عرض مشاركة واحدة
  #359  
قديم 23-01-2023, 09:50 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,345
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2776 الى صـ 2790
الحلقة (359)




قال ابن كثير : قد ذكر الله سبحانه صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن بأنه أرسل عليهم الريح العقيم: ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم كما قال في الآية الأخرى: وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية لما تمردوا وعتوا، أهلكم الله بريح عاتية، فكانت تحمل الرجل [ ص: 2776 ] منهم، فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أم رأسه فتثلع رأسه حتى تبينه من جثته.

وقال محمد بن إسحاق : كانت منازل عاد وجماعتهم، حين بعث الله فيهم هودا ، الأحقاف قال: و ( الأحقاف ) الرمل، فيما بين عمان إلى حضرموت ، فاليمن كله.

وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلها، وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله: صنم يقال له (صداء)، وصنم يقال له (صمود) وصنم يقال له (الهباء): فبعث الله إليهم هودا ، وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم موضعا، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره، وأن يكفوا عن ظلم الناس. لم يأمرهم فيما يذكر، والله أعلم، بغير ذلك، فأبوا عليه وكذبوه، وقالوا: من أشد منا قوة " .

واتبعه منهم ناس، وهم يسير مكتتمون بإيمانهم. وكان ممن آمن به وصدقه رجل من عاد يقال له (مرثد بن سعد بن عفير) ، وكان يكتم إيمانه. فلما عتوا على الله تبارك وتعالى وكذبوا نبيهم، وأكثروا في الأرض الفساد، وتجبروا وبنوا بكل ريع آية عبثا بغير نفع، كلمهم هود فقال: أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وإذا بطشتم بطشتم جبارين فاتقوا الله وأطيعون

قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء أي: ما هذا الذي جئتنا به إلا جنون [ ص: 2777 ] أصابك به بعض آلهتنا هذه التي تعيب قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إلى قوله: صراط مستقيم

فلما فعلوا ذلك، أمسك الله عنهم المطر من السماء ثلاث سنين، فيما يزعمون- حتى جهدهم ذلك.

وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جهد، فطلبوا إلى الله الفرج منه، كانت طلبتهم إلى الله عند بيته الحرام بمكة ، مسلمهم ومشركهم، فيجتمع بمكة ناس كثير شتى مختلفة أديانهم، وكلهم معظم لمكة ، يعرف حرمتها ومكانها من الله.

قال ابن إسحاق : وكان البيت في ذلك الزمان معروفا مكانه، والحرم قائم فيما يذكرون، وأهل مكة يومئذ العماليق ، وإنما سموا العماليق ، لأن أباهم (عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح) ، وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة ، فيما يزعمون، رجلا يقال له معاوية بن بكر ، وكان أبوه حيا في ذلك الزمان، ولكنه كان قد كبر، وكان ابنه يرأس قومه، وكان السؤدد والشرف من العماليق فيما يزعمون، في أهل ذلك البيت.

وكانت أم معاوية بن بكر ، كلهدة ابنة الخبيري ، رجل من عاد ، فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا: جهزوا منكم وفدا إلى مكة فليستسقوا لكم، فإنكم قد هلكتم ! فبعثوا قيل بن عنز ولقيم بن هزال بن هزيل ، وعتيل بن صد بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد بن عفير ، وكان مسلما يكتم إسلامه، وجلهمة بن الخبيري ، خال معاوية بن بكر أخو أمه.

[ ص: 2778 ] ثم بعثوا لقمان بن عاد بن فلان بن فلان بن صد بن عاد الأكبر. فانطلق كل رجل من هؤلاء القوم معه رهط من قومه، حتى بلغ عدة وفدهم سبعين رجلا. فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم ، فأنزلهم وأكرمهم. وكانوا أخواله وصهره.

فلما نزل وفد عاد على معاوية بن بكر ، أقاموا عنده شهرا يشربون الخمر، وتغنيهم الجرادتان -قينتان لمعاوية بن بكر - وكان مسيرهم شهرا ومقامهم شهرا.

فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم، وقد بعثهم قومهم يتعوذون بهم من البلاء الذي أصابهم، شق ذلك عليه، فقال: هلك أخوالي وأصهاري ! وهؤلاء مقيمون عندي، وهم ضيفي نازلون علي ! والله ما أدري كيف أصنع بهم؟ أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا له فيظنوا أنه ضيق مني بمقامهم عندي، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا ! أو كما قال:

فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين، فقالتا: قل شعرا نغنيهم به، لا يدرون من قاله، لعل ذلك أن يحركهم !.

فقال معاوية بن بكر ، حين أشارتا عليه بذلك:


ألا يا قيل، ويحك ! قم فهينم لعل الله يصبحنا غماما فيسقي أرض عاد، إن عادا
قد أمسوا لا يبينون الكلاما من العطش الشديد، فليس نرجو
به الشيخ الكبير ولا الغلام وقد كانت نساؤهم بخير
فقد أمست نساؤهم عيامى [ ص: 2779 ] وإن الوحش تأتيهم جهارا
ولا تخشى لعادي سهاما وأنتم ها هنا فيما اشتهيتم
نهاركم وليلكم التماما فقبح وفدكم من وفد قوم
ولا لقوا التحية والسلاما

فلما قال معاوية ذلك الشعر، غنتهم به الجرادتان، فلما سمع القوم ما غنتا به، قال بعضهم لبعض: يا قوم، إنما بعثكم قومكم يتعوذون بكم من هذا البلاء الذي نزل بهم، وقد أبطأتم عليهم ! فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم !.

فقال لهم مرثد بن سعد بن عفير : إنكم والله لا تسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إليه سقيتم ! فأظهر إسلامه عند ذلك. فقال لهم جلهمة بن الخبيري خال معاوية بن بكر ، حين سمع قوله، وعرف أنه قد اتبع دين هود وآمن به:


أبا سعد فإنك من قبيل ذوي كرم وأمك من ثمود
فإنا لن نطيعك ما بقينا ولسنا فاعلين لما تريد
أتأمرنا لنترك دين رفد ورمل وآل صد والعبود
ونترك دين آباء كرام ذوي رأي، ونتبع دين هود

ثم قال لمعاوية بن بكر وأبيه بكر : احبسا عنا مرثد بن سعد ، فلا يقدمن معنا مكة ، فإنه قد اتبع دين هود ، وترك ديننا !

ثم خرجوا إلى مكة يستسقون بها لعاد ، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معاوية بن بكر حتى أدركهم بها، قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له. فلما انتهى إليهم، قام يدعو الله بمكة ، وبها وفد عاد قد اجتمعوا يدعون، يقول: اللهم أعطني سؤلي وحدي ولا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد .

وكان قيل بن عنز رأس وفد عاد .

وقال وفد عاد : اللهم أعط قيلا ما سألك، واجعل سؤلنا مع سؤله.

وكان قد تخلف عن وفد عاد حين دعا، لقمان بن عاد ، وكان سيد عاد .

[ ص: 2780 ] حتى إذا فرغوا من دعوتهم قام فقال: اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي، فأعطني سؤلي. وقال قيل بن عنز حين دعا: يا إلهنا، إن كان هود صادقا فاسقنا، فإنا قد هلكنا. فأنشأ الله لهم سحائب ثلاثا: بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السحاب: يا قيل ! اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب. فقال: اخترت السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماء. فناداه مناد: اخترت رمادا رمددا، لا تبقي من آل عاد أحدا، لا والدا تترك ولا ولدا، إلا جعلته همدا إلا بني اللوذية المهدى - وبنو اللوذية ، بنو لقيم بن هزال بن هزيلة بن بكر ، وكانوا سكانا بمكة مع أخوالهم، ولم يكونوا مع عاد بأرضهم، فهم عاد الآخرة، ومن كان من نسلهم الذين بقوا من عاد - وساق الله السحابة السوداء، فيما يذكرون، التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد ، حتى خرجت عليهم من واد يقال له (المغيث).

فلما رأوها استبشروا بها وقالوا: هذا عارض ممطرنا يقول الله: بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها أي كل شيء أمرت به.

وكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح، فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها (مهدد) ، فلما تيقنت ما فيها صاحت ثم صعقت. فلما أفاقت قالوا: ماذا رأيت يا مهدد ؟ قالت: رأيت ريحا فيها، كشهب النار، أمامها رجال يقودونها !

