عرض مشاركة واحدة
  #358  
قديم 23-01-2023, 09:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2761 الى صـ 2775
الحلقة (358)



قال الرازي : وفيه فوائد:

[ ص: 2761 ] أحدها: التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات، ليس من خواص قوم النبي صلى الله عليه وسلم، بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة في جميع الأمم السالفة، والمصيبة إذا عمت خفت، فكان ذكر قصصهم، وحكاية إصرارهم وعنادهم، يفيد تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وتخفيف ذلك على قلبه.

ثانيها: أنه تعالى يحكي في هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللعن في الدنيا، والخسارة في الآخرة، وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة في الدنيا والسعادة في الآخرة، وذلك يقوي قلوب المحقين، ويكسر قلوب المبطلين.

وثالثها: التنبيه على أنه تعالى، وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين، ولكنه لا يهملهم، بل ينتقم منها على أكمل الوجوه.

ورابعها: بيان أن هذه القصص دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أميا، وما طالع كتابا، ولا تلمذ أستاذا.

فإذا ذكر هذه القصص على الوجه من غير تحريف ولا خطأ، دل ذلك على أنه إنما عرفها بالوحي من الله تعالى.

ونوح عليه السلام هو ابن لامك بن متوشالح بن أخنوخ بن يارد بن مهلئيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام. هكذا نسبه ابن إسحاق وغير واحد من الأئمة، وأصله من التوراة.

ومعنى (أرسلنا): بعثنا، وهو أول نبي بعثه الله بعد إدريس . كذا في (اللباب). وإدريس هو أخنوخ فيما يزعمون.

قاله ابن كثير : قال محمد بن إسحاق : ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح ، إلا نبي قتل، وقال يزيد الرقاشي : إنما سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه. انتهى.

وفيه نظر، لأنه إنما يصح ما ذكره، لو كان نوح لقبا مع وجود اسم له غيره، واللفظ عربي، لمناسبة الاشتقاق. أما وهو اسمه الوضعي، واللفظ غير عربي، فلا. وفي كتاب (تأويل الأسماء الواقعة في الكتب السالفة) أن نوحا معناه راحة أو سلوان، فتثبت.

[ ص: 2762 ] وكان، قبل بعثة نوح عليه السلام، قوم عرفوا الله وعبدوه خصوصا في عائلة شيث عليه السلام، ثم فسد نسل شيث أيضا، واختلطوا مع الأشرار، وامتلأت الأرض من جرائمهم، وزاغوا عن الصراط المستقيم، وصاروا يعبدون الأوثان والأصنام، فأرسل الله تعالى إليهم نوحا عليه السلام، ليدلهم على طريق الرشاد.

قال ابن كثير : قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير: كان أول ما عبدت الأصنام أن قوما صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صور أولئك فيها، ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين: ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، فلما تفاقم الأمر بعث الله سبحانه - وله الحمد والمنة - رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له فقال يا قوم " أي: الذين حقهم أن يشاركوني في كمالاتي اعبدوا الله ما لكم من إله " أي: مستحق للعبادة في الوجود غيره " ، قرئ بالحركات الثلاث، فالرفع صفة لإله، باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية، وبالجر على اللفظ، وبالنصب على الاستثناء، وحكم (غير)، حكم الاسم الواقع بعد (إلا)، أي: ما لكم من إله إلا إياه.

إني أخاف عليكم " أي: إن تركتم عبادته أو عبدتم غيره. عذاب يوم عظيم " هو يوم القيامة إذا لقيتم الله وأنتم مشركون به، أو يوم نزول العذاب عليهم، وهو الطوفان.

ووصف اليوم ب(العظم) لبيان عظم ما يقع فيه، وتكميل الإنذار.

قال الزمخشري : فإن قلت: فما موقع الجملتين بعد قوله: " اعبدوا الله " ؟ قلت: الأولى: بيان لوجه اختصاصه بالعبادة، والثانية: بيان للداعي إلى عبادته، لأنه هو المحذور عقابه، دون ما كانوا يعبدونه من دون الله.

[ ص: 2763 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[60] قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين

قال الملأ من قومه " أي: الأشراف، أو الجماعة، أو ذوو الشارة والتجمع. إنا لنراك " أي: بأمرك بعبادة الله، وترك عبادة غيره وتخويف العذاب على ترك عبادة الله، وعلى عبادة غيره. في ضلال مبين " أي: في ذهاب عن طريق الحق والصواب، لكونه خلاف ما وجدنا عليه آباءنا.

