عرض مشاركة واحدة
  #371  
قديم 10-02-2023, 03:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,400
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
صـ 2961 الى صـ 2975
الحلقة (371)

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 11 ] إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينـزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام .

إذ يغشيكم النعاس أمنة منه أي : يلقي عليكم النوم للأمن الكائن منه تعالى [ ص: 2960 ] مما حصل لكم من الخوف من كثرة عدوكم .

وقد كان أسهرهم الخوف ، فألقى تعالى عليهم النوم فأمنوا واستراحوا . وكذلك فعل تعالى بهم يوم أحد ، كما قال جل ذكره : ثم أنـزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وقرئ : ( يغشيكم ) من الإغشاء ، بمعنى التغشية والفاعل في الوجهين هو الله تعالى وقرئ : ( يغشاكم ) على إسناد الفعل إلى النعاس .

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم ( بدر ) في العريش مع الصديق رضي الله عنه ، وهما يدعوان ، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ، ثم استيقظ متبسما ، فقال : « أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل ، على ثغاياه النقع » . ثم خرج من باب العريش ، وهو يتلوا : سيهزم الجمع ويولون الدبر

ثم ذكرهم تعالى منة أخرى تدل على نصره إياه بقوله سبحانه : وينـزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به أي : من الحدث الأصغر والأكبر ، وهو تطهير الظاهر ويذهب عنكم رجز الشيطان أي : وسوسته ، بأنكم على هذا الرمل لا تتمكنون من المحاربة ، ومع فقد الماء كيف تفعلون ؟ فأزال تعالى بإنزاله ذلك ، فكان لهم به طهارة باطنة ، فكملت لهم الطهارتان ، أي : من وسوسة أو خاطر سيئ ، وهو تطهير الباطن : وليربط على قلوبكم أي : يقويها بالثقة ، بالأمن وزوال الخوف .

ويثبت به الأقدام أي : على الرمل .

قال مجاهد : أنزل الله عليهم المطر ، فأطفأ به الغبار ، وتلبدت به الأرض ، وطابت نفوسهم ، وثبتت به أقدامهم .

قال الجشمي : قال القاضي : وهو أشبه بالظاهر .

وقيل بالصبر وقوة القلب التي أفرغها عليهم ، حتى ثبتوا لعدوهم . وقوله ( به ) ، يرجع إلى الماء المنزل ، أو إلى ما تقدم من البشارة والنصر .

ثم أشار تعالى إلى نعمة خفية أظهرها تعالى لهم ليشكروه عليها بقوله :
[ ص: 2961 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 12 ] إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان .

إذ يوحي ربك إلى الملائكة أي : الذين أمد بهم المسلمين ، أني معكم أي : بالعون والنصر .

قال الجشمي : يحتمل مع الملائكة ، إذا أرسلهم ردءا للمسلمين ، ويحتمل مع المسلمين ، كأنه قيل : أوحي إلى الملائكة أني مع المؤمنين ، فانصروهم وثبتوهم .

وقوله تعالى : فثبتوا الذين آمنوا أي : بدفع الوسواس وبالقتال معهم والحضور مددا وعونا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب أي : الخوف .

ثم علمهم تعالى كيفية الضرب بقوله تعالى : فاضربوا أمر للمؤمنين أو للملائكة . وعليه ، ففيه دليل على أنهم قاتلوا : فوق الأعناق أي : أعالي الأعناق التي هي المذابح ، تطييرا للرءوس ، لأنها فوق الأعناق .

واضربوا منهم كل بنان أي : أصابع ، جمع ( بنانة ) ، قيل : المراد بالبنان ، مطلق الأطراف مجازا ، تسمية للكل بالجزء ، لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل .

والمعنى : اضربوهم كيفما اتفق من المقاتل وغيرها .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 13 ] ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب .

ذلك أي : الضرب أو الأمر به بأنهم شاقوا الله ورسوله أي : خالفوهما فيما شرعا .

