عرض مشاركة واحدة
  #357  
قديم 23-01-2023, 10:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,320
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2746 الى صـ 2760
الحلقة (357)




مطلب في حديث الإدلاء

إلى أن قال:

وحديث الإدلاء، الذي رواه أبو هريرة وأبو ذر ، قد رواه الترمذي وغيره من حديث [ ص: 2746 ] الحسن عن أبي هريرة ، وهو منقطع، فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة ، ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع. فإن كان ثابتا، فمعناه موافق لهذا، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: « لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله » ، إنما هو تقدير مفروض، أي: لو وقع الإدلاء لوقع عليه، لكن لا يمكن أن يدلي أحد على الله عز وجل شيئا، لأنه عال بالذات، وإذا أهبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز، والمقصود بيان إحاطة الخالق سبحانه، كما بين أنه يقبض السماوات، ويطوي الأرض، ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته تعالى، ولهذا قرأ في تمام الحديث:

هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم وهذا كله على [ ص: 2747 ] تقدير صحته، فإن الترمذي لما رواه قال: وفسره بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله. وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن فيه ما يدل على زعمه الباطل من أنه سبحانه حال بذاته في كل مكان، أو أن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك. وكذلك تأويله بالعلم غير مستقيم، بل على تقدير ثبوته، فالمراد به الإحاطة، ونحن لا نتكلم إلا بما نعلم، وما لم نعلمه أمسكنا عنه، وقد فطر الله تعالى الناس على التوجه في الدعاء إلى جهة العلو، وقال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها فجاءت الشريعة بالعبادة والدعاء بما يوافق الفطرة.

وقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: « إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهه، فإن الله تعالى قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكا، وليبصق عن يساره أو تحت رجله » . وفي رواية: إنه أذن أن يبصق في ثوبه ، وفي حديث أبي رزين [ ص: 2748 ] المشهور: لما أخبر صلى الله عليه وسلم أنه ما من أحد إلا سيخلو به ربه، فقال له أبو رزين : كيف يسعنا يا رسول الله وهو واحد ونحن جمع؟ فقال: « سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله تعالى: هذا القمر آية من آيات الله تعالى، كلكم يراه مخليا به، فالله أكبر » .

وفي الصحيحين: « لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة، أو لا ترجع إليهم أبصارهم » .

واتفق العلماء على أن رفع المصلي بصره إلى السماء منهي عنه، وروى محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء، حتى نزل: الذين هم في صلاتهم خاشعون فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده .

فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلا للفطرة، لأن الداعي المأمور بالذل، لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه، خلافا للجهمية الذين لا يفرقون بين العرش وقعر البحر، وقد قال تعالى: قد نرى تقلب وجهك في السماء الآية، ثم بين تأويل: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه ، وقال: قد ظنوا أن هذا وأمثاله محتاج إلى التأويل، وهذا وهم، لأنه لو كان هذا اللفظ ثابتا عن [ ص: 2749 ] النبي صلى الله عليه وسلم فإنه صريح في أن الحجر ليس هو من صفاته تعالى، وتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق، فلا تكون اليد حقيقة. وقوله: (فكأنما صافح الله تعالى)... إلخ، صريح في أن المصافح ليس مصافحا له تعالى، لأن المشبه ليس هو المشبه به.

إلى أن قال: فهذا كله بتقدير كرية العرش، وأما إذا قدر أنه ليس بكري الشكل، بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض، وأنه فوق الأفلاك الكرية، كما أن وجه الأرض الموضوع للأنام، فوق نصف الأرض الكري، أو غير ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرش فوق ما سواه، فعلى كل تقدير لا يتوجه إلى الله تعالى إلا إلى العلو، مع كونه على عرشه مباينا لخلقه. وعلى ما ذكرناه لا يلزم شيء من المحذور والتناقض، وهذا يزيل كل شبهة تنشأ من اعتقاد فاسد، وهو أن يظن أن العرش إذا كان كريا، والله تعالى فوقه كما تقتضيه ذاته ـ سبحانه عن مشابهة المخلوقين- وجب (فيما عند الزاعم) أن يكون سبحانه كريا، ثم يعتقد أنه إذا كان كريا فيصح التوجه إلى ما هو كري كالفلك التاسع من جميع الجهات، وهذا خطأ، فإن القول بأن العرش كري لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها وأقدارها أو في صفاتها، بل قد تبين أنه سبحانه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده أصغر من الحمصة في يد أحدنا، فإذا كانت الحمصة مثلا في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك، هل يتصور عاقل، إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته، بأن يكون الإنسان كالفلك؟ فالله تعالى -وله المثل الأعلى- أعظم من أن يظن به ذلك. وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون. وإذا لم يكن كريا، فالأمر ظاهر مما تقدم، وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة، والله تعالى أعلم.

