عرض مشاركة واحدة
  #383  
قديم 10-02-2023, 05:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3141 الى صـ 3155
الحلقة (383)


[ ص: 3141 ] وقيل : البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة ، لتأثيره في القلب ، سواء كان من الفرح أو من الغم .

السادسة : قيل في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالكي دون غيرها ، بأن جمع ذويها وإمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية ، والملابس البهية ، فلوجاهتهم ورئاستهم المعروفة بوجوههم كان الكي بجباههم ، ولامتلاء جنوبهم بالطعام كووا عليها ، ولما لبسوه على ظهورهم كويت .

وقيل : لأنهم إذا سألهم فقير تبدو منهم آثار الكراهة والمنع ، فتكلح وجوههم ، وتقطب . ثم إذا كرر الطلب ازوروا عنه وتركوه جانبا ، ثم إذا ألح ولوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى ، وهي النهاية في الرد ، والغاية في المنع الدال على كراهية الإعطاء والبذل .

وهذا دأب مانعي البر والإحسان ، وعادة البخلاء ، فكان ذلك سببا لكي هذه الأعضاء . وقيل : لأن هذه الأعضاء أشرف الأعضاء الظاهرة ، إذ هي المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد ، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخره وجنباه ، فيكون كناية عن جميع البدن .

وقال القاشاني : جمع المال وكنزه مع عدم الإنفاق لا يكون إلا لاستحكام رذيلة الشح ، وحب المال ، وكل رذيلة لها كية يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا . ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال ، وكان هو الذي يحمى عليه في نار جحيم الطبيعة ، وهاوية الهوى ، فيكوى به .

وإنما خصت هذه الأعضاء ، لأن الشح مركوز في النفس ، والنفس تغلب القلب من هذه الجهات ، لا من جهة العلو التي هي جهة استيلاء الروح ، وممر الحقائق والأنوار ، ولا من جهة السفل التي هي من جهة الطبيعة الجسمانية ، لعدم تمكن الطبيعة من ذلك ، فبقيت سائر الجهات ، فيؤذى بها من الجهات الأربع ويعذب ، كما تراه يعاب بها في الدنيا ، ويجزى من هذه الجهات أيضا ، إما بأن يواجه بها جهرا فيفضح ، أو يسار بها في جنبه ، أو يغتاب بها من وراء ظهره . انتهى .

[ ص: 3142 ] السابعة : قال أبو البقاء : ( يوم ) من قوله تعالى : يوم يحمى عليها ظرف على المعنى ، أي : يعذبهم في ذلك اليوم .

وقيل : تقديره عذاب يوم ، وعذاب بدل من الأول ، فلما حذف المضاف أقام ( اليوم ) مقامه . وقيل : التقدير اذكروا ، و ( عليها ) في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل .

وقيل : القائم مقام الفاعل مضمر ، أي : يحمى الوقود أو الجمر ، و ( بها ) أي : بالكنوز . وقيل هي بمعنى ( فيها ) ، أي : في جهنم وقيل : ( يوم ) ظرف لمحذوف تقديره : يوم يحمى عليها يقال لهم هذا ما كنزتم .

ولما بين تعالى فيما تقدم إقدام الأحبار والرهبان على تغيير أحكام الله تعالى إيثارا لحظوظهم ، أتبعه بما جرأ عليه المشركون ، في نظيره من تغيير الأشهر التي حرمها الله تعالى بغيرها ، وهو النسيء الآتي ، وقوفا مع شهواتهم أيضا ، فنعى عليهم سعيهم في تغيير حكم السنة بحسب أهوائهم وآرائهم مما أوجب زيادة كفرهم ، فقال سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

[ 36 ] إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين .

إن عدة الشهور أي : عددها عند الله أي : في حكمه اثنا عشر شهرا وهي القمرية التي عليها يدور فلك الأحكام الشرعية في كتاب الله أي : في اللوح المحفوظ ، أو فيما أثبته وأوجبه من حكمه .

