عرض مشاركة واحدة
  #362  
قديم 23-01-2023, 10:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,175
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2821 الى صـ 2835
الحلقة (362)


وقال تعالى في الشعراء: فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة: فأسقط علينا كسفا من السماء الآية [ ص: 2821 ] فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة. وقد اجتمع عليهم ذلك كله، أصابهم عذاب يوم الظلة، وهي سحابة أظلتهم، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم، فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام. فأصبحوا في دارهم " أي: مدينتهم جاثمين " أي ساقطين ميتين، لا ينتفعون برؤوس أموالهم ولا بزوائدها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[92] الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين

" الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا وعقوبتهم بمقابلته.

والموصول مبتدأ، وخبره جملة كأن لم يغنوا فيها " أي استؤصلوا بالمرة، وصاروا كأنهم لما أصابتهم النقمة، لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها.

ثم قال تعالى مقابلا لقيلهم السابق: الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين دينا ودنيا، لا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا.

قال أبو السعود : استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير، وإعادة الموصول والصلة كما هي، لزيادة التقرير، والإيذان بأن ما ذكر في حيز الصلة، هو الذي استوجب العقوبتين، أي الذين كذبوه عليه السلام، عوقبوا بمقالتهم الأخيرة، فصاروا هم الخاسرين، لا المتبعون له، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بإنجائه عليه الصلاة والسلام، كما وقع في سورة هود من قوله تعالى: ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه

وقال الزمخشري : في هذا الاستئناف والابتداء، وهذا التكرير، مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم، وتسفيه لرأيهم، واستهزاء بنصحهم لقومهم، واستعظام لما جرى عليهم.

[ ص: 2822 ] وفي (العناية): أن من عادة العرب الاستئناف من غير عطف، في الذم والتوبيخ، فيقولون: أخوك الذي نهب مالنا، أخوك الذي هتك سترنا. انتهى.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[93] فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين

فتولى عنهم " أي: أعرض عن شفاعتهم والحزن عليهم وقال " أي: في الاعتذار يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي " أي: بالأمر والنهي ونصحت لكم " أي: حذرتكم من عذاب الله، ودعوتكم إلى التوبة والإيمان بما يفيد ربح الدارين، ويمنعكم خسرانهما، لكنكم كفرتم فكيف آسى " أي: أحزن حزنا شديدا على قوم كافرين " أي: بالله إن هلكوا، فضلا عن أن أشتغل بشفاعتهم. يعني أنه لا يأسى عليهم، لأنهم ليسوا أحقاء بالأسى.

تنبيه:

قال الجشمي : من أحكام الآية أنها تدل على أن قوم شعيب أهلكوا بعذاب الاستئصال لما لم يقبلوا نصيحة نبيهم، فتدل على وجوب قبول النصيحة في الدين. وتدل على أنه لا يجوز الحزن على هلاك الكفرة والظلمة، بل يجب أن يحمد الله ويشكر، كما قال تعالى: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين

لطيفة:

ذكروا أن شعيبا ، عليه السلام، يقال له خطيب الأنبياء لفصاحة عبارته، وجزالة موعظته، وأصله ما أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شعيبا يقول: « ذاك خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه » .

[ ص: 2823 ] والمراجعة مفاعلة من الرجوع، وهي مجاز عن المحاورة. يقال: راجعه القول، وإنما عنى النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر في هذه السورة، كما يعلم بالتأمل فيه. كذا في (العناية).

ثم أشار تعالى إلى أحوال سائر الأمم مع أنبيائهم إجمالا، إثر بيان الأمم المذكورة تفصيلا فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[94] وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون

" وما أرسلنا في قرية من نبي أي كذبه أهلها إلا أخذنا أهلها " أي قبل الإهلاك الكلي بالبأساء " أي: شدة الفقر والضراء " أي المرض، لاستكبارهم عن اتباع نبيهم، وتعززهم عليه لعلهم يضرعون " ليتضرعوا ويتذللوا، ويحطوا أردية الكبر والعزة، فيؤمنوا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[95] ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون

ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة " أي أعطيناهم -بدل ما كانوا فيه من البلاء، كالشدة والمرض- السعة والصحة: حتى عفوا " أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، من قولهم: عفا النبات، وعفا الشحم والوبر، إذا كثرت، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « وأعفوا اللحى » .

وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء يعني وأبطرتهم النعمة وأشروا، [ ص: 2824 ] فقالوا كفرانا لها: هذه عادة الدهر، يعاقب في الناس بين الضراء والسراء، وقد مس آباءنا نحو ذلك فصبروا على دينهم، فنحن مثلهم، نقتدي بهم، وما هو بابتلاء من الله لعباده، تصديقا لوعد الرسل، فازدادوا كفرا بعد الإعلام القولي والفعلي. والمعنى: أن الله تعالى ابتلاهم بالسيئة لينيبوا إليه، فما فعلوا. ثم بالحسنة ليشكروا، فما فعلوا، وإذا لم ينجع فيهم هذا ولا ذاك، فلم يبق إلا أن يأخذهم بالعذاب، وقد فعل، كما قال سبحانه: فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون أي: فأخذناهم أشد الأخذ وأفظعه، وهو أخذهم فجأة، من غير شعور منهم، ولا خطور شيء من المكاره ببالهم، كقوله تعالى: حتى إذا فرحوا بما أوتوا الآية، وفي الحديث: « موت الفجأة راحة للمؤمن وأخذة أسف للفاجر » . رواه الإمام أحمد والبيهقي عن عائشة مرفوعا.

تنبيه:

اعتقاد أن مناوبة الضراء والسراء عادة الدهر، من غير أن يكون هناك داعية تؤدي إليهما، ولا حكمة فيهما، هو من اعتقاد الكافرين.

قال ابن كثير : المؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من الضراء والسراء، فيشكر الله على السراء، ويصبر على الضراء. ولهذا جاء في الحديث: « لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه. والمنافق مثله كمثل الحمار لا يدري فيم ربطه أهله، ولا فيم أرسلوه » أو كما قال.

وفي الصحيحين: « عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له » .

وقوله تعالى:

[ ص: 2825 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[96] ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون

ولو أن أهل القرى " أي القرى المهلكة آمنوا " أي بالله ورسلهم واتقوا " أي الكفر والمعاصي لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " أي لوسعنا عليهم الخير، ويسرناه لهم من كل جانب، مكان ما أصابهم من فنون العقوبات، التي بعضها من السماء، وبعضها من الأرض. ف(فتحنا): استعارة تبعية، لأنه شبه تيسير البركات عليهم بفتح الأبواب في سهولة التناول، أو مجاز مرسل فيلازمه، وهو التيسير، أو أريد ب(بركات السماء): المطر، و(بركات الأرض): النبات والثمار ولكن كذبوا " أي الرسل فأخذناهم " أي عاقبناهم بما كانوا يكسبون " من الكفر والمعاصي.

تنبيه:

أفادت الآية قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل، كقوله تعالى: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين أي: ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس ، فإنهم آمنوا، وذلك بعد ما عاينوا من العذاب، كما قال تعالى عنهم فآمنوا فمتعناهم إلى حين " .

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[97] أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون

أفأمن أهل القرى " أي: القرى المذكورة أن يأتيهم بأسنا " أي: عذابنا ونكالنا بياتا " أي: ليلا، أي وقت بيات وهم نائمون " أي حال كمال الغفلة.
[ ص: 2826 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[98] أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون

" أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون أي: يخوضون في الباطل ويلهون من فرط الغفلة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[99] أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون

أفأمنوا مكر الله " وهو أخذه العبد من حيث لا يحتسب فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " أي لا يأمن أحد أخذه تعالى العبد من حيث لا يشعر، مع كثرة ما رأى من أخذه العباد من حيث لا يحتسبون، إلا القوم الذي خسروا عقولهم، وأضاعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها، الاستعداد القريب المستفاد من النظر في الآيات، فصاروا خاسرين إنسانيتهم، بل أخس من البهائم، وفي قوله تعالى: أفأمنوا مكر الله " تكرير للنكير في قوله: أفأمن أهل القرى " لزيادة التقرير.

قال الزمخشري : فعلى العاقل أن يكون في خوف من مكر الله، كالمحارب الذي يخاف من عدوه الكمين، والبيات، والغيلة. وعن الربيع بن خثيم أن ابنته قالت: ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ فقال: يا بنتاه إن أباك يخاف البيات . أراد قوله أن يأتيهم بأسنا بياتا " . انتهى.

وقال الحسن البصري : المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.

تنبيه:

الأمن من مكر الله كبيرة عند الشافعية، وهو الاسترسال في المعاصي، اتكالا على عفو الله -كما في جمع الجوامع-.