قال ابن كثير : وهكذا حال الفجار، إنما يرون الأبرار في ضلالة، كقوله: وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم إلى غير ذلك من الآيات.
القول في تأويل قوله تعالى:

[61] قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين

قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين " .
القول في تأويل قوله تعالى:

[62] أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون

أبلغكم رسالات ربي " أي: ما أوحي إلي في الأوقات المتطاولة، أو في المعاني المختلفة، من الأوامر والنواهي، والمواعظ والزواجر، والبشائر والنذائر. ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جده، إدريس ، فهذا نكتة جمع (الرسالات)، وإلا فرسالة كل نبي واحدة، وهي مصدر، والأصل فيه أن لا يجمع، فجمع لما ذكر.

[ ص: 2764 ] وأنصح لكم " وأقصد صلاحكم بإخلاص وأعلم من الله ما لا تعلمون أي: من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا من طريق الوحي، أشياء لا علم لكم بها، أو أعلم من قدرته الباهرة، وشدة بطشه على أعدائه، وأن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين ما لا تعلمونه.

قال ابن كثير : وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغا فصيحا ناصحا عالما بالله، لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات، كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة ، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جميعا: « أيها الناس ! إنكم مسؤولون عني، فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى السماء، وينكسها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد » .
[ ص: 2765 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[63] أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون

أوعجبتم أن جاءكم ذكر " أي: موعظة من ربكم على رجل منكم لينذركم " أي: من العذاب إن لم تؤمنوا ولتتقوا " أي: وليوجد منكم التقوى، وهي الخشية بسبب الإنذار، ولعلكم ترحمون " أي: ولترحموا بالتقوى إن وجدت منكم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[64] فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين

فكذبوه " أي أصروا على تكذيبه مع طول مدة إقامته فيهم ولم يؤمن معه منهم إلا قليل فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين أي: عن الحق، فلم يستبصروا الحق ولم يستنيروا بنور الوحي الذي هو كالشمس، ولا بظهور الآيات، ولا بآية الطوفان المغرق لهم، بعد إنذاره به، على تكذيبهم، والعمى ذهاب بصر العينين، وبصر القلب. يقال: عمي فهو أعمى وعم، كما في القاموس.

وكان من أمر نوح عليه السلام، أن قومه، لما أعرضوا عن الإيمان، وتمادوا على العصيان، وعبادة الأوثان، وطال عليه أمرهم، شكاهم إلى الله تعالى، فأوحى الله إليه أنه: لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وهم ناس قليل، فحينئذ دعا عليهم فقال: وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا فأوحى الله إليه أن يصنع السفينة، وصار قومه يسخرون منه، ويقولون: يا نوح ! قد صرت نجارا بعد النبوة ! فقال: إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه [ ص: 2766 ] عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم فلما فرغ من صنع السفينة، أمره الله تعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين من أنواع الحيوانات، حتى لا ينقطع نسلها. وحشرها إليه من كل جهة. ولما رأى فوران التنور، وكان هو العلامة بينه وبين الله تعالى في ابتداء الطوفان، ركب الفلك هو ومن آمن معه، وحمل من كل زوجين اثنين، وأمر الله تعالى السماء أن تمطر. والأرض أن تتفجر عيونا، وارتفع الماء في هذا الطوفان فوق رؤوس الجبال، فهلك جميع ما على الأرض من جنس الحيوان، ولم يبق حيا غير أهل السفينة.

وفي التوراة: أن الأمطار هطلت أربعين يوما وليلة دون انقطاع، حتى غمرت المياه وجه الأرض، وعلت خمسة عشر ذراعا فوق الجبال الشامخة، وهلك بالطوفان كل جسم حي. ثم أرسل الله ريحا عاصفة، فانقطعت الأمطار ونقصت المياه شيئا فشيئا، وقضى نوح سنة كاملة داخل الفلك، وحين خروجه منه بنى مذبحا للقرابين، شكرا لله تعالى، وتناسلت الناس من أولاد نوح الثلاثة: سام وحام ويافث . وتوطن سام بلاد آسية ، وأقام حام بنواحي إفريقية ، وسكن يافث الديار الأوروبية -والله أعلم-.

تنبيه:

قال الجشمي : في الآيات فوائد منها: أن نوحا دعاهم أولا إلى التوحيد، والرسول وإن حمل الشرائع، فلا طريق له إلى بيان الشرائع إلا بعد العلم بالتوحيد. ولأنهم لا ينتفعون بذلك إلا بعد اعتقاد التوحيد، فلذلك بدأ به. وجميع الرسل بدؤوا بالتوحيد ثم بالشرائع، ولذلك كان أكثر حجاج نبينا عليه السلام بمكة ، في التوحيد. انتهى.

