عرض مشاركة واحدة
  #387  
قديم 30-01-2023, 11:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السادس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ الْبَقَرَة(373)
الحلقة (387)
صــ 116 إلى صــ 132





قال أبو جعفر : فتأويل هذه الآية على قول ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة : وإن تبدوا ما في أنفسكم من شيء من الأعمال فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم ، أو تخفوه فتسروه في أنفسكم ، فلم يطلع عليه أحد من خلقي ، أحاسبكم به ، فأغفر كل ذلك لأهل الإيمان ، وأعذب أهل الشرك والنفاق في ديني . [ ص: 116 ]

وأما على الرواية التي رواها عنه الضحاك من رواية عبيد بن سليمان عنه ، وعلى ما قاله الربيع بن أنس ، فإن تأويلها : إن تظهروا ما في أنفسكم فتعملوه من المعاصي ، أو تضمروا إرادته في أنفسكم فتخفوه ، يعلمكم به الله يوم القيامة ، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء .

وأما قول مجاهد ، فشبيه معناه بمعنى قول ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة .

وقال آخرون ممن قال : " هذه الآية محكمة ، وهي غير منسوخة " ووافقوا الذين قالوا : " معنى ذلك : أن الله - عز وجل - أعلم عباده ما هو فاعل بهم فيما أبدوا وأخفوا من أعمالهم " معناها : إن الله محاسب جميع خلقه بجميع ما أبدوا من سيئ أعمالهم ، وجميع ما أسروه ، ومعاقبهم عليه . غير أن عقوبته إياهم على ما أخفوه مما لم يعملوه ، ما يحدث لهم في الدنيا من المصائب والأمور التي يحزنون عليها ويألمون منها .

ذكر من قال ذلك :

6492 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال : حدثنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " الآية ، قال : كانت عائشة رضي الله عنها تقول : من هم بسيئة فلم يعملها ، أرسل الله عليه من الهم والحزن مثل الذي هم به من السيئة فلم يعملها ، فكانت كفارته .

6493 - حدثت عن الحسين قال سمعت أبا معاذ قال أخبرنا عبيد قال [ ص: 117 ] سمعت الضحاك يقول في قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " قال : كانت عائشة تقول : كل عبد يهم بمعصية ، أو يحدث بها نفسه ، حاسبه الله بها في الدنيا ، يخاف ويحزن ويهتم .

6494 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني أبو تميلة عن عبيد عن الضحاك قال : قالت عائشة في ذلك : كل عبد هم بسوء ومعصية ، وحدث نفسه به ، حاسبه الله في الدنيا ، يخاف ويحزن ويشتد همه ، لا يناله من ذلك شيء ، كما هم بالسوء ولم يعمل منه شيئا .

6495 - حدثنا الربيع قال : حدثنا أسد بن موسى قال : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " و ( من يعمل سوءا يجز به ) [ سورة النساء : 123 ] فقالت : ما سألني عنها أحد مذ سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا عائشة ، هذه متابعة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة ، حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع لها فيجدها في ضبنه ، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير . [ ص: 118 ]

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال : " إنها محكمة ، وليست بمنسوخة " . وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا بنفيه بآخر ، هو له ناف من كل وجوهه . وليس في قوله جل وعز : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " نفي الحكم الذي أعلم عباده بقوله : " أو تخفوه يحاسبكم به الله " . لأن المحاسبة ليست بموجبة عقوبة ، ولا مؤاخذة بما حوسب عليه العبد من ذنوبه .

وقد أخبر الله - عز وجل - عن المجرمين أنهم حين تعرض عليهم كتب أعمالهم يوم القيامة يقولون : ( يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) [ ص: 119 ] [ سورة الكهف : 49 ] . فأخبر أن كتبهم محصية عليهم صغائر أعمالهم وكبائرها ، فلم تكن الكتب - وإن أحصت صغائر الذنوب وكبائرها - بموجب إحصاؤها على أهل الإيمان بالله ورسوله ، وأهل الطاعة له ، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبين ؛ لأن الله - عز وجل - وعدهم العفو عن الصغائر باجتنابهم الكبائر فقال في تنزيله : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ) [ سورة النساء : 31 ] . فذلك محاسبة الله عباده المؤمنين بما هو محاسبهم به من الأمور التي أخفتها أنفسهم ، غير موجب لهم منه عقوبة ، بل محاسبته إياهم - إن شاء الله - عليها ، ليعرفهم تفضله عليهم بعفوه لهم عنها ، كما بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخبر الذي : -

6496 - حدثني به أحمد بن المقدام قال : حدثنا المعتمر بن سليمان قال سمعت أبي ، عن قتادة عن صفوان بن محرز عن ابن عمر عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يدني الله عبده المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه ، فيقرره بسيئاته يقول : هل تعرف ؟ فيقول : نعم ! فيقول : سترتها في الدنيا وأغفرها اليوم ! ثم يظهر له حسناته فيقول : ( هاؤم اقرءوا كتابيه ) [ سورة الحاقة : 19 ] أو كما قال وأما الكافر فإنه ينادي به على رءوس الأشهاد .