وقوله : يوم خلق السماوات والأرض متعلق بما في الجار والمجرور من معنى الاستقرار . أراد ( بالكتاب ) على أنه مصدر ، والمعنى : أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر ، منذ خلق الله تعالى الأجرام والحركات والأزمنة . أفاده أبو السعود .

[ ص: 3143 ] منها أي : من تلك الشهور الاثني عشر أربعة حرم ثلاثة سرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وواحد فرد وهو رجب ذلك أي : تحريم الأشهر الأربعة المذكورة الدين القيم أي : المستقيم ، فلا تظلموا فيهن أنفسكم أي : بهتك حرمتها بالقتال فيها .

وقال ابن إسحاق : أي : لا تجعلوا حرامها حلالا ، ولا حلالها حراما ، كما فعل أهل الشرك : وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة أي : جميعا ، واعلموا أن الله مع المتقين أي : بالنصر والإمداد .

ثم بين تعالى ثمرة هذه المقدمة ، وهو تحريم تغيير ما عين تحريمه من الأشهر الحرم ، وإيجاب الحذو بها على ما سبق في كتابه ، ناعيا على المشركين كفرهم ، بإهمالهم ذلك ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 37 ] إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين .

إنما النسيء أي : تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر مصدر ( نسأه ) إذا أخره زيادة في الكفر لأنه تحليل ما حرمه الله ، وتحريم ما حلله ، فهو كفر آخر مضموم إلى كفرهم يضل به الذين كفروا أي : بالله عن أحكامه إذا يجمعون بين الحل والحرمة في شهر واحد يحلونه عاما أي : يحلون النسيء من الأشهر الحرم سنة ، ويحرمون مكانه شهرا آخر .

ويحرمونه عاما أي : يتركونه على حرمته القديمة ، ويحافظون عليها سنة أخرى ، إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم ، والتعبير عن ذلك بالتحريم ، باعتبار إحلالهم له في العام الماضي ، والجملتان تفسير للضلال ، أو حال .

قال الزمخشري : النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر ، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات ، فإذا جاء الشهر الحرام ، وهم محاربون ، شق عليهم ترك المحاربة ، فيحلونه [ ص: 3144 ] ويحرمون مكانه شهرا آخر ، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم ، فكانوا يحرمون من أشق شهور العام أربعة أشهر ، وذلك قوله تعالى : ليواطئوا عدة ما حرم الله أي : ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ، ولا يخالفوها ، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين ، وربما زادوا في عدد الشهور ، فيجعلونا ثلاثة عشر ، أو أربعة عشر ، ليتسع لهم الوقت .

ولذلك قال عز وعلا : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا يعني من غير زيادة زادوها فيحلوا ما حرم الله بتركهم التخصيص للأشهر بعينها زين لهم سوء أعمالهم فاعتقدوا قبيحها حسنا : والله لا يهدي القوم الكافرين

اعلم أن في هاتين الآيتين مسائل :

الأولى : أن الأحكام تعلق بالأشهر العربية ، وهي شهور الأهلة ، دون الشهور الشمسية .

قيل : جعل أول الشهور الهلالية المحرم ، حدث في عهد عمر رضي الله عنه ، وكان قبل ذلك يؤرخ بعام الفيل ، ثم أرخ في صدر الإسلام بربيع الأول .

وقد نقل ابن كثير هنا عن السخاوي وجوه تسمية الأشهر بما سميت به ، ونحن نورد ذلك مأثورا عن أمهات اللغة المعول عليها فنقول :

1 - المحرم : على أنه اسم المفعول ، هو أول الشهور العربية ، أدخلوا عليه الألف واللام لمحا للصفة في الأصل ، وجعلوها علما بهما ، مثل النجم والدبران ونحوهما ، ولا يجوز دخولهما على غيره من الشهور عند قوم ، وعند قوم يجوز على صفر وشوال .