[ ص: 2827 ] وقال الحنفية: إنه كفر كاليأس، لقوله تعالى: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون

واستدل الشافعية بحديث ابن مسعود رضي الله عنه، ( من الكبائر الأمن من مكر الله) . وما ورد أنه كفر محمول على التغليظ كذا في العناية.

وروى ابن أبي حاتم والبزار عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم سئل: « ما الكبائر؟ فقال: الشرك بالله، والإياس من روح الله، والأمن من مكر الله » . قال بعضهم: والأشبه أن يكون موقوفا.

قال ابن حجر : وبكونه أكبر الكبائر، صرح ابن مسعود : كما رواه عنه عبد الرزاق والطبراني .

قال الكمال بن أبي شريف : عطفهما -يعني الإياس والأمن - في الحديث على (الإشراك بالله)، المحمول على مطلق الكفر، ظاهر في أنهما غير الكفر.

وقال أيضا: مراد الشافعية بكونه كبيرة، أن من غلب عليه الرجاء غلبة دخل بها في حد الآمن من المكر، كمن استبعد العفو عن ذنوبه لعظمها استبعادا دخل به في حد اليائس. وأما من كان أمنه لاعتقاد أن لا مكر، كمن كان يأسه لإنكار سعة الرحمة ذنوبه، فينبغي أن يكون كل منهما كافرا عند الشافعية أيضا، ويحمل عليه نص القرآن -انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[100] أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون

أولم يهد " أي يتبين للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أي المأخوذين.

[ ص: 2828 ] أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي كما أصبنا من قبلهم فأهلكنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون أي نختم عليها فلا يقبلون موعظة ولا إيمانا.

قال أبو البقاء : يقرأ (يهد) بالياء، وفاعله (أن لو نشاء). وأن مخففة من الثقيلة، أي: أو لم يبين لهم علمهم بمشيئتنا. ويقرأ بالنون. و(أن لو نشاء) مفعوله. وقيل: فاعل (يهدي) ضمير اسم الله تعالى. انتهى.

ويؤيده قراءة النون، وجوز أن يكون ضميرا عائدا على ما يفهم مما قبله، أي: أولم يهد ما جرى للأمم السابقة، وتعدية (يهد) باللام، لأنه بمعنى (يبين) إما بطريق المجاز، أو التضمين.

قال الشهاب : وإنما جعل بمعنى (يبين)، وإن كان (هدى) يتعدى بنفسه، وباللام وبإلى -لأن ذلك في المفعول الثاني لا في الأول، كما هنا، فهذا استعمال آخر. وقيل: لك أن تحمل اللام على الزيادة، كما في ردف لكم والمراد ب(الذين)، أهل مكة ومن حولها، كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما -انتهى.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[101] تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين

تلك القرى " أي المذكورة وهي قرى قوم نوح وعاد وثمود ، وقوم لوط ، وقوم شعيب نقص عليك من أنبائها " مما يدل على مؤاخذتهم بذنوبهم لإصرارهم عليها بعد التنبيه.

[ ص: 2829 ] ثم بين تعالى أنه أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل بقوله: ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بالبينات والدلائل القاطعة بما كذبوا من قبل " أي بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم، إذ تمرنوا على التكذيب، فلم تفدهم الآيات، واستوت عندهم الحالتان، كقوله: وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة الآية ولهذا قال: كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين أي من المذكورين وغيرهم، فلا يكاد يؤثر فيها الآيات والنذر، لما علم أنهم يختارون الثبات على الكفر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[102] وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين

" وما وجدنا لأكثرهم من عهد أي من وفاء عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين " أي: خارجين عن الطاعة مارقين، فلذلك أخذناهم.

قال الزمخشري : الضمير (للناس) على الإطلاق، أي وما وجدنا لأكثر الناس من عهد، يعني: أن أكثر الناس نقض عهد الله وميثاقه في الإيمان والتقوى، والآية اعتراض.

ويجوز أن يرجع الضمير إلى الأمم المذكورين، وأنهم كانوا، إذا عاهدوا الله في ضر ومخافة، لئن أنجيتنا لنؤمنن، ثم نجاهم، نكثوا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[103] ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين

ثم بعثنا من بعدهم " أي الرسل المتقدم ذكرهم، وهم نوح وهود وصالح ولوط [ ص: 2830 ] وشعيب ، أو الأمم المحكية من بعد هلاكهم موسى بآياتنا " وهي العصا، واليد البيضاء، والسنون، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، حسبما يأتي مفصلا إلى فرعون " وهو ملك مصر في عهد موسى وملئه " أي قومه فظلموا بها " أي كفروا بها. أجرى الظلم مجرى الكفر في تعديته بالباء، وإن كان يتعدى بنفسه، لأنهما من واد واحد. إن الشرك لظلم عظيم " ، أو هو بمعنى الكفر مجازا أو تضمينا، أي: كفروا بها واضعين الكفر غير موضعه، وهو موضع الإيمان، لأنه أوتي الآيات لتكون موجبة للإيمان بما جاء به، فعكسوا، حيث كفروا فوضعوا الشيء في غير موضعه، أو الباء سببية، ومفعوله محذوف، أي ظلموا أنفسهم بسببها، بأن عرضوها للعذاب الخالد، أو ظلموا الناس لصدهم عن الإيمان بها، والمراد به الاستمرار على الكفر بها إلى أن لقوا من العذاب ما لقوا، كما يشير له قوله تعالى: فانظر كيف كان عاقبة المفسدين أي لعقائد الخلق، أفسد الله عليهم ملكهم، وآتاه أعداءهم، فأغرقهم عن آخرهم، بمرأى من موسى وقومه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[104] وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين

" وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين أي: أرسلني إليك الذي هو خالق كل شيء وربه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[105] حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل

حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق " أي جدير بذلك وحري به، لما علمت [ ص: 2831 ] من حالي. والباء و(على) يتعاقبان، يقال: رميت بالقوس وعلى القوس. وجاء على حال حسنة وبحال حسنة. وقرأ أبي رضي الله عنه ((حقيق بأن لا أقول)) قد جئتكم ببينة من ربكم " أي آية منه تشهد على صدقي فيما جئتكم به بالضرورة. فأرسل معي بني إسرائيل " روي أنه تعالى أمره أن يأتي فرعون ويقول له: إن إلهنا أمرنا أن نسير ثلاثة أيام في البرية، ونقرب له قرابين ونعبده، وقد علم تعالى أن فرعون لا يدعهم يمضون، ولكن ليظهر آياته على يد موسى ، ويهلك عدوه. فلما أتى موسى فرعون وكلمه في أن يرسل معه قومه، أنكر أمر الرب له، وقال: لماذا نعطل الشعب عن أعماله؟ وكانوا مسخرين لفرعون في عمل اللبن، وأمر بزيادة عملهم، بأن يجمعوا التبن من أنفسهم، بعد أن كانوا يعطونه من قبل فرعون .

ثم طلب فرعون من موسى آية، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[106] قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين

" قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين
القول في تأويل قوله تعالى:

[107] فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين

فألقى عصاه " التي هي جماد فإذا هي " أي من غير سترة ولا معالجة سبب ثعبان " أي حية كبيرة هائلة، فاضت عليه الحياة لتدل على فيضان الحياة العظيمة على يديه مبين " أي ظاهر لا متخيل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[108] ونـزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين

ونـزع يده " أي أخرج يده من درعه بعدما أدخلها فيه فإذا هي بيضاء للناظرين " [ ص: 2832 ] أي بيضاء بياضا نورانيا خارجا عن العادة يجتمع عليه النظارة تعجبا من أمرها، فيدل على أنه يظهر على يديه شرائع تغلب أنوارها المعنوية الأنوار الحسية، ويتقوى بها الحياة بالله.
القول في تأويل قوله تعالى:

[109] قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم

قال الملأ من قوم فرعون " أي الأشراف الذين يكرهون شرف الغير عليهم، في دفع هذه الآيات الظاهرة عن خواطر الخلق إن هذا لساحر عليم " أي ماهر فيه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[110] يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون

يريد أن يخرجكم من أرضكم " أي من أرض مصر بسحره ليتملك عليها فماذا تأمرون " أي تشيرون في أمره. وهذا من تمام الحكاية عن قول الملأ، أو مستأنف من قول فرعون ، تقديره فقال: ماذا تأمرون؟ ويدل عليه قوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[111] قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين

قالوا أرجه وأخاه " أي أخر أمرهما وأصدرهما عنك، حتى ترى رأيك فيهما، وتدبر شأنهما، لئلا تنسب إلى الظلم الصريح.

قال أبو منصور : والأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر، وهو الهم بقتله، فقالوا أخره ليتبين حاله للناس.

وأصل " أرجه " أرجئه، كما قرئ كذلك. من (أرجأت) وأرسل في المدائن " أي مدائن الصعيد من نواحي مصر حاشرين " أي من يحشر لك السحرة ويجمعهم.

