عرض مشاركة واحدة
  #382  
قديم 10-02-2023, 05:36 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3126 الى صـ 3140
الحلقة (382)



[ ص: 3126 ] قال فلقد رأيت وجهه استبشر ، ثم قال : « إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون »
.

قال ابن كثير : وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية ، أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا .

وقال السدي : استنصحوا الرجال ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .

وقد ذكر بعض المفسرين وجها في تفسير اتخاذهم أربابا ، قال : بأن أطاعوهم بالسجود لهم .

قال الشهاب : والأول هو تفسير النبي صلى الله عليه وسلم ، فينبغي الاقتصار عليه ، لأنه لما أتاه عدي بن حاتم وهو يقرؤها قال له : إنا لم نعبدهم ، فقال : « ألم تتبعوهم في التحليل والتحريم ؟ فهذه هي العبادة » ، والناس يقولون : فلان يعبد فلانا ، إذا أفرط في طاعته ، فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة ، أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة ، وهي طاعة مخصوصة على مطلقها ، والأول أبلغ . انتهى .

فقال الرازي : قال الربيع : قلت لأبي العالية : كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل ؟ فقال : إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان ، فكانوا يأخذون بأقوالهم ، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى .

قال الرازي : قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه : قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء ، قرأت عليهم آيات كثيرة في كتاب الله تعالى في بعض مسائل ، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات ، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها ، وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب ، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات ، مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها ؟ ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين من أهل المدينة . انتهى .

[ ص: 3127 ] وما أمروا أي : والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في كتابهم : إلا ليعبدوا إلها واحدا أي : يطيعوا أمره ، ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه ، وقوله : لا إله إلا هو صفة ثانية ل إلها أو استئناف مقرر للتوحيد : سبحانه عما يشركون أي : به في العبادة والطاعة .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 32 ] يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .

يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم أي : يخمدوا حجته الدالة على وحدانيته ، وتقدسه عن الولد ، أو القرآن ، أو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ويأبى الله إلا أن يتم نوره أي : بإعلاء التوحيد ، وإعزاز الإسلام ولو كره الكافرون أي : بدلائل التوحيد ، ذلك .

قال أهل المعاني : نور الله استعارة أصلية تصريحية لحجته أو ما بعدها ، لتشبيه كل منها بالنور في الظهر ، والإطفاء ترشيح ، أو هو استعارة تمثيلية ، شبه حالهم في محاولتهم إبطال النبوة بالتكذيب ، بحال من يطلب إطفاء نور عظيم ، منبث في الآفاق ، يريد الله أن يزيده بنفخه .

لطائف :

الأولى : قال الشهاب : روعي في كل من المشبه والمشبه به الإفراط والتفريط ، حيث شبه الإبطال بالإطفاء بالفم ، ونسب النور إلى الله ، ومن شأن النور المضاف إليه أن يكون عظيما ، فكيف يطفأ بنفخ الفم ، مع ما بين الكفر الذي هو ستر وإزالة للظهور ، والإطفاء من المناسبة .

[ ص: 3128 ] الثانية : لا يخفى أن قوله تعالى : إلا أن يتم استثناء مفرغ ، وهو في محل نصب مفعول به ، والاستثناء المفرغ يكون في الفعل المنفي لا موجب ، إلا أن يستقيم المعنى .

وهنا صح التفريغ من الموجب وهو : ويأبى الله لأنه نفي في المعنى ، لأنه وقع في مقابلة : يريدون وفيه من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادة ، أي : لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره ، فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه ، فضلا عن الإطفاء - أفاده أبو السعود - .

وقال الزجاج : المستثنى منه محذوف تقديره : ( ويكره الله كل شيء إلا إتمام نوره ) .

قال الشهاب : فالمعنى على العموم المصحح للتفريغ عنده ، فللناس في توجيه التفريغ هنا مسلكان .

والحاصل أنه إن أريد كل شيء يتعلق بنوره بقرينة السياق ، صح إرادة العموم ، ووقوع التفريغ في الثابتات ، كما ذهب إليه الزجاج ، إذ ما من عام إلا وقد خصص ، فكل عموم نسبي لكنه يكتفى به ، ويسمى عموما .

ألا ترى أن مثالهم ( قرأت إلا يوم كذا ) ، قد قدره كل يوم ، والمراد من أيام عمره ، لا من أيام الدهر .