ف " سخرها " الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما " ، كما قال الله -والحسوم الدائمة- [ ص: 2781 ] فلم تدع من عاد أحدا إلا هلك. فاعتزل هود ، فيما ذكر لي، ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه من الريح، إلا ما تلين عليه الجلود وتلذ الأنفس.

وإنها لتمر على عاد بالظعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة. وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر وأبيه، فنزلوا عليه.

فبينما هم عنده، إذ أقبل رجل على ناقة له في ليلة مقمرة، ممسى ثالثة في مصاب عاد ، فأخبرهم الخبر، فقالوا له: أين فارقت هودا وأصحابه؟ قال: فارقتهم بساحل البحر.

فكأنهم شكوا فيما حدثهم به، فقالت هزيلة بنت بكر : صدق، ورب الكعبة .

قال ابن كثير : وهو سياق غريب، فيه فوائد كثيرة، وقد قال الله تعالى: ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ

وروى الإمام أحمد عن أبي وائل ، عن الحارث البكري قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة ، فإذا بعجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت لي: يا عبد الله ! إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها، فأتيت المدينة . فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها، فجلست، فدخل منزله - أو قال رحله - فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فسلمت، فقال: هل كان بينكم وبين تميم شيء؟ قلت: نعم. قال وكانت لنا الدبرة عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب، فأذن لها، فدخلت. فقلت: يا رسول الله ! إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا، فاجعل الدهنا. فحميت العجوز واستوفزت، وقالت: يا رسول الله ! فإلى أين تضطر [ ص: 2782 ] مضرك؟ قال قلت: إن مثلي مثل ما قال الأول: (معزاء حملت حتفها)، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما. أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد ! قال هيه، وما وافد عاد ؟ وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه، قلت: إن عادا قحطوا فبعثوا وافدا لهم يقال له قيل ، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر، وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان، فلما مضى الشهر، خرج جبال تهامة فنادى: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه ! فمرت به سحابات سود، فنودي منها: اختر، فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها: خذها رمادا رمددا، لا تبقي من عاد أحدا. قال: فما بلغني أنه بعث عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا، حتى هلكوا. قال أبو وائل : وصدق. قال: فكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا: لا تكن كوافد عاد - هكذا رواه الإمام أحمد في المسند، ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير -.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[73] وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم

وإلى ثمود " أي: وأرسلنا إلى ثمود ، وهي قبيلة أخرى من العرب سموا باسم جدهم ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح ، وهو أخو جديس بن عابر . وكذلك قبيلة طسم ، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة ، قبل إبراهيم الخليل عليه السلام.

وكانت ثمود بعد عاد ، [ ص: 2783 ] ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله. وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديارهم وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع -نقله ابن كثير -.

وثمود كصبور، وتضم ثاؤه، وقرئ به أيضا، وقرئ بصرفه ومنعه، أما الثاني فلأنه اسم القبيلة، ففيه العلمية والتأنيث. وأما الأول فلأنه اسم للحي، أو لأنه لما كان اسمها الجد أو القليل من الماء كان مصروفا، لأنه علم مذكر، أو اسم جنس، فبعد النقل حكي أصله. كذا في (العناية).

أخاهم صالحا " هو -على ما قاله علماء التفسير والنسب-: ابن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود : قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره دعاهم عليه الصلاة والسلام بما يدعو به الرسل أجمعون، وهو عبادة الله وحده لا شريك له. كما قال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت قد جاءتكم بينة من ربكم أي حجة ظاهرة للدلالة على صحة نبوتي هذه ناقة الله لكم آية أي خلقها حجة وعلامة على رسالتي، وأضافها إليه تفضيلا وتخصيصا ك (بيت الله) ، أو لأنه لا مالك لها غيره تعالى، أو لأنها حجته عليهم في أنهم، إن حفظوها وأطلقوا لها رعيها وسقيها حفظوا، وإن غدروا بها أهلكوا، ولذا قال: فذروها تأكل في أرض الله أي التي لا يملكها غيره، العشب: ولا تمسوها بسوء أي: لا تضربوها ولا تطرودها، ولا تريبوها بشيء من الأذى، ولو تأذت منها دوابكم، إكراما لآية الله فيأخذكم عذاب أليم أي: في الدارين لجرأتكم على آيات الله.

