عرض مشاركة واحدة
  #388  
قديم 10-02-2023, 06:07 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3216 الى صـ 3230
الحلقة (388)



وفهم المعنى الحقيقي من [ ص: 3216 ] لفظ اشتهر مجازه ، لا ينافي فصاحته ، ومعرفته باللسان فإنه لا خطأ فيه ، ولا بعد ، إذ هو الأصل ، ورجحه عنده شغفه بهدايتهم ، ورأفته بهم ، واستعطاف من عداهم .

قال الناصر : وقد أنكر القاضي رضي الله عنه حديث الاستغفار ، ولم يصححه وتغالى قوم في قبوله ، حتى إنهم اتخذوه عمدة في مفهوم المخالفة ، وبنوه على أنه عليه السلام فهم من تحديد نفي الغفران بالسبعين ، ثبوت الغفران بالزائد عليه ، وذلك سبب إنكار القاضي عليهم وقيل : لما سوى الله بين الاستغفار وعدمه ، ورتب عليه عدم القبول ، ولم ينه عنه ، فهم أنه خير ومرخص فيه ، وهذا مراده صلى الله عليه وسلم ، لا أنه فهم التخيير من ( أو ) ، حتى ينافي التسوية بينهما ، المرتب عليها عدم المغفرة ، وذلك تطييبا لخاطرهم ، وأنه لم يأل جهدا في الرأفة بهم .

قال الشهاب : والتحقيق أن المراد التسوية في عدم الفائدة ، وهي لا تنافي التخيير ، فإن ثبت فهو بطريق الاقتضاء ، لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما ، فلا بد من أحدهما ، فقد يكون في الإثبات كقوله تعالى : سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لأنه مأمور بالتبليغ ، وقد يكون في النفي كما هنا ، وفي قوله : سواء عليهم أستغفرت لهم الآية ، فهو محتاج إلى البيان ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنه رخص لي » ، ولعله رخص له في ابن أبي لحكمة ، وإن لم يترتب عليه فائدة القبول . انتهى .

وقال الحافظ ابن حجر في ( " الفتح " ) : روى عبد الرزاق عن معمر ، عن قتادة قال : لما نزلت : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لأزيدن على السبعين » ، فأنزل الله تعالى : سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم

ثم قال : ويحتمل أن تكون الأيتان معا نزلتا في ذلك . انتهى .

ثم أشار تعالى إلى نوع آخر من مساوئ المنافقين وهو جعلهم الفرح مكان الحزن ، والكراهة مكان الرضا . بقوله سبحانه :
[ ص: 3217 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 81 ] فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون .

فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله المخلفون : هم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين ، فأذن لهم في التخلف كما قلنا ، أو لأنه خلفهم في المدينة في غزوة تبوك .

وإيثار : ( المخلفون ) على ( المتخلفون ) ، لأنه صلى الله عليه وسلم منع بعضهم من الخروج ، فغلب على غيرهم ، أو المراد من خلفهم كسلهم أو نفاقهم ، أو لأن الشيطان أغراهم بذلك ، وحملهم عليه .

وقوله تعالى : بمقعدهم متعلق ب ( فرح ) ، أي : بقعودهم عن غزوة تبوك . ف ( مقعد ) على هذا ، مصدر ميمي ، أو هو اسم مكان ، والمراد به المدينة .

وقوله : خلاف رسول الله أي : خلفه ، وبعد خروجه ، حيث خرج ولم يخرجوا .

ف خلاف ظرف بمعنى خلف وبعد .

يقال : فلان أقام خلاف الحي أي : بعدهم ، ظعنوا ولم يظعن ، ويؤيده قراءة من قرأ : ( خلف رسول الله ) ، فانتصابه على أنه ظرف ل ( مقعدهم ) ، إذ لا فائدة لتقييد فرحهم بذلك .

قال الشهاب : واستعمال ( خلاف ) بمعنى ( خلف ) ، لأن جهة الخلف خلاف الأمام ، وجوز أن يكون ( الخلاف ) بمعنى ( المخالفة ) ، فهو مصدر ( خالف ) ، كالقتال ، ويعضده قراءة من قرأ ( خلف رسول الله ) بضم الخاء ، وفي نصبه وجهان :

الأول : أنه مفعول له ، والعامل إما ( فرح ) ، أي : فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود ، وإما ( مقعدهم ) ، لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم ، فهو علة إما للفرح أو للقعود .

[ ص: 3218 ] والثاني : أنه حال ، والعامل أحد المذكورين ، أي : فرحوا مخالفين له صلى الله عليه وسلم بالقعود ، أو فرحوا بالقعود مخالفين له .

