عرض مشاركة واحدة
  #384  
قديم 10-02-2023, 05:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3156 الى صـ 3170
الحلقة (384)



[ ص: 3156 ] الثاني : قوله تعالى : اثاقلتم إلى الأرض وأن الميل إلى المنافع والدعة واللذات لا يكون رخصة في ذلك .

الثالث : في قوله تعالى : أرضيتم بالحياة الدنيا فهذا زجر .

الرابع : قوله تعالى : فما متاع الآية . وهذا تخسيس لرأيهم .

الخامس : ما عقب من الوعيد بقوله : إلا تنفروا يعذبكم

السادس : ما بالغ فيه بقوله : عذابا أليما

السابع : قوله : ويستبدل الآية .

الثامن : قوله : والله على كل شيء قدير ففيه تهديد .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 40 ] إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنـزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم .

إلا تنصروه أي : بالخروج معه إلى تبوك فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا

يعني كفار مكة حين مكروا به ، فصاروا سبب خروجه ، فخرج ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثاني اثنين حال من ضميره صلى الله عليه وسلم ، أي : أحد اثنين إذ هما في الغار بدل من : إذ أخرجه بدل البعض ، إذ المراد به زمان متسع .

والغار نقب في أعلى ثور ، وهو جبل في الجهة اليمنى من مكة على مسيرة ساعة ، مكثا فيه ثلاثا ، ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهما ، ثم يسيرا إلى المدينة ، إذ يقول بدل ثان ، أي : [ ص: 3157 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبه أي : أبي بكر : لا تحزن وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه أشفق من المشركين أن يعلموا بمكانهما ، فيخلص إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أذى ، وطفق يجزع لذلك ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحزن إن الله معنا أي : بالنصرة والحفظ .

روى الإمام أحمد والشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه قال : نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار ، وهم على رؤوسنا ، فقلت : يا رسول الله ! لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه ! فقال : « يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما » .

فأنـزل الله سكينته أي : أمنته التي تسكن عندها القلوب عليه أي : على النبي صلى الله عليه وسلم وأيده بجنود لم تروها يعني الملائكة ، أنزلهم ليحرسوه في الغار ، أو ليعينوه على العدو يوم بدر والأحزاب وحنين ، فتكون الجملة معطوفة على قوله : نصره الله وقوى أبو السعود الوجه الثاني ، بأن الأول يأباه وصفهم بعدم رؤية المخاطبين لهم .

قلت : لا إباءة ، لأن هذا وصف لازم لإمداد القوة الغيبية في كل حال ، وفي الثاني تفكيك في الأسلوب لبعد المتعاطفين ، فافهم . والله أعلم .

وجعل كلمة الذين كفروا السفلى أي : المغلوبة المقهورة ، و ( الكلمة ) الشرك ، أو دعوة الكفر ، فهو مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به على أنها الشرك ، أو هي بمعنى الكلام مطلقا على أنها دعوة الكفر وكلمة الله هي العليا يعني التوحيد ، أو دعوة الإسلام كما تقدم ، أي : التي لا تزال عالية إلى يوم القيامة وكلمة الله بالرفع على الابتداء و : هي العليا مبتدأ وخبر . أو تكون ( هي ) فصلا .

وقرئ بالنصب أي : وجعل كلمة الله ، والأول [ ص: 3158 ] أوجه وأبلغ ، لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت ، وإن الجعل لم يتطرق لها لأنها في نفسها عالية لا يتبدل شأنها ولا يتغير حالها ، وفي إضافة ( الكلمة ) إلى ( الله ) إعلاء لمكانها ، وتنويه لشأنها والله عزيز أي : غالب على ما أراد : حكيم في حكمه وتدبيره .

تنبيه :

قال بعض مفسري الزيدية : استدل على عظيم محل أبي بكر من هذه الآية من وجوه : منها : قوله تعالى : إذ يقول لصاحبه لا تحزن وقوله : إن الله معنا وقوله فأنـزل الله سكينته عليه قيل : على أبي بكر .

عن أبي علي والأصم ، قال أبو علي : لأنه الخائف المحتاج إلى الأمن ، وقيل : على الرسول ، عن الزجاج وأبي مسلم .

قال جار الله : وقد قالوا : من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر ، لأنه رد كتاب الله تعالى . انتهى .

