عرض مشاركة واحدة
  #378  
قديم 10-02-2023, 03:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,440
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
صـ 3066 الى صـ 3080
الحلقة (378)




[ ص: 3066 ] وقال ابن كثير : وأول هذه السورة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة ( تبوك ) ، وهم بالحج ، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك ، وأنهم يطوفون بالبيت عراة فكره مخالطتهم ، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرا على الحج تلك السنة ، ليقيم للناس مناسكهم ، ويعلم المشركون ألا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادي بالناس : براءة من الله ورسوله فلما قفل ، وأتبعه بعلي بن أبي طالب ، لكونه مبلغا عنه صلى الله عليه وسلم ، ولكونه عصبة له ، كما سيأتي .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 2 ] فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين .

فسيحوا في الأرض أربعة أشهر أي : فقولوا لهم : سيروا في الأرض بعد نبذنا العهد ، آمنين من القتل والقتال مدة أربعة أشهر ، وذلك من يوم النحر إلى عشر يخلون من ربيع الآخر .

والمقصود تأمينهم من القتل ، وتفكرهم واحتياطيهم ، ليعلموا أنهم ليس لهم بعدها إلا السيف ، وليعلموا قوة المسلمين إذ لم يخشوا استعدادهم لهم .

وهذه الأربعة الأشهر كانت عهدا لمن له عهد دون الأربعة الأشهر ، فأتمت له .

فأما من كان له عهد موقت ، فأجله إلى مدته ، مهما كانت ، لقوله تعالى : فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم كما يأتي .

روي هذا عن غير واحد ، واختاره ابن جرير . وقال مجاهد : هذا تأجيل للمشركين مطلقا ، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفع إليها ، ومن كانت أكثر حط إليها ، [ ص: 3067 ] ومن كان عهده بغير أجل حد بها ، ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله ، يقتل حيث أدرك ويؤسر ، إلا أن يتوب ويؤمن .

أقول : ولا يرد عليه إطلاق قوله تعالى : إلى مدتهم لأن له أن يجيب بأن الإضافة للعهد ، أي : المدة المعهودة وهي الأربعة الأشهر . والله أعلم .

واعلموا أنكم غير معجزي الله يعني أن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم ولكن لحكمة ولطف بكم ، أي : فلا تفوتونه وإن أمهلكم وأن الله مخزي الكافرين أي : مذلهم بالقتل في الدنيا ، والعذاب في الآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 3 ] وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم .

وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله ( الأذان ) بمعنى الإيذان ، وهو الإعلام ، كما أن الأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء .

وارتفاعه كارتفاع : ( براءة ) وهذه الجملة معطوفة على مثلها ، والفرق بين معنى الجملة الأولى والثانية أن تلك إخبار بثبوت البراءة ، وهذه إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت ، وإنما علقت البراءة بالذين عوهدوا من المشركين ، وعلق الأذان بالناس ، لأن البراءة مختصة بالمعاهدين والناكثين منهم ، وأما الأذان فعام لجميع الناس ، من عاهد ومن لم يعاهد ، ومن نكث من المعاهدين ومن لم ينكث كذا في ( " الكشاف " ) .

ويوم الحج الأكبر : قيل يوم عرفة ، وقيل يوم النحر .

[ ص: 3068 ] قال ابن القيم : وهو الصواب ، لأنه ثبت في الصحيحين أن أبا بكر وعليا رضي الله عنهما ، أذنا بذلك يوم النحر ، لا يوم عرفة .

وفي سنن أبي داود بأصح إسناد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر ، وكذلك قال أبو هريرة وجماعة من الصحابة .

ويوم عرفة مقدمة ليوم النحر بين يديه ، فإن فيه يكون الوقوف والتضرع والتوبة والابتهال والاستقامة ، ثم يوم النحر تكون الوفادة والزيارة ، ولهذا سمي طوافه طواف الزيارة ، لأنهم قد طهروا من ذنوبهم يوم عرفة ، ثم أذن لهم يوم النحر في زيارته ، والدخول عليه إلى بيته ، ولهذا كان فيه ذبح القرابين ، وحلق الرؤوس ، ورمي الجمار ومعظم أفعال الحج وعمل يوم عرفة ، كالطهور والاغتسال بين يدي هذا اليوم ، انتهى .