وجمع المحرم محرمات ، والمحرم شهر الله ، سمته العرب بهذا الاسم ، لأنهم كانوا لا يستحلون فيه القتال ، وأضيف إلى الله تعالى إعظاما له ، كما قيل للكعبة ( بيت الله ) . وقيل : سمي بذلك ، لأنه من الأشهر الحرم . قال ابن سيده : وهذا ليس بقوي .

2 - صفر : الشهر الذي بعد المحرم . قال بعضهم : إنما سمي لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع . وقيل : لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا . وروي عن رؤبة أنه قال : سموا الشهر ( صفرا ) ، لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل ، فيتركون من لقوا صفرا من المتاع ، [ ص: 3145 ] وذلك أن صفرا بعد المحرم ، فقالوا : صفر الناس منا صفرا . قال ثعلب : الناس كلهم يصرفون صفرا إلا أبا عبيدة ، فمنعه للعلمية والتأنيث ، بإرادة الساعة ، يعني أن الأزمنة كلها ساعات ، وإذا جمعوه مع المحرم قالوا : ( صفران ) ، ومنه قول أبي ذؤيب :


أقامت به كمقام الحني ف شهري جمادى وشهري صفر


( استشهد به في اللسان في مادة : ) ص فـ ر ( ، وليس في ديوان الهذليين ) .

قال ابن دريد : الصفران من السنة شهران ، سمي أحدهما في الإسلام المحرم ; وجمعه أصفار ، مثل سبب وأسباب ، وربما قيل : ( صفرات ) .

3 و 4 الربيع شهران بعد صفر ، سميا بذلك لأنهما حدا في هذا الزمن ، فلزمهما في غيره قالوا : لا يقال فيهما إلا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر ، بزيادة ( شهر ) وتنوين ( ربيع ) ، وجعل ( الأول ) و ( الآخر ) وصفا تابعا في الإعراب ، ويجوز فيه الإضافة ، وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند بعضهم ، لاختلاف اللفظين ، نحو : وحب الحصيد ولدار الآخرة و : حق اليقين ومسجد الجامع . قال بعضهم : إنما التزمت العرب لفظ شهر قبل ( ربيع ) ، لأن لفظ ( ربيع ) مشترك بين الشهر والفصل ، فالتزموا لفظ شهر ( في الشهر ) ، وحذفوه في ( الفصل ) للفصل .

قال الأزهري أيضا : والعرب تذكر الشهور كلها مجردة من لفظ ( شهر ) إلا شهري ربيع ورمضان .

ويثنى الشهر ويجمع ، فيقال شهرا ربيع ، وأشهر ربيع ، وشهور ربيع .

5 و 6 - جمادى الأولى والآخرة ( كحبارى ) ، الشهران التاليان لشهري ربيع . وجمادى [ ص: 3146 ] معرفة مؤنثة . قال ابن الأنباري : أسماء الشهور كلها مذكرة ، إلا جماديين ، فهما مؤنثان . تقول مضت جمادى بما فيها ، قال الشاعر :


إذا جمادى منعت قطرها زان جناني عطن مغضف


ثم قال : فإن جاء تذكير جمادى في شعر ، فهو ذهاب إلى معنى الشهر . كما قالوا : هذه ألف درهم ، على معنى: هذه الدراهم .

والجمع على لفظها جماديات ، والأولى والآخرة صفة لها ، فالآخرة بمعنى المتأخرة .

قالوا : ولا يقال جمادى الأخرى ، لأن الأخرى بمعنى الواحدة فتتناول المتقدمة والمتأخرة ، فيحصل اللبس . فقيل الآخرة لتختص بالمتأخرة ، وإنما سميت بذلك لجمود الماء فيها ، عند تسمية الشهور ، من البرد . قال :


في ليلة من جمادى ذات أندية لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا


لا ينبح الكلب فيها غير واحدة حتى يلف على خرطومه الذنبا


7 - رجب : سمي به لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه يقال : رجب فلانا ، هابه وعظمه . كرجبه . منصرف وله جموع : أرجاب وأرجبة وأرجب ، ورجاب ورجوب وأراجب ، وأراجيب ورجبانات .

