رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان

شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 606الى صــ 615
(37)
المجلد الثانى
كتاب الصيام
(7)

680 - لما روى شعبة, عن جعدة, عن أم هانئ وهي جدته.
وفي لفظ: قال شعبة: كنت أسمع سماك بن حرب يقول: أحد بني أم هانئ حدثني, فلقيت أنا أفضلهما, وكان اسمه جعدة, وكانت أم هانئ جدته, فذكره عن جدته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها, فدعا بشراب فشرب, ثم ناولها فشربت, وقالت: يا رسول الله! أما إني كنت صائمة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصائم المتطوع أمير نفسه, إن شاء صام, وإن شاء أفطر».
وفي رواية: قلت له: سمعته من أم هانئ؟ قال: لا. حدثنيه أبو صالح وأهلنا عن أم هانئ.
رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: في إسناده مقال.

وفي رواية لأحمد والنسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح.
ورووه أيضاً من حديث سماك بن حرب, عن ابن أم هانئ, عن أم هانئ.
وفي لفظ: سمعه منها.
وفي لفظ: عن هارون ابن بنت أم هانئ أو ابن ابن أم هانئ عن أم هانئ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب شراباً, فناولها لتشرب, فقالت: إني صائمة, ولكن كرهت أن أرد سؤرك. فقال: «إن كان قضاء من رمضان؛ فاقضي يوماً مكانه, وإن كان تطوعاً؛ فإن شئت فاقضي, وإن كان تطوعاً؛ فإن شئت فاقضي, وإن شئت فلا تقضي».
قال النسائي: اختلف فيه على سماك, وسماك ليس ممن يعتمد عليه إذا انفرد بالحديث.
ورواه أحمد وأبو داوود: عن يزيد بن أبي زياد, عن عبد الله بن الحارث, عن أم هانئ؛ قالت: لما كان يوم الفتح؛ فتح مكة؛ جاءت فاطمة, فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأم هانئ عن يمينه. قالت: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب, فناولته فشرب منه, ثم ناوله أم هانئ فشربت منه, فقالت: يا رسول الله! لقد أفطرت وكنت صائمة. فقال لها: «أكنت تقضين شيئاً؟». قالت: لا. قال: «فلا يضرك إن كان تطوعاً».
فقد عاد الحديث إلى إسنادين:

أحدهما: رواته أهل بيت أم هانئ عنها, رواه عنهم شعبة وسماك, ولم ينفرد به سماك.
والثاني: رواته عبد الله بن الحارث.
وأهل البيت [عدة] نفر, منهم أبو صالح؛ فروايتهم أوكد من رواية الواحد, ورواية ذريتها عنهم دليل على ثقتهم وأمانتهم.
فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح في رمضان, ولا يجوز أن تكون صائمة في رمضان عن قضاء ولا تطوع.
681 - قيل: «النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة ليلة بعد الفتح, وهذه الأيام كلها تسمى أيام الفتح». . . . .
ولا يجوز أن يعتقد أنها أفطرت ناسية؛ لأنها أخبرت أنها كانت صائمة, وإنما كرهت أن ترد سؤر النبي صلى الله عليه وسلم, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن التطوع لا قضاء فيه بحال, وأنه إن كان قضاء من رمضان؛ فعليها القضاء, ولأنه لم يقل: فالله أطعمك وسقاك.
682 - وأيضاً [روى] طلحة بن يحيى, عن عائشة بنت طلحة, عن عائشة؛ قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم, فقال: «هل عندكم من شيء؟». فقلنا: لا. فقال: «فإني إذاً صائم». ثم أتانا يوماً آخر, فقلنا: يا رسول الله! أهدي لنا حيس. فقال: «أرينيه؛ فلقد أصبحت صائماً». فأكل. رواه الجماعة إلا البخاري.