وقال ابن كثير : بين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، وأنجى رسوله [ ص: 2767 ] والمؤمنين، وأهلك أعداءهم الكافرين، كقوله: إنا لننصر رسلنا الآية، وهذه سنة الله في عباده، في الدنيا والآخرة، أن العاقبة للمتقين، والظفر والغلب لهم، كما أهلك قوم نوح بالغرق، ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين.

قال مالك عن زيد بن أسلم : كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما عذب الله قوم نوح إلا والأرض ملأى بهم، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[65] وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون

وإلى عاد " متعلق بمضمر معطوف على قوله تعالى أرسلنا " في قصة نوح . أي: وأرسلنا إلى عاد ، وهي قبيلة كانت تعبد الأصنام، وكانت ذات بسطة وقوة، قهروا الناس بفضل القوة.

قال الشهاب : (عاد) اسم أبيهم سميت به القبيلة أو الحي فيجوز صرفه وعدمه، كثمود - كما ذكره سيبويه -.

قال الليث : وعاد الأولى ، هم عاد بن عاديا بن سام بن نوح الذين أهلكهم الله.

قال زهير :


وأهلك لقمان بن عاد وعاديا

[ ص: 2768 ] وأما عاد الأخيرة فهو بنو تميم ، ينزلون رمال عالج .

وفي (كتاب الأنساب): عاد هو ابن عوص بن إرم بن سام بن نوح ، كان يعبد القمر، ويقال إنه رأى من صلبه وأولاد أولاده أربعة آلاف، وأنه نكح ألف جارية، وكانت بلادهم إرم المذكورة في القرآن، وهي من عمان إلى حضرموت . ومن أولاده شداد بن عاد صاحب المدينة المذكورة، كذا في تاج العروس.

وقال ابن عرفة : قوم عاد كانت منازلهم في الرمال وهي الأحقاف .

وقال ابن إسحاق : الأحقاف رمل فيما بين عمان إلى حضرموت .

وقوله تعالى: أخاهم هودا " أي أخاهم في النسب، لأنه منهم، في قول النسابين. وقيل: الناس كلهم إخوة في النسب، لأنهم ولد آدم وحواء ، فالمراد صاحبهم، وواحد في جملتهم، [ ص: 2769 ] كما يقال: يا أخا العرب ، للواحد منهم، وإنما أرسل منهم، لأنهم أفهم لقوله من قول غيره، وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله، وأرغب في اقتفائه.

قال الشهاب : اشتهر أن هودا عربي، وظاهر كلام سيبويه أنه أعجمي، ويشهد له ما قيل: إن أول العرب يعرب . انتهى.

وهود هو -على ما قال ابن إسحاق : ابن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح . ويقال غير ذلك -والله أعلم-.

وروى ابن إسحاق بن عامر بن واثلة ، قال: سمعت عليا يقول لرجل من حضرموت : هل رأيت كثيبا أحمر يخالطه مدرة حمراء، ذا أراك وسدر كثير، بناحية كذا وكذا، من أرض حضرموت ، هل رأيته؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين! والله إنك لتنعته نعت رجل قد رآه ! قال: لا، ولكني قد حدثت عنه، فقال الحضرمي : وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبر هود عليه السلام -ورواه ابن جرير -. قال ابن كثير : وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن ، فإذا هودا عليه السلام دفن هناك. وقال: إنهم كانوا يأوون إلى العمد في البر، كما قال تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وذلك لشدة بأسهم وقوتهم، كما قال تعالى: فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون ولذا دعاهم هود عليه السلام إلى عبادة الله وحده، لا شريك له، وإلى طاعته وتقواه، كما قال تعالى. قال " أي: هود يا قوم " أي الذين حقهم أن يكونوا مثلي اعبدوا الله " أي: وحده ما لكم من إله غيره أفلا تتقون " أي: تخافون عذابه.

[ ص: 2770 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[66] قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين

" قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة أي: في خفة حلم، وسخافة عقل، حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر، وجعلت السفاهة ظرفا على طريق المجاز، أرادوا أنه متمكن فيها، غير منفك عنها وإنا لنظنك من الكاذبين " أي: في ادعائك الرسالة، إذ استبعدوا أن يرسل الله أحدا من أهل الأرض إليهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[67] قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين

قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أي: إليكم، لإصلاح أمر نشأتيكم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[68] أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين

" أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين أي: ناصح لكم فيما آمركم به من عبادته تعالى وحده، وأمين على تبليغ الرسالة، لا أكذب فيه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[69] أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون

" أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم أي: [ ص: 2771 ] أيام الله ولقاءه، أي: لا تعجبوا واحمدوا الله على ذلكم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح أي: خلفتموهم في مساكنهم، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكا بعدهم، فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض، من رمل عالج إلى شحر عمان - كذا قالوا -: وزادكم في الخلق بسطة " أي: قامة وقوة. فاذكروا آلاء الله " أي: في استخلافكم، وبسطة أجرامكم، وما سواهما من عطاياه، لتخصصوه بالعبادة لعلكم تفلحون " أي تفوزون بالفلاح.