فإن نظر إلى الظاهر في أمثاله كان عاما ، واستغنى عن النفي ، وإن نظر إلى نفس الأمر ، فهو ليس بعام ، فيؤول بالنفي ، والمعنى فيهما واحد وإنما أول به هنا عند من ذهب إلى تأويله ، لاقتضاء المقابلة له ، إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بالنفي ، فيلزمه جريان التفريغ في كل شيء ، وليس كذلك ما صرح به الرضي .

ولذا قيل : الاستثناء المفرغ ، وإن اختص بالنفي ، إلا أنه قد يمال مع المعنى بمعونة القرائن ، ومناسبة المقامات ، فيجري بعض الإيجابات مجرى النفي في صحة التفريغ معها - ذكره الشهاب أيضا - .

الثالثة : قال أبو السعود : وفي إظهار ( النور ) في مقام الإضمار مضافا إلى ضميره عز وجل زيادة اعتناء بشأنه ، وتشريف له على تشريف ، وإشارة بعلة الحكم .
[ ص: 3129 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 33 ] هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .

هو الذي أرسل رسوله بالهدى أي : القرآن الذي هو هدى للمتقين ، ودين الحق أي : التوحيد الثابت الذي لا يزول ليظهره أي : الدين الحق على الدين كله أي : على سائر الأديان ولو كره المشركون أي : أن يكون ذلك .

وجواب ( لو ) فيهما محذوف ، لدلالة ما قبله عليه ، وجملة : هو الذي إلخ بيان وتقرير لمضمون الجملة قبلها ، لأن المراد من إتمام نوره إظهاره ولكونه بحسب المآل بمعناه ، ذيله بما ذيله به بعينه ، لكنه عبر عن الكافرين بالمشركين تفاديا عن صورة التكرار - كذا في ( " العناية " ) - .

وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله زوى لي الأرض ، مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها » .

وروى الإمام أحمد عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول : صلى هذا الحي من محارب الصبح ، فلما صلوا قال شاب منهم : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها ، وإن عمالها في النار ، إلا من اتقى الله وأدى الأمانة » .

[ ص: 3130 ] وأخرج أيضا عن تميم الداري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزا ، ويذل ذليلا ، عزا يعز الله به الإسلام ، وذلا يذل الله به الكفر » .

وكان تميم الداري يقول : قد عرفت ذلك في أهل بيتي ، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ، ولقد أصاب من كان كافرا منهم الذل والصغار والجزية .

وأخرج أيضا عن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام ، يعز عزيزا ، ويذل ذليلا ، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها ، وإما يذلهم فيدينون لها » .

وأخرج أيضا عن عدي بن حاتم قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يا عدي ! أسلم تسلم » . فقلت : إني من أهل دين . قال : « أنا أعلم بدينك منك » . فقلت : أنت أعلم بديني مني ؟ قال : « نعم ألست من الركوسية ، وأنت تأكل مرباع قومك ؟ » قلت : بلى ! قال : « فإن هذا لا يحل لك في دينك » . قال فلم يعد أن قالها ، فتواضعت لها . قال : « أما إني أعلم ما الذي يمنعك عن الإسلام ، تقول : إنما اتبعه ضعفة الناس ، ومن لا قوة له ، وقد رمتهم العرب ، أتعرف الحيرة ؟ » قلت : لم أرها ، وقد سمعت بها . قال : « فوالذي نفسي بيده ! [ ص: 3131 ] ليتمن الله هذا الأمر ، حتى تخرج الظعينة من الحيرة ، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز » ، قلت : كسرى بن هرمز ؟ قال : « نعم ! كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد » .

قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة ، فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده ! لتكونن الثالثة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها .


وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى » ، فقلت : يا رسول الله ! إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق الآية ، إن ذلك تام ! قال : « إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل ، ثم يبعث الله ريحا طيبة ، فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه ، فيرجعون إلى دين آبائهم » .

قال في ( " اللباب " ) : معنى الآية ليظهرن دين الإسلام على الأديان كلها ، وهو ألا يعبد الله إلا به .

وكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : هذا وعد من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عاليا على جميع الأديان ، وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى .

وكذلك قال الضحاك والسدي : لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام .

وقال الشافعي : قد أظهر الله دين رسوله صلى الله عليه وسلم على الأديان كلها ، بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق وما خلفه من الأديان باطل ، وأظهره على الشرك دين أهل الكتاب ، ودين الأميين ، فقهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأميين حتى دانوا بالإسلام ، وأعطى بعضهم الجزية صاغرين ، وجرى عليهم حكمه .

قال : فهذا هو ظهوره على الدين كله . انتهى .