تنبيه :

روى الأئمة هاهنا آثارا كثيرة ، نأتي منها على جوامعها :

قال ابن أبي نجيح عن مجاهد : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ( تبوك ) حين فرغ ، فأراد الحج ثم قال : « إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج » ، حتى لا يكون ذلك : فأرسل أبا بكر وعليا فطافا بالناس في ( ذي المجاز ) وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها ، وبالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر ، فهي الأشهر المتواليات ، [ ص: 3069 ] عشرون من ذي الحجة ، إلى عشر يخلون من ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم ، وآذن الناس كلهم بالقتال ، إلى أن يؤمنوا .

وروى ابن إسحاق بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي رضوان الله عليه قال : لما نزلت [براءة] على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج ، قيل له : يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر ، فقال : « لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي » ، ثم دعا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ، فقال له : « اخرج بهذه القصة من صدر براءة ، وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى ، أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته » .

فخرج علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ( العضباء ) ، حتى أدرك أبا بكر الصديق ، فلما رآه أبو بكر بالطريق قال : أمير أو مأمور ؟ فقال : بل مأمور ، ثم مضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحج ، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : « أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته » .

وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم ، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم ، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة ، إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة ، فهو له إلى مدته ، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان .

ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم .


قال ابن إسحاق : فكان هذا من أمر ( براءة ) فيمن كان من أهل الشرك من أهل [ ص: 3070 ] العهد العام ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى .

وروى البخاري عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين ، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى : « ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان » .

قال حميد : ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب ، فأمره أن يؤذن ببراءة .

قال أبو هريرة : فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة ، وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان .


وفي رواية أخرى للبخاري ، قال أبو هريرة : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ويوم الحج الأكبر يوم النحر ، وإنما قيل ( الأكبر ) من أجل قول الناس - للعمرة - الحج الأصغر ، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام ، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك . هذا لفظ البخاري في ( " كتاب الجهاد " ) .

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ب ( براءة ) ، فقال : ما كنتم تنادون ؟ قال : كنا ننادي : « أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله - أو أمده - إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأربعة الأشهر ، فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يحج هذا البيت بعد العام مشرك » . قال : فكنت أنادي حتى صحل صوتي ، ( صحل الرجل وصحل صوته : بح ) .

[ ص: 3071 ] وقوله تعالى : فإن تبتم فهو خير لكم أي : فإن تبتم أيها المشركون ، من كفركم ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد ، فهو خير لكم من الإقامة على الشرك رأس الضلال والفساد وإن توليتم أي : عن الإيمان وأبيتم إلا الإقامة على ضلالكم وشرككم فاعلموا أنكم غير معجزي الله أي : غير فائتين أخذه وعقابه وبشر الذين كفروا أي : جحدوا نبوتك وخالفوا أمر ربهم بعذاب أليم أي : موجع يحل بهم .

وفيه من التهكم والتهديد ما فيه ، كيلا يظن أن عذاب الدنيا ، لو فات وزال خلصوا من العذاب ، بل العذاب معد لهم يوم القيامة .

ثم استثنى تعالى من ضرب مدة التأجيل ، لمن له عهد مطلق بأربعة أشهر ، ومن له عهد مؤقت بتأجيله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 4 ] إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين .

إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا أي : من شروط الميثاق فلم يقتلوا منكم أحدا ولم يضروكم فقط .

قال أبو السعود : وقرئ بالمعجمة ، أي : لم ينقضوا عهدكم شيئا ، من ( النقض ) ، وكلمة ( ثم ) ، للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة ولم يظاهروا أي : لم يعاونوا عليكم أحدا أي : عدوا من أعدائكم .

فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ثم حرض تعالى على الوفاء بذلك ، منبها على أنه من باب التقوى بقوله سبحانه : إن الله يحب المتقين أي : فاتقوه في ذلك .
[ ص: 3072 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 5 ] فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم .

فإذا انسلخ أي : انقضى الأشهر الحرم أي : التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض ، وحرم فيها قتالهم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أي : من حل أو حرم - كذا قاله غير واحد - .

قال ابن كثير : هذا عام ، والمشهور تخصيصه بغير الحرم ، لتحريم القتال فيه ، لقوله تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم

وخذوهم أي : ائسروهم واحصروهم أي : احبسوهم في المكان الذي هم فيه ، لئلا يتبسطوا في سائر البلاد واقعدوا لهم أي : لقتالهم ، كل مرصد أي : طريق وممر فإن تابوا أي : عن الكفر وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم أي : فاتركوا التعرض لهم إن الله غفور رحيم أي : يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر .

تنبيهات :

الأول : ما ذكرناه من أن المراد ( بالأشهر الحرم ) أشهر العهد ، هو الذي اختاره الأكثرون .

سماها ( حرما ) لتحريم قتال المشركين فيها ودمائهم ، فالألف واللام للعهد ، ووضع المظهر موضع المضمر ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة ، تأكيدا لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم ، مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها .

وقيل : المراد ( بالأشهر الحرم ) : رجب ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، روي ذلك عن ابن عباس [ ص: 3073 ] والضحاك والباقر ، واختاره ابن جرير .

وضعف بأنه لا يساعده النظم الكريم ، لأنه يأباه ترتبه عليه ( بالفاء ) ، فهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر .

قال ابن القيم : الحرم هاهنا هي أشهر التسيير أولها يوم الأذان ، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة ، وهو يوم الحج الأكبر ، الذي وقع فيه التأذين بذلك ، وآخرها العاشر من ربيع الآخر . وليست هي الأربعة المذكورة في قوله : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم فإن تلك واحد فرد هو رجب ، وثلاثة سرد وهي ذو القعدة وتالياه .

ولم يسير المشركين في هذه الأربعة ، فإن هذا لا يمكن ، لأنها غير متوالية ، وهو إنما أجلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم . انتهى .

وقالوا : يلزم على هذا بقاء حرمة تلك الأشهر ، وتكلف الجواب بنسخها ، إما بانعقاد الإجماع عليه ، أو بما صح من أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم ، مع أن هذا الإجماع كلاما ، وقد خالف بعضهم في بقاء حرمتها ، إلا أنهم لم يعتدوا به كما قاله في ( " العناية " ) .

وفيها : إن لك أن تقول : منع القتال في الأشهر الحرم في تلك السنة ، لا يقتضي منعه في كل ما شابهها ، بل هو مسكوت عنه ، فلا يخالف الإجماع ، ويكون حله معلوما من دليل آخر .

وأقول : يظهر لي هذا الثاني وأن المراد بالأربعة الأشهر هي المعروفة ، وأن قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم هي هذه الأربعة ، لأنها حيثما أطلقت في التنزيل لا تنصرف إلا إليها ، فصرفها إلى غيرها يحتاج إلى برهان قاطع .

قال في ( " فتح البيان " ) : ومعنى الآية على هذا وجوب الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم ، وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم [ ص: 3074 ] النحر ، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة ، خمسين يوما ، تنقضي بانقضاء شهر المحرم ، فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون ، وبه قال جماعة من أهل العلم . انتهى .

ولا يقال : إن الباقي من الأشهر الحرم ثمانون يوما ، إذ الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة ، بسبب النسيء ، ثم صار في السنة المقبلة في العاشر من ذي الحجة ، وفيها حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « إن الزمان قد استدار » الحديث ، لأنا نقول : كان ذو القعدة عامئذ هو ذا الحجة بحسابهم ، لا في الواقع ، وكذلك ذو الحجة ، والمحرم ، فعوملوا بحسابهم .

الثاني : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) في قوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم هذه آية السيف الناسخة لآيات العفو والصفح والإعراض والمسالمة . انتهى .

وروي عن الضحاك أنها منسوخة بقوله تعالى في سورة محمد : فإما منا بعد وإما فداء

ورده الحاكم بأنه لا شبهة في أن براءة نزلت بعد سورة محمد ، ومقتضى كلام الحاكم ، أنها لا ناسخة ولا منسوخة ، قال : لأن الجمع من غير منافاة ممكن ، فحيث ورد في القرآن ذكر الإعراض ، فالمراد به إعراض إنكار ، لا تقرير ، وأما الأسر والفداء ، فالمراد به أنه خير بين ذلك ، لا أن القتل حتم ، إذ لو كان حتما ، لم يكن للأخذ معنى بعد القتل . انتهى .

ويشمل عمومها مشركي العرب وغيرهم ، واستدل بقوله تعالى : واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد على جواز حصارهم والإغارة عليهم وبياتهم .