زاد النسائي: ثم قال: «إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة؛ فإن شاء أمضاها, وإن شاء حبسها».
وفي لفظ له: قال: «يا عائشة! إنما بمنزلة من صام في غير رمضان أو في قضاء رمضان أو في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة من ماله, فجاد منها بما شاء فأمضاه, وبخل منها بما شاء فأمسكه».
وفي رواية لمسلم؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: «يا عائشة! هل عندكم شيء؟». قالت: فقلت: يا رسول الله! ما عندنا شيء. قال: «فإني إذاً صائم». قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأهديت لنا هدية (أو: جاءنا زور). قالت: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قلت: أهديت لنا هدية (أو: جاءنا زور) , وقد خبأت لك شيئاً. قال: «ما هو؟». قلت: حيس. قال: «هاتيه». فجئت به, فأكل, ثم قال: «قد كنت أصبحت صائماً». قال طلحة: فحدثت مجاهداً بهذا الحديث, فقال: ذلك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله؛ فإن شاء أمضاها, وإن شاء أمسكها.
والحيس: تمر وسمن وأقط يطبخ.
قال الشاعر:

التمر والسمن جميعاً والقط الحيس إلا أنه لم يختلط
فهذا نص في جواز الإِفطار بعد إِجماع الصيام.
683 - وعن عكرمة؛ قال: قالت عائشة: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: «هل عندكم شيء؟». فقلت: لا. فقال: «إني إذاً أصوم». ودخل يوماً آخر, فقال: «هل عندكم شيء؟». قلت: نعم. قال: «إذاً أطعم, وإن كنت فرضت الصوم». رواه الدارقطني وقال أيضاً: إسناد حسن صحيح.
684 - وعن أبي جحيفة؛ قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء, فزار سلمان أبا الدرداء, فرأى أم الدرداء متبذلة, فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء, فصنع له طعاماً, فقال: كل؛ فإني صائم. فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل فلما كان الليل؛ ذهب أبو الدرداء يقوم. قال: نم. فنام, ثم ذهب يقوم, فقال: نم. فلما كان من آخر الليل؛ فقال: قم الآن. فصلَّيا, فقال له سلمان: إن لربك عليك حقّاً, ولنفسك عليك حقّاً, ولأهلك عليك حقّاً؛ فأعط لكل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق سلمان». رواه البخاري.
فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم سلمان على تفطير أبي الدرداء ولم يأمره بالقضاء.
685 - وعن سالم؛ قال: صنع عطاء طعاماً, فأرسل إلى سعيد بن جبير, فأتاه, فقال: إني صائم. فحدثه بحديث سلمان أنه أفطر أبا الدرداء, فأفطر. رواه البغوي.

686 - وعن عمرو, عن سعيد؛ قال: «لأن أضرب بالخناجر أحب إليَّ من أن أفطر من تطوع بالنهار». رواه سعيد البغوي.
فقد رجع سعيد إلى حديث سلمان هذا, وهو ممن روى حديث عائشة وحفصة.
687 - وعن جويرية بنت الحارث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على جويرية في يوم جمعة وهي صائمة, فقال لها: «أصمت أمس؟». قالت: لا. قال: «أتصومين غداً؟». قالت: لا. قال: «فأفطري». رواه الجماعة إلى مسلماً وابن ماجه والترمذي.
688 - ورواه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو.
إلا أن هذين الحديثين إنما يدلان على الفطر في موضع يكون الصوم مكروهاً؛ كإفراد يوم الجمعة, وسرد الصوم الذي يضعف به حقوق أهله, ونحو ذلك.
وأيضاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في شهر رمضان هو وأصحابه وهو مسافر بعد أن أصبحوا صياماً لما كان جائزاً لهم ترك الصوم؛ فلن يجوز الفطر في صيام التطوع أولى وأحرى.
وأيضاً؛ فإنه إجماع ذكرناه عن سلمان وأبي الدرداء.
689 - وعن الحارث, عن علي؛ قال: «إذا أصبحت وأنت تريد الصيام؛ فأنت بالخيار: إن شئت صمت, وإن شئت أفطرت؛ إلا أن تفرض الصيام عليك من الليل». [يعني والله أعلم بالنذر]