وقال السيوطي في ( " الإكليل " ) : أخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : أنا ، والله ! صاحبه ، فمن هنا قالت المالكية : من أنكر صحبة أبي بكر كفر وقتل ، بخلاف غيره من الصحابة ، لنص القرآن على صحبته . انتهى .

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر : « أنت صاحبي على الحوض ، وصاحبي في الغار » - أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب - .

وقد ساق الفخر الرازي اثني عشر وجها من هذه الآية على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ، فأطال وأطاب .

ولما توعد تعالى من لا ينفر مع الرسول لتبوك ، وضرب له من الأمثال ما فيه أعظم مزدجر ، أتبعه بهذا الأمر الجزم ، فقال سبحانه :
[ ص: 3159 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 41 ] انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون .

انفروا خفافا وثقالا حالان من ضمير المخاطبين ، أي : على أي حال كنتم خفافا في النفور لنشاطكم له ، وثقالا عنه ، لمشقته عليكم ، أو خفافا لقلة عيالكم وأذيالكم ، وثقالا لكثرتها ، أو خفافا من السلاح وثقالا منه ، أو ركبانا ومشاة ، أو شبابا وشيوخا أو مهازيل وسمانا ، واللفظ الكريم يعم ذلك كله ، والمراد حال سهولة النفر وحال صعوبته .

وقد روي عن ثلة من الصحابة أنهم ما كانوا يتخلفون عن غزاة قط ، ويستشهدون بهذه الآية .

ولما كانت البعوث إلى الشام ، قرأ أبو طلحة رضي الله عنه سورة براءة حتى أتى على هذه الآية ، فقال : أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبابا ، جهزوني يا بني ! فقال بنوه : يرحمك الله ، قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، ومع أبي بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك فقال : ما سمع عذر أحد ، ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل .

وكان أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقرأ هذه الآية ، ويقول : فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا ، ولم يتخلف عن غزاة المسلمين إلا عاما واحدا .

وقال أبو راشد الحراني : وافيت المقداد بن الأسود ، فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص ، وقد فصل عنها يريد الغزو ، فقلت له : قد أعذر الله إليك ، فقال : أتت علينا سورة البعوث : انفروا خفافا وثقالا

وعن حيان بن زيد قال : نفرنا مع صفوان بن عمرو وكان واليا على حمص - فرأيت شيخا كبيرا هما ، قد سقط حاجباه على عينيه ، من أهل دمشق ، على راحلته فيمن أغار ، [ ص: 3160 ] فأقبلت إليه فقلت : يا عم ! لقد أعذر الله إليك ، قال : فرفع حاجبيه فقال : يا ابن أخي ! استنفرنا الله خفافا وثقالا ، ألا إنه من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده الله فيبقيه . وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله عز وجل - وروى ذلك كله ابن جرير - .

فرحم الله تلك الأنفس الزكية ، وحياها من بواسل ، باعت أرواحها في مرضاة ربها ، وإعلاء كلمته ، وأكرمت نفسها عن الاغترار بزخارف هذه الحياة الدنية .

ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله ، وبذل المهج في مرضاته ، ومرضاة رسوله ، فقال : وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ما في اسم الإشارة إلى النفير والجهاد من معنى البعد ، للإيذان ببعد منزلته في الشرف ، والمراد بكونه خيرا ، أنه خير في نفسه ، أو خير من الدعة ، والتمتع بالأموال .

تنبيه :

قال الحاكم : الجهاد بالمال ضروب : منها إنفاقه على نفسه في السير في الجهاد ، ومنها صرف ذلك إلى الآلات التي يستعان بها على الجهاد ، ومنها صرفه إلى من ينوب عنه أو يخرج معه .

وقال بعض مفسري الزيدية : ذكر المؤيد بالله أن من له فضل مال ، وجب عليه أن يدفعه إلى الإمام ، إن دعت إليه حاجة .

وذكر الراضي بالله وجوب دفع ما دعت الحاجة إليه من الأموال في الجهاد ، قليلا كان أو كثيرا ، ويتعين ذلك بتعيين الإمام .

وأما من طريق الحسبة ، فقال الراضي بالله : يجب ذلك إن حصل خلل لا يسده إلا المال ، ويدخل في هذا إلزام الضيفة ، وتنزيل الدور ، وقد قال الراضي بالله : للإمام أن يلزم الرعية على ما يراه من المصلحة .

