رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان

شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 706الى صــ 715
(47)
المجلد الثانى
كتاب الصيام
(17)

فإن غلب على ظنه أن لا يصلي معه أحد؛ لم يصح الاعتكاف؛ لأن الاعتكاف لا يكون إلا بالعزم على المقام في المسجد, والعزم يتبع الاعتقاد, فإذا اعتقد حصول الصلاة فيه؛ عزم على العكوف فيه, وإلا؛ فلا.
فإن اختلت الجماعة فيه بعض الأوقات. . . .

794 - وذلك لما روي عن أبي وائل شقيق بن سلمة؛ قال: قال حذيفة لعبد الله بن مسعود: إن قوماً عكوفاً بين دارك ودار الشعري؛ فلا تغير! وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة (أو قال: في مسجد جماعة»). فقال عبد الله: فلعلهم أصابوا وأخطأت, وحفظوا ونسيت. رواه سعيد بإسناد جيد.
795 - وعن جويبر, عن الضحاك, عن حذيفة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسجد له مؤذن وإمام؛ فالاعتكاف فيه يصلح». رواه سعيد والنجاد والدارقطني وقال: الضحاك لم يسمع من حذيفة.

796 - وقد رواه حرب, عن الضحاك, عن النزال بن سبرة؛ قال: أقبل ابن مسعود وحذيفة من النجف, وأشرفوا على مسجد الكوفة؛ فإذا خيام مبنية, فقالوا: ما هذا؟ قالوا: أناس عكفوا. فقال ابن مسعود: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام. فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل مسجد له إمام مؤذن؛ فإنه يعتكف فيه».
فإن قيل: جويبر ضعيف متروك, ويدل على ضعف الحديث أن مذهب حذيفة أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة؛ بدليل:
797 - ما روي عن إبراهيم؛ قال: «دخل حذيفة مسجد الكوفة, فإذا هو بأبنية مضروبة, فسأل عنها, فقيل: قوم يعتكفون, فانطلق إلى ابن مسعود, فقال: ألا تعجب من قوم يزعمون أنهم معتكفون بين دارك ودار الأشعري. فقال عبد الله: فلعلهم أصابوا وأخطأت, وحفظوا ونسيت. فقال حذيفة: لقد علمت [أنه لا اعتكاف] إلا في ثلاثة مساجد: المسجد الحرام, ومسجد الأقصى, ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم».
قلنا: قد روى هذا الحديث عن جويبر رجال من كبار أهل العلم, مثل هشيم وإسحاق والأزرق, وقد تابعه على نحو من معناه أبو وائل عن حذيفة, وهو معضود بآثار الصحابة, والرواية الأخرى عن حذيفة مرسلة.
وأيضاً؛ فإنه إجماع الصحابة.

798 - روى النجاد عن علي رضي الله عنه؛ قال: «لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة».
799 - وعن ابن عباس؛ قال: «لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة».
800 - وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: «لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة».
801 - وروى حرب, عن جابر بن زيد, عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: «كل مسجد تقام فيه الصلاة فيه اعتكاف».
802 - وقد روى أبو داوود وغيره حديث عائشة؛ قالت: «من السنة لا اعتكاف إلا في مسجد جامع».

803 - وعن الزهري؛ قال: «مضت السنة أن لا يكون اعتكاف إلا في مسجد جماعة, مسجد يجمع فيه الجمعة». رواه النجاد.
804 - وفي لفظ للدارقطني: «من السنة لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة».
وقال غير عبد الرحمن بن إسحاق: لا يقول فيه: «قالت: السنة» , جعله قول عائشة.
وهذا قول عامة التابعين, ولم ينقل عن صحابي خلافه؛ إلا قول من خص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة وبمسجد نبي.
فقد أجمعوا كلهم على أنه لا يكون في مسجد لا جماعة فيه.
وأيضاً؛ المسجد موضع السجود ومحله, وهذا الاسم إنما يتم له ويكمل إذا كان معموراً بالسجود وبالصلاة فيه, أما إذا كان خراباً معطلاً عن إقام الصلاة فيه؛ فلم يتم حقيقة المسجد له, وإنما يسمى مسجداً بمعنى أنه مهيأ للسجود معدٌّ له؛ كما قد تسمى الدار الخالية مسكناً ومنزلاً, ويُصان مما تُصان منه المساجد؛ لأنه مسجد, وإن لم يتم المقصود فيه.
وبهذا يعلم أن قوله: {عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}: إنما يفهم منه المواضع التي فيها الصلاة والسجود.

