عرض مشاركة واحدة
  #385  
قديم 10-02-2023, 05:45 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3171 الى صـ 3185
الحلقة (385)



قال ابن كثير : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها . فلما نصره الله يوم بدر ، وأعلى كلمته . قال ابن أبي وأصحابه : هذا أمر [ ص: 3171 ] قد توجه ، ( أي : أقبل ) ، فدخلوا في الإسلام ظاهرا . ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله ، أغاظهم ذلك وساءهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 49 ] ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين .

ومنهم من يقول ائذن لي أي : في القعود ولا تفتني أي : لا توقعني في الفتنة .

روي عن مجاهد وابن عباس أنها نزلت في الجد بن قيس ، أخي بني سلمة ، وذلك فيما رواه محمد بن إسحاق ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له ذات يوم وهو في جهازه : « هل لك يا جد في جلاد بني الأصفر ؟ » فقال : يا رسول الله ! أوتأذن لي ولا تفتني ؟ فوالله ! لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبا بالنساء مني ، وإني أخشى ، إن رأيت نساء بني الأصفر ، ألا أصبر عنهن ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « أذنت لك ! » .

قال الشهاب يعني أنه يخشى العشق لهن ، أو مواقعتهن من غير حل .

وبنات الأصفر : للروم ، كبني الأصفر . وقيل في وجه التسمية وجوه : منها أنهم ملكهم بعض الحبشة ، فتولد بينهم نساء وأولاد ذهبية الألوان . انتهى .

قال ابن كثير : كان الجد بن قيس هذا من أشرف بني سلمة .

وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : « من سيدكم يا بني سلمة ؟ » قالوا : الجد بن قيس ؟ [ ص: 3172 ] على أنا نبخله .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وأي داء أدوأ من البخل ؟ ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض ، بشر بن البراء بن معرور »
.

وقوله تعالى : ألا في الفتنة سقطوا قال أبو السعود : أي : في عينها ونفسها ، وأكمل أفرادها الغني عن الوصف بالكمال ، الحقيق باختصاص اسم الجنس به ، سقطوا لا في شيء مغاير لها ، فضلا عن أن يكون مهربا ومخلصا عنها . وذلك بم فعلوا من العزيمة على التخلف والجرأة على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعة ، ومن القعود بالإذن المبني عليه ، وعلى الاعتذارات الكاذبة ، وقرئ بإفراد الفعل ، محافظة على لفظ ( من ) . وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه ، مع تقديم الظرف ، إيذان بأنهم وقعوا فيها ، وهم يحسبون أنها منجى من الفتنة ، زعما منهم أن الفتنة إنما هي التخلف بغير إذن . وفي التعبير عن ( الافتتان ) بالسقوط في الفتنة ، تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة ، المفصحة عن ترديهم في درجات الردى أسفل سافلين . انتهى .

وإن جهنم لمحيطة بالكافرين أي : ستحيط بهم يوم القيامة ، فلا محيد لهم عنها ولا مهرب ، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا .

ثم بين عداوتهم ، زيادة في تشهير مساوئهم ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 50 ] إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون .

إن تصبك حسنة أي : من فتح وظفر وغنيمة تسؤهم أي : تورثهم مساءة لفرط عداوتهم وإن تصبك مصيبة أي : من نوع شدة يقولوا قد أخذنا أمرنا أي : بالحزم في القعود من قبل أي : من قبل إصابة المصيبة ، فيتبجحوا بما صنعوا حامدين [ ص: 3173 ] لآرائهم ويتولوا أي : عن مجتمعهم الذي أظهروا فيه الفرح برأيهم ، وهم فرحون أي : برأيهم وبما أصابكم وبما سلموا .

ثم أرشد تعالى إلى جوابهم ببطلان ما بنوا عليه مسرتهم ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 51 ] قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون .

قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا أي : ما أثبته لمصلحتنا الدنيوية أو الأخروية ، فلا وجه لهذا الفرح ، لرضانا بقضائه في تلك المصيبة ، فلم يسؤنا بالحقيقة كيف ؟

ولم يكتبها علينا ليضرنا بها ، إذ : هو مولانا أي : يتولى أمورنا ، فإنما كتبها علينا ليوفقنا للصبر والرضا بها ، فيعطينا من الأجر ما هو خير منها وعلى الله فليتوكل المؤمنون أي : لأنه لا ناصر ولا متولي لأمرهم غيره .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 52 ] قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون .

قل هل تربصون أي : تنتظرون بنا إلا إحدى الحسنيين أي : العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب ، وهما النصر والشهادة ونحن نتربص بكم أي : إحدى السوئين من العواقب إما : أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أي : كما أصاب من قبلكم من الأمم أو بعذاب : بأيدينا وهو القتل على الكفر .

فتربصوا أي : بنا ما ذكر من عواقبنا إنا معكم متربصون أي : منتظرون ما هو عاقبتكم [ ص: 3174 ] فلا بد أن يلقى كلنا ما يتربصه ، لا يتجاوزه ، فلا تشاهدون إلا ما يسرنا ، ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 53 ] قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين .

قل أنفقوا يعني أموالكم في سبيل الله ووجوه البر طوعا أو كرها مصدران وقعا موقع الفاعل ، أي : طائعين من قبل أنفسكم ، أو كارهين مخافة القتل لن يتقبل منكم أي : ذلك الإنفاق . ثم بين سبب ذلك بقوله : إنكم كنتم قوما فاسقين أي : عاتين ، متمردين .

لطائف :

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : لن يتقبل منكم ! قلت : هو أمر في معنى الخبر ، كقوله تبارك وتعالى : قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا ومعناه : لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها ، ونحوه قوله تعالى : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم

وقوله :


أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة


أي : لن يغفر الله لهم ، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ، ولا نلومك ، أسأت إلينا أم أحسنت .

[ ص: 3175 ] فإن قلت : متى يجوز هذا ؟ قلت : إذا دل الكلام عليه ، كما جاز عكسه في قولك : رحم الله زيدا وغفر له .

فإن قلت : لم فعل ذلك ؟ قلت : لنكتة فيه ، وهي أن كثيرا كأنه يقول لعزة : امتحني لطف محلك عندي ، وقوة محبتي لك ، وعامليني بالإساءة والإحسان ، وانظري : هل يتفاوت حالي معك ، مسيئة كنت أو محسنة ! وفي معناه قول القائل :


أخوك الذي إن قمت بالسيف عامدا لتضربه لم يستغشك في الود


وكذلك المعنى : أنفقوا وانظروا ، هل يتقبل منكم ؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، وانظر هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه ؟

فإن قلت : ما الغرض في نفي التقبل ، أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله منهم ، ورده عليهم ما يبذلون منه ، أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى ، ذاهبا هباء لا ثواب له ؟ قلت : يحتمل الأمرين جميعا .

وقد روي أن الآية من تتمة جواب الجد بن قيس حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم : هذا مالي أعينك به ، فاتركني ولا تفتني . والله أعلم .
[ ص: 3176 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 54 ] وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون .

ولما بين تعالى قبائح أفعال المنافقين ، وما لهم في الآخرة من العذاب المهين ، وعدم قبول نفقاتهم ، تأثره ببيان أن ما يظنونه من منافع الدنيا هو في الحقيقة سبب لعذابهم وبلائهم ، فينجلي تمام الانجلاء أن النفاق مهواة الخسار ، لجلبه آفات الدنيا والآخرة ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 55 ] فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون .

فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم أي : لأن ذلك استدراج لهم ، كما قال : إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا أي : بسبب ما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب ، وما يرون فيها من الشدائد والمصائب ، وقوله : ليعذبهم قيل : اللام زائدة .

وقيل : المفعول [ ص: 3177 ] محذوف ، وهذه تعليلية ، أي : يريد إعطاءهم لتعذيبهم ، وتزهق أنفسهم وهم كافرون أي : فيموتوا كافرين ، لاهين بالتمتع عن النظر في العاقبة ، فيكون ذلك استدراجا لهم .

وأصل ( الزهوق ) الخروج بصعوبة - أفاده القاضي - .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 56 ] ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون .

ويحلفون بالله يعني المنافقين إنهم لمنكم في الدين ليدفعوا ، بدلالة اليمين ، دلائل النفاق وما هم منكم في ذلك يعني أنهم كاذبون ولكنهم قوم يفرقون أي : يخافون القتل ، وما يفعل بالمشركين ، فيتظاهرون بالإسلام تقية ، ويؤيدونه بالأيمان الفاجرة .

ثم أشار إلى سبب الخوف ، وهو اضطرارهم إلى مساكنهم مع ضعفهم ، بقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 57 ] لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون .

لو يجدون ملجأ أي : حصنا يلتجئون إليه أو مغارات يعني غيرانا في الجبال يسكن كل واحد منهم غارا أو مدخلا يعني موضع دخول يدخلون فيه ، والسرب في الأرض لولوا إليه أي : لأقبلوا نحوه وهم يجمحون أي : يسرعون إسراعا ، لا يردهم شيء ، كالفرس الجموح ، أي : النفور الذي لا يرده لجام ، أي : لو وجدوا شيئا من هذه الأمكنة التي هي منفور عنها ، مستنكرة ، لأتوه لشدة خوفهم ، وكراهتهم للمسلمين ، وغمهم بعز الإسلام ، ونصر أهله .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 58 ] ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون .

ومنهم من يلمزك أي : يعيبك في الصدقات أي : في قسمتها .

ثم بين فساد [ ص: 3178 ] لمزهم ، وأنه لا منشأ له سوى حرصهم على حطام الدنيا بقوله : فإن أعطوا منها أي : قدر ما يريدون رضوا فجعلوه عدلا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون فيجعلونه غير عدل .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 59 ] ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون .

ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله أي : كفانا فضله ، وما قسمه لنا سيؤتينا الله من فضله ورسوله أي : بعد هذا ، حسبما نرجو ونؤمل .

إنا إلى الله راغبون أي : في أن يغنمنا ويخولنا فضله .

والجواب محذوف بناء على ظهوره . أي : لكان خيرا لهم .

روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال : بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم فيئا ، أتاه ذو الخويصرة : رجل من بني تميم - فقال : يا رسول الله ! اعدل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ويلك من يعدل إذا لم أعدل ؟ » فقال عمر بن الخطاب : ايذن لي فيه فأضرب عنقه ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية » .
[ ص: 3179 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 60 ] إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم

إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم

لما ذكر تعالى لمزهم في الصدقات تأثره ببيان حقية ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من القسمة ، إذ لم يتجاوز فيها مصارفها المشروعة له ، وهو عين العدل ، وذلك أنه تعالى شرع قسمها لهؤلاء ، ولم يكله إلى أحد غيره ، ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم منها لنفسه شيئا ، ففيم اللمز لقاسمها ، صلوات الله عليه ؟

روى البخاري عن معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم ، والله يعطي » .

وروى أبو داود عن زياد بن الحارث رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته ، فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة ، فقال له : « إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك » .

فالآية رد لمقالة أولئك اللمزة ، وحسم لأطماعهم ، ببيان أنهم بمعزل من الاستحقاق . وإعلام بمن إعطاؤهم عدل ، ومنعهم ظلم .

[ ص: 3180 ] والفقراء ، جمع فقير ، فعيل بمعنى فاعل ، يقال فقر يفقر من باب تعب ، إذا قل ماله .

والمساكين : جمع مسكين ، من ( سكن سكونا ) ، ذهبت حركته ، لسكونه إلى الناس ، وهو بفتح الميم في لغة بني أسد ، وبكسرها عند غيرهم .

قال ابن السكيت : المسكين : الذي لا شيء له ، والفقير : الذي له بلغة من العيش . وكذلك قال يونس ، وجعل الفقير أحسن حالا من المسكين .

قال : وسألت أعرابيا : أفقير أنت ؟ فقال : لا ، والله بل مسكين ، وقال الأصمعي : المسكين أحسن حالا من الفقير ، وهو الوجه ; لأن الله تعالى قال : أما السفينة فكانت لمساكين وكانت تساوي جملة ، وقال في حق الفقراء : لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف وقال ابن الأعرابي : المسكين هو الفقير ، وهو الذي لا شيء له ، فجعلهما سواء . كذا في ( " المصباح " ) .