6497 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد ، وهشام وحدثني يعقوب قال : حدثنا ابن علية قال أخبرنا هشام قالا جميعا في حديثهما عن [ ص: 120 ] قتادة عن صفوان بن محرز قال : بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف ، إذ عرض له رجل فقال : يا ابن عمر ، أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى ؟ فقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه ، فيقرره بذنوبه فيقول : " هل تعرف كذا " ؟ فيقول : " رب اغفر " - مرتين - حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال : " فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم " . قال : فيعطى صحيفة حسناته - أو : كتابه - بيمينه ، وأما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رءوس الأشهاد : ( هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ) . [ سورة هود : 18 ] . [ ص: 121 ]

أن الله يفعل بعبده المؤمن من تعريفه إياه سيئات أعماله ، حتى يعرفه تفضله عليه بعفوه له عنها . فكذلك فعله - تعالى ذكره - في محاسبته إياه بما أبداه من نفسه وبما أخفاه من ذلك ، ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرمه عليه ، فيستره عليه . وذلك هو المغفرة التي وعد الله عباده المؤمنين فقال : " فيغفر لمن يشاء " .

قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فإن قوله : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " ينبئ عن أن جميع الخلق غير مؤاخذين إلا بما كسبته أنفسهم من ذنب ، ولا مثابين إلا بما كسبته من خير ؟

قيل : إن ذلك كذلك ، وغير مؤاخذ العبد بشيء من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله ، أو ترك ما أمر بفعله .

فإن قال : فإذ كان ذلك كذلك ، فما معنى وعيد الله - عز وجل - إيانا على ما أخفته أنفسنا بقوله : " ويعذب من يشاء " إن كان لها ما كسبت وعليها [ ص: 122 ] ما اكتسبت ، وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا - : من هم بذنب ، أو إرادة لمعصية - لم تكتسبه جوارحنا ؟

قيل له : إن الله - جل ثناؤه - قد وعد المؤمنين أن يعفو لهم عما هو أعظم مما هم به أحدهم من المعاصي فلم يفعله ، وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبائرها ، وإنما الوعيد من الله - عز وجل - بقوله : " ويعذب من يشاء " على ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله ، والمرية في وحدانيته ، أو في نبوة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من عند الله ، أو في المعاد والبعث - من المنافقين ، على نحو ما قال ابن عباس ومجاهد ، ومن قال بمثل قولهما إن تأويل قوله : " أو تخفوه يحاسبكم به الله " على الشك واليقين .

غير أنا نقول إن المتوعد بقوله : " ويعذب من يشاء " هو من كان إخفاء نفسه ما تخفيه الشك والمرية في الله ، وفيما يكون الشك فيه بالله كفرا والموعود الغفران بقوله : " فيغفر لمن يشاء " هو الذي إخفاء ما يخفيه الهمة بالتقدم على بعض ما نهاه الله عنه من الأمور التي كان جائزا ابتداء تحليله وإباحته ، فحرمه على خلقه - جل ثناؤه - أو على ترك بعض ما أمر الله بفعله ، مما كان جائزا ابتداء إباحة تركه ، فأوجب فعله على خلقه . فإن الذي يهم بذلك من المؤمنين - إذا هو لم يصحح همه بما يهم به ، ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك [ ص: 123 ] بالتقدم عليه - لم يكن مأخوذا به ، كما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :

6498 - " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه " .

فهذا الذي وصفنا هو الذي يحاسب الله به مؤمني عباده ، ثم لا يعاقبهم عليه . فأما من كان ما أخفته نفسه شكا في الله وارتيابا في نبوة أنبيائه ، فذلك هو الهالك المخلد في النار الذي أوعده - جل ثناؤه - العذاب الأليم بقوله : " ويعذب من يشاء " .

قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : " وإن تبدوا ما في أنفسكم " أيها الناس ، فتظهروه " أو تخفوه " فتنطوي عليه نفوسكم " يحاسبكم به الله " فيعرف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه ومغفرته له فيغفره له ، ويعذب منافقكم على الشك الذي انطوت عليه نفسه في وحدانية خالقه ونبوة أنبيائه .
القول في تأويل قوله تعالى ( والله على كل شيء قدير ( 284 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : والله - عز وجل - على العفو عما أخفته نفس هذا المؤمن من الهمة بالخطيئة ، وعلى عقاب هذا الكافر على ما أخفته نفسه من الشك في توحيد الله - عز وجل - ونبوة أنبيائه ، ومجازاة كل واحد منهما على كل ما كان منه ، وعلى غير ذلك من الأمور قادر .
[ ص: 124 ] القول في تأويل قوله تعالى ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : صدق الرسول يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقر " بما أنزل إليه " يعني : بما أوحي إليه من ربه من الكتاب ، وما فيه من حلال وحرام ، ووعد وعيد ، وأمر ونهي ، وغير ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها .

وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية عليه قال : يحق له .

6499 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية قال : ويحق له أن يؤمن .

وقد قيل : إنها نزلت بعد قوله : " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير " لأن المؤمنين برسول الله من أصحابه شق عليهم ما توعدهم الله به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم ، فشكوا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لعلكم تقولون : " سمعنا وعصينا " كما قالت بنو إسرائيل ! فقالوا : [ ص: 125 ] بل نقول : " سمعنا وأطعنا " ! فأنزل الله لذلك من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقول أصحابه : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله " يقول : وصدق المؤمنون أيضا مع نبيهم بالله وملائكته وكتبه ورسله ، الآيتين . وقد ذكرنا قائلي ذلك قبل .

قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة قوله : " وكتبه " .

فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض قرأة أهل العراق ( وكتبه ) على وجه جمع " الكتاب " على معنى : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وجميع كتبه التي أنزلها على أنبيائه ورسله .

وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة : ( وكتابه ) ، بمعنى : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وبالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - .

وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك : " وكتابه " ويقول : الكتاب أكثر من الكتب . وكأن ابن عباس يوجه تأويل ذلك إلى نحو قوله : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر ) [ سورة العصر : 1 - 2 ] ، بمعنى جنس " الناس " وجنس " الكتاب " كما يقال : " ما أكثر درهم فلان وديناره " ويراد به جنس الدراهم والدنانير . وذلك وإن كان مذهبا من المذاهب معروفا ، فإن الذي هو أعجب إلي من القراءة في ذلك أن يقرأ بلفظ الجمع ؛ لأن الذي قبله جمع ، والذي بعده كذلك - أعني بذلك : " وملائكته وكتبه ورسله " - فإلحاق " الكتب " في الجمع لفظا به ، أعجب إلي من توحيده وإخراجه في اللفظ به بلفظ الواحد ، ليكون لاحقا في اللفظ والمعنى بلفظ ما قبله وما بعده ، وبمعناه .
[ ص: 126 ] القول في تأويل قوله تعالى ( لا نفرق بين أحد من رسله )

قال أبو جعفر : وأما قوله : " لا نفرق بين أحد من رسله " فإنه أخبر - جل ثناؤه - بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك . ففي الكلام في قراءة من قرأ : " لا نفرق بين أحد من رسله " بالنون ، متروك ، قد استغني بدلالة ما ذكر عنه . وذلك المتروك هو " يقولون " . وتأويل الكلام : والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، يقولون : لا نفرق بين أحد من رسله . وترك ذكر " يقولون " لدلالة الكلام عليه ، كما ترك ذكره في قوله : ( والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم ) [ سورة الرعد : 23 - 24 ] ، بمعنى : يقولون : سلام .

وقد قرأ ذلك جماعة من المتقدمين : ( لا نفرق بين أحد من رسله ) ب " الياء " بمعنى : والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا يفرق الكل منهم بين أحد من رسله ، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض ، ولكنهم يصدقون بجميعهم ، ويقرون أن ما جاءوا به كان من عند الله ، وأنهم دعوا إلى الله وإلى طاعته ، ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقروا بموسى وكذبوا عيسى ، والنصارى الذين أقروا بموسى وعيسى وكذبوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وجحدوا نبوته ، ومن أشبههم من الأمم الذين كذبوا بعض رسل الله ، وأقروا ببعضه ، كما : -

6500 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد : " لا نفرق بين أحد من رسله " كما صنع القوم - يعني بني إسرائيل - قالوا : فلان نبي ، وفلان ليس نبيا ، وفلان نؤمن به ، وفلان لا نؤمن به .

قال أبو جعفر : والقراءة التي لا نستجيز غيرها في ذلك عندنا بالنون : [ ص: 127 ] " لا نفرق بين أحد من رسله " لأنها القراءة التي قامت حجتها بالنقل المستفيض الذي يمتنع معه التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط بمعنى ما وصفنا من : يقولون لا نفرق بين أحد من رسله ولا يعترض بشاذ من القراءة على ما جاءت به الحجة نقلا ووراثة .
القول في تأويل قوله تعالى ( وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ( 285 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : وقال الكل من المؤمنين : " سمعنا " قول ربنا وأمره إيانا بما أمرنا به ، ونهيه عما نهانا عنه " وأطعنا " يعني : أطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه ، واستعبدنا به من طاعته ، وسلمنا له وقوله : " غفرانك ربنا " يعني : وقالوا : " غفرانك ربنا " بمعنى : اغفر لنا ربنا غفرانك ، كما يقال : " سبحانك " بمعنى : نسبحك سبحانك .