[ ص: 2833 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[112] يأتوك بكل ساحر عليم

يأتوك بكل ساحر " وقرئ ((سحار)) عليم " أي ماهر في باب السحر، ليعارضوا موسى بنظير ما أراهم من البينات.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على عظيم معجزة لموسى ، وتدل على جهل فرعون وقومه، حيث لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه غير الله تعالى، حتى نسبوه إلى السحر. وتدل على أن عادة البشر، أن من رأى أمرا عظيما أن يعارضه، فلذلك دعا فرعون بالسحرة، فدل على أن العرب لو قدروا على مثل القرآن، لعارضوه.

وتدل على أن الطريق في المعجزات، المعارضة بإتيان مثله، ولذلك قال تعالى في القرآن: فأتوا بسورة مثله ولذلك لم يتكلف فرعون وقومه غير المعارضة وإيقاع الشبه. وتدل أنهم أنكروا أمره محافظة على الملك والمال، لذلك قالوا يريد أن يخرجكم من أرضكم " فيدل على أن من أقوى الدواعي إلى ترك الدين المحافظة على الرياسة والمال والجاه، كما هو عادة الناس في هذا الزمن. انتهى.

ثم تسابقت شرط فرعون ، فحشروهم. كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[113] وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين

" وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين
القول في تأويل قوله تعالى:

[114] قال نعم وإنكم لمن المقربين

" قال نعم وإنكم لمن المقربين ولما توثقوا من فرعون .

[ ص: 2834 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[115] قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين

قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين " أي أول من ألقى، كما في الآية الأخرى، قيل: خيروا موسى إظهارا للجلادة، فلم يبالوا بتقدمه أو تأخره.

وقال الزمخشري : تخييرهم إياه أدب حسن، راعوه معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا، كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا في الجدال، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا للصراع.

القول في تأويل قوله تعالى:

[116] قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم

قال " أي: موسى لهم ألقوا " أي ما أنتم ملقون، وإنما سوغ لهم التقدم ازدراء لشأنهم، وقلة مبالاة بهم، وثقة بما كان بصدده من التأييد الإلهي، وأن المعجزة لن يغلبها سحر أبدا. فلما ألقوا سحروا أعين الناس " أي خيلوا لها ما ليس في الواقع واسترهبوهم " أي وخوفوهم وأفزعوهم بما فعلوا من السحر، كما في الآية الأخرى: فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وجاءوا بسحر عظيم " أي: في باب السحر، أو في عين من رآه، فإنه ألقى كل واحد عصاه، فصارت العصي ثعابين.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآيات على أن القوم أتوا بما في وسعهم من التمويه، وكان الزمان زمان سحر، والغالب عليهم الاشتغال به، فأتى موسى عليه السلام من جنس ما هم فيه، [ ص: 2835 ] ما لم يقدر عليه أحد، ليعلموا أنه معجز وليس بسحر. وهكذا ينبغي في المعجزات أن تكون من جنس ما هو شائع في القوم، ويتعذر عليهم مثله. وكان الطب هو الغالب في زمن عيسى ، فجاء بإحياء الميت، وإبراء الأكمه والأبرص، وليس ذلك في وسع طبيب. وكان الغالب في زمن نبينا عليه السلام الفصاحة والخطب والشعر، فجاء القرآن وتحداهم به. وتدل على أنهم بالحيل جعلوا الحبال والعصي متحركة حتى أوهموا أنها أحياء، ولكن لما وقف على أصل ما فعلوه وعلم، وكان مثله مقدورا لكل من يتعاطى صناعتهم، علم أنه شعبذة. ولهذا تتفارق المعجزة والشعبذة، أنه يوقف على أصلها، ويمكن إتيان مثلها، ويخفى أمرها، بخلاف المعجزة.

ثم قال: وتدل على اعتراف فرعون بالذل والضعف، حيث استغاث بهم وبمهنتهم لدفع مكروه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[117] وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون

وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف " أي تبتلع ما يأفكون " أي ما يلقونه ويوهمون أنه حق، وهو باطل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[118] فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون

فوقع الحق " أي: ثبت الإعجاز وبطل ما كانوا يعملون " أي من السحر لإبطال الإعجاز.
القول في تأويل قوله تعالى:

[119] فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين

فغلبوا هنالك " أي في مكان الوعد الذي اجتمع فيه أهل مصر بدعوته، لظنه غلبة السحرة وانقلبوا " أي رجعوا صاغرين " أي ذليلين.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 48.81 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 48.18 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.29%)]