الموضوع: غصون رمضانية
عرض مشاركة واحدة
  #18  
قديم 01-03-2023, 02:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,255
الدولة : Egypt
افتراضي رد: غصون رمضانية

غصون رمضانية (18) شرك الإعلام


عبدالله بن عبده نعمان العواضي










الإعلام المعاصر - على اختلاف أنواعه - وسيلة من وسائل السيطرة على أفكار الناس وسلوكهم؛ وذلك لما يمتلكه من قوة الوسائل المؤثرة على المتلقين عامة كانت أو خاصة، ولِما يلقاه من شغف الجمهور به، وإدمانهم الشديد على متابعة ما فيه، وهذا ما أكسبه جموحَ السيطرة، ونفوذ السلطة؛ ولهذا عدّوه السلطة الرابعة، فأصبح المتلقي له طوعَ العِنان يمتطيه إلى حيث يشاء.



والكارثة ليست هنا، وإنما الكارثة أن أغلبه طوع يدي شياطين الإنس، الذين يوسوسون في صدور الناس، وينخرون في عقولهم، ويهدونهم إلى صراط الجحيم، وذلك ببث الفساد العقدي والأخلاقي والعملي في قوالب حسنة تستهوي المشاهد أو السامع أو القارئ، ويكيلون الإطراء لأهله، ويسلطون أضواء التمجيد عليهم؛ دعوة للاقتداء بهم، وفي المقابل يحاربون الحق وأهله حربًا شعواء، ويعتبرون الحق الفكري أو السلوكي انحرافًا عن الجادة، وتخلفًا ورجعية، ويصمِون أهله بالألقاب المنفرة، والتُّهم المحذرة منهم! حتى جُعل الكفر حريةَ تعبير، والفاحشة ترفيهًا وحرية شخصية، والصدق كذباً، والكذب صدقاً، والحق باطلاً، والباطل حقاً، والخبيث طيباً، والطيب خبيثاً، والبطولة تهمة، والانحرافات السلوكية نجومية!



على حد قول ابن الرومي:



تقول هذا مُجاجُ النحل تمدحهُ

وإن تعِبْ قلت ذا قَيْء الزنابير



مدحاً وذماً وما جاوزتَ وصفَهما

سحرُ البيان يُري الظلماءَ كالنور[1]






ولقوة القواعد التي ينطلق منها، وبراعة الآلة التأثيرية التي يتمتع بها؛ غدا ساحراً يتصرف في تصورات كثير من الناس وأخلاقهم، حينما فقدوا رُقية دفع السحر، والتمييز بين الغيث والسمين، وعدموا دروعَ الدين المتين، والخلق الرزين، اللذين يردان صولة ذلك العدو الفتاك.



من القضايا البديهية اليوم أن الإعلام السيئ هو الاستعمار المعاصر الذي ينصب شراك الهلاك بصور مغرية؛ لكي يصيد العقول؛ ليقوم بصياغتها حسب ما يريد؛ لتتجه بعد ذلك إلى المجتمع؛ لتفريغ شحنة تلك البضاعة العفنة فيه.



فلله كم صادت مصايدُه من قلوب كانت معمورة بالفضيلة، فصارت مغمورة في مستنقعات الرذيلة، ولله كم سبت من عقول كانت بالتصور الصحيح مشرقة، فأمست في التصورات الخاطئة مظلمة، فضلّت وأضلت.



وما الإعلام حين يضلّ إلا

فخاخٌ للعقول وللقلوب



وأغبى الناس من يسعى إليها

ليعلق في الندامة والكروبِ






لقد أدرك شياطين الإعلام عظمةَ رمضان، وما يحلّي الناس به من الفضائل التي يحاربها، وما يخليهم عن الرذائل التي جنّد آلته لنشرها، فأقسموا للصائمين قسم أستاذهم: ﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 17]، فجأوا بحدهم وحديدهم لمحاربة خيرات رمضان، ولكن: ﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الإسراء: 64].



فراحوا يعدون للصائمين - قبل مجيء رمضان بأشهر - ما يفسد عليهم صومهم من الأفلام والمسلسلات والبرامج والفلاشات، فيعرضون ما يخدش حجاب الحياء، وما يمزق ستار الأخلاق الحسنة، وما يهد جدار العقيدة الصحيحة. وهناك طائفة إعلامية أخرى قد لا يكونون شياطين، لكنهم لصوص في مساليخ متصدقين، حيث يجهزون لأهل رمضان البرامج الترفيهية الكثيرة التي تسرق عليهم وقتهم الثمين، فتصرفهم عن وظائف رمضان لتأسرهم في شاشة تلفاز أو حاسوب أو جوال.