وقد بينا فيما مضى أن " الغفران " و " المغفرة " الستر من الله على ذنوب من [ ص: 128 ] غفر له ، وصفحه له عن هتك ستره بها في الدنيا والآخرة ، وعفوه عن العقوبة - عليه .

وأما قوله : " وإليك " المصير " فإنه يعني - جل ثناؤه - أنهم قالوا : وإليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا ، فاغفر لنا ذنوبنا .

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فما الذي نصب قوله : " غفرانك " ؟

قيل له : وقوعه وهو مصدر موقع الأمر . وكذلك تفعل العرب بالمصادر والأسماء إذا حلت محل الأمر ، وأدت عن معنى الأمر نصبتها ، فيقولون : " شكرا لله يا فلان " و " حمدا له " بمعنى : اشكر الله واحمده . " والصلاة ، الصلاة " بمعنى صلوا . ويقولون في الأسماء : " الله الله يا قوم " ولو رفع بمعنى هو الله ، أو هذا الله - ووجه إلى الخبر وفيه تأويل الأمر كان جائزا ، كما قال الشاعر :


إن قوما منهم عمير وأشبا ه عمير ومنهم السفاح لجديرون بالوفاء إذا قا
ل أخو النجدة : السلاح السلاح ! !


ولو كان قوله : " غفرانك ربنا " جاء رفعا في القراءة ، لم يكن خطأ ، بل كان صوابا على ما وصفنا .

وقد ذكر أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثناء من [ ص: 129 ] الله عليه وعلى أمته ، قال له جبريل - صلى الله عليه وسلم - : إن الله - عز وجل - قد أحسن عليك وعلى أمتك الثناء ، فسل ربك .

6501 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا جرير عن بيان ، عن حكيم بن جابر قال : لما أنزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " قال جبريل : إن الله - عز وجل - قد أحسن الثناء عليك ، وعلى أمتك ، فسل تعطه ! فسأل : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " إلى آخر السورة .
القول في تأويل قوله تعالى ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : لا يكلف الله نفسا فيتعبدها إلا بما يسعها ، فلا يضيق عليها ولا يجهدها . [ ص: 130 ]

وقد بينا فيما مضى قبل أن " الوسع " اسم من قول القائل : " وسعني هذا الأمر " مثل " الجهد " و " الوجد " من : " جهدني هذا الأمر " و " وجدت منه " كما : -

6502 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس قوله : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " قال : هم المؤمنون ، وسع الله عليهم أمر دينهم ، فقال الله - جل ثناؤه - : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [ سورة الحج : 78 ] ، وقال : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) [ سورة البقرة : 185 ] ، وقال : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) [ سورة التغابن : 16 ] .

6503 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج عن الزهري ، عن عبد الله بن عباس قال : لما نزلت ، ضج المؤمنون منها ضجة وقالوا : يا رسول الله ، هذا نتوب من عمل اليد والرجل واللسان ! كيف نتوب من الوسوسة ؟ كيف نمتنع منها ؟ فجاء جبريل - صلى الله عليه وسلم - بهذه الآية " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " إنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة .

6504 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " وسعها طاقتها . وكان حديث النفس مما لم يطيقوا .
[ ص: 131 ] القول في تأويل قوله تعالى ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت )

قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " لها " للنفس التي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها . يقول : لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير " وعليها " يعني : وعلى كل نفس " ما اكتسبت " ما عملت من شر ، كما : -

6505 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت " أي : من خير " وعليها ما اكتسبت " أي : من شر - أو قال : من سوء .

6506 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط . عن السدي . " لها ما كسبت " يقول : ما عملت من خير " وعليها ما اكتسبت " يقول : وعليها ما عملت من شر .

6507 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن قتادة مثله .

6508 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج عن الزهري عن عبد الله بن عباس : " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " عمل اليد والرجل واللسان .

قال أبو جعفر : فتأويل الآية إذا : لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها فلا يجهدها ، ولا يضيق عليها في أمر دينها ، فيؤاخذها بهمة إن همت ، ولا بوسوسة إن عرضت لها ، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها .
[ ص: 132 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا )

قال أبو جعفر : وهذا تعليم من الله - عز وجل - عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه ، وما يقولونه في دعائهم إياه . ومعناه : قولوا : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا " شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله " أو أخطأنا " في فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه ، على غير قصد منا إلى معصيتك ، ولكن على جهالة منا به وخطأ ، كما : -

6509 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " إن نسينا شيئا مما افترضته علينا أو أخطأنا ، [ فأصبنا ] شيئا مما حرمته علينا .

6510 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، قال : بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الله - عز وجل - تجاوز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.64 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.01 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.38%)]