
31-01-2023, 03:44 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة :
|
|
رد: أداء الأمانة فرقان بين الأحياء والأموات وبين المحسنين والمخسرين
وما فهمه بعض خيار الصحابة رضي الله عنهم فكفوا أيديهم، مثل عبدالله بن عمر إذ سئل: يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، مَا تَقُولُ فِي الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ وَاللَّهُ يَقُولُ: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [البقرة: 193]؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَدْرِي مَا الفِتْنَةُ ثَكَلَتْكَ أمُّكَ؟! إِنَّمَا كَانَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ الدُّخُولُ فِي دِينِهِمْ فِتْنَةً، وَلَيْسَ بِقِتَالِكُمْ عَلَى المُلْك.
وما روي بسند صحيح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قام فحمد الله، ثم قال: يا أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ الناسَ إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك أن يعُمَّهم بعقابه)).
إن الفتن قد تنتاب المؤمن كل حين؛ لأنها في حقيقتها اختبار حتمي في الحياة الدنيا؛ لقوله تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2، 3] وهي في ساعات الرخاء والجِدَةِ والقوة والثقة بالنفس أشد وقعًا، وقد نزلت آية التحذير هذه منها عقب النصر في غزوة بدر وتوزيع غنائمها، وبُدُوِّ الاعتزاز والتفاخر بمنجزاتها بين بعض المقاتلين؛ مما كاد يُهدِّد الصفَّ المسلم بنسيان واقعهم وأهدافهم وما يعده لهم عدوُّهم؛ ولذلك بعد أن حذَّرهم الحق من الفتن واصَلَ تأديبهم فذكرهم - حثًّا لهم على الشكر ولزوم الإخلاص - بما كانوا عليه من ضعف ومهانة في مكة بين المشركين، وما آل إليه حالهم من عِزٍّ وقوة ووفرة بعد بدر، وقال لهم: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ ﴾ قليل عددكم مستضعفون لا يهابكم أحد في الأرض كلها، وفي مكة بين قريش والعرب خاصة ﴿ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ﴾ في مكة والجزيرة؛ لضعفكم وفقركم وقلتكم وما نالكم من اضطهاد وهوان ﴿ فَآوَاكُمْ ﴾ في المدينة بين الأوس والخزرج يحمونكم ويقاسمونكم طعامهم وشرابهم ومساكنهم ﴿ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ﴾ في بدر على جيش قريش البالغ عدده ثلاثة أضعاف عددكم ﴿ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾ غنائم ومغانم ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ هذه النعم التي ساقها الله لكم كي تذكروها وتشكروها ولا تكفروها.
ثم عزَّز الحق تعالى تحذيره من الفتن وكفران النعم التي يستدرج إليها المرء غفلة أو نسيانًا ولو كان سليم الإيمان صافي النية، بالتحذير من أخطر آفة تمحق الإيمان أو تكاد، هي آفة الخيانة، فقال عز وجل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾.
ولفظ "الخيانة" جذره اللُّغوي هو مادة "خون"، يقال: خان يخون خونًا وخيانة وخانة ومخانة. فيه الخاء والواو والنون أصل واحد معناه التنقص والضعف، يقال: في ظهره خَوَن؛ أي: ضعف، وخان السيف: إذا نبا عن الضربة، وخانه الدهر: إذا تغيَّر حاله إلى الشر.
ثم لما نزل القرآن نقل لفظ "الخيانة" إلى معناها المصطلحي المتضمن للغدر والكذب والتفريط في الأمانة وتزييف الحق وتزوير الوقائع والتجسس وكشف عورات المسلمين بالقول والعمل والإشارة والعبارة، وهي الصفات التي تحدد معالم شخصية مريضة حاقدة مضطربة، دنيئة لئيمة، تُطْرَدُ من الصف المسلم إن تعذَّر تقويمُها وإصلاحُها، قال عدي بن زيد العبادي:
يَأْبى لِيَ اللهُ خَوْنَ الأَصْفِيَاءِ وَإِنْ 
خَانوا وِدَادي لأَنِّي حَاجِزِي كَرَمِي
كما أطلق لفظ "الخائن" صفة لمن يؤتمن فلا يفي، والذي يستشار فلا يشير بصواب وهو يعرفه، والذي يستنصح فلا ينصح، ولناقض العهد ومبيت الغدر، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [الأنفال: 71]، ومنه قيل: للنظر بريبة إلى ما لا يحلُّ للمرء النظر إليه: "خائنة الأعين"، بزيادة التاء للمبالغة مثل "نسَّابة"، كما في قوله تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [غافر: 19]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن تكون له خائنة الأعين))، ولئن اشتبهت الخيانة بالنفاق أحيانًا فإنهما في جوهرهما شيء واحد يتداخلان في مواطن كثيرة، إلا أن الخيانة تُقال باعتبار العهد والأمانة، والنفاق يُقال باعتبار العقيدة.