تنبيهان:

الأول: قال الزمخشري : في إجابة الأنبياء عليهم السلام، من نسبهم إلى الضلال والسفاهة، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم والإغضاء، وترك المقابلة بما قالوا لهم، مع علمهم بأن خصومهم أضل الناس وأسفههم- أدب حسن، وخلق عظيم. وحكاية الله عز وجل ذلك، تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء، وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم، على ما يكون منهم. انتهى.

وزاد القاضي : إن في ذلك كمال النصح والشفقة، وهضم النفس وحسن المجادلة قال: وهكذا ينبغي لكل ناصح. انتهى.

الثاني: لا يعتمد على ما يذكره بعض المؤرخين المولعين بنقل الغرائب، بدون وضعها على محك النظر والنقد، من المبالغة في طول قوم عاد ، وضخامة أجسامهم، وأن أطولهم كان مائة ذراع، وأقصرهم كان ستين ذراعا، فإن ذلك لم يقم عليه دليل عقلي ولا نقلي، وهو وهم.

وأما قوله جل شأنه مخاطبا لقوم عاد : وزادكم في الخلق بسطة فإنه لا يدل على ما أرادوا، وإنما يدل على عظم أجسامهم وقوتهم وشدتها. وهذا من الأمور المعتادة، فإن الأمم ليست متساوية في ضخامة الجسم وطوله وقوته، بل تتفاوت لكن تفاوتا قريبا.

ومما يدل على أن أجسام من سلف كأجسامنا، لا تتفاوت عنها تفاوتا كبيرا، مساكن ثمود [ ص: 2772 ] قوم صالح الباقية، وآثارهم البادية، ومثله، بل أعرق منه في الوهم، ما ينقلونه في وصف عوج بن عنق الجبار ملك بيسان ، من أنه كان يحتجز بالسحاب ويشرب منه من طوله، ويتناول الحوت من قرار البحر، فيشويه بعين الشمس، يرفعه إليها. والحال أن الشمس كوكب لا مزاج له من حر أو برد، وإنما حرارتها من انعكاس شعاعها، بمقابلة سطح الأرض والهواء، فشدة حرارتها في الأرض، وتتناقص الحرارة فيما علا عنها بمقدار الارتفاع.

وقد أنكر العلامة ابن خلدون جميع ذلك في (مقدمة تاريخه)، وأبان أن الذي أدخل الوهم على الناس في طول الأقدمين هو ما يشاهدونه من بعض آثارهم الجسمية، ومصانعهم العظيمة، كأهرام مصر وإيوان كسرى ، فيتخيلون لأصحابها أجساما تناسب ذلك.

والحال أن عظم هذه المصانع والآثار في أمة من الأمم ناشئ عن عظم ذواتها، واتساع ممالكها، وقوة شوكتها، ونماء ثروتها، واستعانتها بالماهرين في فن جر الأثقال، فإنه يقوم بحمل ما تعجز القوى البشرية عن عشر معشاره. وأنكر أيضا ما ينقلون من قصة جنة عاد ، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة، وأنها بنيت في مدة ثلاثمائة سنة في صحارى عدن ، بناها شداد بن عاد حيث سمع وصف الجنة. وأنها لما تم بناؤها، أرسل الله على أهلها صيحة، فهلكوا كلهم، وأن اسمها (إرم ذات العماد)، وأنها المشار إليها بقوله تعالى: ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ويزعمون أنها لم تزل باقية في بلاد اليمن ، وإنما حجبت عن الأبصار. وحيث إن ذلك لم يرو عن الصادق الأمين فلا نعول عليه، ولا نلتفت إليه، وأغلب المولعين بنقل مثل هذه الغرائب المصنعة، هم المؤرخون الذين يعتمدون على أخبار بني إسرائيل ويقلدونهم من غير برهان ودليل، والله الهادي إلى سواء السبيل -كذا أفاده بعض المحققين-.