[ ص: 3075 ] الثالث : فهو من قوله تعالى : فإن تابوا الآية ، أن الأمر بتخلية السبيل معلق على شروط ثلاثة : التوبة ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فحيث لم تحصل جاز ما تقدم من القتل والأخذ والحصر .

ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه ، في قتال مانعي الزكاة ، على هذه الآية الكريمة وأمثالها .

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يرحم الله أبا بكر ، ما كان أفقهه .

وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة » .

وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فإذا شهدوا ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم » . رواه البخاري وغيره .

الرابع : ذكر ابن القيم خلاصة بديعة في سياق ترتيب هديه صلى الله عليه وسلم مع الكفار والمنافقين ، من حين بعث إلى حين لقي الله عز وجل ، مما يؤيد فهم ما تشير إليه هذه السورة ، قال رحمه الله :

أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى أن يقرأ باسم ربه الذي خلق ، وذلك أول نبوته ، فأمره أن يقرأ في نفسه ، ولم يأمره إذ يأمره إذ ذاك بتبليغ ، ثم أنزل عليه : يا أيها المدثر قم فأنذر فنبأه بقوله : اقرأ وأرسله بـ : يا أيها المدثر ثم أمره أن ينذر عشيرته [ ص: 3076 ] الأقربين ، ثم أنذر قومه ، ثم أنذر من حولهم من العرب ، ثم أنذر العرب قاطبة ، ثم أنذر العالمين ، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية ، ويؤمر بالكف والصبر والصفح ، ثم أذن له في الهجرة ، وأذن له في القتال ثم أمره أن يقاتل من قاتله ، ويكف عمن لم يقاتله ، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله ، ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة .

فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ، وأمر أن يقاتل من نقض عهده لما نزلت سورة ( براءة ) ، نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية ، أو يدخلوا في الإسلام .

وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان ، وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار ، ونبذ عهودهم إليهم ، وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام : قسما أمره بقتالهم ، وهم الذين نقضوا عهده ، ولم يستقيموا له ، فحاربهم وظهر عليهم .

وقسما لهم عهد موقت لم ينقضوه ، ولم يظاهروا عليه ، فأمره أن يتم له عهدهم إلى مدتهم .

وقسما لم يكن لهم عهد ، ولم يحاربوه ، أو كان لهم عهد مطلق ، فأمره أن يؤجلهم أربعة أشهر ، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم .

فقتل الناقض لعهده ، وأجل من لا عهد له أو له عهد مطلق أربعة أشهر ، وأمره أن يتم للموفي بعهده إلى مدته ، فأسلم هؤلاء كلهم ، ولم يقيموا على كفرهم إلى مدتهم . وضرب على أهل الذمة الجزية فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول ( براءة ) على ثلاثة أقسام : محاربين له ، وأهل عهد ، وأهل ذمة .

ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام ، فصاروا معه قسمين : محاربين ، وأهل ذمة ، والمحاربون له [ ص: 3077 ] خائفون منه ، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام : مسلم مؤمن به ، ومسالم له آمن . وخائف محارب .

وأما سيرته في المنافقين فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ، ويكل سرائرهم إلى الله ، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة ، وأمر أن يعرض عنهم ، ويغلظ عليهم ، وأن يبلغ بالقول البليغ إلى نفوسهم ، ونهي أن يصلي عليهم وأن يقوم على قبورهم ، وأخبره أنه إن استغفر لهم أو لم يستغفر لهم ، فلن يغفر الله لهم ، فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين . انتهى .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 6 ] وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون .

وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون أي : وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم ، أي : استأمنك بعد انقضاء أشهر العهد ، فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله ، أي : القرآن الذي تقرؤه عليه ، ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الأمر ، وتقوم عليه حجة الله به ، فإن أسلم ثبت له ما للمسلمين ، وإن أبى فإنه يرد إلى مأمنه وداره التي يأمن فيها ، ثم قاتله إن شئت .

وقوله تعالى : ذلك يعني الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن ، بسبب أنهم قوم لا يعلمون ، أي : جهلة ، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق ، ولا يبقى لهم معذرة .

تنبيهات :

الأول : دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى ، وأنه يمكن من العود من غير غدر به ولا خيانة ، ولذا ورد في الترهيب من عدم الوفاء بالعهد والغدر ما يزجر أشد الزجر .