[ ص: 3161 ] وعن المؤيد بالله : إن للإمام إنزال جيشه دور الرعية إذا لم يتم له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالجند، واحتاجوا إلى ذلك . كما يجوز دخول الدار المغصوبة لإزالة المنكر.

وكذا ذكر أبو مضر أنه ينزل في الزائد على حاجة أهل الدور ، وأما من ينزل الدار من جيشه بظلم أو فساد ، فإن عرف ذلك عورض بين مطلب الإمام في دفعه المنكر ، وبين هذا المنكر الواقع من الجند ، أيهما أغلظ . انتهى .

ثم صرف تعالى الخطاب عن المتخلفين ، ووجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، معددا لما صدر عنهم من الهنات قولا وفعلا ، مبنيا لدناءة همهم في هذا الخطب ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 42 ] لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون .

لو كان أي : ما تدعوهم إليه عرضا قريبا أي : نفعا سهل المأخذ ، وسفرا قاصدا أي : وسطا لاتبعوك أي : لا لأجلك ، بل لموافقة أهوائهم ولكن بعدت عليهم الشقة بضم الشين ، وقرئ بكسرها ، أي : الناحية التي ندبوا إليها . وسميت الناحية التي يقصدها المسافر بذلك ، للمشقة التي تلحقه في الوصول إليها .

وقرئ ( بعدت ) بكسر العين . قال الشهاب : بعد يبعد كعلم يعلم ، لغة فيه ، لكنه اختص ببعد الموت غالبا . و ( لا تبعد ) ، يستعمل في المصائب للتفجع والتحسر كقوله :


لا يبعد الله إخوانا لنا ذهبوا أفناهم حدثان الدهر والأبد


وسيحلفون أي : هؤلاء المتخلفون عن غزوة تبوك بالله متعلق ب ( سيحلفون ) ، [ ص: 3162 ] أو هو من جملة كلامهم .

والقول مراد في الوجهين ، أي : سيحلفون عند رجوعك من غزوة تبوك ، معتذرين بالعجز ، يقولون بالله : لو استطعنا لخرجنا معكم أي : إلى تلك الغزوة .

ثم بين تعالى أن هذه الدعوى الكاذبة والحلف لا يفيدانهم ، بقوله سبحانه : يهلكون أنفسهم أي : بهذا الحلف والمخالفة ودعوى العجز والله يعلم إنهم لكاذبون لأنهم كانوا يستطيعون الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 43 ] عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين .

عفا الله عنك لم أذنت لهم أي : لهؤلاء المنافقين بالتخلف حين اعتلوا بعللهم ، حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود ، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب ، فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو .

ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 44 ] لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين .

لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله أي : لمنع إيمانهم به ، من مخالفته ، مع القدرة واليوم الآخر لمنع إيمانهم به من ترك تعويض الثواب والحياة الأبديين إذا أمروا : أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم أي : لأنهم يودون الجهاد بها قربة ، فيبذلونها في سبيله : والله عليم بالمتقين أي : فيعطيهم من الأجر ما يناسب تقواهم .

ففيه شهادة لهم بالانتظام في زمرة الأتقياء ، وعدة لهم بأجزل الثواب .
[ ص: 3163 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 45 ] إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون .

إنما يستأذنك أي : في ترك الجهاد بهما : الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر إذ لا يرجون ثوابه ولا حياته ، وهم المنافقون ، ولذا قال : وارتابت قلوبهم أي : فيما تدعوهم إليه ، أي : رسخ فيها الريب فهم في ريبهم يترددون أي : ليست لهم قدم ثابتة في شيء ، فهم قوم حيارى هلكى ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .

تنبيهات :

الأول : اعلم أن في تصديره تعالى فاتحة الخطاب ببشارة العفو ، دون ما يوهم العتاب ، من مراعاة جانبه عليه الصلاة والسلام ، وتعهده بحسن المفاوضة ، ولطف المراجعة ما لا يخفى على أولي الألباب .

قال سفيان بن عيينة : انظروا إلى هذا اللطف : بدأ بالعفو قبل ذلك المعفو .

قال مكي : عفا الله عنك افتتاح كلام مثل ( أصلحك الله وأعزك ) . وقال الداودي : إنها تكرمة .