إن الخيانة لغةً واصطلاحًا وعُرفًا آفةٌ تأباها النفوس الحُرَّة، وتترفَّع عنها العقول الراجحة الأبيَّة؛ لأنها تركس الأخلاق الفردية والجماعية في الخلل والفساد، إذا ظهرت في الصديق سقطت صداقته، أو في الأمين سقطت أمانته، أو الشريك سقطت شركته، أو في الرفيق سقطت رفقته، أو في الدولة أسرع إليها الخراب؛ بل إن القرآن الكريم قد حرَّم مجرد المجادلة عن الخائن أو الدفاع عنه بالباطل لتبرئته، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴾ [النساء: 107]، كما حرم أن يجازى الخائن بالخيانة، فقال تعالى: ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ﴾ [الأنفال: 58]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ من خانك))، وقال: ((المؤمنُ يطبعُ على الخلالِ كلِّها إِلَّا الخيانةَ والكذبَ))، وفي الصحيح عن أبي مسعود البدري قال: "بعثني النبي صلى الله عليه وسلم ساعيًا، ثم قال: ((انطلق أبا مسعود ولا أُلْفِينَّكَ يوم القيامة تجيءُ على ظهرك بعيرٌ من إبل الصَّدَقة له رُغاء قد غَلَلْتَه))، قال: إذًا لا أنطلِق، قال: ((إذًا لا أُكْرِهُكَ)).
ولذلك فصَّل القرآن أصناف الخيانة تقريبًا للفهم والاستيعاب، وتنبيهًا للغافلين وتقريعًا للمُصرِّين، وتحذيرًا للسالكين الصادقين، وجعلها ثلاثة أصناف هي: خيانة الله، وخيانة الرسول صلى الله عليه وسلم، وخيانة الأمانة، ثم بيَّن في آية أخرى صنفًا رابعًا هو أصلها ومنبتها والمتضرر بها، وهو من يمارسها وكانت له خلقًا بقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴾ [النساء: 107]، وقوله سبحانه: ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾ [البقرة: 187]، وعدَّ الخيانة أيًّا كانت دوافعها وبأصنافها الثلاثة قتلًا معنويًّا للنفس بقوله عز وجل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29]؛ لأنها خيانة واحدة حقيقتها ظلم وبغي يمارسه الخائن في حق نفسه، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ [يونس: 23]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمع الإيمان والكفر في قلب امرئ، ولا يجتمع الكذب والصدق جميعًا، ولا تجتمع الخيانة والأمانة)) [7]، ولأن أصنافها كالأواني المستطرقة يؤول ضررها كلها إلى صاحبها وحده، هو المتضرر بها والمحاسب عليها؛ إذ خيانة النفس خيانة لله وللرسول وللأمانة، وكذلك خيانة الله وخيانة الرسول وخيانة الأمانة خيانة للنفس، وما تفصيلها بقوله تعالى: ﴿ لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ ﴾ إلا للتوضيح والتحذير والتنبيه والحث على اجتنابها والبُعْد عن مصادرها ومواردها؛ وذلك لأن خيانة المرء لله تعالى تتمثَّل أوَّل ما تتمثَّل في الكفر والشرك؛ لأنهما رأس الموبقات، كما أنها داخل الصفِّ المسلم يُجسِّدها النفاقان العقدي والعملي، وهما إظهار الإيمان والعمل الصالح، وإسرار الشرك والرياء وخيانة عهد الله تعالى، وخيانة المرء للرسول صلى الله عليه وسلم هي عدم الامتثال لأمره ونهيه، وعدم الاقتداء به والتأسِّي بهديه، وإدخال البدعة في سُنَّته، وخيانة الأمانة هي الانتقاص من الشريعة أو العقيدة بتحريفهما أو التنقص منهما أو إنكارهما أو تأويل نصوصهما تأويلًا ضالًّا أو مغرضًا، وأكثر ما يكون ذلك في المقربين من السلطان الذين يفتون له بغير الحق أو يعينونه على الظلم؛ ولذلك حذَّر الحق تعالى من الركون إلى الظلمة أو القرب منهم والتقرُّب إليهم، فقال: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [هود: 113]، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه ابن عباس: ((مَنْ سَكَنَ الْبَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أَتَى السُّلْطَانَ افْتُتِنَ))، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ: ((مَنْ لَزِمَ السُّلْطَانَ افْتُتِنَ، وَمَا ازْدَادَ عَبْدٌ مِنَ السُّلْطَانِ دُنُوًّا إِلَّا ازْدَادَ من اللَّهِ بُعْدًا))، وكل ذلك في حقيقة الأمر خيانة للنفس؛ لأنه يوردها موارد الهلاك.