[ ص: 2750 ] وإنما أشبعنا الكلام في هذا المقام، لأنه من أصول العقائد الدينية، ومهمات المسائل التوحيدية، وقد كثر فيه تعارك الآراء، وتصادم الأهواء، ولم يأت جمهور المتكلمين المؤولين بشيء يعلق بقلب الأذكياء، بل اجتهدوا في إيراد التمحلات التي تأباها فطرة الله أشد الإباء، فبقيت نفوس أنصار السنة المحققين، مائلة إلى مذهب السلف الصالحين، فإن الأئمة منهم، كان عقدهم ما بيناه فلا تكن من الممترين، والحمد لله رب العالمين.

وقوله تعالى: يغشي الليل النهار أي: يغطيه به، يعني أنه تعالى يأتي بالليل على النهار، فيغطيه ويلبسه، حتى يذهب بنوره، ويصير الجو مظلما، بعد ما كان مضيئا.

قال الشهاب : وجوز جعل الليل والنهار مغشى على الاستعارة، بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه، فكأنه لف عليه لف الغشاء، أو شبه تغييب كل منهما، بطريانه عليه، بستر اللباس للابسه -انتهى.

ولم يذكر العكس للعلم به، أو لأن اللفظ يحتملها، ولذلك قرئ: (يغشى الليل النهار) بنصب الليل، ورفع النهار: يطلبه حثيثا أي: يعقبه سريعا، كالطالب له، لا يفصل بينهما شيء.

قال الرازي : وإنما وصف سبحانه هذه الحركة بالسرعة، لأن تعاقب الليل والنهار إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم، وتلك الحركة أشد الحركات سرعة، وأكملها شدة، حتى إن الباحثين عن أحوال الموجودات قالوا: الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل، فإلى أن يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل، وإذا كان الأمر كذلك، كانت تلك الحركة في غاية الشدة والسرعة، فلهذا السبب قال تعالى: يطلبه حثيثا " ؛ والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره أي مذللات لما يراد منها من طلوع وغروب وسير ورجوع بقضائه وتصريفه.

قال الشهاب : وسماه (أمرا) على التشبيه، إذ جعل هذه الأشياء لكونها تابعة لتدبيره وتصريفه كما يشاء كأنهن مأمورات منقادة لأمره، ويصح حمله على ظاهره. انتهى.

[ ص: 2751 ] أي وهو الكلام، فيكون تعالى أمر هذه الأجرام بالسير الدائم، والحركة المستمرة إلى انقضاء الدنيا، وخراب هذا العالم. وقد قرئ ((والشمس)) وما بعده بالنصب عطفا على " السماوات " ونصب " مسخرات " على الحال. وقرأها ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء، والخبر: ألا له الخلق والأمر أي هو الذي خلق الأشياء كلها، وهو الذي صرفها على حسن إرادته، وفسر الأمر بالقضاء والحكم.

تنبيهان:

الأول: استخرج سفيان بن عيينة من هذا المعنى، أن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق، فقال: إن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد كفر. يعني أن من جعل الأمر الذي هو كلامه تعالى من جملة ما خلقه فقد كفر، لأن المخلوق لا يقوم بمخلوق مثله. كذا في (اللباب). قال في (الإكليل): استدل به ابن عيينة على أن القرآن غير مخلوق، أخرجه ابن أبي حاتم . لأن (الأمر) هو الكلام، وقد عطفه على (الخلق) فاقتضى أن يكون غيره، لأن العطف يقتضي المغايرة، وسبقه إلى هذا الاستنباط محمد بن كعب القرظي .انتهى.

الثاني: قال في (اللباب): في الآية دليل على أنه لا خالق إلا الله عز وجل، أي للحصر المستفاد من تقديم الظرف، ففيه رد على من يقول إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم.

تبارك الله رب العالمين أي تقدس وتنزه وتعالى وتعاظم. قال في (التاج): سئل أبو العباس عن تفسير تبارك الله " فقال: ارتفع. انتهى.