وقوله تعالى : ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب تقرير [ ص: 2962 ] لما قبله ، إن أريد بالعقاب ما وقع لهم في الدنيا ، أو وعيد بما أعد لهم في الآخرة ، بعد ما حاق بهم في الدنيا ، وبيان لخسرانهم في الدارين .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 14 ] ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار .

ذلكم خطاب للكفرة على طريقة الالتفات فذوقوه أي : ذلك العذاب أيها الكفار في الدنيا وأن للكافرين عذاب النار في الآخرة .

ثم نهى تعالى عن الفرار من الزحف ، مبينا وعيده بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 15 ] يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار .

أي : الظهور بالانهزام ، و ( الزحف ) الجيش الكثير ، تسمية بالمصدر ، و الجمع زحوف ، مثل فلس وفلوس .

ويقال : زحف إليه ، أي : مشى ، وزحف الصبي على استه قبل أن يقوم . شبه بزحف الصبيان مشي الجيش الكثير للقتال ، لأنه لكثرته يرى كأنه يزحف ، أي : يدب دبيبا قبل التداني للضراب أو الطعان .

قال أبو السعود : زحفا منصوب ، إما على أنه حال من مفعول : لقيتم أي : زاحفين نحوكم ، أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر ، هو الحال منه ، أي : يزحفون زحفا .

وأما كونه حالا من فاعله أو منه ، ومن مفعوله معا كما قيل فيأباه قوله تعالى : فلا تولوهم الأدبار إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابق إلى العدو أو بكثرتهم ، بل توجه العدو إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الإدبار عادة ، والمحوج إلى النهي عنه .

[ ص: 2963 ] وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين ، حيث تولوا مدبرين ، وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفا - بعيد .

والمعنى : إذا لقيتموهم للقتال ، وهم كثير جم وأنتم قليل ، فلا تولوهم أدباركم ، فضلا عن الفرار ، بل قابلوهم وقاتلوهم ، فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم .

قال الشهاب : عدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار تقبيحا للانهزام ، وتنفيرا عنه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 16 ] ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير .

ومن يولهم يومئذ أي : يوم اللقاء دبره إلا متحرفا لقتال أي : مائلا له .

يقال : تحرف وانحرف واحرورف : مال وعدل ، وهذا التحرف إما بالتوجه إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء ، وإما بالفر للكر ، بأن يخيل عدوه أنه منهزم ليغره ، ويخرجه من بين أعوانه ، فيفر عنه ، ثم يكر عليه وحده أو مع من في الكمين من أصحابه ، وهو باب من مكايد الحرب : أو متحيزا إلى فئة أي : منضما إلى جماعة أخرى من المسلمين ليستعين بهم : فقد باء أي : رجع بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير أي : ما صار إليه من عذاب النار .

تنبيهات :

الأول : دلت الآية على وجوب مصابرة العدو ، أي : الثبات عند القتال ، وتحريم الفرار منه يوم الزحف ، وعلى أنه من الكبائر ، لأنه توعده عليه وعيدا شديدا .

الثاني : ظاهر الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن ، وعلى كل حال ، إلا حالة التحرف ، أو التحيز ، وهو مروي عن ابن عباس ، واختاره أبو مسلم .

قال الحاكم : وعليه أكثر الفقهاء .

[ ص: 2964 ] وروى عن جماعة من السلف ، أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم ( بدر ) ، لقوله تعالى : ومن يولهم يومئذ وأجيب بأن الإشارة في : ( يومئذ ) إلى يوم لقاء الزحف كما يفيده السياق ، لا إلى يوم بدر .

الثالث : ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى : أو متحيزا إلى فئة أي : جماعة أخرى من المسلمين ، سوى التي هو فيها ، سواء قربت تلك الفئة أو بعدت وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس ، لكثرة الجيش من ناحية المجوس ، فقال عمر رضي الله عنه : لو تحيز إلي لكنت له فئة .

وفي رواية عنه : أيها الناس ! أنا فئتكم .

وقال الضحاك : المتحيز إلى فئة ، الفار إلى النبي وأصحابه .

وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه ، وجنح إلى هذا ابن كثير حيث قال : من فر من سرية إلى أميره ، أو إلى الإمام الأعظم ، دخل في هذه الرخصة .