وقوله تعالى : وكرهوا إلخ أي : لما في قلوبهم من مرض النفاق .

قال أبو السعود : وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال : وكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو ، إيذانا بأن الجهاد في سبيل الله ، مع كونه من أجل الرغائب ، وأشرف المطالب ، التي يجب أن يتنافس بها المتنافسون ، قد كرهوه ، كما فرحوا بأقبح القبائح ، الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال الزمخشري : في قوله تعالى : وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم تعريض بالمؤمنين ، وبتحملهم المشاق العظام لوجه الله تعالى ، وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى ، وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض ـ أي : ( الراحة والتنعم بالمآكل والمشارب ) ـ وكره ذلك المنافقون ، وكيف لا يكرهونه ؟ وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان ، وداعي الإيقان .

قال الشهاب : ووجه التعريض ظاهر ، لأن المراد كرهوه ، لا كالمؤمنين الذين أحبوه .

وقوله تعالى : وقالوا لا تنفروا في الحر أي : قالوا لإخوانهم لا تنفروا إلى الجهاد في الحر ، فإنه لا يستطاع شدته .

وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر ، عند طيب الظلال والثمار ، وذلك تثبيتا لهم على التخلف ، وتواصيا فيما بينهم بالشر والفساد ، أو قالوا للمؤمنين تثبيطا لهم عن الجهاد ، ونهيا عن المعروف ، وإظهارا لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود وكراهية الجهاد ، ونهي الغير عن ذلك - أفاده أبو السعود - .

وقوله تعالى : قل أي : ردا عليهم وتجهيلا لهم : نار جهنم أي : التي ستدخلونها [ ص: 3219 ] بما فعلتم : أشد حرا أي : مما تحذرون من الحر المعهود ، وتحذرون الناس منه ، فما لكم لا تحذرونها ، وتعرضون أنفسكم لها ، بإيثار القعود على النفير .

وقوله تعالى : لو كانوا يفقهون اعتراض تذييلي من جهته تعالى ، غير داخل تحت القول المأمور به ، مؤكد لمضمونه .

وجواب ( لو ) إما مقدر ، أي : لو كانوا يفقهون أنها كذلك ، أو كيف هي ، أو أن مآلهم إليها لما فعلوا ما فعلوا ، أو لتأثروا بهذا الإلزام ، وإما غير منوي ، على أن لو لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحقق مدخولها ، أي : لو كانوا من أهل الفقه الفطانة ، كما في قوله تعالى : قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون

كذا في ( أبي السعود ) .

تنبيهان :

الأول : قال الزمخشري : قوله تعالى : قل نار جهنم إلخ ، استجهال لهم ، لأن من تصون من مشقة ساعة ، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل . ولبعضهم :


مسرة أحقاب تلقيت بعدها مساءة يوم أريها شبه الصاب

فكيف بأن تلقي مسرة ساعة
وراء تقضيها مساءة أحقاب


- انتهى -

[ ص: 3220 ] أي : فهم كما قال الآخر :


كالمستجير من الرمضاء بالنار


وقال آخر :


عمرك بالحمية أفنيته خوفا من البارد والحار


وكان أولى لك أن تتقي من المعاصي حذر النار


الثاني : روى الإمام مالك والشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « نار بني آدم التي يوقدون بها جزء من سبعين جزءا » ، زاد الإمام أحمد : « من نار جهنم » .

وروى الشيخان عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة ، لمن له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ، لا يرى أن أحدا من أهل النار أشد عذابا منه ، وإنه أهونهم عذابا » .

ثم أخبر تعالى عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل ، والبكاء الطويل ، المؤدي إليه أعمالهم السيئة ، التي من جملتها ما ذكر من الفرح ، بقوله سبحانه :
[ ص: 3221 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 82 ] فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون .

فليضحكوا قليلا أي : ضحكا قليلا ، أو زمانا قليلا ، غايته مدة حياتهم وليبكوا كثيرا أي : بكاء ، أو زمانا كثيرا ، بعد الموت ، أبد الآباد جزاء بما كانوا يكسبون أي : بفرحهم بمخالفة الله ورسوله ، من الكفر والمعاصي العظائم .

لطائف :

الأولى : سر إخراج حالهم الدنيوي والأخروي على صيغة الأمر ، الدالة على تحتم وقوع المخبر به ، فإنه أمر الآمر المطاع مما لا يكاد يتخلف عنه المأمور به ، فإن قيل : إنهم ذكروا أنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة ، لاقتضائه تحقق المأمور به ، فالخبر آكد ، فما باله عكس هنا ؟

فالجواب : لا منافاة بينهما ، لأن لكل مقام مقالا ، والنكت لا تتزاحم ، فإذا عبر عن الأمر بالخبر ، لإفادة أن المأمور ، لشدة امتثاله ، كأنه وقع منه ذلك ، وتحقق قبل الأمر كان أبلغ .

