عرض مشاركة واحدة
  #263  
قديم 05-03-2023, 02:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 3 الى صــ 10
الحلقة (263)



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْمَائِدَةِ

رَبِّ يَسِّرْ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ

وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ ، وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ مُنْصَرَفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ . وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ قَالَ : يَا عَلِيُّ أَشَعَرْتَ أَنَّهُ نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ الْمَائِدَةِ وَنِعْمَتِ الْفَائِدَةُ . قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ اعْتِقَادُهُ ; أَمَا إِنَّا نَقُولُ : سُورَةُ " الْمَائِدَةِ ، وَنِعْمَتِ الْفَائِدَةُ " فَلَا نَأْثِرُهُ عَنْ أَحَدٍ وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ حَسَنٌ .

وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : وَهَذَا عِنْدِي لَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : سُورَةُ الْمَائِدَةِ تُدْعَى فِي مَلَكُوتِ اللَّهِ الْمُنْقِذَةَ تُنْقِذُ صَاحِبَهَا مِنْ أَيْدِي مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ . وَمِنْ هَذِهِ السُّورَةِ مَا نَزَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، وَمِنْهَا مَا أُنْزِلَ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ الْآيَةَ . وَكُلُّ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مَدَنِيٌّ ، سَوَاءٌ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ أَوْ فِي سَفَرٍ مِنَ الْأَسْفَارِ ، وَإِنَّمَا يُرْسَمُ بِالْمَكِّيِّ مَا نَزَلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ .

وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ : " الْمَائِدَةُ " مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ لَيْسَ فِيهَا مَنْسُوخٌ ، وَفِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ فَرِيضَةً لَيْسَتْ فِي غَيْرِهَا ; وَهِيَ : الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ، وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ، وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ، وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، وَتَمَامُ الطُّهُورِ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ ، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ، لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِلَى قَوْلِهِ : [ ص: 4 ] عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ وَ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الْآيَةَ .

قُلْتُ : وَفَرِيضَةٌ تَاسِعَةَ عَشْرَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ جَلَّ وَعَزَّ : وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ لَيْسَ لِلْأَذَانِ ذِكْرٌ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، أَمَّا مَا جَاءَ فِي سُورَةِ " الْجُمُعَةِ " فَمَخْصُوصٌ بِالْجُمُعَةِ ، وَهُوَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَامٌّ لِجَمِيعِ الصَّلَوَاتِ ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةَ " الْمَائِدَةِ " فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَأَحِلُّوا حَلَالَهَا وَحَرِّمُوا حَرَامَهَا وَنَحْوَهُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَوْقُوفًا ; قَالَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ : دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ : هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ " الْمَائِدَةِ " ؟ فَقُلْتُ : نَعَمْ ، فَقَالَتْ : فَإِنَّهَا مِنْ آخِرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ، فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهَا مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : لَمْ يُنْسَخْ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا قَوْلُهُ : وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ الْآيَةَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : نُسِخَ مِنْهَا أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ

فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ :

الْأُولَى : قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَالَ عَلْقَمَةُ : كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) فَهُوَ مَدَنِيٌّ ، وَ ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) فَهُوَ مَكِّيٌّ ; وَهَذَا خُرِّجَ عَلَى الْأَكْثَرِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا تَلُوحُ فَصَاحَتُهَا وَكَثْرَةُ مَعَانِيهَا عَلَى قِلَّةِ أَلْفَاظِهَا لِكُلِّ ذِي بَصِيرَةٍ بِالْكَلَامِ ; فَإِنَّهَا تَضَمَّنَتْ خَمْسَةَ أَحْكَامٍ :

الْأَوَّلُ : الْأَمْرُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ .

الثَّانِي : تَحْلِيلُ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ .

الثَّالِثُ : اسْتِثْنَاءُ مَا يَلِي بَعْدَ ذَلِكَ .

الرَّابِعُ : اسْتِثْنَاءُ حَالِ الْإِحْرَامِ فِيمَا يُصَادُ .

الْخَامِسُ : مَا تَقْتَضِيهِ الْآيَةُ مِنْ إِبَاحَةِ الصَّيْدِ [ ص: 5 ] لِمَنْ لَيْسَ بِمُحْرِمٍ . وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ أَصْحَابَ الْكِنْدِيِّ قَالُوا لَهُ : أَيُّهَا الْحَكِيمُ اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ . فَقَالَ : نَعَمْ ! أَعْمَلُ مِثْلَ بَعْضِهِ ; فَاحْتَجَبَ أَيَّامًا كَثِيرَةً ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ وَلَا يُطِيقُ هَذَا أَحَدٌ ; إِنِّي فَتَحْتُ الْمُصْحَفَ فَخَرَجَتْ سُورَةُ " الْمَائِدَةِ " فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ قَدْ نَطَقَ بِالْوَفَاءِ وَنَهَى عَنِ النَّكْثِ ، وَحَلَّلَ تَحْلِيلًا عَامًّا ، ثُمَّ اسْتَثْنَى اسْتِثْنَاءً بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي سَطْرَيْنِ ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا إِلَّا فِي أَجْلَادٍ .

الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : أَوْفُوا يُقَالُ : وَفَى وَأَوْفَى لُغَتَانِ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى وَقَالَ الشَّاعِرُ ( هُوَ طُفَيْلٌ الْغَنَوِيُّ ) :


أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ كَمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا
فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ .

بِالْعُقُودِ : الْعُقُودُ الرُّبُوطُ ، وَاحِدُهَا عَقْدٌ ; يُقَالُ : عَقَدْتُ الْعَهْدَ وَالْحَبْلَ ، وَعَقَدْتُ الْعَسَلَ فَهُوَ يُسْتَعْمَلُ فِي الْمَعَانِي وَالْأَجْسَامِ ; قَالَ الْحُطَيْئَةُ :


قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا
فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ ; قَالَ الْحَسَنُ : يَعْنِي بِذَلِكَ عُقُودَ الدَّيْنِ وَهِيَ مَا عَقَدَهُ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ ; مِنْ بَيْعٍ وَشِرَاءٍ وَإِجَارَةٍ وَكِرَاءٍ وَمُنَاكَحَةٍ وَطَلَاقٍ وَمُزَارَعَةٍ وَمُصَالَحَةٍ وَتَمْلِيكٍ وَتَخْيِيرٍ وَعِتْقٍ وَتَدْبِيرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ ، مَا كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ خَارِجٍ عَنِ الشَّرِيعَةِ ; وَكَذَلِكَ مَا عَقَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ لِلَّهِ مِنَ الطَّاعَاتِ ، كَالْحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْقِيَامِ وَالنَّذْرِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ طَاعَاتِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا نَذْرُ الْمُبَاحِ فَلَا يَلْزَمُ بِإِجْمَاعٍ مِنَ الْأُمَّةِ ; قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ . ثُمَّ قِيلَ : إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ . قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : هُوَ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ ، وَقِيلَ : هِيَ عَامَّةٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ ; فَإِنَّ لَفْظَ الْمُؤْمِنِينَ يَعُمُّ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ ; لِأَنَّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ عَقْدًا فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيمَا فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَإِنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وَغَيْرِ مَوْضِعٍ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ مَعْنَاهُ بِمَا أَحَلَّ وَبِمَا حَرَّمَ وَبِمَا فَرَضَ وَبِمَا حَدَّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ ; وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ ، وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : قَرَأْتُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى نَجْرَانَ وَفِي صَدْرِهِ : ( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ ص: 6 ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فَكَتَبَ الْآيَاتِ فِيهَا إِلَى قَوْلِهِ : إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) . وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الْمَعْنَى أَوْفُوا بِعَقْدِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَبِعَقْدِكُمْ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَهَذَا كُلُّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِي الْبَابِ ; قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ وَقَالَ : كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ فَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ أَوِ الْعَقْدَ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ أَيْ : دِينَ اللَّهِ ; فَإِنْ ظَهَرَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ رُدَّ ; كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ . ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ : اجْتَمَعَتْ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ - لِشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ - فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَلَّا يَجِدُوا بِمَكَّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا أَوْ غَيْرِهِمْ إِلَّا قَامُوا مَعَهُ حَتَّى تُرَدَّ عَلَيْهِ مَظْلَمَتُهُ ; فَسَمَّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوِ ادُّعِيَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ ، وَهَذَا الْحِلْفُ هُوَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِلشَّرْعِ إِذْ أَمَرَ بِالِانْتِصَافِ مِنَ الظَّالِمِ ; فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ عُهُودِهِمُ الْفَاسِدَةِ وَعُقُودِهِمُ الْبَاطِلَةِ عَلَى الظُّلْمِ وَالْغَارَاتِ فَقَدْ هَدَمَهُ الْإِسْلَامُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : تَحَامَلَ الْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ فِي مَالٍ لَهُ - لِسُلْطَانِ الْوَلِيدِ ; فَإِنَّهُ كَانَ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ - فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ : أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَتُنْصِفَنِّي مِنْ حَقِّي أَوْ لَآخُذَنَّ بِسَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَأَدْعُوَنَّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ : وَأَنَا أَحْلِفُ بِاللَّهِ لَئِنْ دَعَانِي لَآخُذَنَّ بِسَيْفِي ثُمَّ لَأَقُومَنَّ مَعَهُ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنْ حَقِّهِ أَوْ نَمُوتَ جَمِيعًا ; وَبَلَغَتِ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ; وَبَلَغَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ التَّيْمِيَّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ; فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَلِيدَ أَنْصَفَهُ .

الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ الْخِطَابُ لِكُلِّ مَنِ الْتَزَمَ الْإِيمَانَ عَلَى وَجْهِهِ وَكَمَالِهِ ; وَكَانَتْ لِلْعَرَبِ سُنَنٌ فِي الْأَنْعَامِ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِّ ، يَأْتِي بَيَانُهَا ; فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رَافِعَةً لِتِلْكَ الْأَوْهَامِ الْخَيَالِيَّةِ ، وَالْآرَاءِ الْفَاسِدَةِ الْبَاطِلِيَّةِ ، وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَالْبَهِيمَةُ اسْمٌ لِكُلِّ ذِي أَرْبَعٍ ; سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِإِبْهَامِهَا مِنْ جِهَةِ نَقْصِ نُطْقِهَا وَفَهْمِهَا وَعَدَمِ تَمْيِيزِهَا وَعَقْلِهَا ; وَمِنْهُ بَابٌ مُبْهَمٌ أَيْ : مُغْلَقٌ ، وَلَيْلٌ بَهِيمٌ ، وَبُهْمَةٌ لِلشُّجَاعِ الَّذِي لَا يُدْرَى مِنْ أَيْنَ يُؤْتَى لَهُ . وَالْأَنْعَامُ : الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِلِينِ مَشْيِهَا ; [ ص: 7 ] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ إِلَى قَوْلِهِ : وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا يَعْنِي كِبَارًا وَصِغَارًا ; ثُمَّ بَيَّنَهَا فَقَالَ : ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ إِلَى قَوْلِهِ : أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ وَقَالَ تَعَالَى : وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا يَعْنِي الْغَنَمَ ( وَأَوْبَارِهَا ) يَعْنِي الْإِبِلَ ( وَأَشْعَارِهَا ) يَعْنِي الْمَعْزَ ; فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ تُنْبِئُ عَنْ تَضَمُّنِ اسْمِ الْأَنْعَامِ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ ; الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ; وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ . قَالَ الْهَرَوِيُّ : وَإِذَا قِيلَ النَّعَمُ فَهُوَ الْإِبِلُ خَاصَّةً ، وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : وَقَالَ قَوْمٌ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ وَحْشِيُّهَا كَالظِّبَاءِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَالْحُمُرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَذَكَرَهُ غَيْرُ الطَّبَرِيِّ عَنْ السُّدِّيِّ وَالرَّبِيعِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ ، فَأُضِيفَ الْجِنْسُ إِلَى أَخَصِّ مِنْهُ . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ : وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ ; وَذَلِكَ أَنَّ الْأَنْعَامَ هِيَ الثَّمَانِيَةُ الْأَزْوَاجُ ، وَمَا انْضَافَ إِلَيْهَا مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ يُقَالُ لَهُ أَنْعَامٌ بِمَجْمُوعِهِ مَعَهَا ، وَكَأَنَّ الْمُفْتَرِسَ كَالْأَسَدِ وَكُلِّ ذِي نَابٍ خَارِجٌ عَنْ حَدِّ الْأَنْعَامِ ; فَبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ الرَّاعِي مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ .

قُلْتُ : فَعَلَى هَذَا يَدْخُلُ فِيهَا ذَوَاتُ الْحَوَافِرِ لِأَنَّهَا رَاعِيَةٌ غَيْرُ مُفْتَرِسَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهَا قَوْلَهُ : وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ فَلَمَّا اسْتَأْنَفَ ذِكْرَهَا وَعَطَفَهَا عَلَى الْأَنْعَامِ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْهَا ; وَاللَّهُ أَعْلَمُ ، وَقِيلَ : بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ مَا لَمْ يَكُنْ صَيْدًا ; لِأَنَّ الصَّيْدَ يُسَمَّى وَحْشًا لَا بَهِيمَةً ، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ . وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ الْأَجِنَّةُ الَّتِي تَخْرُجُ عِنْدَ الذَّبْحِ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ ; فَهِيَ تُؤْكَلُ دُونَ ذَكَاةٍ ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَفِيهِ بُعْدٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ وَلَيْسَ فِي الْأَجِنَّةِ مَا يُسْتَثْنَى ; قَالَ مَالِكٌ : ذَكَاةُ الذَّبِيحَةِ ذَكَاةٌ لِجَنِينِهَا إِذَا لَمْ يُدْرَكْ حَيًّا وَكَانَ قَدْ نَبَتَ شَعْرُهُ وَتَمَّ خَلْقُهُ ; فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ خَلْقُهُ وَلَمْ يَنْبُتْ شَعْرُهُ لَمْ يُؤْكَلْ إِلَّا أَنْ يُدْرَكَ حَيًّا فَيُذَكَّى ، وَإِنْ بَادَرُوا إِلَى تَذْكِيَتِهِ فَمَاتَ بِنَفْسِهِ ، فَقِيلَ : هُوَ ذَكِيٌّ ، وَقِيلَ : لَيْسَ بِذَكِيٍّ ; وَسَيَأْتِي لِهَذَا مَزِيدُ بَيَانٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ أَيْ : يُقْرَأُ عَلَيْكُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قَوْلِهِ [ ص: 8 ] تَعَالَى : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ . فَإِنْ قِيلَ : الَّذِي يُتْلَى عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَيْسَ السُّنَّةَ ; قُلْنَا : كُلُّ سُنَّةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ :

أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ الْعَسِيفِ ( لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ ) وَالرَّجْمُ لَيْسَ مَنْصُوصًا فِي كِتَابِ اللَّهِ .

الثَّانِي : حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ : وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ; الْحَدِيثَ ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ " الْحَشْرِ " . وَيَحْتَمِلُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ الْآنَ أَوْ " مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ " فِيمَا بَعْدُ مِنْ مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَيَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ عَنْ وَقْتٍ لَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى تَعْجِيلِ الْحَاجَةِ .

الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ أَيْ : مَا كَانَ صَيْدًا فَهُوَ حَلَالٌ فِي الْإِحْلَالِ دُونَ الْإِحْرَامِ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ صَيْدًا فَهُوَ حَلَالٌ فِي الْحَالَيْنِ . وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي إِلَّا مَا يُتْلَى هَلْ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ أَوْ لَا ؟ فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ : هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ وَ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ اسْتِثْنَاءٌ آخَرُ أَيْضًا مِنْهُ ; فَالِاسْتِثْنَاءَانِ جَمِيعًا مِنْ قَوْلِهِ : بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ وَهِيَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهَا ; التَّقْدِيرُ : إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إِلَّا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ ; بِخِلَافِ قَوْلِهِ : إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ عَلَى مَا يَأْتِي ، وَقِيلَ : هُوَ مُسْتَثْنًى مِمَّا يَلِيهِ مِنِ الِاسْتِثْنَاءِ ; فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ إِبَاحَةُ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ ; لِأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنَ الْمَحْظُورِ إِذْ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى : إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مُسْتَثْنًى مِنَ الْإِبَاحَةِ ; وَهَذَا وَجْهٌ سَاقِطٌ ; فَإِذًا مَعْنَاهُ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ سِوَى الصَّيْدِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَيْضًا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ، وَأَجَازَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْبَدَلِ عَلَى أَنْ يُعْطَفَ بِإِلَّا كَمَا يُعْطَفُ بِلَا ; وَلَا يُجِيزُهُ الْبَصْرِيُّونَ إِلَّا فِي النَّكِرَةِ أَوْ مَا قَارَبَهَا مِنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ نَحْوَ جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدٌ ، وَالنَّصْبُ عِنْدَهُ بِأَنَّ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ مِمَّا فِي أَوْفُوا ; قَالَ الْأَخْفَشُ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : حَالٌ مِنَ الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي لَكُمْ وَالتَّقْدِيرُ : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ . ثُمَّ قِيلَ : يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الْإِحْلَالُ إِلَى النَّاسِ ، أَيْ : لَا تُحِلُّوا الصَّيْدَ فِي [ ص: 9 ] حَالِ الْإِحْرَامِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَيْ : أَحْلَلْتُ لَكُمُ الْبَهِيمَةَ إِلَّا مَا كَانَ صَيْدًا فِي وَقْتِ الْإِحْرَامِ ; كَمَا تَقُولُ : أَحْلَلْتُ لَكَ كَذَا غَيْرَ مُبِيحٍ لَكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . فَإِذَا قُلْتَ يَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ فَالْمَعْنَى : ( غَيْرَ مُحِلِّينَ الصَّيْدِ ) ، فَحُذِفَتِ النُّونُ تَخْفِيفًا .

السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يَعْنِي الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ; يُقَالُ : رَجُلٌ حَرَامٌ وَقَوْمٌ حُرُمٌ إِذَا أَحْرَمُوا بِالْحَجِّ ; وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :


فَقُلْتُ لَهَا فِيئِي إِلَيْكِ فَإِنَّنِي حَرَامٌ وَإِنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ
أَيْ : مُلَبٍّ ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ إِحْرَامًا لِمَا يُحَرِّمُهُ مَنْ دَخَلَ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ وَغَيْرِهِمَا ، وَيُقَالُ : أَحْرَمَ دَخَلَ فِي الْحَرَمِ ; فَيَحْرُمُ صَيْدُ الْحَرَمِ أَيْضًا ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ " حُرْمٌ " بِسُكُونِ الرَّاءِ ; وَهِيَ لُغَةٌ تَمِيمِيَّةٌ يَقُولُونَ فِي رُسُلٍ : رُسْلٌ وَفِي كُتُبٍ كُتْبٌ وَنَحْوَهُ .

السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ تَقْوِيَةً لِهَذِهِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُخَالِفَةِ لِمَعْهُودِ أَحْكَامِ الْعَرَبِ ; أَيْ : فَأَنْتَ يَا مُحَمَّدُ السَّامِعُ لِنَسْخِ تِلْكَ الَّتِي عَهِدْتَ مِنْ أَحْكَامِهِمْ تَنَبَّهْ ، فَإِنَّ الَّذِي هُوَ مَالِكُ الْكُلِّ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ يُشَرِّعُ مَا يَشَاءُ كَمَا يَشَاءُ .
قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب

فيه ثلاث عشرة مسألة :

الأولى : قوله تعالى : لا تحلوا شعائر الله خطاب للمؤمنين حقا ; أي : لا تتعدوا حدود الله في أمر من الأمور ، والشعائر جمع شعيرة على وزن فعيلة ، وقال ابن فارس : ويقال للواحدة شعارة ; وهو أحسن ، والشعيرة البدنة تهدى ، وإشعارها أن يجز سنامها حتى يسيل منه الدم [ ص: 10 ] فيعلم أنها هدي . والإشعار الإعلام من طريق الإحساس ; يقال : أشعر هديه أي : جعل له علامة ليعرف أنه هدي ; ومنه المشاعر المعالم ، واحدها مشعر وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات ، ومنه الشعر ، لأنه يكون بحيث يقع الشعور ; ومنه الشاعر ; لأنه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره ; ومنه الشعير لشعرته التي في رأسه ; فالشعائر على قول : ما أشعر من الحيوانات لتهدى إلى بيت الله ، وعلى قول : جميع مناسك الحج ; قال ابن عباس . وقال مجاهد : الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر ، وقال الشاعر :


نقتلهم جيلا فجيلا تراهم شعائر قربان بها يتقرب
وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ; فأنزل الله تعالى : لا تحلوا شعائر الله . وقال عطاء بن أبي رباح : شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه ، وقال الحسن : دين الله كله ; كقوله : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب أي : دين الله .

قلت : وهذا القول هو الراجح الذي يقدم على غيره لعمومه . وقد اختلف العلماء في إشعار الهدي ، وهي :

الثانية : فأجازه الجمهور ; ثم اختلفوا في أي جهة يشعر ; فقال الشافعي وأحمد وأبو ثور : يكون في الجانب الأيمن ; وروي عن ابن عمر ، وثبت عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن ; أخرجه مسلم وغيره وهو الصحيح ، وروي أنه أشعر بدنة من الجانب الأيسر ; قال أبو عمر بن عبد البر : هذا عندي حديث منكر من حديث ابن عباس ; والصحيح حديث مسلم عن ابن عباس ، قال : ولا يصح عنه غيره . وصفحة السنام جانبه ، والسنام أعلى الظهر ، وقالت طائفة : يكون في الجانب الأيسر ; وهو قول مالك ، وقال : لا بأس به في الجانب الأيمن ، وقال مجاهد : من أي الجانبين شاء ; وبه قال أحمد في أحد قوليه ، ومنع من هذا كله أبو حنيفة وقال : إنه تعذيب للحيوان ، والحديث يرد عليه ; وأيضا فذلك يجري مجرى الوسم الذي يعرف به الملك كما تقدم ; وقد أوغل ابن العربي على أبي حنيفة في الرد والإنكار حين لم ير الإشعار فقال : كأنه لم يسمع بهذه الشعيرة في الشريعة ! لهي أشهر منه في العلماء .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 48.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.58 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.30%)]