بمعنى الاستفهام . فكأنهم تأولوا الكلام : من المقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له؟ فجعلوا قوله : " فيضاعفه " جوابا للاستفهام ، وجعلوا : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " اسما . لأن " الذي " وصلته ، بمنزلة " عمرو " و " زيد " . فكأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى قول القائل : " من أخوك فتكرمه " لأن الأفصح في جواب الاستفهام بالفاء إذا لم يكن قبله ما يعطف به عليه من فعل مستقبل ، نصبه .

قال أبو جعفر : وأولى هذه القراءات عندنا بالصواب ، قراءة من قرأ : ( فيضاعفه له ) بإثبات " الألف " . ورفع " يضاعف " . لأن في قوله : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " معنى الجزاء . والجزاء إذا دخل في جوابه " الفاء " لم يكن جوابه [ ص: 288 ] ب " الفاء " إلا رفعا . فلذلك كان الرفع في " يضاعفه " أولى بالصواب عندنا من النصب . وإنما اخترنا " الألف " في " يضاعف " من حذفها وتشديد " العين " لأن ذلك أفصح اللغتين وأكثرهما على ألسنة العرب .

القول في تأويل قوله ( والله يقبض ويبسط )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها ، دون غيره ممن ادعى أهل الشرك به أنهم آلهة ، واتخذوه ربا دونه يعبدونه . وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي : -

5623 - حدثنا به محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا : حدثنا حجاج وحدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي قال : حدثنا حجاج وأبو ربيعة قالا : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت وحميد وقتادة ، عن أنس قال : غلا السعر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فقالوا : يا رسول الله ، غلا السعر فأسعر لنا! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله الباسط القابض الرازق ، وإني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطلبني بمظلمة في نفس ومال " . .

[ ص: 289 ] قال أبو جعفر : يعني بذلك - صلى الله عليه وسلم - : أن الغلاء والرخص والسعة والضيق بيد الله دون غيره . فكذلك قوله - تعالى ذكره - : ، " والله يقبض ويبسط " يعني بقوله : " يقبض " يقتر بقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه ويعني بقوله : و " يبسط " يوسع ببسطة الرزق على من يشاء منهم .

وإنما أراد - تعالى ذكره - بقيله ذلك ، حث عباده المؤمنين - الذين قد بسط عليهم من فضله ، فوسع عليهم من رزقه - على تقوية ذوي الإقتار منهم بماله ، ومعونته بالإنفاق عليه وحمولته على النهوض لقتال عدوه من المشركين في سبيله ، فقال - تعالى ذكره - : من يقدم لنفسه ذخرا عندي بإعطائه ضعفاء المؤمنين وأهل الحاجة منهم ما يستعين به على القتال في سبيلي ، فأضاعف له من ثوابي أضعافا كثيرة مما أعطاه وقواه به؟ فإني - أيها الموسع - الذي قبضت الرزق عمن ندبتك إلى معونته وإعطائه ، لأبتليه بالصبر على ما ابتليته به والذي بسطت عليك لأمتحنك بعملك فيما بسطت عليك ، فأنظر كيف طاعتك إياي فيه ، فأجازي كل واحد منكما على قدر طاعتكما لي فيما ابتليتكما فيه وامتحنتكما به ، من غنى وفاقة ، وسعة وضيق ، عند رجوعكما إلي في آخرتكما ، ومصيركما إلي في معادكما .

[ ص: 290 ] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال من بلغنا قوله من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

5624 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " الآية ، قال : علم أن فيمن يقاتل في سبيله من لا يجد قوة ، وفيمن لا يقاتل في سبيله من يجد غنى ، فندب هؤلاء فقال : " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط " ؟ قال : بسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده ، وقبض عن هذا وهو يطيب نفسا بالخروج ويخف له ، فقوه مما في يدك يكن لك في ذلك حظ .
القول في تأويل قوله ( وإليه ترجعون ( 245 ) )

قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : وإلى الله معادكم - أيها الناس - فاتقوا الله في أنفسكم أن تضيعوا فرائضه وتتعدوا حدوده ، وأن يعمل من بسط عليه منكم من رزقه بغير ما أذن له بالعمل فيه ربه ، وأن يحمل المقتر منكم - إذ قبض عنه رزقه - إقتاره على معصيته ، والتقدم على ما نهاه ، فيستوجب بذلك عند مصيره إلى خالقه ما لا قبل له به من أليم عقابه .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.87 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.24 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.31%)]