ثم عقب عز وجل بذكر أخطر ما يركس في الخيانة مذكِّرًا وآمِرًا، فقال: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾، فلم تبق بعد هذه الآية حجة للذين يفتنون فيسقطون في الخيانة حماية لأبنائهم أو حفاظًا وتنمية لأموالهم، يؤكد ذلك أن أهم فتنة خلخلت الصف في بَدْر كانت حول قسمة مغانمها لولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قسمها بينهم بما أمره الله به فوقاهم الله شرَّها، ومن عجيب أن أهم خيانتين وقعتا بعدها في الصفِّ المسلم كانتا بسبب مصالح يَرُبُّها من تورَّط فيها لدى المشركين، ففي غزوة بني قريظة وقد انتهت باستسلامهم بشرط التحكيم وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، لنستشيره في أمرنا، وكان أبو لبابة حليفًا لهم؛ بل روي أنه كان قد وضع ماله وولده عندهم، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه، فرَقَّ لهم، وقالوا له: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقه؛ أي: إنه الذبح. قال أبو لبابة: "فوالله، ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم"، ثم انطلق على وجهه، ولم يأتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليَّ مما صنعت، وعاهد الله ألَّا يطأ بني قريظة أبدًا، وألا يُرى في بلد خان الله ورسوله فيه أبدًا، وقال: "والله لا أَذُوقُ طعامًا ولا شَرَابًا حتى أمُوتَ، أوْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ، وَمَكَثَ سَبْعَةَ أيام حتى خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيهِ، قال ابن إسحاق: فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره، وكان قد استبطأه، قال: أما إنه لو جاءني لاستغفرت له، فأمَّا إذ قد فعل ما فعل، فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، ثم تاب الله عليه، فنزل قوله تعالى: ﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 102]، فقال أبو لبابة: إِنَّ من تَمام تَوْبَتِي أن أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الّتِي أصَبْتُ فيها الذَّنْب، وأن أنخَلِعَ من مالي، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((يَجْزِيكَ الثُّلثُ أنْ تَتَصَّدَّقَ بِه))[8].