وإذا عبر عن الخبر بالأمر كأنه لإفادة لزومه ووجوبه ، فكأنه مأمور به ، أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى .

الثانية : الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في قوله : ( بما كانوا يكسبون ) دلالة على الاستمرار التجددي ما داموا في الدنيا .

الثالثة : ( جزاء ) مفعول له للفعل الثاني ، أي : ليبكوا جزاء ، أو مصدر حذف ناصبه ، أي : يجزون بما ذكر من البكاء الكثير جزاء .

ولما جلى سبحانه ما جلى من أمرهم ، فرع عليه قوله :
[ ص: 3222 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 83 ] فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين .

فإن رجعك الله أي : ردك من غزوة تبوك إلى طائفة منهم أي : من المنافقين المتخلفين في المدينة فاستأذنوك للخروج معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك ، دفعا للعار السابق فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة أي : فخذلكم الله ، وسقطتم عن نظره ، بل غضب عليكم ، وألزمكم العار .

فاقعدوا مع الخالفين أي : من النساء والصبيان دائما .

لطائف :

قوله تعالى : لن تخرجوا معي أبدا إخبار في معنى النهي للمبالغة ، وذكر القتال لأنه المقصود من الخروج ، فلو اقتصر على أحدهما كفى إسقاطا لهم عن مقام الصحبة ، ومقام الجهاد ، أو عن ديوان الغزاة ، وديوان المجاهدين ، وإظهارا لكراهة صحبتهم ، وعدم الحاجة إلى عدهم من الجند ، أو ذكر الثاني للتأكيد ، لأنه أصرح في المراد ، والأول لمطابقته لسؤاله كقوله :


أقول له ارحل لا تقيمن عندنا


فهو أدل على الكراهة لهم - أفاده الشهاب - .

قال أبو السعود فكان محو أساميهم من دفتر المجاهدين ، ولزهم في قرن الخالفين ، عقوبة لهم أي عقوبة .

ثم قال : وتذكير اسم التفضيل المضاف إلى المؤنث ، هو الأكثر الدائر على الألسنة . فإنك لا تكاد تسمع قائلا يقول : هي كبرى امرأة ، أو أولى مرة .
[ ص: 3223 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 84 ] ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون .

ولا تصل على أحد منهم مات أبدا قال المهايمي : لأنها شفاعة ، ولا شفاعة في حقهم ولا تقم على قبره أي : لا تقف عليه للدفن أو للزيارة والدعاء .

قال الشهاب : القبر مكان وضع الميت ، ويكون بمعنى الدفن ، وجوز هنا .

إنهم كفروا بالله ورسوله في الحياة في الباطن وماتوا وهم فاسقون أي : خارجون عن الإيمان الظاهر ، الذي كانوا به في حكم المؤمنين .

تنبيهات :

الأول : روى الشيخان في سبب نزول الآية عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لما توفي عبد الله ابن أبي ، جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ، فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فقام عمر ، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! تصلي عليه ، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه ؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنما خيرني الله فقال : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم وسأزيده على السبعين » . قال : إنه منافق . قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل آية : ولا تصل على أحد منهم إلخ .


[ ص: 3224 ] قال الحافظ أبو نعيم : وقع في رواية في قول عمر : ( أتصلي عليه وقد نهاك الله عن الصلاة على المنافقين ؟ ) ، ولم يبين محل النهي ، فوقع بيانه في رواية أبي ضمرة عن العمري : وهو أن مراده بالصلاة عليهم الاستغفار لهم ، ولفظه : وقد نهاك الله أن تستغفر لهم . انتهى .

يعني في قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى فإنها نزلت في قصة أبي طالب حين قال صلى الله عليه وسلم : « لأستغفرن لك ، ما لم أنه عنك » . وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقا ، ووفاة عبد الله بن أبي في ذي القعدة ، سنة تسع بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك . كذا في ( " فتح الباري " ) .

ووقع في مسند الإمام أحمد ما تقدم من حديث عمر نفسه .

قال عمر : لما توفي عبد الله بن أبي دعي له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام عليه ، فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه ، تحولت حتى قمت في صدره فقلت : يا رسول الله ! أعلى عدو الله : عبد الله بن أبي القائل يوم كذا ، كذا وكذا ؟ يعدد أيامه ، قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ، حتى إذا أكثرت عليه قال : « أخر عني يا عمر ، إني خيرت فاخترت ، قد قيل لي : استغفر لهم الآية ، لو أعلم أني لو زدت على السبعين ، غفر له ، لزدت » .