ثم أورد حديث عبد الله بن عمر المروي عند الإمام أحمد وأبي داود والترمذي وغيرهم ، قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص الناس حيصة ، فكنت فيمن حاص ، فقلنا : كيف نصنع ، وقد فررنا من الزحف ، وبؤنا بالغضب ، ثم قلنا : لو دخلنا المدينة فبتنا ! ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كانت لنا توبة ، وإلا ذهبنا ! فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال : من القوم ؟ فقلنا : نحن الفرارون . فقال : « لا ، بل أنتم العكارون ، أنا فئتكم وفئة المسلمين » ، قال : فأتيناه حتى قبلنا يده .

قال الترمذي : حديث حسن ، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد . انتهى .

أي : وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة .

قال الحاكم في ( مسألة الفرار ) : إن [ ص: 2965 ] ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده ، فإن ظن المقاومة لم يحل الفرار ، وإن ظن الهلاك جاز الفرار إلى فئة وإن بعدت ، وإذا لم يقصد الإقلاع عن الجهات . وحمل عليه حديث ابن عمر المذكور .

وعن الكرخي : أن الثبات والمصابرة واجب ، إذا لم يخش الاستئصال ، وعرف عدم نكايته للكفار ، والتجأ إلى مصر للمسلمين ، أو جيش ، وهكذا أطلق في ( " شرح الإبانة " ) فلم يبح الفرار إلا بهذه الشروط الثلاثة ، ولم يعتبر العدد الآتي بيانه .

الرابع : روي عن عطاء أن حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى : الآن خفف الله عنكم قال الحاكم : إذا أمكن الجمع فلا نسخ وأقول : كنا أسلفنا أن السلف كثيرا ما يعنون بـ ( النسخ ) تقييد المطلق ، أو تخصيص العام ، فلا ينافي كونها محكمة إطلاقهم النسخ عليها .

قال بعض الأئمة : هذه الآية عامة تقضي بوجوب المصابرة ، وإن تضاعف عدد المشركين أضعافا كثيرة ، لكن هذا العموم مخصوص بقوله تعالى في السورة هذه : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا

وعن ابن عباس : من فر من اثنين فقد فر ، ومن فر من ثلاثة فلم يفر .

وبالجملة ، فلا منافاة بين هذه الآية وآية الضعف ، فإن هذه الآية مقيدة بها ، فيكون الفرار من الزحف محرما بشرط بينه الله في آية الضعف .

وفي ( " المهذب " ) : إن زاد عددهم على مثلي عدد المسلمين ، جاز الفرار ، لكن إن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون ، فالأفضل الثبات ، وإن ظنوا الهلاك ، فوجهان : يلزم الانصراف [ ص: 2966 ] لقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة

والثاني : يستحب ولا يجب ، لأنهم إن قتلوا فازوا بالشهادة وإن لم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين ، فإن لم يظنوا الهلاك لم يجز الفرار ، وإن ظنوه فوجهان :

يجوز لقوله تعالى : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ولا يجوز ، وصححوه لظاهر الآية .

ثم بين تعالى أن نصرهم يوم بدر ، مع قلتهم ، كان بحوله تعالى وقوته ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 17 ] فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم .

فلم تقتلوهم أي : بقوتكم ولكن الله قتلهم أي : سبب في قتلهم بنصرتكم وخذلانهم وألقى الرعب في قلوبهم ، وقوى قلوبكم ، وأمدكم بالملائكة ، وأذهب عنها الفزع والجزع .

وما رميت أي : أنت يا خاتم النبيين ، أي : ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين إذ رميت أي : بالحصباء ، لأن كفا منها لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر ولكن الله رمى أي : بلغ بإيصال ذلك إليهم ليقهرهم .

وقال أبو مسلم في معنى الآية : أي : ما أصبت إذا رميت ، ولكن الله أصاب .

والرمي لا يطلق إلا عند الإصابة ، وذلك ظاهر في أشعارهم .