[ ص: 3132 ] قلت : ما ذكره الشافعي هو من ظهوره ، والأدق ما تقدم ، من أنه سوف يعتنقه كل فرقة ، فإن ما تذهب إليه طوائف الإصلاح من الملل الأخرى لا يبعد الآن عن الإسلام إلا قليلا .

ثم بين تعالى حال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأراذلهم ، إثر بيان سوء حال الأتباع في اتخاذهم لهم أربابا يطيعونهم في الأوامر والنواهي ، واتباعهم لهم فيما يأتون وما يذرون ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 34 ] يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم .

يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل

أي : بالطريق المنكر من الرشا في الأحكام ، والتخفيف والمسامحة في الشرائع وغير ذلك .

و ( الأكل ) مجاز عن الأخذ ، بعلاقة العلية والمعلولية ، لأنه الغرض الأعظم منه ، وفيه من التقبيح لحالهم ، وتنفير السامعين عنه ما لا يخفى ويصدون عن سبيل الله أي : عن دين الإسلام وحكمه ، واتباع الدلائل إلى ما يهوون ، أو عن المسلك المقرر في التوراة والإنجيل ، إلى ما افتروه وحرفوه .

ثم أشار إلى أن سبب ذلك هو إيثارهم حب المال وكنزه على أمر الله ، وتناسيهم وعيده في الكنز بقوله سبحانه : والذين يكنزون الذهب والفضة أي : يحفظونهما حفظ المدفون في الأرض ولا ينفقونها في سبيل الله أي : الذي هو الزكاة ، فبشرهم بعذاب أليم
[ ص: 3133 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 35 ] يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنـزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون .

يوم يحمى عليها أي : يوقد عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنـزتم أي : ويقال لهم ضما إلى ما هم فيه ، هذا ما كنزتم لأنفسكم أي : لتتلذذوا به ، فكان سبب تعذيبها فذوقوا ما كنتم تكنزون أي : وباله ، وهو ألمه وشدته بالكي .

وفي هذه الآية فوائد :

الأولى : قال بعضهم في قوله تعالى : ( ليأكلون ) دلالة على تحريم الرشا على الباطل ، وقد ورد « لعن الله الراشي والمرتشي » .

وكذا تحريم أخذ العوض على فعل الواجب، وفي جواز الدفع ليتوصل إلى حقه خلاف .

رجح الجواز ليتوصل إلى الحق ، كالاستفداء .

قال الحاكم يدخل في تحريم الرشا الأحكام والشهادات والفتاوى وأصول الدين وفروعه ، وكل من حرف شيئا لغرض الدنيا . انتهى .

الثانية : في الآية - كما قال ابن كثير - تحذير من علماء السوء وعباد الضلال ، كما قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى .

وفي الحديث الصحيح : « لتركبن سنن من قبلكم حذو [ ص: 3134 ] القذة بالقذة » ، قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : « فمن ؟ » ، وفي رواية : فارس والروم ؟ قال : « ومن الناس إلا هؤلاء ؟ » . ثم أنشد لابن المبارك :


وهل أفسد الدين إلا الملو ك ، وأحبار سوء ورهبانها


الثالثة : قوله تعالى : ( والذين ) مبتدأ ، والخبر : يكنزون أو منصوب تقديره : بشر الذين يكنزون .

والتعريف في الموصول للعهد والمعهود ، إما الأحبار والرهبان ، وإما المسلمون الكانزون ، لجري ذكر الفريقين ، وإما ما هو أعم .

والأول روي عن معاوية ، والثاني عن السدي ، والثالث عن ابن عباس وأبي ذر .

قال الزمخشري : يجوز أن يكون الموصو إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان ، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم : أخذ البراطيل ، وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الله .

ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى تغليظا ، ودلالة على أن من يأخذ منهم السحت ، ومن لا يعطي منكم طيب ماله ، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم . انتهى .

قال في ( " الأنوار " ) : ويؤيد الثاني أنه لما نزل كبر على المسلمين ، فذكر عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم » - رواه أبو داود والحاكم وصححه - .

وقوله صلى الله عليه وسلم : « ما أدي زكاته فليس بكنز » - أخرجه الطبراني والبيهقي – [ ص: 3135 ] أي : ليس بالكنز المتوعد عليه في الآية ، فإن الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر الله أن ينفق فيه .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم : « من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها » ونحوه ، فالمراد منها : ما لم يؤد حقها ، لقوله صلى الله عليه وسلم ، فيما أورده الشيخان : البخاري في " تاريخه " ، ومسلم في " صحيحه " ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : « ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها ، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار ، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره » . انتهى .

وقد اشتهرت محاورة معاوية لأبي ذر في هذه الآية .