ولما ذكر تعالى الدلائل الدالة على كمال القدرة والحكمة، ليفردوه بالألوهية، أمرهم بأن يدعوه وحده متذللين مخلصين، فقال سبحانه:

[ ص: 2752 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[55] ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين

ادعوا ربكم تضرعا وخفية " نصب على الحال، أي: ذوي تضرع وخفية، والتضرع تفعل من (الضراعة) وهو الذل. والخفية (بضم الخاء وكسرها)، مصدر خفي كرضي بمعنى اختفى، أي: استتر وتوارى، وإنما طلب الدعاء مع تينك الحالتين لأن المقصود من الدعاء أن يشاهد العبد حاجته وعجزه وفقره لربه ذي القدرة الباهرة، والرحمة الواسعة. وإذا حصل له ذلك، فلا بد من صونه عن الرياء، وذلك بالاختفاء، وتوصلا للإخلاص.

فوائد:

في هذه الآية مشروعية الدعاء، بشرطيه المذكورين:

قال السيوطي في (الإكليل): ومن التضرع رفع الأيدي في الدعاء، فيستحب. وقد أخرج البزار عن أنس قال: « رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه بعرفة يدعو، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هذا الابتهال. ثم خاضت الناقة، ففتح إحدى يديه فأخذها وهو رافع الأخرى » . انتهى.

وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أيها الناس ! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذي تدعون سميع قريب » الحديث.

[ ص: 2753 ] وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال: إن كان الرجل، لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل، لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس؛ وإن كان الرجل، ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم. وذلك أن الله تعالى يقول: ادعوا ربكم تضرعا وخفية وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا رضي فعله فقال: إذ نادى ربه نداء خفيا

وقال ابن جريج : يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة.

وقال الناصر في (الانتصاف): وحسبك في تعين الإسرار في الدعاء اقترانه بالتضرع في الآية، فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله في الدعاء، وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع، لقليل الجدوى، فكذلك دعاء لا خفية ولا وقار يصحبه. وترى كثيرا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ والصياح في الدعاء، خصوصا في الجوامع، حتى يعظم اللغط ويشتد، وتستك المسامع وتستد، ويهتز الداعي بالناس، ولا يعلم أنه جمع بين بدعتين: رفع الصوت في الدعاء، وفي المسجد، وربما حصلت للعوام حينئذ رقة لا تحصل مع خفض الصوت، ورعاية سمت الوقار، وسلوك السنة الثابتة بالآثار. وما هي إلا رقة شبيهة بالرقة العارضة للنساء والأطفال، ليست خارجة عن صميم الفؤاد، لأنها لو كانت من أصل، لكانت عند اتباع السنة في الدعاء، وفي خفض الصوت به، أوفر وأوفى وأزكى.

فما أكثر التباس الباطل بالحق، على عقول كثيرة من الخلق، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. انتهى.

[ ص: 2754 ] وقد روى الحافظ أبو الشيخ في (الثواب) عن أنس مرفوعا: « دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية » .

وقوله تعالى: إنه لا يحب المعتدين " أي: لا يحب دعاء المجاوزين لما أمروا به في كل شيء، ويدخل فيه الاعتداء بترك الأمرين المذكورين، وهما التضرع والإخفاء دخولا أوليا.

قال السيوطي في (الإكليل): في الآية كراهية الاعتداء في الدعاء. وفسره زيد ابن أسلم بالجهر، وأبو مجلز بسؤال منازل الأنبياء، وسعيد بن جبير بالدعاء على المؤمن بالسر. أخرج ذلك ابن أبي حاتم ، ولا يخفى أن هذا جميعه مما يشمله الاعتداء.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود ، أن سعدا سمع ابنا له يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها، ونحوا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال: لقد سألت الله خيرا كثيرا، وتعوذت بالله من شر كثير وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء » وفي لفظ: « يعتدون في الطهور والدعاء، وقرأ هذه الآية: ادعوا ربكم الآية » ، وإن بحسبك أن تقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.

وروى الإمام أحمد وأبو داود أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: يا بني سل الله الجنة، وعذ به من النار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور » .
[ ص: 2755 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[56] ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين

ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها " قال أبو مسلم : أي لا تفسدوها بعد إصلاح الله إياها، بأن خلقها على أحسن نظام، وبعث الرسل، وبين الطريق، وأبطل الكفر.

وقال أبو حيان : هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض، وإدخال ماهيته في الوجود بجميع أنواعه، من إفساد النفوس والأموال والأنساب والعقول والأديان.

ومعنى بعد إصلاحها " : بعد أن أصلح الله خلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق، ومصالح المكلفين. انتهى.

وادعوه خوفا وطمعا أي: ذوي خوف من وبيل العقاب، نظرا إلى قصور أعمالكم، وطمع فيما عنده من جزيل الثواب، نظرا إلى سعة رحمته، ووفور فضله وإحسانه: إن رحمت الله قريب من المحسنين أي: أن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره، ويتركون زواجره، كما قال تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون الآية.