قال البدر القرافي : وإذا اجتمعا افترقا ، كما إذا أوصي للفقراء والمساكين ، فلا بد من الصرف للنوعين ، وإن افترقا اجتمعا ، كما إذا أوصي لأحد النوعين ، جاز الصرف للآخر .

قال المهايمي : ثم ذكر تعالى من يحتاج إليهم المحتاجون إلى الصدقات ، فقال : والعاملين عليها أي : الساعين في تحصيلها : القابض والوازن والكيال والكاتب ، ويعطون أجورهم منها .

ثم ذكر من يحتاج إليهم الإمام فقال : والمؤلفة قلوبهم وهم قوم ضعفت نيتهم في الإسلام ، فيحتاج الإمام إلى تأليف قلوبهم بالعطاء ، تقوية لإسلامهم ، لئلا يسري ضعفهم إلى غيرهم ، أو أشراف يترقب بإعطائهم إسلام نظرائهم .

ثم ذكر تعالى من يعان بها في دفع الرق بقوله : وفي الرقاب أي : وللإعانة في فك الرقاب ، فيعطي المكاتبون منها ما يستعينون به على [ ص: 3181 ] أداء نجوم الكتابة ، وإن كانوا كاسبين ، وهو قول الشافعي والليث ، أو : وللصرف في عتق الرقاب ، بأن يبتاع منها الرقاب فتعتق .

قال ابن عباس والحسن : لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ، وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق .

ولا يخفى أن ( الرقاب ) يعم الوجهين ، وقد ورد في ثواب الإعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة .

ثم ذكر تعالى من تفك ذمته في الديون بقوله : والغارمين

وهم الذين ركبتهم الديون لأنفسهم في غير معصية ، ولم يجدوا وفاء ، أو لإصلاح ذات البين ولو أغنياء .

ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله : وفي سبيل الله

فيصرف على المتطوعة في الجهاد ، ويشترى لهم الكراع والسلاح .

قال الرازي : لا يوجب قوله : وفي سبيل الله القصر على الغزاة ، ولذا نقل القفال في ( " تفسيره " ) عن بعض الفقهاء جواز صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى ، وبناء الحصون ، وعمارة المساجد ، لأن قوله : وفي سبيل الله عام في الكل . انتهى .

ولذا ذهب الحسن وأحمد وإسحاق إلى أن الحج من : ( سبيل الله ) فيصرف للحجاج منه .

قال في ( الإقناع ) و ( شرحه ) : والحج من ( سبيل الله ) نصا ، روي عن ابن عباس وابن عمر ، لما روى أبو داود ، أن رجلا جعل ناقة في سبيل الله ، فأرادت امرأته الحج ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : اركبيها ، فإن الحج من ( سبيل الله ) ، فيأخذ إن كان فقيرا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو عمرة ، أو يستعين به فيه ، وكذا في نافلتهما ، لأن كلا من ( سبيل الله ) . انتهى .

قال ابن الأثير : و ( سبيل الله ) عام ، يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله عز وجل ، بأداء الفرائض والنوافل ، وأنواع التطوعات ، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد ، حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه . انتهى .

وقال في ( " التاج " ) : كل سبيل أريد به الله عز وجل وهو بر ، داخل في سبيل الله .

[ ص: 3182 ] ثم ذكر تعالى الإعانة لأبناء الطريق بقوله :

وابن السبيل فيعطي المجتاز في بلد ما يستعين به على بلوغه لبلده .

وقوله تعالى : فريضة من الله ناصبه مقدر ، أي : فرض الله ذلك فريضة ، وقوله : والله عليم أي : بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم .

وقوله : حكيم أي : لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي منها سوق الحقوق إلى مستحقيها .

تنبيهات :

الأول : ظاهر الآية يقضي بالقسمة بين الثمانية الأصناف ، ويؤيد هذا وجهان :

الأول : ما يقتضيه اللفظ اللغوي ، إن قلنا : الواو للجمع والتشريك .

والثاني : ما رواه أبو داود في سننه من قوله صلى الله عليه وسلم : « إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات ، حتى حكم فيها ، فجزأها ثمانية أجزاء » الحديث .

وقد ذهب إلى هذا الشافعي وعكرمة والزهري ، إلا إن استغنى أحدها فتدفع إلى الآخرين ، بلا خلاف .