وقد روي عن غير واحد ، أنها نزلت في شأن القبضة من التراب التي حصب بها النبي صلى الله عليه وسلم وجوه المشركين يوم بدر ، حين خرج من العريش ، بعد دعائه وتضرعه واستكانته ، فرماهم بها وقال : « شاهت الوجوه » . ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ، ففعلوا ، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين ، فلم يبق أحد منهم إلا ناله ما شغله عن حاله ، وانهزموا .

تنبيه :

قال الجشمي : تدل الآية أن فعل العبد يضاف إليه تعالى إذا كان بنصرته ومعونته [ ص: 2967 ] وتمكينه ، إذ معلوم أنهم قتلوا ، وأنه رمى ، ولذلك قال : إذ رميت ولهذا يضاف إلى السيد ما يأتيه غلامه .

وتدل على أن الإضافة بالمعونة والأمر ، صارت أقوى ، فلذلك قال : فلم تقتلوهم

وقال في ( " العناية " ) : استدل بهذه الآية والتي قبلها على أن أفعال العباد بخلقه تعالى ، حيث نفى القتل والرمي .

والمعنى : إذ رميت أو باشرت صرف الآلات .

والحاصل : ما رميت خلقا إذا رميت كسبا . وأورد عليه أن المدعى وإن كان حقا ، لكن لا دلالة في الآية عليه ، لأن التعارض بين النفي والإثبات الذي يتراءى في بادئ النظر ، مدفوع بأن المراد ما رميت رميا تقدر به على إيصاله إلى جميع العيون ، وإن رميت حقيقة وصورة ، وهذا مراد من قال : ( ما رميت حقيقة إذ رميت صورة ) ، فالمنفي هو الرمي الكامل ، والمثبت أصله وقدر منه .

فالإثبات والنفي لم يردا على شيء واحد ، حتى يقال : ( المنفي على وجه الخلق ، والمثبت على وجه المباشرة ) ، ولو كان المقصود هذا لما ثبت المطلوب بها ، الذي هو سبب النزول ، من أنه أثبت له الرمي ، لصدوره عنه ، ونفى عنه ، لأن أثره ليس في طاقة البشر ، ولذا عدت معجزة له ، حتى كأنه لا مدخل له فيها أصلا . فمبنى الكلام على المبالغة ، ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع ، لأن معناه الحقيقي غير مقصود . هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام إذ لو كان المراد ما ذكر ، لم يكن مخصوصا بهذا الرمي ، لأن جميع أفعال العباد كذلك بمباشرتهم وخلق الله . انتهى .

وهذا التحقيق جيد ، وقد نبه عليه أيضا العلامة ابن القيم في ( " زاد المعاد " ) حيث قال :

وقد ظنت طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله ، وأنه هو الفاعل حقيقة ، وهذا غلط منهم من وجوه عديدة ، مذكورة في غير هذا الموضع .

ومعنى الآية : أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي ، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه ، فالرمي يراد به الحذف والإيصال ، فأثبت لنبيه الحذف ، ونفى عنه الإيصال . انتهى .

وقوله تعالى : وليبلي المؤمنين منه أي : ليمنحهم من فضله بلاء حسنا [ ص: 2968 ] أي : منحا جميلا ، بالنصر والغنيمة والفتح ، ثم بالأجر والمثوبة ، غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره ، فيعرفوا حقه ويشكروه .

قال أبو السعود : واللام ، إما متعلقة بمحذوف متأخر ، فالواو اعتراضية ، أي : وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة ، فعل ما فعل ، لا لشيء غير ذلك ، مما لا يجديهم نفعا ، وإما برمي ، فالواو للعطف على علة محذوفة ، أي : ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي . . إلخ . وتفسير البلاء هنا بالمنحة هو ما اختاره المحققون من قولهم : أبلاه الله ببلية إبلاء حسنا ، إذا صنع به صنعا جميلا ، وأبلاه معروفا ، قال زهير في قصيدته التي مطلعها :


صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو وأقفر من سلمى التعانيق والثقل


والتعانيق والثقل : مواضع :


جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو


أي : ( إحسان فعلهما بكم ، فأبلاهما خير البلاء ، أي : صنع الله إليهما خير الصنيع الذي يبتلي به عباده ، والإنسان يبلى بالخير والشر ) ، أي : صنع بهما خير الصنيع الذي يبلو به عباده .