لطائف:

الأولى -قال في (اللباب): إن قلت: قال في أول الآية ادعوا ربكم تضرعا وخفية " وقال هنا وادعوه " ، وهذا هو عطف الشيء على نفسه، فما فائدة ذلك؟

قلت: الفائدة فيه أن المراد بقوله تعالى ادعوا ربكم " أي: ليكن الدعاء مقرونا [ ص: 2756 ] بالتضرع والإخبات، وقوله: وادعوه خوفا وطمعا " أن فائدة الدعاء أحد هذين الأمرين، فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء، والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء. وقيل: معناه كونوا جامعين في أنفسكم بين الخوف والرجاء في أعمالكم كلها، ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء، وإن اجتهدتم فيهما.

الثانية: في قوله تعالى: إن رحمت الله " الآية، ترجيح للطمع على الخوف، لأن المؤمن بين الرجاء والخوف، ولكنه إذا رأى سعة رحمته وسبقها، غلب الرجاء عليه. وفيه أيضا تنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة، وهو الإحسان في القول والعمل.

قال مطر الوراق : استنجزوا موعود الله بطاعته، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين.

الثالثة: تذكير (قريب)، لأن (الرحمة) بمعنى الرحم، أو لأنه صفة لمحذوف، أي: أمر قريب، أو على تشبيه ب (فعيل)، الذي هو بمعنى (مفعول)، أو الذي هو مصدر كالنقيض والصهيل، أو للفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره، فإنه يقال: فلانة قريبة مني لا غير، وفي المكان وغيره يجوز الوجهان، أو لاكتسابه التذكير من المضاف إليه، كما أن المضاف يكتسب التأنيث من المضاف إليه، وقد أوصلوا توجيه تذكيره إلى خمسة عشر وجها.

ولما ذكر تعالى أنه خالق السماوات والأرض، وأنه المتصرف الحاكم المدبر المسخر، وأرشد إلى دعائه لأنه على ما يشاء قدير، نبه تعالى على أنه الرزاق، وأنه يعيد الموتى يوم القيامة، فقال سبحانه:

[ ص: 2757 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[57] وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنـزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون

" وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أي قدام رحمته التي هي المطر، فإن الصبا تثير السحاب، والشمال تجمعه والجنوب تدره، والدبور تفرقه. وهذا كقوله تعالى: وهو الذي ينـزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وقوله سبحانه: ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات قال الثعالبي : المبشرات التي تأتي بالسحاب والغيث.

تنبيه:

قال أبو البقاء : يقرأ ((نشرا)) بالنون والشين مضمومتين، وهو جمع، وفي واحده وجهان: أحدهما ((نشور)) مثل صبور وصبر، فعلى هذه يجوز أن يكون (فعول) بمعنى (فاعل)، أي: ينشر الأرض. ويجوز أن يكون بمعنى (مفعول)، كركوب بمعنى مركوب، أي: منشورة بعد الطي، أو منشرة أي: محياة، من قولك أنشر الله الميت فهو منشر، ويجوز أن يكون جمع ناشر، مثل بازل وبزل. ويقرأ بضم النون وإسكان الشين على تخفيف المضموم. ويقرأ نشرا بفتح النون وإسكان الشين، وهو مصدر نشر بعد الطي، أو من قولك أنشر الله الميت فنشر أي عاش. ونصبه على الحال، أي ناشرة، أو ذات نشر، كما تقول: جاء ركضا أي راكضا.

[ ص: 2758 ] ويقرأ: بشرا بالباء وضمتين، وهو جمع بشير، مثل قليب وقلب، ويقرأ كذلك إلا أنه بسكون الشين على التخفيف. ويقرأ بشرى مثل حبلى، أي: ذات بشارة ويقرأ بشرا بفتح الباء وسكون الشين، وهو مصدر بشرته - أي: بالتخفيف- إذا بشرته. انتهى.

حتى إذا أقلت " أي: حملت سحابا ثقالا " أي من كثرة ما فيها من الماء سقناه " أي السحاب. قال الشهاب : السحاب اسم جنس جمعي، يفرق بينه وبين واحده بالتاء، كتمر وتمرة، وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه، ويجمع، وأهل اللغة تسميه جمعا، فلذا روعي فيه الوجهان، في وصفه وضميره. انتهى. أي: أرسلناه مع أن طبعه الهبوط: لبلد ميت " أي: لأجله ولمنفعته، أو لإحيائه أو لسقيه. و (ميت)، قرئ مشددا ومخففا فأنـزلنا به الماء " أي الضمير. والضمير في (به) للبلد فأخرجنا به من كل الثمرات أي المختلفة الأنواع، مع أن ماءها واحد. والمراد (بكل الثمرات)، المعتادة في كل بلد تخرج به على الوجه الذي أجرى الله العادة بها ودبرها.