وذهبت طوائف إلى جواز الصرف في صنف واحد منهم عمر وابن عباس ، وحذيفة وعطاء وابن جبير والحسن ومالك وأبو حنيفة ، والهادي والقاسم وأسباطهما ، وزيد . قال في ( " التهذيب " ) : وخرجوا عن الظاهر في دلالة الآية المذكورة والخبر ، بوجوه :

الأول : أن الله تعالى قال في سورة البقرة : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم فدل على أن ذكر العدد هنا لبيان جنس من يستحقها .

الثاني : الخبر وهو قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم .

الثالث : حديث سلمة بن صخر ، فإنه عليه الصلاة والسلام جعل له صدقة بني زريق .

الرابع : أنه لم يظهر في ذلك خلاف من جهة الصحابة فجرى كالمجمع عليه .

الخامس : المعارضة [ ص: 3183 ] للفظ بالمعنى ، فإن المقصود سد الخلة .

وقال صاحب ( " النهاية " ) : وهذا أقرب إلى المعنى ، والأول أقرب إلى اللفظ ، ويؤيد أنها مستحقة بالمعنى لا بالاسم ، أنا لو قلنا تستحق بالاسم لزم أن من كان فقيرا غازيا غارما مسافرا ، أن يستحق سهاما لهذه الأسباب جميعا - كذا في تفسير بعض الزيدية - .

وقال الناصر في ( " الانتصاف " ) : القول بوجوب صرفها إلى جميع الأصناف ، حتى لا يجوز ترك صنف واحد منها أخذا من إشعار ( اللام ) بالتمليك ، كما ذهب إليه الشافعي : لا يسعده السياق ، فإن الآية مصدرة بكلمة الحصر الدالة على قصر جنس الصدقات على الأصناف المعدودة ، وأنها مختصة بهم ، وأن غيرهم لا يستحق فيها نصيبا ، كأنه قيل : إنما هي لهم لا لغيرهم ، فهذا هو الغرض الذي سيقت له الآية ، فلا اقتضاء فيها لما سواه . انتهى .

الثاني : قال بعضهم : لفظ ( الصدقات ) بعمومه يجمع الصدقة الواجبة والنافلة ، ثم إن الصدقة الواجبة تتنوع أنواعا ، منها الزكوات لما هو العشر أو نصف العشر ، أو ربع العشر ، وزكاة المواشي والفطرة والكفارات ، نحو كفارة اليمين والظهار والصوم ، وكذلك الهدي في الحج ، ومنها ما يؤخذ من أموال الكفار ورؤوسهم ، ولهذا سمى الله الغنائم صدقة في سبب نزول الآية ، وذلك في قسمة غنائم ( حنين ) ، فإذا كان اللفظ يعم ما ذكر ، فهل تحمل الآية على عمومها في قسمتها على ما ذكر ، أو يخصص البعض ؟

ثم قال : والعلماء قسموا الصدقات ، وجعلوا مصارفها مختلفة ، والكفارة لم يذكر أنها تصرف في الثمانية المصارف .

وقد ورد قوله تعالى : ( فكفارته إطعام ستين مسكينا ) وفي الحديث : « أطعم عن كل يوم مسكينا » ، وورد في الفطرة : « أغنوهم هذا اليوم » .

وورد الأدلة مخصصة لعموم لفظ الصدقات ؟ فإن الزكوات مجمع عليها في أن مصرفها الثمانية الأصناف ، أم كيف تنزل الآية على القواعد الأصولية ؟ . انتهى كلامه .

[ ص: 3184 ] ولا يخفى كونها مخصصة لعموم لفظ الصدقات ، لأن الخاص يقضي على العام على أن المراد قصرها على هذه الأصناف ، فكل ما ذكر لم يخرج عنها لشمولها له . والله أعلم .

الثالث : ( المؤلفة قلوبهم ) حكمهم باق ، لأنه صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة من المسلمين والمشركين ، فيعطون عند الحاجة .

ويحمل ترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم ، على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم ، لا لسقوط سهمهم ، فإن الآية من آخر ما نزل ، وأعطى أبو بكر عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر .

ومنع وجود الحاجة على ممر الزمان ، واختلاف أحوال النفوس في القوة والضعف لا يخفى فساده . كذا في ( " الإقناع " ) و ( " شرحه " ) .

والمؤلفة كما في ( " الإقناع " ) هم رؤساء قومهم : من كافر يرجى إسلامه ، أو كف شره ، ومسلم يرجى بعطيته قوة إيمانه ، أو إسلام نظيره ، أو نصحه في الجهاد ، أو في الدفع عن المسلمين ، أو كف شره كالخوارج ونحوهم ، أو قوة على جباية الزكاة ممن لا يعطيها . انتهى .

الرابع : قال في ( " الإكليل " ) : استدل بعموم الآية من أجاز الدفع للفقير القادر على الاكتساب .

وللذمي ، ولمن تلزمه نفقته لسائر القرابة ، للزوج ، ولآله صلى الله عليه وسلم ، حيث حرموا حظهم من الخمس ، ولمواليهم ، ولمن جوز نقلها .

وقال ابن الفرس : يؤخذ من قوله تعالى : والعاملين جواز أخذ الأجرة لكل من اشتغل بشيء من أعمال للمسلمين .

قال : وقد احتج به أبو عبيد على جواز أحد القضاة الرزق فقال : قد فرض الله للعاملين على الصدقة ، وجعل لهم منها حقا بقيامهم فيه وسعيهم ، فكذلك القضاة يجوز لهم أخذ الأجرة على عملهم ، وكذا كل من شغل بشيء من أعمال المسلمين .

الخامس : قال الزمخشري : فإن قلت : لم عدل عن اللام إلى ( في ) ، في الأربعة الأخيرة ؟ قلت : للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ، لأن ( في ) للوعاء ، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ، ويجعلوا مظنة لها ومصبا ، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر ، وفي فك الغارمين من الغرم ، من التخليص والإنقاذ .

[ ص: 3185 ] ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة ، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال ، وتكرير ( في ) ، في قوله تعالى : وفي سبيل الله وابن السبيل فيه فضل ترجيح لهذين ، على الرقاب والغارمين . انتهى .

قال الناصر : وثم سر آخر هو أظهر وأقرب ، وذلك أن الأصناف الأربعة الأوائل ملاك لما عساه يدفع إليهم ، وإنما يأخذونه ملكا ، فكان دخول اللام لائقا بهم ، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون ما يصرف نحوهم ، بل ولا يصرف إليهم ، ولكن في مصالح تتعلق بهم .

فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون والبائعون ، فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك ( باللام ) المشعرة بتملكهم لما يصرف نحوهم ، وإنما هم محال لهذا الصرف ، والمصلحة المتعلقة به .

وكذلك ( الغارمون ) ، إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم ، تخليصا لذممهم ، لا لهم وأما : ( سبيل الله ) فواضح فيه ذلك .

وأما : ( ابن السبيل ) فكأنه كان مندرجا في سبيل الله ، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته ، مع أنه مجرد من الحرفين جميعا ، وعطفه على المجرور ( باللام ) ممكن ، ولكنه على القريب منه أقرب . والله أعلم .

ثم قال : وكان جدي أبو العباس أحمد بن فارس الفقيه ، استنبط من تغاير الحرفين المذكورين وجها في الاستدلال لمالك ، رحمه الله ، على أن الغرض بيان المصرف و ( اللام ) لذلك لام الملك ، فيقول : متعلق الجار الواقع خبرا عن الصدقات محذوف ، فيتعين تقديره ، فإما أن يكون التقدير : إنما الصدقات مصروفة للفقراء ، كقول مالك ، أو مملوكة للفقراء ، كقول الشافعي ، لكن الأول متعين لأنه تقدير ، يكتفى به في الحرفين جميعا ، يصح تعلق ( اللام ) به و ( في ) معا ، فيصح أن نقول : هذا الشيء مصروف في كذا ولكذا ، بخلاف تقديره مملوكة ، فإنه إنما يلتئم مع اللام ، وعند الانتهاء إلى ( في ) يحتاج إلى تقدير : مصروفة ليلتئم بها .

فتقديره من ( اللام ) عام التعلق ، شامل الصحة ، متعين ، والله الموفق . انتهى .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.48 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 48.85 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.27%)]