أقول : ويؤيد ذلك قول علي بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه :


عفا الله عنك ألا حرمة تعوذ بعفوك أن أبعد

ألم تر عبدا عدا طوره
ومولى عفا ورشيدا هدى

أقلني أقالك من لم يزل
يقيك ويصرف عنك الردى


وما اشتهر من كون العفو لا يكون إلا عن ذنب - غير صحيح - فالواجب تفسيره في كل مقام بما يناسبه .

[ ص: 3164 ] قال الشهاب : وهو يستعمل حيث لا ذنب ، كما تقول لمن تعظمه : عفا الله عنك، ما صنعت في أمري ؟ وفي الحديث : « عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله يغفر له » .

وقال السخاوندي : وهو تعليم لتعظيمه صلى الله عليه وسلم ، ولولا العفو في الخطاب لما قام بصولة العتاب

وقال القاضي عياض في ( " الشفا " ) : وأما قوله تعالى : عفا الله عنك لم أذنت لهم فأمر لم يتقدم للنبي صلى الله عليه وسلم فيه من الله نهي ، فيعد معصية ولا عده الله عليه معصية ، بل يعده أهل العلم معاتبة ، وغلطوا من ذهب إلى ذلك .

قال نفطويه : وقد حاشاه الله من ذلك ، بل كان مخيرا في أمرين .

قالوا : وقد كان له أن يفعل ما يشاء فيما لم ينزل عليه وحي ، وكيف ؟ وقد قال الله تعالى : فأذن لمن شئت منهم فلما أذن لهم أعلمه الله تعالى بما لم يطلعه عليه من سرهم ، أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا لنفاقهم ، وأنه لا حرج عليه فيما فعل ، وليس ( عفا ) هنا بمعنى غفر ، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق » . ولم تجب عليهم قط ، أي : لم يلزمهم ذلك .

ونحوه للقشيري قال : إنما يقول : ( العفو لا يكون إلا عن ذنب ) ، من لم يعرف كلام العرب ، قال : ومعنى : عفا الله عنك أي : لم يلزمك ذنبا . انتهى .

وقد عد ما وقع في الكشاف هنا من قبيح سقطاته .

وللعلامة أبي مسعود مناقشة معه في ذلك ، أوردها لبلوغها الغاية في البلاغة ، قال رحمه الله :

ولقد أخطأ وأساء الأدب ، وبئس ما فعل فيما قال وكتب ، من زعم أن الكلام كناية عن الجناية ، وأن معناه أخطأت ، وبئس ما فعلت ، هب أنه كناية ، أليس إيثارها على التصريح [ ص: 3165 ] بالجناية للتلطيف في الخطاب ، والتخفيف في العتاب ، وهب أن العفو مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة، بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء ، أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة ( بئسما ) ، المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها ، ولا يخفى أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين ، أو منفعة للمسلمين ، بل كان فيه فساد وخبال ، حسبما نطق به قوله عز وجل : لو خرجوا إلخ ، وقد كرهه سبحانه كما يفصح عنه قوله تعالى : ولكن كره الله انبعاثهم الآية ، نعم كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير ، ويفتضحوا على رءوس الأشهاد ، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة ، ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم ، بأنهم غروه صلى الله عليه وسلم ، وأرضوه بالأكاذيب .

على أنه لم يهنأ لهم عيش ، ولا قرت لهم عين ، إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان ، بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان . انتهى .

قال الخفاجي : وحاول بعضهم توجيه كلام الكشاف بأن مراده أن الأصل فيه ذلك ، فأبدله بالعفو تعظيما لشأنه ، ولذا قدم العفو على ما يوجب الجناية ، فلا خطأ فيه .

قال رحمه الله : ولو اتقى هو والموجه موضع التهم - كان أولى وأحرى . انتهى .

الثاني : استدل بالآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم أحيانا بالاجتهاد ، كما بسطه الرازي .

قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : واستدل بها من قال : إن اجتهاده قد يخطئ ولكن ينبه عليه بسرعة .

الثالث : قال الرازي : دلت الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة ، ووجوب التثبت والتأني ، وترك الاغترار بظواهر الأمور ، والمبالغة في التفحص ، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحق من التقريب أو الإبعاد .