والضمير في (به)، للماء أو للبلد. كذلك " أي مثل ذلك الإخراج نخرج الموتى " أي نحييها بعد صيرورتها رميما يوم القيامة، ينزل الله سبحانه وتعالى ماء من السماء، فتمطر الأرض أربعين يوما، فتنبت منه الأجساد في قبورها، كما ينبت الحب في الأرض لعلكم تذكرون " أي إنما وصفنا ما وصفنا من هذا التمثيل لكي تتذكروا، من أحوال الثمرات التي أعيدت إلى حالها بعد تلفها، أحوال الآخرة، فتعلموا أن من قدر على ذلك، قدر على هذا بلا ريب.

تنبيه:

من أحكام الآية كما قال الجشمي : أنها تدل على عظم نعمه تعالى علينا بالمطر، وتدل على الحجاج في إحياء الموتى بإحياء الأرض بالنبات، وتدل على أنه أراد من الجميع التذكر. وتدل على أنه أجرى العادة بإخراج النبات بالماء. وإلا فهو قادر على إخراجه من غير ماء، فأجرى العادة على وجوه دبرها عليها على ما نشاهده، لضرب من المصلحة دينا ودنيا.

[ ص: 2759 ] ومنها إذا رأى الأرض الطيبة تزرع دون الأرض السبخة، وأنها قطع متجاورات، علم فساد التقليد، وأنه يجب أن يتفحص عن الحق حتى يعتقده. ومنها أنه إذا زرع وعلم وجوب حفظه من المبطلات، علم وجوب حفظ الأعمال الصالحة من المحبطات.
القول في تأويل قوله تعالى:

[58] والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون

والبلد الطيب أي: الأرض الكريمة التربة يخرج نباته بإذن ربه أي يخرج نباته وافيا حسنا غزير النفع بمشيئته وتيسيره والذي خبث " أي كالحرة، وهي الأرض ذات الحجارة السود. وكالسبخة (بكسر الباء)، وهي الأرض ذات الملح لا يخرج " أي: نباته إلا نكدا " أي: قليلا، عديم النفع. يقال: عطاء نكد، أي قليل لا خير فيه، وكذا رجل نكد. قال:


فأعط ما أعطيته طيبا لا خير في المنكود والناكد

وقال:


لا تنجز الوعد إن وعدت وإن أعطيت، أعطيت تافها نكدا

تنبيه:

قال ابن عباس في الآية: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر.

وقال قتادة : المؤمن سمع كتاب الله فوعاه بعقله، وانتفع به، كالأرض الطيبة أصابها الغيث فأنبتت، والكافر بخلاف ذلك، وهذا كما في الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب [ ص: 2760 ] أرضا، فكانت منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به » .

لطيفة:

قال أبو البقاء : يقرأ ((يخرج نباته)) بفتح الياء وضم الراء ورفع النبات. ويقرأ كذلك إلا أنه بضم الياء، على ما لم يسم فاعله. ويقرأ بضم الياء وكسر الراء ونصب النبات أي: فيخرج الله أو الماء. ثم قال: ويقرأ نكدا " بفتح النون وكسر الكاف، وهو حال، ويقرأ بفتحهما على أنه مصدر أي: ذا نكد. ويقرأ بفتح النون وسكون الكاف وهو مصدر أيضا، وهو لغة ويقرأ يخرج بضم الياء وكسر الراء، ونكدا مفعوله.

كذلك نصرف الآيات " أي: نبين وجوه الحجج ونرددها ونكررها لقوم يشكرون " يعني كما ضربنا هذا المثل، كذلك نبين الآيات الدالة على التوحيد والإيمان آية بعد آية، وحجة بعد حجة، لقوم يشكرون الله تعالى على إنعامه عليهم بالهداية، وأن جنبهم سبيل الضلالة، وإنما خص الشاكرين بالذكر لأنهم هم الذين انتفعوا بسماع القرآن.
القول في تأويل قوله تعالى:

[59] لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم

لقد أرسلنا نوحا إلى قومه " اعلم أن الله تعالى لما ذكر في أول السورة قصة آدم ، وما اتصل بها من آثار قدرته، وغرائب صنعته الدالة على توحيده وربوبيته، وأقام الحجة الدامغة على صحة البعث بعد الموت- أتبع ذلك بقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما جرى لهم مع أممهم.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.31 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.40%)]