واستظهر الطيبي تفسيره بالإبلاء في الحرب بدليل ما بعده . قال ابن الأعرابي : يقال : أبلى فلان إذا اجتهد في صفة حرب أو كرم ، ويقال : أبلى ذلك اليوم بلاء حسنا .

إن الله سميع أي : لدعائهم واستغاثتهم عليم أي : بمن يستحق النصر والغلب وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 18 ] ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين .

ذلكم إشارة إلى البلاء الحسن ، أو القتل ، أو الرمي . ومحله الرفع ، أي : المقصود أو الأمر ذلكم .

وقوله : وأن الله موهن كيد الكافرين معطوف عليه ، أي : [ ص: 2969 ] مضعف بأس الكافرين وحيلهم بنصركم وخذلانهم ، أي : أن المقصود إبلاء المؤمنين ، وتوهين كيد الكافرين .

قال ابن كثير : هذا بشارة أخرى ، مع ما حصل من النصر ، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل ، مصغر أمرهم ، وأنه في تبار ودمار ، أي : وقد وجد المخبر على وفق الخبر ، فصار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولله الحمد والمنة .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 19 ] إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين .

إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح خطاب للمشركين ، أي : إن تطلبوا الفتح ، أي : القضاء وأن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين ، فقد جاءكم القضاء بما سألتم .

روى الإمام أحمد والنسائي والحاكم ، وصححه ، عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال ، حين التقى القوم : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرفه ، فأحنه - أي : فأهلكه - الغداة ، فكان المستفتح .

وعن السدي ، أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر : أخذوا بأستار الكعبة ، فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أعز الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين ، فقال تعالى : إن تستفتحوا الآية .

وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ; أن هذه الآية إخبار عنهم بما قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك [ ص: 2970 ] الآية ، قيل : في هذا الخطاب تهكم بهم ، يعني في قوله تعالى : فقد جاءكم الفتح لأن الذي جاءهم الهلاك والذلة . كذا في ( " العناية " ) .

وهو مبني على أن الفتح بمعنى النصر ، وله معنى آخر وهو الحكم بين الخصمين والقضاء . وبهما فسرت الآية أيضا .

وإن تنتهوا أي : عن الكفر وعداوة الرسول فهو خير لكم أي : في الدنيا والآخرة وإن تعودوا أي : لمحاربة الرسول : نعد أي : لنصره عليكم ولن تغني أي : تدفع عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين أي : بالنصر . قرئ بكسر ( إن ) استئنافا ، وفتحها ، على تقدير اللام .

تنبيه :

جوز أن يكون الخطاب في قوله تعالى : إن تستفتحوا للمؤمنين ، أي : إن تطلبوا النصر باستغاثتكم ربكم ، فقد حصل لكم ذلك ، فاشكروا ربكم ، والزموا طاعته .

وقوله تعالى : وإن تنتهوا أي : عن المنازعة في أمر الأنفال ، وعن طلب الفداء على الأسرى الذي عوتبوا عليه بقوله تعالى : لولا كتاب من الله سبق فقال تعالى : وإن تنتهوا

عن مثله - : فهو خير لكم وإن تعودوا إلى تلك المنازعات نعد عليكم بالإنكار ، وتهييج العدو ; لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة ، وترك المخالفة ، ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة ، إذا لم يكن الله معكم بالنصر ، فإنه مع الكاملين في إيمانهم .

وهذا الوجه قرره الرازي ونقله عن القاضي .

قال البيضاوي : ويؤكده الآية بعد ، فإن المراد بها الأمر بطاعة الرسول ، والنهي عن الإعراض عنه ، والله أعلم .
[ ص: 2971 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 20 ] يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون .

يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه أي : تعرضوا عنه بمخالفة أمره : وأنتم تسمعون أي : القرآن الناطق بوجوب طاعته ، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 21 ] ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون .

ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا أي : ادعوا السماع وهم لا يسمعون أي : سماع تدبر واتعاظ ، وهم المنافقون أو المشركون .

فالمنفي سماع خاص ، لكنه أتى به مطلقا للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا ، بجعل سماعهم بمنزلة العدم . وقيل : السماع عن التصديق .

قال الزمخشري : والمعنى أنكم تصدقون بالقرآن والنبوة ، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور ، من قسمة الغنائم وغيرها ، كان تصديقكم كلا تصديق ، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن .

ثم بين تعالى سوء حال المشبه بهم ، مبالغة في التحذير ، وتقديرا للنهي ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 22 ] إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون .

إن شر الدواب أي : ما يدب على الأرض ، أو شر البهائم : عند الله الصم أي : عن سماع الحق البكم أي : عن النطق به الذين لا يعقلون أي : لا يفهمونه ، جعلهم تعالى من جنس البهائم ، لصرفهم جوارحهم عما خلقت له ، ثم جعلهم شرها لأنهم [ ص: 2972 ] عاندوا بعد الفهم ، وكابروا بعد العقل ، وفي ذكرهم في معرض التشبيه بهذا الأسلوب غاية في الذم .

وقد كثر في التنزيل تشبيه الكافرين بنحو هذا ، كقوله تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء وقال تعالى : أولئك كالأنعام بل هم أضل
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 23 ] ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون .

وقوله تعالى : ولو علم الله فيهم أي : في هؤلاء الصم البكم خيرا صدقا ورغبة ، لأسمعهم أي : الحجج والمواعظ ، سماع تفهم وتدبر ، أي : لجعلهم سامعين حتى يسمعوا سماع المصدقين ، أي : ولكن لم يعلم الله فيهم شيئا من ذلك ، لخلوهم عنه بالمرة ، فلم يسمعهم كذلك ، لخلوه عن الفائدة وخروجه عن الحكمة ، وإليه أشير بقوله تعالى : ولو أسمعهم لتولوا أي : ولو أسمعهم سماع تفهم ، وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية ، لتولوا عما سمعوه من الحق .

وهم معرضون أي : عن قبوله جحودا وعنادا .

قال الرازي : كل ما كان حاصلا ، فإنه يجب أن يعلمه الله ، فعدم علم الله بوجوده ، من لوازم عدمه ، فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده .

تنبيه :

قد يتوهم أن الشرطيتين في الآية مقدمتا قياس اقتراني ، هكذا : لو علم فيهم خيرا لأسمعهم ، ولو أسمعهم لتولوا ، ينتج : لو علم فيهم خيرا لتولوا ، وفساده بين .

وأجيب : بأنه إنما يلزم النتيجة الفاسدة لو كانت الثانية كلية ، وهو ممنوع .

واعترض بأن هذا المنع ، وإن صح في قانون النظر ، إلا أنه خطأ في تفسير الآية ، لابتنائه على أن المذكور قياس مفقود [ ص: 2973 ] شرائط الإنتاج ، ولا مساغ لحمل كلام الله عليه .

وأجيب : بأن المراد منع كون القصد إلى ترتيب قياس ، لانتفاء شرط ، لا أنه قياس فقد شرطه ، كما أنه يمنع منه عدم تكرار الوسط أيضا ، وإنما المقصود من المقدمة الثانية تأكيد الأولى ، إذ مآله إلى أنه انتفى الإسماع ، لعدم الخيرية فيهم ، ولو وقع الإسماع ، لا تحصل الخيرية فيهم ، لعدم قابلية المحل . كذا في " العناية " .

وقد حاول بعضهم تصحيح كونها قياسا شرطيا ، متحد الوسط ، صحيح الإنتاج ، بتقدير : لو علم فيهم خيرا في وقت ، لتولوا بعده .

وقوله تعالى
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 24 ] يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون .

يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم الاستجابة : بمعنى الإجابة . قال :


وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب


( يريد : فلم يجبه .