الرابع : قال أبو السعود : تغيير الأسلوب بأن عبر عن الفريق الأول بالموصول الذي [ ص: 3166 ] صلته فعل دال على الحدوث ، وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام ، للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص ، غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين ، وأن ما صدر من الآخرين ، وإن كان كذبا حادثا متعلقا بأمر خاص ، لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة ، ناشئ عن رسوخهم في الكذب . ودقق رحمه الله في بيان لطائف أخر . فلتراجع .

الخامس : قيل : نفي الفعل المستقبل الدال على الاستمرار في قوله تعالى : لا يستأذنك يفيد نفي الاستمرار .

وهذا معنى قول الزمخشري : ليس من عادة المؤمنين أي : يستأذنوك .

قال النحرير : ولا يبعد حمله على استمرار النفي ، كما في أكثر المواضع ، أي : عادتهم عدم الاستئذان .

قال الناصر : وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا ، فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي له معروفا ، ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما ، فإن الاستئذان في أمثال هذه المواطن أمارة التكلف والتكره ، وصلوات الله على خليله وسلامه ، لقد بلغ من كرمه وأدبه مع ضيوفه أنه كان لا يتعاطى شيئا من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم ، فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الخلة الجميلة ، والآداب الجليلة ، فقال تعالى : فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين أي : ذهب على خفاء منهم ، كيلا يشعروا به ، والمهتم بأمر ضيفه بمرأى منه ، ربما يعد كالمستأذن له في الضيافة ، فهذا من الآداب التي ينبغي أي : يتمسك بها ذوو المروءة ، وأولو القوة .

وأشد من الاستئذان في الخروج للجهاد ونصرة الدين ، والتثاقل عن المبادرة إليه ، بعد الحض عليه والمناداة .

وأسوأ أحوال المتثاقل ، وقد دعي الناس إلى الغزاة ، أن يكون متمسكا بشعبة من النفاق . نعوذ بالله من التعرض لسخطه .

[ ص: 3167 ] ثم بين تعالى جلية شأن أولئك المنافقين المستأذنين ، بأنهم لم يريدوا الخروج للجهاد حقيقة ، ولذلك خذلهم ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 46 ] ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين .

ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة بضم العين وتشديد الدال ، أي : قوة من مال وسلاح وزاد ونحوها ولكن كره الله انبعاثهم أي : نهوضهم للخروج فثبطهم أي : فكسلهم وضعف رغبتهم وقيل اقعدوا مع القاعدين أي : من النساء والصبيان .

تنبيهات :

الأول : دل قوله تعالى : لأعدوا له عدة على أن عدة الحرب من الكراع والسلاح وجميع ما يستعان به على العدو ، من جملة الجهاد .

فما صرف في المجاهدين صرف في ذلك ، وهذا جلي فيما يتقى به من العدة كالسلاح ، فأما ما يحصل به الإرهاب من الرايات والطبول ونحو ذلك ، مما يضعف به قلب العدو ، فهو داخل في الجهاد ، وقد قال تعالى في سورة الأنفال : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ويكون ذلك كلباس الحرير حالة الحرب ، وهذا جلي حيث لا يؤدي إلى السرف .

الثاني : إن الفعل يحسن بالنية ، ويقبح بالنية ، وإن استويا في الصورة ، لأن النفير واجب مع نية النصر ، وقبيح مع إرادة تحصيل القبيح ، وذلك لأنه تعالى أخبر أنه كره انبعاثهم لما يحصل منه من إرادة المكر بالمسلمين .

[ ص: 3168 ] الثالث : للإمام منع من يتهم بمضرة المسلمين ، أن يخرج للجهاد ، فله نفي الجاسوس والمرجف والمخذل . ذكر ذلك كله بعض مفسري الزيدية .

الرابع : ذكروا أن قوله تعالى : وقيل اقعدوا مع القاعدين تمثيل لإلقاء الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم ، يعني نزل خلق داعية القعود فيهم منزلة الأمر ، والقول الطالب ، كقوله تعالى : فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم أي : أماتهم ، أو هو تمثيل لوسوسة الشيطان بالأمر بالقعود ، أو هو حكاية قول بعضهم لبعض ، أو هو إذن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بالقعود .