690 - وعن عبد الله: «متى أصبحت وأنت تريد الصوم؛ فأنت على خير النظرين: إن شئت صمت, وإن شئت أفطرت».
وفي رواية عنه؛ قال: «أحدكم بأخير الفطرين ما لم يأكل أو يشرب».
691 - وعن عكرمة, عن ابن عباس؛ قال: «الصائم بالخيار: إن شاء صام, وإن شاء أفطر».
692 - وعن عطاء, عن ابن عباس؛ قال: «إذا صام الرجل تطوعاً, ثم شاء أن يقطعه؛ قطعه, وإذا دخل في صلاة تطوعاً, ثم شاء أن يقطعها؛ قطعها, وإذا طاف بالبيت تطوعاً, ثم شاء أن يقطعه؛ قطعه, غير أنه لا ينصرف إلا على وتر خمساً أو ثلاثاً أو شوطاً, وإذا أخرج الرجل صدقة تطوعاً, ثم شاء أن يحبسها؛ حبسها».
693 - وعن ابن عمر: أنه أصبح صائماً, ثم أتى بطعام, فأكل, فقيل له: ألم تكن صائماً؟ فقال: «لا بأس به؛ ما لم يكن نذراً أو قضاء رمضان». رواهن سعيد.
694 - وعن جابر: «أنه كان لا يرى [بالإِفطار] في صيام التطوع بأساً». رواه الشافعي.
وأيضاً؛ فإن الرجل إذا أصبح صائماً؛ لم يوجد منه إلا مجرد النية والقصد, والنية المجردة لا يجب بها شيء.
695 - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به».
يبقى الفرق بينه وبين الإِحرام وبين أن يتكلم بالنية أو لا يتكلم بها.
ولأنها عبادة يخرج منها بالإِفساد, فلم يجب قضاؤها إذا أفسدها؛ كالوضوء, وكما لو صام يعتقد أن عليه فرضاً؛ فإنه بخلافه, وعكسه الإِحرام؛ فإنه لا يخرج منه بالفساد. . . .
ولأنه إذا كان له أن لا يفعل؛ كان له أن يخرج منه قبل الإِتمام. . . .
وأما قوله سبحانه: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]؛ فإنه ما لم يتم فليس بعمل.
وأما الأحاديث التي فيها الأمر بالقضاء إن كانت صحيحة؛ فإنما هو أمر استحباب, وبيان أن الصوم لم يفت, وأن المفطر إذا صام يوماً مكان هذا اليوم؛ فقد عمل بدل ما ترك.
696 - وهذا كما قضت عائشة عمرة بدل العمرة التي أدخلت عليها الحج وصارت قارنة.
وكما قضى النبي صلى الله عليه وسلم اعتكافه حتى لا يعتقد المعتقد أن المتطوع إذا أفطر؛ فقد بطلت حسنته على وجه لا يمكن تلافيه؛ كالمفطر في رمضان ونحوه.
ويدل على ذلك أشياء:
أحدها أن الرواية المسندة قال فيها: «لا عليكما صوما مكانه يوماً» , مع إخبارهما أنهما أكلتا بشهوة ولم يفطرا لعذر.
وبقوله: «لا عليكما»؛ أي: لا بأس عليكما, ولو كان الفطر حراماً والقضاء واجباً؛ لكان عليهما بأس.
ثانيهما: أن في رواية سفيان عن الزهري: أنهما لما أخبرتاه؛ تبسم النبي صلى الله عليه وسلم, ولو كانتا قد أذنبتا؛ لغضب أو لبيَّن لهما أن هذا حراماً؛ لئلا يعودا إليه.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|