وإذا ضموا له شعبان قالوا ( رجبان ) للتغليب .

وفي الحديث : « رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان » ، وقوله : « بين جمادى وشعبان » تأكيد للشأن وإيضاح ، لأنهم كانوا يؤخرونه من شهر إلى شهر ، فيتحول عن موضعه الذي يختص به ، فبين لهم أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان ، لا ما كانوا يسمونه على حساب النسيء ، وإنما قيل : رجب [ ص: 3147 ] مضر وأضافه إليهم ، لأنهم كانوا أشد تعظيما له من غيرهم ، وكأنهم اختصوا به ، وذكر له بعضهم سبعة عشر اسما .

8 - شعبان : جمعه شعبانات وشعابين ، من ( تشعب ) إذا تفرق كانوا يتشعبون فيه في طلب المياه ، وقيل في الغارات .

وقال ثعلب : قال بعضهم : إنما سمي شعبان لأنه شعب ، أي : ظهر بين شهر رمضان ورجب .

9 - رمضان : سمي به لأن وضعه وافق الرمض ( بفتحتين ) ، وهو شدة الحر ، وجمعه رمضانات وأرمضاء .

وعن يونس أنه سمع رماضين ، مثل شعابين . وقيل : هو مشتق من ( رمض الصائم يرمض ) ، إذا اشتد حر جوفه من شدة العطش ، وهو قول الفراء .

قال بعض العلماء : يكره أن يقال جاء رمضان وشبهه ، إذا أريد به الشهر ، وليس معه قرينة تدل عليه ، وإنما يقال : جاء شهر رمضان ، واستدل بحديث : « لا تقولوا: رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا: شهر رمضان » وهذا الحديث ضعفه البيهقي ، وضعفه ظاهر ، لأنه لم ينقل عن أحد من العلماء أن رمضان من أسماء الله تعالى ، فلا يعمل به .

والظاهر جوازه من غير كراهة ، كما ذهب إليه البخاري وجماعة من المحققين ، لأنه لم يصح في الكراهة شيء .

وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة ما يدل على الجواز مطلقا كقوله : « إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين »

وحقق السهيلي أن لحذف ( شهر ) مقاما يباين مقام ذكره ، يراعيه البليغ .

وحاصله أن في حذفه إشعارا بالعموم ، وفي ذكره خلاف ذلك ، لأنك إذا قلت: شهر [ ص: 3148 ] كذا ، كان ظرفا وزال العموم من اللفظ ، إذ المعنى في الشهر ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: « من صام رمضان » ، ولم يقل : ( شهر رمضان ) ، ليكون العمل فيه كله . انتهى . فليتأمل .

10 - شوال : شهر عيد الفطر ، وأول أشهر الحج ، وجمعه شوالات وشواويل ، وقد تدخله الألف واللام .

قال ابن فارس : وزعم ناس أن الشوال سمي بذلك لأنه وافق وقتا تشول فيه الإبل ، أي : ترفع ذنبها للقاح ، وهو قول الفراء .

وقال غيره : سمي بتشويل ألبان الإبل ، وهو توليه وإدباره ، وكذلك حال الإبل في اشتداد الحر ، وانقطاع الرطب وكانت العرب تتطير من عقد المناكح فيه ، وتقول : إن المنكوحة تمتنع من ناكحها ، حتى تمتنع طروقة الجمل إذا لقحت وشالت بذنبها . فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم طيرتهم ، وقالت عائشة رضي الله عنها : تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال ، وبنى بي في شوال ، وأي نسائه كان أحظى عنده مني ؟

11 - ذو القعدة : بفتح القاف والكسر لغة ، سمي به لأن العرب كانوا يقعدون فيه عن الأسفار ، والغزو والميرة وطلب الكلأ ، ويحجون في ذي الحجة ، والجمع ذوات القعدة ، وذوات القعدات ، والتثنية ذواتا القعدة وذواتا القعدتين ، فثنوا الاسمين وجمعوهما ، وهو عزيز ، لأن الكلمتين بمنزلة كلمة واحدة ، ولا تتوالى على كلمة علامتا تثنية ولا جمع .