وبعدها كانت خيانة حاطب بن أبي بلتعة وقد قال عنها ابن إسحاق: (لَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا إِلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِالَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَمْرِ فِي السَّيْرِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً وَجَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تُبَلِّغَهُ قُرَيْشًا، فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا، ثُمَّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا، ثم خرجت به، وأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ، فَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ والزُّبير بْنَ الْعَوَّامِ وقَالَ لهما: ((أَدْرِكَا امْرَأَةً قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ بِكِتَابٍ إِلَى قُرَيْشٍ يُحَذِّرُهُمْ مَا قَدْ أَجْمَعْنَا له من أمرهم))، فخرجا حتى أدركاها فَاسْتَنْزَلَاهَا، والْتَمَسَاهُ فِي رَحْلِهَا، فَلَمْ يَجِدَا فِيهِ شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا عَلِيٌّ: إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا كُذِبْنَا، وَلَتُخْرِجِنَّ لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنَّكِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ مِنْهُ قَالَتْ: أَعْرِضْ، فَأَعْرَضَ، فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا، فَاسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْهَا، فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ، فَأَتَى بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاطِبًا، فَقَالَ: يَا ((حَاطِبُ، مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟))، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، مَا غَيَّرْتُ وَلَا بدَّلْتُ؛ ولكنني كنتُ امرأً لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ مِنْ أَصْلٍ وَلَا عَشِيرَةٍ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَلَدٌ وَأَهْلٌ، فَصَانَعْتُهُمْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخطَّاب: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ نَافَقَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ، لَعَلَّ الله قد اطَّلع على أَصْحَابِ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لكم))، وأنزل الله في حاطبٍ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ ﴾ [الممتحنة: 1].
ثم عقب الحق تعالى بعد التحذير من الخيانة والتنفير من إيثار الأموال والأهل والولد على الإخلاص لله والرسول وأداء الأمانة، بقوله عز وجل: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾؛ أي: أعرضوا عن فتن الدنيا ومكاسبها، واسعوا إلى ما عند الله، واجعلوا همَّكم رضاه، ولا تفوتوا أجره العظيم بإيثاركم الأموال أو الأولاد على الصِّدْق والإخلاص وأداء الأمانة، ثم فصل عز وجل هذا الأجر العظيم فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ وهم الرعيل الأول من المؤمنين مهاجرين وأنصارًا، وجميع المؤمنين في كل مصر وعصر إلى يوم الدين ﴿ إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ ﴾ فتستجيبوا لدعوة الله وتخلصوا الإيمان بالله والطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وتحفظوا أمانة الله ووديعته عندكم ﴿ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ﴾ ينر بصيرتكم، ويجعل لكم نورًا في قلوبكم وفهمًا في عقولكم تُميِّزون به الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والحلال من الحرام، والمحكم من المتشابه، ﴿ وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ ويُبدِّل سيئاتهم من غير الكبائر حسنات؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70]، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مُكفِّرات لما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر))، ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ ويمحو بفضله العظيم كبائر ذنوبكم؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [آل عمران: 31] [9].
[1] الشِّرَّةُ بكسر الشين وفتح الراء مشددة: الحِدّة.
[2] ذو المجاز من أسواق العرب الأدبية في الجاهلية، كانت العرب بعد فراغها من سوق مَجنَّة تنتقل إليه؛ لقربه من جبل عرفات ينتظرون فيه حتى يحين موسم الحج فيدخلون مكة للحج.
[3] المستدرك على الصحيحين للحاكم، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَاد.
[4] تمام الحديث: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: فَقَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ أَزْهَرُ، وَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، وَسِرَاجُهُ فِيهِ نُورُهُ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبُوطٌ عَلَى غِلَافِهِ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ، وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ، وَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ، عَرَفَ ثُمَّ أَنْكَرَ، وَقَلْبٌ مُصَفَّحٌ، وَذَلِكَ قَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا مَاءٌ طَيِّبٌ، وَمَثَلُ النِّفَاقِ كَمَثَلِ الْقُرْحَةِ يَمُدُّهَا الْقَيْحُ وَالدَّمُ، فَأَيُّ الْمَادَّتَيْنِ غَلَبَتْ صَاحِبَتَهَا غَلَبَتْ عَلَيْهِ)).
[5] الشُّرُف: جمعُ شارِف، وهي الناقة المُسِنَّة السمينة، والجون: السوداء، شبه الفتن في تتابع ورودها واتصالها ببعضها وطول مددها وبطء انكشافها بمسيرة النوق السوداء السمينة المسنَّة.
[6] حسن صحيح، الألباني.
[7] صحيح الإسناد.
[8] أخرجه عن قتادة مرسلًا ابن جرير في التفسير، وعزاه السيوطي في الدر المنثور لسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن جرير.
[9] لفظ المغفرة على أرجح الأقوال أكمل من لفظ: التكفير؛ ولهذا كانت المغفرة للكبائر، وكان التكفير لما دونها.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|