ثم أخبر تعالى عن تمرد عاد وطغيانهم وإنكارهم على هود عليه السلام، بقوله سبحانه:

[ ص: 2773 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[70] قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين

قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده " أي: لنخصه بالعبادة ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا " أي من العذاب المدلول عليه بقوله تعالى: أفلا تتقون " . إن كنت من الصادقين " أي: في الإخبار بنزول العذاب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[71] قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نـزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين

" قال قد وقع عليكم من ربكم رجس أي عذاب، والرجس والرجز بمعنى، حتى قيل إن أحدهما مبدل من الآخر، كالأسد والأزد. وأصل معناه الاضطراب، يقال: رجست السماء: رعدت شديدا وتمخضت، وهم في مرجوسة من أمرهم، أي في اختلاط والتباس، ثم شاع في العذاب لاضطراب من حل به.

وادعى بعضهم أن الرجس بمعنى العذاب مجاز، قال: لأنه حقيقة في الشيء القذر، فاستعير لجزائهم. وظاهر اللغة أنه حقيقة، ووجه التعبير بالماضي عما سيقع، تنزيل المتوقع كالواقع كما في: أتى أمر الله وغضب " أي سخط لإشراككم معه من هو في غاية النقص، في أعلى كمالاته التي هي الإلهية. أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم أي في أشياء ما هي إلا أسماء وليس تحتها مسميات، [ ص: 2774 ] لأنكم تسمونها آلهة، ومعنى الإلهية فيها معدوم ومحال وجوده. وهذا كقوله تعالى: ما يدعون من دونه من شيء -كذا في الكشاف-.

قال الشهاب : جعل الأسماء عبارة عن الأصنام الباطلة، كما يقال لما لا يليق: ما هو إلا مجرد اسم، فالمعنى: أتجادلونني في مسميات لها أسماء لا تليق بها، فتوجه الذم للتسمية الخالية عن المعنى. والضمير حينئذ راجع ل(أسماء) وهي المفعول الأول للتسمية، والثاني آلهة، ولو عكس لزم الاستخدام –انتهى-.

وقوله تعالى: ما نـزل الله بها من سلطان أي حجة ودليل على هذه التسمية، لأن المستحق للمعبودية بالذات ليس إلا من أوجد الكل، وإنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى، إما بإنزال آية أو نصب حجة وكلاهما مستحيل، فتحقق بطلان ما هم عليه.

قال الجشمي : دلت الآية على فساد التقليد، حين ذمهم بسلوك طريقة آبائهم. وتدل على أن المعارف مكتسبة، وتدل على بطلان كل مذهب لا دليل عليه. ويدل قوله: أتجادلونني " على أن المبطل مذموم في جداله، والواجب عليه النظر ليعرف الحق. انتهى.

وقال القاضي : بين تعالى أن منتهى حجتهم وسندهم، أن الأصنام تسمى آلهة من غير دليل يدل على تحقيق المسمى، وإسناد الإطلاق إلى من لا يؤبه بقوله، إظهارا لغاية جهالتهم، وفرط غباوتهم.

فانتظروا " أي: نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم فأتنا بما تعدنا " ، لأنه وضح الحق، وأنتم مصرون على العناد. إني معكم من المنتظرين " أي: لما يحل بكم.

قال المهايمي : جاء منتظرهم بحيث لا ينجو منه بمجرى العادة أحد، وجعل من قبيل الريح التي تتقدم الأمطار، لكفرهم برياح الإرسال.

[ ص: 2775 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[72] فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين

فأنجيناه والذين معه " أي: من آمن به، على خرق العادة برحمة منا " ليدل على رحمتنا عليهم في الآخرة وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا أي استأصلناهم. قال الشهاب : قطع الدابر، كناية عن الاستئصال إلى إهلاك الجميع، لأن المعتاد في الآفة إذا أصابت الآخر أن تمر على غيره، والشيء إذا امتد أصله أخذ برمته، والدابر بمعنى الآخر. وما كانوا مؤمنين " عطف على " كذبوا " داخل معه في حكم الصلة.

قال الزمخشري : فإن قلت: ما فائدة نفي الإيمان عنهم في قوله: وما كانوا مؤمنين " مع إثبات التكذيب بآيات الله؟ قلت: هو تعريض بمن آمن منهم، كمرثد بن سعد ، ومن نجا مع هود عليه السلام، كأنه قال: وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم، ولم يكونوا مثل من آمن منهم، ليؤذن أن الهلاك خص المكذبين، ونجى الله المؤمنين. انتهى.

قال الطيبي : يعني إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين، وعلم أن سبب النجاة هو الإيمان لا غير، تزيد رغبته فيه، ويعظم قدره عنده. انتهى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.72 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.33%)]