قال : ثم صلى عليه ومشى معه وقام على قبره ، حتى فرغ منه . قال : فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ورسوله أعلم .

قال : فوالله ! ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان : ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية ، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ، ولا قام على قبره ، حتى قبضه الله عز وجل .


[ ص: 3225 ] ورواه البخاري والترمذي أيضا .

وروى الإمام أحمد عن جابر قال : لما مات عبد الله بن أبي ، أتى ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ! إنك إن لم تأته لم نزل نعير به ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد أدخل في حفرته فقال : « أفلا قبل أن تدخلوه ؟ » فأخرج من حفرته ، وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه ، وألبسه قميصه . ورواه النسائي ، وروى نحوه البخاري والبزار في مسنده ، وزاد : فأنزل الله الآية .

زاد ابن إسحاق في " المغازي " بسنده قال : فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على منافق بعده حتى قبضه الله ، ولا قام على قبره .

وقد روى الإمام أحمد عن أبي قتادة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي إلى جنازة سأل عنها ، فإن أثني عليها خير قام فصلى عليها ، وإن كان غير ذلك ، قال لأهلها : « شأنكم بها » . ولم يصل عليها .

الثاني : إنما منع صلى الله عليه وسلم من الصلاة على أحدهم إذا مات ، لأن صلاة الميت دعاء واستغفار واستشفاع له ، والكافر ليس بأهل لذلك .

[ ص: 3226 ] الثالث : قال السيوطي في ( " الإكليل " ) : في قوله تعالى : ولا تصل على أحد منهم الآية ، تحريم الصلاة على الكافر ، والوقوف على قبره ، وأن دفنه جائز ، ومفهومه وجوب الصلاة على المسلم ودفنه ، ومشروعية الوقوف على قبره ، والدعاء له ، والاستغفار . انتهى .

قال عثمان رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت ، وقف عليه وقال : « استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل » . - انفرد بإخراجه أبو داود - .

الرابع : قال الحافظ ابن حجر في ( " الفتح " ) ظاهر الآية أنها نزلت في جميع المنافقين ، لكن ورد ما يدل على أنها نزلت في عدد معين منهم .

قال الواقدي : أنبأنا معمر عن الزهري قال حذيفة : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني مسر إليك سرا ، فلا تذكره لأحد ، إني نهيت أن أصلي على فلان ، رهط ذوي عدد من المنافقين » .

قال ، فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلي على أحد استتبع حذيفة ، فإن مشى معه ، وإلا لم يصل عليه .

ومن طريق أخرى ، عن جبير بن مطعم أنهم اثنا عشر رجلا .

وقال حذيفة مرة : إنه لم يبق منهم غير رجل واحد . ولعل الحكمة في اختصاص المذكورين بذلك ، أن الله علم أنهم يموتون على الكفر ، بخلاف من سواهم ، فإنهم تابوا . انتهى .

ثم بين تعالى أن دوام غضبه عليهم لا ينافي إعطاءهم الأموال والأولاد ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 85 ] ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون .

ولا تعجبك أموالهم وأولادهم أي : لأنه لم يرد الله الإنعام عليهم بها ، ليدل على [ ص: 3227 ] رضاه عنهم ، بل الانتقام منهم ، قال : إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا أي : بالمشقة في تحصيلها وحفظها والحزن عليها وتزهق أنفسهم وهم كافرون أي : فيموتون كافرين غافلين عن التدبر في العواقب .

وقد تقدمت الآية في هذه السورة مع تغاير في ألفاظها .

قال الزمخشري : أعيد قوله : ولا تعجبك لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده ، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ، ولا يسهو عنه ، وأن يعتقد أن العمل به مهم ، يفتقر إلى فضل عناية به ، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين ، فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه ، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ، ويتخلص إليه ، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يحب أن يحذر منه . انتهى .