وأيضاً؛ فإن الصلوات الخمس في الجماعة واجبة كما تقدم بيانه؛ فلو جاز الاعتكاف في مسجد مهجور معطل؛ للزم: إما ترك الجماعة, وذلك غير جائز, وإما تكرار الخروج في اليوم والليلة لما عنه مندوحه, وذلك غير جائز؛ لأن الاعتكاف هو لزوم المسجد, وأن لا يخرج منه إلا لما لا بد منه. . . .
وأيضاً؛ فلو لم تكن الجماعة واجبة؛ فإنها من أعظم العبادات, وهي أوكد من مجرد الاعتكاف الخالي عنها بلا ريب, والمداومة على تركها مكروهة كراهة شديدة؛ فلو كان العكوف الخالي عنها مشروعاً؛ لكان قد شرع التقرب إلى الله تعالى بما ينهى فيه عن الجماعة, بل يحرم فعلها معه؛ إذ الخروج من المعتكف لا يجوز, وهذا غير جائز. . . .
فأما اعتكاف لا يتضمن وجوب جماعة, مثل أن يكون زمنه يسيراً, لا يحضر فيه صلاة مكتوبة:

فقال ابن عقيل وغيره: يصح في كل مسجد؛ إذ لا محذور فيه؛ فإنما اشترطنا مسجداً تقام فيه الجماعة لأجل وجوبها, وهذا إذا صححنا اعتكاف بعض يوم على المشهور من المذهب, وكذلك من لا يمكنه شهود الجماعة؛ لكونه في موضع لا تقام فيه الجماعة.
وأما من يمكنه حضور الجماعة ولا يجب عليه كالمريض وغيره من المعذورين والعبد؛ ففيه وجهان:
أحدهما يصح اعتكافه في كل مسجد؛ لأن الجماعة لا تجب عليه.
والثاني: لا يصح إلا في مسجد الجماعة؛ لأنه من أهل الوجوب, فإذا تكلف الاعتكاف في مسجد؛ وجب أن يكون مسجد الجماعة.

وإذا تكلف حضور محلها؛ وجبت عليه كما تجب عليه الجمعة إذا حضر المسجد؛ لأن المسقط للحضور قد التزمه كما يجب عليه إذا حضرها.
ولأن من التزم التطوعات لا يصح أن يفعلها إلا بشروطها؛ كالصوم والصلاة.
فعلى هذا: إن أقيمت فيه بعض الصلوات, فاعتكف في وقت تلك الصلاة. . . .
الفصل الرابع: أن المرأة لا يصح اعتكافها إلا في المسجد المتخذ للصلوات الذي يحرم مقام الجنب فيه وتناله أحكام المساجد.

فأما مسجد بيتها - وهو مكان من البيت يتخذه الرجل أو المرأة للصلاة فيه مع بقاء حكم الملك عليه-؛ فلا يصح الاعتكاف فيه عند أصحابنا.
قال أحمد في رواية أبي داود وقد سئل عن المرأة تعتكف في بيتها: فذكر النساء يعتكفن في المساجد, ويضرب لهن فيه الخيم, وقد ذهب هذا من الناس.
لأن هذا ليس مسجداً, ولا يسمى في الشرع مسجداً؛ بدليل جواز مكث الحائض فيه, والاعتكاف يكون في المساجد.
805 - ولأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفن في المسجد بعده كما تقدم.
806 - وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف؛ صلى الفجر, ثم دخل معتكفه, وأنه أمر بخبائه فضرب, ثم أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان, فأمرت زينب بخبائها, وأمرت غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخباء فضرب, فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر؛ نظر؛ فإذا الأخبية, فقال: «ألبر تردن؟». فأمر بخبائه فقُوِّض, وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر [الأول] من شوال. رواه الجماعة.
وفي رواية للبخاري وغيره عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان, فاستأذنته عائشة فأذن لها, وسألت حفصة عائشة ـن تستأذن لها ففعلت, فلما رأت ذلك زينب؛ أمرت ببناء فبني لها؛ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى؛ انصرف إلى بنائه, فبصر الأبنية, فقال: «ما هذا؟». قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آلبر أردن بهذا؟! ما أنا بمعتكف». فرجع, فلما أفطر؛ اعتكف عشراً من شوال.
فهذا نص مفسر في أنه أذن لعائشة وحفصة أن يعتكفا في المسجد, وذلك دليل على أنه مشروع حسن, ولو كان اعتكافهن في غير المسجد العام ممكناً؛ لاستغنين بذلك عن ضرب الأخبية في المسجد كما استغنين بالصلاة في بيوتهن عن الجماعة في المساجد, ولأمرهن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
807 - كما قال في الصلاة: «وبيوتهن خير لهن».
لا سيما وقد خاف أن يكون قد دخلهن في ذلك شيء من المنافسة والغيرة حين تشبه بعضهن ببعض, واعتكفن معه, حتى ترك الاعتكاف من أجل ذلك, وقد كان يمكنه أن يقول: الاعتكاف في البيت يغنيكن عن الاعتكاف في المسجد.
808 - كما قال لعائشة: «صلي في الحجر فإنه من البيت».
وكان مما يحصل به مقصوده ومقصود من أرادت الاعتكاف منهن, وتقوم به الحجة على من لم يرده.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|