وقائله كعب بن سعد الغنوي ، والقصيدة في الأصمعيات رقم 14 ) .

والمراد بها الطاعة والامتثال ، وإنما وحد الضمير في قوله : دعاكم - أي : الرسول - لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله تعالى .

وقال الزمخشري : لأن استجابته صلى الله عليه وسلم ، كاستجابته تعالى ، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد .

وقوله : لما يحييكم قال عروة بن الزبير - فيما رواه ابن إسحاق - أي : للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل ، وقواكم بها بعد الضعف ، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم .

وإنما سمي الجهاد حياة ، لأن في وهن عدوهم بسببه حياة لهم وقوة ، أو لأنه سبب الشهادة الموجبة للحياة الدائمة ، أو سبب المثوبة الأخروية التي هي معدن الحياة ، [ ص: 2974 ] كما قال تعالى : وإن الدار الآخرة لهي الحيوان أي : الحياة الدائمة ، فيكون مجازا مرسلا ، بإطلاق السبب على المسبب ، أو استعارة . وقيل : لما يحييكم أي : من العلوم الدينية التي هي مناط حياة القلب ، كما أن الجهل موته .

قال الشهاب : وإطلاق الحياة على العلم ، والموت على الجهل استعارة معروفة ، ذكرها الأدباء ، وأهل المعاني . وأنشد الزمخشري لبعضهم :


لا تعجبن الجهول حلته فذاك ميت ، وثوبه كفن


وقد ألم فيه بقول أبي الطيب ، من قصيدته التي أولها :


أفاضل الناس أغراض لذا الزمن يخلو من الهم أخلاهم من الفطن


ومنها


لا تعجبن مضيما حسن بزته وهل تروق دفينا جودة الكفن


والأظهر أن يعنى بـ ( ما يحييكم ) ، ما يصلحكم من أعمال البر والطاعة ، فيدخل فيه ما تقدم وغيره .

تنبيه :

استدل النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على وجوب إجابته إذا نادى أحدا وهو في الصلاة .

روى البخاري عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال : كنت أصلي ، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم ، فدعاني ، فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ ألم يقل الله : يا أيها الذين آمنوا استجيبوا الآية .

وقوله تعالى : واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه يحتمل وجوها من المعاني .

[ ص: 2975 ] أحدهما : أنه تعالى يملك على المرء قلبه فيصرفه كيف يشاء ، فيحول بينه وبين الكفر ، إن أراد هدايته ، وبينه وبين الإيمان ، إن أراد ضلالته ، وهذا المعنى رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس ، وصححه ، وقاله غير واحد من السلف .

ويؤيده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول : « يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك » .

فقيل : يا رسول الله ! آمنا بك ، وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال : « نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى ، يقلبها »
.

رواه الإمام أحمد والترمذي عن أنس ولفظ مسلم :

« إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، كقلب واحد ، يصرفها كيف شاء » ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم مصرف القلوب ، صرف قلوبنا إلى طاعتك » . انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه عن عبد الله بن عمرو .

وفي رواية : « إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله ، فإذا شاء أزاغه ، وإذا شاء أقامه » - رواه الإمام أحمد عن عائشة - .

وروي أيضا مثله عن جابر وبلال ، والنواس بن سمعان وأم سلمة ، كما ساقه ابن كثير .

وعلى هذا المعنى ، فالآية استعارة تمثيلية ، لتمكنه من قلوب العباد ، فيصرفها كيف يشاء ، بما لا يقدر عليه صاحبها .

شبه بمن حال بين شخص ومتاعه ، فإنه يقدر على التصرف فيه دونه .

ثانيها : أنه حث على المبادرة إلى الطاعة ، قبل حلول المنية ، فمعنى ( يحول بينه وبين قلبه ) ، يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها ، وهو التمكن من إخلاص القلب ، ومعالجة أدوائه وعلله ، ورده سليما ، كما يريده الله ، فاغتنموا هذه الفرصة ، وأخلصوها لطاعة الله ورسوله .

فشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه ، والذي به يعقل ، في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه .





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 52.09 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 51.46 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.21%)]