12 - ذو الحجة : الشهر الذي يقع فيه الحج سمي بذلك للحج فيه ، والجمع ذوات الحجة ، ولم يقولوا : ( ذوو ) على واحده ، والفتح فيه أشهر من الكسر ، و ( الحجة ) بالكسر المرة الواحدة من الحج ، وهو شاذ لأن القياس في المرة الفتح - انتهى .

وقد أوردنا هذا ملخصا عن ( " المصباح " ) و ( " القاموس " ) و ( " شرحه " ) .

المسألة الثانية : قدمنا أن الأشهر الحرم الأربعة ، ثلاثة سرد أي : متتابعة ، وواحد فرد [ ص: 3149 ] وكانت العرب لا تستحل فيها القتال ، إلا حيان : خثعم وطيئ ، فإنهما كانا يستحلان الشهور ، وكان الذين ينسؤون الشهور أيام الموسم يقولون حرمنا عليكم القتال في هذه الشهور إلا دماء المحلين ، فكانت العرب تستحل دماءهم خاصة في هذه الشهور .

وكان لقوم من غطفان وقيس ، يقال لهم الهباءات ، ثمانية أشهر حرم ، يقال لها ( البسل ) يحرمونها تشددا وتعمقا .

الثالثة : قال ابن كثير : إنما كانت الأشهر المحرمة أربعة : ثلاثة سرد ، وواحد فرد ، لأجل أداء المناسك - الحج والعمرة - فحرم قبل أشهر الحج شهر وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون فيه عن القتال ، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك .

وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول ، لأجل زيارة البيت والاعتمار به ، لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب ، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا .

الرابعة : قال النووي في ( " شرح مسلم " ) : وقد اختلفوا في كيفية عدتها على قولين حكاهما الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه ( " صناعة الكاتب " ) قال : ذهب الكوفيون إلى أنه يقال : المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة قال : والكتاب يميلون إلى هذا القول ليأتوا بهن من سنة واحدة قال : وأهل المدينة يقولون : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، وقوم ينكرون هذا ويقولون : جاءوا بهن من سنتين .

قال أبو جعفر : وهذا غلط بين ، وجهل باللغة ، لأنه قد علم المراد ، وأن المقصود ذكره ، وأنها في كل سنة ، فكيف يتوهم أنها من سنتين ؟ قال : والأولى والاختيار ما قاله أهل المدينة ، لأن الأخبار قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قالوا ، من رواية ابن عمر وأبي هريرة وأبي بكرة رضي الله عنهم ، قال : وهذا أيضا قول أكثر أهل التأويل .

الخامسة : استنبط بعضهم من قوله تعالى : فلا تظلموا فيهن أنفسكم أن الإثم [ ص: 3150 ] في هذه الأشهر المحرمة آكد وأبلغ في الإثم في غيرها ، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف ، لقوله تعالى : ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام ، ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ، وكذا في حق من قتل في الحرم أو قتل ذا محرم .

وقال ابن عباس فيما رواه عنه علي بن أبي طلحة : أنه تعالى اختص من الأشهر أربعة أشهر جعلهن حراما ، وعظم حرماتهن ، وجعل الذنب فيهن أعظم ، والعمل الصالح والأجر أعظم .

وقال قتادة : إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيما ، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء . وقال : إن الله اصطفى صفايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلا ، ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر ، فعظموا ما عظم الله ، فإنما تعظيم الأمور بما عظم الله به عند أهل الفهم ، وأهل العقل - نقله ابن كثير - . ثم ذكر : أن ابن جرير اختار في قوله تعالى : فلا تظلموا فيهن أنفسكم ما قاله ابن إسحاق فيما تقدم .

أقول : هو الظاهر المتبادر .