[ ص: 3078 ] فروى البخاري في ( " تاريخه " ) والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أمن رجلا على دمه فقتله ، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا » .

وروى أحمد والشيخان عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة » .

قال ابن كثير : من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام ، في أداء رسالة أو تجارة ، أو طلب صلح أو مهادنة ، أو حمل جزية ، أو نحو ذلك من الأسباب ، وطلب من الإمام أو نائبه أمانا أعطي ، ما دام مترددا في دار الإسلام ، إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه .

قال الحاكم : وإنما يجار ويؤمن إذا لم يعلم أنه يطلب الخداع والمكر ، لأنه تعالى علل لزوم الإجارة بقوله : حتى يسمع كلام الله

الثاني : قال الحاكم : تدل الآية على أنه يجوز للكافر دخول المسجد لسماع كلام الله .

الثالث : استدل بهذه الآية من ذهب إلى كلام الله بحرف وصوت قديمين ، وهم الحنابلة ، ومن وافقهم كالعضد .

قالوا : لأن منطوق الآية يدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق ، والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات .

فدل ذلك على أن كلام الله ليس هذه الحروف والأصوات ، والقول بأن كلام الله شيء مغاير لها باطل ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يشير بقوله كلام الله إلا لها ، وقد اعترف الرازي بقوة هذا ، لإلزام من خالف فيه ، وقد مضى لنا في قوله تعالى : وكلم الله موسى تكليما في آخر سورة النساء ، فارجع إليه .

[ ص: 3079 ] الرابع : قال الرازي : دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين ، وأنه لا بد من النظر والاستدلال ، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيا ، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر ، بل يقال له : إما أن تؤمن ، وإما أن نقتلك ، فلما لم يقل له ذلك ، بل أمهل وأزيل الخوف عنه ، ووجب تبليغه مأمنه ، علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين ، وأنه لا بد من الحجة والدليل ، فلذا أمهل ليحصل لها النظر والاستدلال .

ثم بين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ، ونظرته إياهم أربعة أشهر ، ثم بعدها السيف المرهف بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 7 ] كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين .

كيف يكون للمشركين عهد أي : أمان عند الله وعند رسوله أي : وهم كافرون بهما ، فالاستفهام بمعنى الإنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام يعني أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية على ترك الحرب معهم عشر سنين فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم أي : فما داموا مستقيمين على عهدهم ، مراعين لحقوقكم ، فاستقيموا لهم على عهدهم .

إن الله يحب المتقين أي : فاتقوه في نقض عهد المستقيمين على عهدهم .

قال ابن كثير : وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون ، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد ، ومالؤوا حلفاءهم ، وهم بنو بكر ، على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتلوهم معهم في الحرم أيضا ، فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان ، ففتح الله عليه البلد الحرام ، ومكنه من نواصيهم ، ولله الحمد والمنة ، فأطلق من أسلم منهم ، بعد القهر والغلبة عليهم ، فسموا الطلقاء ، وكانوا [ ص: 3080 ] قريبا من ألفين ، ومن استمر على كفره ، وفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعث إليه بالأمان والتسيير في أربعة أشهر ، يذهب حيث شاء ، ومنهم صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما ، ثم هداهم الله للإسلام .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 8 ] كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون .

كيف وإن يظهروا عليكم أي : يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق لا يرقبوا فيكم إلا أي : قرابة ويمينا ولا ذمة أي : عهدا .

وهذه الجملة مردودة على الآية الأولى ، أي : كيف يكون لهم عهد ، وحالهم ما ذكر ؟ وفيه تحريض للمؤمنين على التبرء منهم ، لأن من كان أسير الفرصة ، مترقبا لها ، لا يرجى منه دوام العهد .

قال الناصر : ولما طال الكلام باستثناء الباقين على العهد ، أعيدت ( كيف ) تطرية للذكر ، وليأخذ بعض الكلام بحجزة بعض . انتهى .

ثم استأنف تعالى بيان حالهم المنافية لثباتهم على العهد بقوله : يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم أي : ما تتفوه به أفواههم وأكثرهم فاسقون أي : متمردون ، لا عقيدة تزعمهم ، ولا مروءة تردعهم .

وتخصيص الأكثر ، لما في بعض الكفرة من التفادي عن العذر ، والتعفف عما يجر إلى أحدوثة السوء .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 48.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 48.27 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.28%)]