وقال الفارسي : ليست للتأكيد ، لأن تيك في قوم وهذه في آخرين . وقد تغاير نطقها ، فهنا : ( ولا ) ، بالواو لمناسبة عطف نهي على نهي قبله في قوله : ولا تصل إلخ ، فناسب الواو ، وهناك بالفاء لمناسبة التعقيب لقوله قبله :

ولا ينفقون إلا وهم كارهون أي : للإنفاق . فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد ، فنهى عن الإعجاب المتعقب له . وهنا : وأولادهم ، دون ( لا ) ، لأنه نهي عن الإعجاب بهما مجتمعين ، وهناك بزيادة لا ، لأنه نهى كل واحد واحد ، فدل مجموع الآيتين على النهي عن الإعجاب بهما مجتمعين ومنفردين ، وهنا : أن يعذبهم وهناك ( ليعذبهم ) بلام التعليل وحذف المفعول ، أي : إنما يريد اختيارهم بالأموال والأولاد ، وهنا المراد التعذيب ، فقد اختلف متعلق الإرادة فيهما ظاهرا ، وهناك : في الحياة الدنيا وهنا : في الدنيا تنبيها على أن حياتهم كلا حياة فيها ، وناسب ذكرها بعد الموت ، فكأنهم أموات أبدا . انتهى .

وقوله تعالى :
[ ص: 3228 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 86-87 ] وإذا أنـزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون .

وقوله تعالى :

وإذا أنـزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون إنكار وذم للمتخلفين عن الجهاد ، الناكلين عنه ، مع وجود الطول الذي هو الفضل والسعة ، وإخبار بسوء صنيعهم ، إذ رضوا بالعار والقعود مع الخوالف ، لحفظ البيوت ، وهن النساء ، وذلك لإيثارهم حب المال على حب الله ، وأنه بسبب ذلك وطبع على قلوبهم أي : ختم عليها فهم لا يفقهون أي : ما في حب الله والتقرب إليه بالجهاد من الفوز والسعادة ، وما في التخلف من الشقاء والهلاك فوائد :

الأولى : قال الزمخشري : يجوز أن يراد السورة بتمامها ، وأن يراد بعضها ، في قوله : وإذا أنـزلت سورة كما يقع ( القرآن ) و ( الكتاب ) على كله وعلى بعضه .

وقيل : هي براءة لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد . انتهى .

وقيل : المراد كل سورة ذكر فيها الإيمان والجهاد .

قال الشهاب : وهذا أولى وأفيد ، لأن استئذانهم عند نزول آيات براءة علم مما مر . وقد قيل : إن ( إذا ) تفيد التكرار بقرينة المقام لا بالوضع ، وفيه كلام مبسوط في محله .

[ ص: 3229 ] الثانية : إنما خص ذوي الطول ، لأنهم المذمومون ، وهم من له قدرة مالية ، ويعلم منه البدنية أيضا بالقياس .

الثالثة : الخوالف : جمع خالفة ، وهي المرأة المتخلفة عن أعمال الرجال ، والمراد ذمهم وإلحاقهم بالنساء ، كما قال :


كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول


والخالفة تكون بمعنى من لا خير فيه ، والتاء فيه للنقل للاسمية ، فإن أريد هاهنا ، فالمقصود من لا فائدة فيه للجهاد .

وجمع على فواعل على الوجهين : أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلتأنيث لفظه ، لأن فاعلا لا يجمع على فواعل في العقلاء الذكور ، إلا شذوذا ، كنواكس ، أفاده الشهاب .

ثم بين تعالى ما للمؤمنين من الثناء الحسن ، والمثوبة الحسنى ضد أولئك ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 88 ] لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون .

لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم أي : في سبيل الله ، لغلبة حب الله عليهم ، على حب الأموال والأنفس وأولئك لهم الخيرات أي : منافع الدارين ، النصر والغنيمة في الدنيا ، والجنة والكرامة في العقبى وأولئك هم المفلحون أي : الفائزون بالمطلوب .
[ ص: 3230 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 89 ] أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم .

أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم أي : الذي لا فوز وراءه .

ثم بين تعالى أحوال منافقي الأعراب ، إثر بيان منافقي أهل المدينة ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 90 ] وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم .

وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم أي : في ترك الجهاد ، وهم أحياء ممن حول المدينة . و : المعذرون فيه قراءتان ، التشديد والتخفيف ، والمشددة لها تفسيران :

أحدهما : من ( عذر في الأمر ) إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد ، فتكلف العذر ، فعذره باطل .

والثاني : من ( اعتذر ) ، وهو محتمل لأن يكون عذره باطلا وحقا ، وأصله عليهما ، ( معتذرون ) نقلت فتحة التاء إلى العين ، وقلبت التاء ذالا ، وأدغمت فيها .

وأما التخفيف فهي من أعذر إذا كان له عذر ، وهم صادقون على هذا .

وقوله تعالى : وقعد الذين كذبوا الله ورسوله أي : في دعوى الإيمان ، وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ، ولم يعتذروا ، بل قعدوا من قلة المبالاة بالله ورسوله .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.13 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.31%)]