فيصير حال الأسير بين الشياطين واللصوص مثل ذلك الأعرابي الذي تزوج امرأتين فندم فقال:



فقلت أصيرُ بينهما خروفاً

أنعَّمُ بين أكرم نعجتينِ



فصرتُ كنعجة تُضحي وتمسي

تداولُ بين أخبث ذئبتينِ![2]






إن من أضحى صيامه نهبًا بين الشياطين واللصوص فقد ضيع على نفسه غنيمة رمضان التي أهداها الله إليه، فغدا له فيئًا أفاءه الله عليه من الزمان، ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، ودخل معركة مع أولئك الأعداء بلا عدد ولا عدة فانقلب بنقمة وسوء، مظلمَ العقل، قاسيَ القلب، دامي الخلُق، ذابل الروح، مسلوبَ نفيسِ الزمن، كاسف البال، وقد كان يمكنه أن يصير في رمضان منعّمَ العقل والقلب والروح، سليمًا من هذه الجروح، ولكن:



فأصبح كالبازي المنتّفِ ريشُه

يرى حسراتٍ كلما طار طائرُ




وقد كان دهراً في الرياض منعمًا

على كل ما يهوى من الصيد قادر




إلى أن أصابته من الدهر نكبة

إذا هو مقصوص الجناحين حاسر[3].








إن من المشاهد التي تجلب الأسى أن ينشغل قلةٌ من المسلمين بخيرات رمضان، وينصرف الجمع الغفير عن نفيس الأوقات إلى العكوف أمام القنوات، حتى في ليالي العشر الأخيرة، بل في الثلث الأخير من الليل منها، فشتان بين العاكفين بين يدي رب العباد، والعاكفين بين يدي أهل الفساد والإفساد!



إن المسلم الموفّق إذا نزل عليه رمضان ضيفًا كريماً انشغل به، ولم ينشغل عنه، وهذا من كرم الضيافة، وآداب المضيف، فمن اللؤم -عرفًا- انصراف صاحب المنزل عن النازل به إلى غيره؛ فلهذا فالصائم الموفق فورَ وصول رمضان يفتح له أبواب الروح والقلب لينزل فيها، وتنشغل جوارحه بخدمته، كما يغلق أبواق الإعلام الملهي عن إكرام الضيف، ويقول لذلك الإعلام المباح الذي يتابعه قبل رمضان؛ إيثاراً لرمضان:



ونعجةٍ من نِعاج الرملِ خاذلةٍ

كأن مَأْقِيهَا بالحسنِ مكحولُ




ودَّعتها في مُقامي ثم قلت لها

حياكِ ربك إني عنكِ مشغولُ[4]








أو يقول:

تألّق البرق نجديًا فقلتُ له: ♦♦♦ يا أيها البرق إني عنك مشغولُ[5]

أما الإعلام الفاسد الذي يسوق له الأوابد فهو صائم عنه الدهرَ كله، وليس في رمضان فقط، فهو منه أحذر من قِرِلَّى[6]، وبينه وبينه مقاطعة دائمة، وحمى لا يُتجاوز، فهو يفر منه، ولا يفر إليه، كحال غيره.



وبعد هذا، فمن الإنصاف أن نقول: إن في حشا الغثاء الكثير إعلامًا هادفًا منفصلاً، ويمكن أن يخدم الصائم بالدروس الرمضانية، والفتاوى، والتوجيهات والنصائح، فهذا مورد عذب، ومغنى أنيق، وروض ممرع، ينبغي أن ينتجعه وينزل فيه؛ ليأخذ منه ما يحتاجه، ولا يجاوز الحاجةَ إلى التخمة؛ لأن ذلك قد يلهيه عن التلاوة والصلاة وغيرهما من وظائف الشهر الكريم؛ لأن ما أنبت الربيع قد يَقتل حبَطًا أو يُلِم[7].





[1] ديوان ابن الرومي (ص: 2269).




[2] الحماسة المغربية، للجرّاوي (ص: 126).




[3] طريق الهجرتين، لابن القيم (ص: 283).




[4] الأغاني، للأصفهاني (16/ 251).




[5] البيت لأعرابي، الحماسة البصرية، للبصري (ص: 145).





[6] القرلى: طائر من طير الماء شديد الحزم والحذر، يطير في الهواء وينظر بإحدى عينيه إلى الأرض، وفي أسجاع ابنة الخُسِّ: كن حذِراً كالقِرِلىَّ: إن رأى خيراً تَدَلَّى، وإن رأى شراً تَولَّى. مجمع الأمثال، للميداني (1/ 228).




[7] الحبط- بفتح المهملة والموحدة والطاء مهملة أيضاً-: انتفاخ البطن من كثرة الأكل يقال: حبطت الدابة تحبط حبطًا إذا أصابت مرعى طيبًا فأمعنت في الأكل حتى تنتفخ فتموت،: و"يلم" -بضم أوله- أي: يقرب من الهلاك". فتح الباري، لابن حجر(11/ 247)




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.48 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.85 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.46%)]