روى البخاري عن زيد بن وهب قال : مررت بالربذة ، فإذا بأبي ذر ، فقلت : ما أنزلك هذا المنزل ؟ قال : كنت في الشام ، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية :

والذين يكنزون الذهب والفضة فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب ، فقلت : نزلت فينا وفيهم ، فكان بيني وبينه في ذلك كلام ، فكتب إلى عثمان يشكوني ، فكتب إلي عثمان أن اقدم المدينة فقدمتها ، فكثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان ، فقال : إن شئت تنحيت ، فكنت قريبا .

فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ، ولو أمر علي عبد حبشي لسمعت وأطعت .

ولابن جرير في رواية ، بعد قول عثمان له : تنح قريبا ، قلت : والله لن أدع ما كنت أقول .

وروى أبو يعلى أن أبا ذر كان يحدث ويقول : لا يبيتن عند أحدكم دينار ولا درهم ، إلا ما ينفقه في سبيل الله ، أو يعده لغريم .

فكتب معاوية إلى عثمان : إن كان لك بالشام [ ص: 3136 ] حاجة ، فابعث إلى أبي ذر ، فكتب إليه عثمان أن اقدم علي ، فقدم .

قال ابن كثير : كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان يفتي بذلك ، ويحثهم عليه ، ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ، فنهاه معاوية فلم ينته .

فخشي أن يضر بالناس في هذا ، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان ، وأن يأخذه إليه ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة ، ثم أنزله بالربذة : وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان .

وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده ، هل يوافق عمله قوله ، فبعث إليه بألف دينار ، ففرقها من يومه ، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال : إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب .

فقال : ويحك ! إنها خرجت ، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به .

وقال الأحنف بن قيس : قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش ، إذ جاء رجل أخشن الثياب ، أخشن الجسد ، أخشن الوجه ، فقام عليهم فقال : بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه ، يتزلزل .

قال : فوضع القوم رؤوسهم ، فما رأيت أحدا منهم رجع إليه شيئا . قال : وأدبر واتبعته حتى جلس إلى معاوية فقلت : ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم ، فقال : إن هؤلاء لا يعلمون شيئا ، إنما يجمعون الدنيا - رواه مسلم ، وللبخاري نحوه - .

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر : « ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا ، [ ص: 3137 ] يمر علي ثلاثة أيام ، وعندي منه شيء ، إلا دينار أرصده لدين » .

قال ابن كثير : فهذا - والله أعلم - هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا .

أي : وما أخرجه الشيخان أيضا عنه ، قال : انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة ، فلما رآني قال : « هم الأخسرون ورب الكعبة ! » قال : فجئت حتى جلست ، فلم أتقار حتى قمت فقلت : يا رسول الله ! فداك أبي وأمي ، من هم ؟ قال : « هم الأكثرون أموالا ، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا ، من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، وقليل ما هم » .

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه ، أنه كان مع أبي ذر ، فخرج عطاؤه ومعه جارية ، فجعلت تقضي حوائجه ، ففضلت معها سبعة ، فأمرها أن تشتري به فلوسا .

قال : قلت : لو ادخرته لحاجة يومك ، وللضيف ينزل بك قال : إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه ، فهو جمر على صاحبه ، حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل إفراغا .

قال ابن عبد البر : وردت عن أبي ذر آثار كثيرة ، تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت ، وسداد العيش ، فهو كنز يذم فاعله ، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك ، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم ، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة ، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي ، حيث قال : هل علي غيرها قال : « لا ، إلا أن تطوع » . انتهى .

[ ص: 3138 ] وبالجملة ، فالجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤد زكاته . وقد ترجم لذلك البخاري في ( " صحيحه " ) فقال : ( باب ما أدي زكاته فليس بكنز ) .

ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعا : « إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك » .

- حسنه الترمذي وصححه الحاكم - .

وعن ابن عمر : كل ما أديت زكاته ، وإن كان تحت سبع أرضين ، فليس بكنز وكل ما لا تؤدى زكاته فهو كنز ، وإن كان ظاهرا على وجه الأرض .

- أورده البيهقي مرفوعا ، ثم قال : المشهور وقفه ، كحديث جابر : « إذا أديت زكاة مالك ، فقد أذهبت عنك شره » . أخرجه الحاكم ، والمرجح وقفه .

هذا وذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومن وافقه إلى أن الزكاة نسخت وعيد الكنز .

روى البخاري في " صحيحه " أن أعرابيا قال لابن عمر : أخبرني عن قول الله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة الآية ، قال ابن عمر : من كنزها فلم يؤد زكاتها ، فويل له .

إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما أنزلت جعلها الله طهرا للأموال .

زاد ابن ماجه : ثم قال ابن عمر : ما كنت أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبا ، أعلم عدده ، أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى .

ورواه أبو داود في كتاب ( " الناسخ والمنسوخ " ) ، فهذا يشعر بأن الوعيد على الاكتناز . وهو حبس ما فضل عن الحاجة عن المواساة به ، كان في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة ، لما فتح الله الفتوح ، وقدرت نصب الزكاة .

ويشعر أيضا [ ص: 3139 ] بأن فرض الزكاة كان في السنة التاسعة من الهجرة ، وجزم به ابن الأثير في ( " تاريخه " ) ، وقواه بعضهم بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ، ففيها لما أنزلت آية الصدقة بعث النبي صلى الله عليه وسلم عاملا فقال : « ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية » . وأقول : إنما وجبت في التاسعة .

وأقول : هذا الحديث ضعفوه ، والأقوى منه كون هذه السورة التي فيها هذه الآية نزلت في السنة التاسعة كما قدمنا ، فإذا نسخت بالزكاة كانت الزكاة في تلك السنة أو بعدها قطعا .

قال ابن حجر في ( " الفتح " ) : والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما تقدم عن ابن عمر ، واستدل له ابن بطال بقوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو أي : ما فضل عن الكفاية ، فكان ذلك واجبا في أول الأمر ، ثم نسخ - والله أعلم - .

وفي المسند من طريق يعلى بن شداد بن أوس عن أبيه قال : كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ، ثم يخرج إلى قومه ، ثم يرخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمع للرخصة ، ويتعلق بالأمر الأول .

وما سقناه من مذهب أبي ذر ، هو ما ساقه المفسرون وشراح الحديث .

وزعم بعضهم أن الذي حدا أبا ذر لذلك ما رآه من استئثار معاوية بالفيء حيث قال : الذي صح أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كانوا يعتبرون الفيء لكافة المسلمين ، يستوي فيه المقاتلون وغيرهم ، ولعله باعتبار أن القتال فريضة على كل المسلمين فكلهم داخل تحت ذلك الحكم .

قال : والذي يؤيد أنه لكافة المسلمين ، أن أبا ذر رضي الله عنه لما كان بالشام ، والوالي عليها من [ ص: 3140 ] قبل الخليفة عثمان معاوية رضي الله عنهما ، ورأى من معاوية ما يشعر بحرصه على ادخار المال في بيت المال ، لصرفه في وجوه المصالح التي يراها للمسلمين ، وكان أبو ذر مشهورا بالورع شديد الحرص على حقوق المسلمين ، يقول الحق ولو على نفسه .

أخذ يتكلم بهذا الأمير بين الناس ، واتخذ له حزبا من أهل الشام يساعده على مطالبة معاوية برد المال للمسلمين ، وبيان عدم الرضا بكنزه في بيت المال ، لأي حال من الأحوال ، إلا لتوزيعه على كافة المسلمين لاشتراكهم بما أفاء الله عليهم أجمعين ، وتابعه على قوله جماعة كثيرون كانوا يجتمعون لهذا القصد سرا وجهرا ، حتى كادت تكون فتنة ، فشكاه معاوية إلى الخليفة عثمان رضي الله عنهم أجمعين ، فنفاه إلى الربذة خوفا من حدوث ما لا تحمد عقباه . انتهى .

ونقل ما يقرب منه ابن حجر في ( " الفتح " ) حيث قال : والصحيح أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه .

الرابعة : إنما قيل : ولا ينفقونها بضمير المؤنث ، مع أن الظاهر التثنية ، إذ المذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة ، وذلك لأن الكثير منهما هو الذي يكون كنزا ، فأتى بضمير الجمع للدلالة على الكثرة ، ولو ثنى احتمل خلافه . وقيل : الضمير عائد على الكنوز أو الأموال المفهومة من الكلام ، فيكون الحكم عاما ، ولذا عدل فيه عن الظاهر . وتخصيصهما بالذكر لأنهما الأصل الغالب في الأموال للتخصيص .

وقيل : الضمير للفضة ، واكتفى بها ، لأنها أكثر ، والناس إليها أحوج ، ولأن الذهب يعلم منها بالطريق الأولى ، مع قربها لفظا .

الخامسة : في قوله تعالى : ( فبشرهم ) تهكم بهم ، كما في قوله :


تحية بينهم ضرب وجيع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.34 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 48.71 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.27%)]