قال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى قوله : مع القاعدين ؟ قلت : هو ذم لهم وتعجيز ، وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت ، وهم القاعدون والخالفون والخوالف ، ويبينه قوله تعالى : رضوا بأن يكونوا مع الخوالف

قال الناصر : وهذا من تنبيهاته الحسنة . ونزيده بسطا فنقول :

لو قيل : ( اقعدوا ) مقتصرا عليه ، لم يفد سوى أمرهم بالقعود ، وكذلك : ( كونوا مع القاعدين ) .

ولا تحصل هذه الفائدة من إلحاقهم بهؤلاء الأصناف الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد ، الموسومين بهذه السمة ، إلا من عبارة الآية ، ولعن الله فرعون ، لقد بالغ في توعيد موسى عليه السلام بقوله : لأجعلنك من المسجونين ولم يقل : لأجعلنك مسجونا . لمثل هذه النكتة من البلاغة .

ثم بين تعالى سر كراهته لخروجهم بقوله :
[ ص: 3169 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 47 ] لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين .

لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا أي : فسادا وشرا ولأوضعوا خلالكم أي : ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالفساد .

قال الشهاب : الإيضاع : إسراع سير الإبل . يقال : وضعت الناقة ، تضع إذا أسرعت ، وأوضعتها أنا .

والمراد : الإسراع بالنمائم ، لأن الراكب أسرع من الماشي . فقيل : المفعول مقدر ، وهو النمائم ، فشبه النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها ، وأثبت لها الإيضاع . ففيه تخييلية ومكنية .

وقيل : إنه استعارة تبعية ، شبه سرعة إفسادهم لذات البين بالنميمة ، بسرعة سير الركائب ، ثم استعير لها الإيضاع ، وهو للإبل .

و ( خلال ) جمع خلل ، وهو الفرجة ، استعمل ظرفا بمعنى ( بين ) .

واعلم أن قوله : ولأوضعوا مرسوم في الإمام بألفين ، لأن الفتحة كانت تكتب ألفا قبل الخط العربي ، والخط العربي اختراع قريبا من نزول القرآن ، وقد بقي من تلك الألف أثر في الطباع ، فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحها ألفا أخرى ونحوه : أو لأذبحنه

يبغونكم الفتنة أي : يطلبون لكم ما تفتنون ، بإيقاع الخلاف فيما بينكم ، وإلقاء الرعب في قلوبكم ، وإفساد نياتكم وفيكم سماعون لهم أي : منقادون لقولهم مستحسنون لحديثهم ، وإن كانوا لا يعلمون حالهم ، لضعف عقولهم ، فيتوهمون منهم النصح والإعانة ، وهم يريدون التخذيل والفتنة ، فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين ، وفساد كبير .

وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير ، أي : فيكم عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم .

[ ص: 3170 ] قال ابن كثير : وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم ، بل هذا عام في جميع الأحوال . والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق ، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين .

قال محمد بن إسحاق : كان استأذن ، فيما بلغني ، من ذوي الشرف منهم عبد الله بن أبي ابن سلول والجد بن قيس ، وكانوا أشرافا في قومهم ، فثبطهم الله ، لعلمه بهم أن يخرجوا فيفسدوا عليه جنده .

وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيها يدعونهم إليه ، لشرفهم فيهم ، فقال : وفيكم سماعون لهم انتهى .

والله عليم بالظالمين ولا يخفى عليه شيء من أمرهم ، وفيه شمول للفريقين : القاعدين والسماعين .

ثم برهن تعالى على ابتغائهم الفتنة في كل مرة بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 48 ] لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون .

لقد ابتغوا الفتنة من قبل أي طلبوا الشر بتشتيت شملك ، وتفريق صحبك عنك ، من قبل غزوة تبوك ، كما فعل عبد الله بن أبي ابن سلول حين انصرف بأصحابه يوم أحد عن المسلمين وقلبوا لك الأمور أي دبروا لك الحيل والمكايد ودوروا الآراء في إبطال أمرك .

قال الشهاب : المراد من الأمور المكايد ، فتقليبها مجاز عن تدبيرها ، أو ( الآراء ) ، فتقليبها تفتيشها وإحالتها .

حتى جاء الحق وهو تأييدك ونصرك وظفرك وظهر أمر الله أي : علا دينه وهم كارهون أي : على رغم منهم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.78 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.15 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.26%)]