السادسة : قال المهايمي : إنما كان منها أربعة حرم ليكون ثلث السنة تغليبا للتحليل الذي هو مقتضى سعة الرحمة ، على التحريم الذي هو مقتضى الغضب فجعل أول السنة وآخرها وهو المحرم وذو الحجة ، ولما لم يكن له وسط صحيح ، أخذ أول النصف الآخر وهو رجب ، فبقي من الثلث شهر ، فأخذ قبل الآخر وهو ذو القعدة ، ليكون مع آخر السنة المتصلة بأولها وترا ، وبقي وترية رجب فتتم السنة على التحريم باعتبار أولها وآخرها ، وأوسطها ، مع تذكر وترية الحق المؤكد للتحريم .

انتهى .

[ ص: 3151 ] السابعة : استدل جماعة بقوله تعالى : فلا تظلموا فيهن أنفسكم على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ثابت محكم لم ينسخ ، وكذا بقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام وبقوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الآية .

وذهب آخرون إلى أن تحريم القتال فيها ، منسوخ بآية السيف ، يعني قوله تعالى :

وقاتلوا المشركين كافة قالوا : ظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمرا عاما في الشهر الحرام ، لأوشك أن يقيده بانسلاخها ، وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام ، وهو ذو القعدة ، كما ثبت في الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شوال ، فما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع فلهم ، لجؤوا إلى الطائف ، فعمد إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوما ، وانصرف ولم يفتتحها ، فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام .

وأجاب الأولون بأن الأمر بقتل المشركين ومقاتلتهم مقيد بانسلاخ الأشهر الحرم ، كما في قوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم الآية ، فتكون سائر الآيات المتضمنة للأمر بالقتال مفيدة بما ورد في تحريم القتال في الأشهر الحرم ، كما هي مقيدة بتحريم القتال في الحرم ، للأدلة الواردة في تحريم القتال فيه ، فقوله تعالى :

وقاتلوا المشركين كافة الآية ، من باب التهييج والتحضيض ، أي : كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم ، فاجتمعوا كذلك لهم ، أو هو إذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام ، إذا كانت البداءة منهم ، كما قال تعالى : الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص وقال تعالى : ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم الآية _ ، [ ص: 3152 ] وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف ، واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف ، فإنهم هم الذين ابتدؤوا القتال ، وجمعوا الرجال ، ودعوا إلى الحرب والنزال ، فعندها قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فلما تحصنوا بالطائف ، ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم ، فنالوا من المسلمين ، وقتلوا جماعة واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريبا من أربعين يوما ، وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام ، فاستمر فيه أياما ، ثم قفل عنهم ، لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ، وهذا أمر مقرر ، وله نظائر كثيرة .

فالمحرم هو ابتداء القتال في الأشهر الحرام ، لا إتمامه ، وبهذا يحصل الجمع ، ولذا قال ابن جريج : حلف بالله عطاء بن أبي رباح ، ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم ، وما نسخت إلا أن يقاتلوا فيها .

الثامنة : قال في ( " الإكليل " ) في قوله تعالى : إن عدة الشهور الآية ، إن الله وضع هذه الأشهر وسماها ورتبها على ما هي عليه ، وأنزل ذلك على أنبيائه ، فيستدل بها لمن قال : إن اللغات توقيفية .

التاسعة : في ( " الإكليل " ) أيضا : استدل بقوله تعالى : وقاتلوا المشركين كافة من قال إن الجهاد في عهده صلى الله عليه وسلم كان فرض عين .

العاشرة : قال ابن إسحاق : كان أول من نسأ الشهور على العرب ، فأحل منها ما حرم الله ، وحرم منها ما أحل الله عز وجل ( القلمس ) وهو حذيفة بن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، ثم قال بعده على ذلك ابنه عباد ، ثم ابنه قلع ، ثم أمية بن قلع ثم ابنه عوف بن أمية ، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن [ ص: 3153 ] عوف ، وكان آخرهم ، وعليه قام الإسلام ، فكانت العرب إذا فرغت من حجها ، اجتمعت إليه ، فقام فيهم خطيبا فحرم رجبا ، وذا القعدة ، وذا الحجة ، ويحل المحرم ( عاما ) ، ويجعل مكانه ( صفر ) ، ويحرمه عاما ليواطئ عدة ما حرم الله ، فيحل ما حرم الله يعني ويحرم ما أحل الله . انتهى .

