= يتبع
أدلة الرأي الأول (2) :
وهم القائلون بأن العين الموقوفة تنتقل إلى ملك الله جل وعلا ، فلا يباع ولا يورث ولا يوهب .
الدليل الأول
استدلوا بفعل الرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عليهم أَجْمَعِينَ .
فإنه رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَقَفَ وَوَقَفَ سَيِّدُنَا أبو بَكْرٍ وَسَيِّدُنَا عُمَرُ وَسَيِّدُنَا عُثْمَانُ وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ وَغَيْرُهُمْ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَكْثَرُ الصَّحَابَةِ وَقَفُوا(1) .
وقد نوقش هذا الاستدلال من وجهين :
الوجه الأول : أن الوقف فيه حبس عن فرائض الله تعالى ، ووقف رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ليس فيه حبس عن فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى لأن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم قال : إنا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ ما تَرَكْنَا صَدَقَةٌ.
الوجه الثاني : أن أَوْقَافُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ما كان منها في زَمَنِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اُحْتُمِلَ أنها كانت قبل نُزُولِ سُورَةِ النِّسَاءِ فلم تَقَعْ حَبْسًا عن فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وما كان بَعْدَ وَفَاتِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَاحْتُمِلَ أَنَّ وَرَثَتَهُمْ أَمْضَوْهَا بِالْإِجَازَةِ وَهَذَا هو الظَّاهِرُ وَلَا كَلَامَ فيه (2).
الدليل الثاني
قالوا : وَلِأَنَّ الْوَقْفَ ليس إلَّا إزَالَةَ الْمِلْكِ عن الْمَوْقُوفِ وَجَعْلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَأَشْبَهَ الْإِعْتَاقَ وَجَعَلَ الْأَرْضَ أو الدَّارَ مَسْجِدًا(3).
الدليل الثالث
قالوا : أَنَّ الوقف كما يَصِحُّ مُضَافًا إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ فكذلك يصح مُنَجَّزًا .
ونوقش هذا الدليل
قالوا : َإِنَّمَا جَازَ مُضَافًا إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ فَيَجُوزُ كَسَائِرِ الْوَصَايَا وجَوَازُهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ لَا يَدُلُّ على جَوَازِهِ بغير ذلك ، قالوا : أَلَا تَرَى لو أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ جَازَ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِثُلُثِ مَالِهِ على الْفُقَرَاءِ لَا يَجُوزُ(4).
الدليل الرابع
قالوا : إنه نقل عن جابر أنه قال :" ما بقي أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم له مقدرة إلا وقف وقفا " ، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه في القديم بلغني أن ثمانين صحابيا من الأنصار تصدقوا بصدقات محرمات(5).
الدليل الخامس
قالوا: إن الشافعي احتج بحديث عمر عند قول النبي صلى الله عليه وسلم له (حَبِّسِ الْأَصْلَ وَسَبِّلِ الثَّمَرَةَ ) وقال إن ذلك من وجوه :
الوجه الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَجَازَ أَنْ يُحْبَسَ أَصْلُ الْمَالِ وَتُسْبَلَ الثَّمَرَةُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِخْرَاجِهِ الْأَصْلَ مِنْ مِلْكِهِ إِلَى أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا لَا يَمْلِكُ مَنْ سَبَلَ عَلَيْهِ ثَمَرَهُ بَيْعَ أَصْلِهِ ، كما إن عمر ذكر حكمها وقال : لا تباع ولا تورث ولا توهب(6).
الوجه الثاني : و لِأَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هُوَ الْمُصَدِّقُ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلَمْ يَزَلْ يَلِي صَدَقَتَهُ فِيمَا بَلَغَنَا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ ، وَلَمْ يَزَلْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَلِي صَدَقَتَهُ حَتَى لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَلَمْ تَزَلْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تَلِي صَدَقَتَهَا حَتَّى لَقِيَتِ اللَّهَ(7).
الدليل السادس
قالوا : والدليل َمِنَ الْقِيَاسِ : أَنَّهُ تَصَرُّفٌ يَلْزَمُ بِالْوَصِيَّةِ ، فَجَازَ أَنْ يَلْزَمَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مِنْ غَيْرِ حُكْمِ الْحَاكِمِ(8) .
وللحديث بقية =
-------------------
(1) انظر بدائع الصنائع 6/219
(2) انظر فتح القدير14/61
(3) بدائع الصنائع 6/220؛219
(4) بدائع الصنائع 6/2219 ، فتح القدير 14/61
(5) مغني المحتاج 2/376
(6) الحاوي الكبير 7/1282
(7) نفس المرجع السابق 7/1278، 1279
(8) الحاوي 7/1283