[ ص: 2784 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[74] واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين

" واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد قال الشهاب : لم يقل: خلفاء عاد ، إشارة إلى أن بينهما زمانا طويلا. وبوأكم في الأرض " أي: أنزلكم في أرض الحجر. والمباءة المنزل. تتخذون من سهولها قصورا " أي: تبنون في سهولها قصورا لتسكنوها أيام الصيف. ف(من) بمعنى (في)، كقوله تعالى: نودي للصلاة من يوم الجمعة أو هي ابتدائية، أو تبعيضية، أي: تعملون القصور من مادة مأخوذة من السهل وهي الطين. والسهل خلاف الحزن، وهو موضع الحجارة والجبال: وتنحتون الجبال بيوتا أي: لتسكنوها أيام الشتاء. والجبال إما مفعول ثان بتضمين (نحت) معنى (اتخذ)، أو منصوب بنزع الخافض، على ما جاء في الآية الأخرى: والنحت معروف في كل صلب، ومضارعه مكسور الحاء. وقرأ الحسن بالفتح لحرف الحلق: وقرئ تنحاتون بالإشباع، كينباع، أفاده الشهاب .

بحث الإشباع في وسط الكلمة

أقول: بهذه القراءة يستدل على ثبوت الإشباع في وسط الكلمة لغة. ومثله (ينباع) المذكورة، وهي من قول عنترة :


ينباع من ذفرى غضوب جسرة

[ ص: 2785 ] أي: ينبع العرق من خلف أذن ناقة غضوب، فأشبع الفتحة لإقامة الوزن، فتولدت من إشباعها ألف.

ومثله قولنا (آمين)، والأصل (أمين) فأشبعت الفتحة، فتولدت من إشباعها ألف -قاله الزوزني -.

[ ص: 2786 ] ومثله (استكان) على القول بأنه افتعل من (السكون)، فزيدت الألف لإشباع الفتحة كما في (شرح الشافية).

ومنه عقراب -قال في (تاج العروس): سمع العقراب في اسم الجنس. قال:


أعوذ بالله من العقراب الشائلات عقد الأذناب

قال: وعند أهل الصرف ألف (عقراب) للإشباع، لفقدان (فعلال) بالفتح. انتهى.

وقوله تعالى: فاذكروا آلاء الله أي نعمه عليكم لتصرفوها إلى ما خلقها لأجله.

ولا تعثوا في الأرض مفسدين بالمعاصي وعبادة غيره تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[75] قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون

قال الملأ الذين استكبروا " أي عن الإيمان بعد ظهور آية الناقة والكلمات الناصحة. من قومه للذين استضعفوا " أي: استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم، إذ لم يكن لهم استكبار يمنعهم من الانقياد. لمن آمن منهم " بدل من " الذين استضعفوا " بإعادة الجار، بدل الكل، إن كان الضمير لقومه، فيدل على أن استضعافهم كان مقصورا على المؤمنين. وبدل البعض، إن كان الضمير " للذين استضعفوا " فيدل على أن المستضعفين كانوا مؤمنين وكافرين.

قال أبو السعود : والأول هو الوجه، إذ لا داعي إلى توجيه الخطاب أولا إلى جميع المستضعفين، مع أن المجاوبة مع المؤمنين منهم، على أن الاستضعاف مختص بالمؤمنين، أي قالوا للمؤمنين الذين استضعفوهم واسترذلوهم أتعلمون " أي من آية الناقة ومن الكلمات الناصحة أن صالحا مرسل من ربه " إليكم لعبادته تعالى وحده لا شريك له.

[ ص: 2787 ] وهذا قالوه على سبيل السخرية والاستهزاء، لأنهم يعلمون بأنهم عالمون بذلك، ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر، بل عدلوا عنه، كما قال تعالى: قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون عدلوا عن الجواب الموافق لسؤالهم بأن يقولوا (نعم) أو (إنه مرسل منه تعالى)، مسارعة إلى تحقيق الحق، وإظهار ما لهم من الإيمان الثابت المستمر الذي تنبئ عنه الجملة الاسمية، وتنبيها على أن أمر إرساله من الظهور بحيث لا ينبغي أن يسأل عنه، وإنما الحقيق بالسؤال عنه هو الإيمان به. أفاده أبو السعود .