و ( القلمس ) بقاف فلام مفتوحتين ثم ميم مشددة . قال في ( " القاموس وشرحه " ) : هو رجل كناني من نسأة الشهور على معد في الجاهلية ، كان يقف عند جمرة العقبة ويقول : اللهم إني ناسئ الشهور، وواضعها مواضعها، ولا أعاب ولا أحاب. اللهم إني قد أحللت أحد الصفرين ، وحرمت صفر المؤخر ، وكذا في الرجبين ، ( يعني رجبا وشعبان ) ، ثم يقول : انفروا على اسم الله تعالى . قال شاعرهم :


وفينا ناسئ الشهر القلمس


وقال عمير بن قيس المعروف بجذل الطعان :


لقد علمت معد أن قومي كرام الناس أن لهم كراما


ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما


فأي الناس فاتونا بوتر وأي الناس لم نعلك لجاما


وروي أن أول من سن النسيء عمرو بن لحي ، والذي صح من حديث أبي هريرة [ ص: 3154 ] وعائشة ، أن عمرو بن لحي أول من سيب السوائب ، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : « رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار » .

ثم حرض تعالى المؤمنين على قتال الكفرة ، إثر بيان طرف من قبائحهم الموجبة لذلك ، وأشار إلى توجه العتاب والملامة إلى المتخلفين عنه ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 38 ] يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .

وقوله : إلى الأرض متعلق بـ : اثاقلتم على تضمينه معنى الميل والإخلاد ، أي : اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قليل ، وكرهتم مشاق الغزو المستتبعة للراحة الخالدة ، كقوله تعالى : أخلد إلى الأرض واتبع هواه

أو مائلين إلى الإقامة بأرضكم ودياركم ، وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف ، استنفروا لغزو الروم في وقت عسرة وقحط وقيظ ، وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها ، ومع بعد الشقة ، وكثرة العدو ، فشق عليهم .

وقوله تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا أي : الحقيرة الفانية : من الآخرة أي : بدل الآخرة ونعيمها الدائم فما متاع الحياة الدنيا أظهر في مقام الإضمار لزيادة التقرير ، أي : فما التمتع بلذائذها في الآخرة أي : في جنب الآخرة أي : إذا قيست إليها ، و ( في ) [ ص: 3155 ] هذه تسمى ( في القياسية ) ، لأن المقيس يوضع بجنب ما يقاس به إلا قليل أي : مستحقر لا يؤبه له .

روى الإمام أحمد ومسلم عن المستورد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم ، فلينظر بم ترجع » - وأشار بالسبابة - .

ثم توعد تعالى من لم ينفر إلى الغزو ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 39 ] إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير .

إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم أي : لنصرة نبيه ، وإقامة دينه : ولا تضروه شيئا لأنه الغني عن العالمين ، أي : وإنما تضرون أنفسكم . وقيل : الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي : ولا تضروه ، لأن الله وعده النصر ، ووعده كائن لا محالة .

والله على كل شيء قدير أي : من التعذيب والتبديل ونصرة دينه بغيرهم ، وفي هذا التوعد على من يتخلف عن الغزو من الترهيب الرهيب ما لا يقدر قدره .

تنبيه :

قال بعضهم : ثمرة الآية لزوم إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعا إلى الجهاد ، وكذا يأتي مثله في دعاء الأئمة ، ويأتي مثل الجهاد الدعاء إلى سائر الواجبات ، وفي ذلك تأكيد من وجوه :

الأول : ما ذكره من التوبيخ .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.27 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.26%)]