فهذا من الأسلوب الحكيم، وهو تلقي السائل والمخاطب بخلاف ما يترقب، تنبيها على أنه هو الذي ينبغي أن يسأل عنه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[77] فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين

فعقروا الناقة " أي نحروها. والعقر: الجرح، وأثر كالحز في قوائم الفرس والإبل. يقال: عقره بالسيف يعقره بالكسر، وعقره تعقيرا، قطع قوائمه بالسيف وهو قائم.

قال الأزهري : العقر عند العرب كشف عرقوب البعير، ثم يجعل النحر عقرا، لأن ناحر الإبل يعقرها: ثم ينحرها.

وفي اللسان: عقر الناقة وعقرها، إذا فعل بها ذلك حتى تسقط، فينحرها مستمكنا منها، أي: لئلا تشرد عند النحر.

وفي الحديث: « لا عقر في الإسلام » .

قال ابن الأثير : كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى، أي:ينحرونها ويقولون إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته. كذا في (تاج العروس).

وأسند العقر إلى جميعهم، لأنه كان برضاهم، وإن لم يباشره إلا بعضهم. ويقال للقبيلة الضخمة: أنتم فعلتم كذا وما فعله إلا واحد منهم. كذا في (الكشاف).

قال أبو السعود : وفيه من تهويل الأمر وتفظيعه، بحيث أصابت غائلته الكل ما لا يخفى.

وعتوا عن أمر ربهم " أي استكبروا عن امتثاله، وهو عبادته وحده، أو الحذر من مس الناقة بسوء. وزادوا في الاستهزاء: وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا أي: من العذاب على عقر الناقة. والأمر للاستعجال لأنهم يعتقدون أنه لا يتأتى ذلك، ولذا قالوا: إن كنت من المرسلين " أي فإن الله ينصر رسله على أعدائه.

[ ص: 2789 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[78] فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين

فأخذتهم الرجفة " أي: الصيحة التي يحصل منها الزلزلة الشديدة بدل صوت الناقة عند عقرها، وبدل حركتها عند نزع الروح فأصبحوا في دارهم " في بلادهم أو مساكنهم جاثمين " أي: ساقطين على وجوههم، هامدين لا يتحركون، ميتين بدل موت الناقة وسقوطها. والصيحة والزلزلة من آثار الريح المرسلة التي كانت رحمة فانقلبت عذابا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[79] فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين

فتولى " أي فأعرض صالح عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي " المتضمنة لتخويف العذاب عنه ونصحت لكم " فأمرتكم بكل خير، ونهيتكم عن كل شر ولكن لا تحبون الناصحين " أي من الرسل والأنبياء والعلماء لمخالفتهم أهويتكم.

والظاهر أن صالحا عليه السلام كان مشاهدا لما جرى عليهم، وأنه تولى عنهم، بعد ما أبصرهم جاثمين، تولى مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم، يتحزن لهم بقوله يا قوم " إلخ، كذا في (الكشاف)، أو خاطبهم خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر حيث قال: [ ص: 2790 ] « إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا » - كما رواه البخاري - لا تحزنا، ولكن إعلاما بنصر الله له، وتحقيق رسالته، زيادة في حزنهم وتوبيخهم، فإن الأحياء ليسوا بأسمع منهم، ولكن لا يتكلمون. كما في (الصحيح). ويجوز عطف قوله فتولى " على قوله فأخذتهم الرجفة " ، فيكون الخطاب لهم حين أشرفوا على الهلاك، لا بعده. فيكون عليه السلام تولى عنهم تولي ذاهب عنهم، منكر لإصرارهم حين رأى علامات نزول العذاب. والمتبادر الأول لظهور الفاء في التعقيب - والله أعلم -.

تنبيهات

الأول: نأثر هنا ما رواه علماء التاريخ والنسب في بسط قصة ثمود ، لمكان العظة والاعتبار مفصلا، وإلا، فجلي أن ما أجمله التنزيل الكريم لا غاية وراءه في ذلك، وما سكت عن بيانه من تلك القصص، فلا حاجة إلى السعي وراءه لفقد القطع به، اللهم إلا لزيادة الاتعاظ، وتقوية العبرة، ولذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج » .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.10 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.34%)]