عرض مشاركة واحدة
  #271  
قديم 05-03-2023, 02:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 67 الى صــ 74
الحلقة (271)


التاسعة والعشرون : قوله تعالى : فلم تجدوا ماء قد تقدم في " النساء " أن عدمه يترتب للصحيح الحاضر بأن يسجن أو يربط ، وهو الذي يقال فيه : إنه إن لم يجد ماء ولا ترابا وخشي خروج الوقت ; اختلف الفقهاء في حكمه على أربعة أقوال : الأول : قال ابن خويز منداد : الصحيح على مذهب مالك بأنه لا يصلي ولا شيء عليه ; قال : ورواه المدنيون عن [ ص: 67 ] مالك ; قال : وهو الصحيح من المذهب ، وقال ابن القاسم : يصلي ويعيد ; وهو قول الشافعي ، وقال أشهب : يصلي ولا يعيد ، وقال أصبغ : لا يصلي ولا يقضي ; وبه قال أبو حنيفة . قال أبو عمر بن عبد البر : ما أعرف كيف أقدم ابن خويز منداد على أن جعل الصحيح من المذهب ما ذكر ، وعلى خلافه جمهور السلف وعامة الفقهاء وجماعة المالكيين ، وأظنه ذهب إلى ظاهر حديث مالك في قوله : وليسوا على ماء - الحديث - ولم يذكر أنهم صلوا ; وهذا لا حجة فيه ، وقد ذكر هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في هذا الحديث أنهم صلوا بغير وضوء ولم يذكر إعادة ; وقد ذهب إلى هذا طائفة من الفقهاء . قال أبو ثور : وهو القياس .

قلت : وقد احتج المزني فيما ذكره إلكيا الطبري بما ذكر في قصة القلادة عن عائشة رضي الله عنها حين ضلت ، وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم لطلب القلادة صلوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروه بذلك ، ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بلا وضوء ولا تيمم ، والتيمم متى لم يكن مشروعا فقد صلوا بلا طهارة أصلا ، ومنه قال المزني : ولا إعادة ، وهو نص في جواز الصلاة مع عدم الطهارة مطلقا عند تعذر الوصول إليها ; قال أبو عمر : ولا ينبغي حمله على المغمى عليه لأن المغمى عليه مغلوب على عقله وهذا معه عقله . وقال ابن القاسم وسائر العلماء : الصلاة عليه واجبة إذا كان معه عقله ، فإذا زال المانع له توضأ أو تيمم وصلى ، وعن الشافعي روايتان ; المشهور عنه يصلي كما هو ويعيد ; قال المزني : إذا كان محبوسا لا يقدر على تراب نظيف صلى وأعاد ; وهو قول أبي يوسف ومحمد والثوري والطبري ، وقال زفر بن الهذيل : المحبوس في الحضر لا يصلي وإن وجد ترابا نظيفا . وهذا على أصله فإنه لا يتيمم عنده في الحضر كما تقدم ، وقال أبو عمر : من قال يصلي كما هو ويعيد إذا قدر على الطهارة فإنهم احتاطوا للصلاة بغير طهور ; قالوا : وقوله عليه السلام : لا يقبل الله صلاة بغير طهور لمن قدر على طهور ; فأما من لم يقدر فليس كذلك ; لأن الوقت فرض وهو قادر عليه فيصلي كما قدر في الوقت ثم يعيد ، فيكون قد أخذ بالاحتياط في الوقت والطهارة جميعا ، وذهب الذين قالوا لا يصلي لظاهر هذا الحديث ; وهو قول مالك وابن نافع وأصبغ قالوا : من عدم الماء والصعيد لم يصل ولم يقض إن خرج وقت الصلاة ; لأن عدم قبولها لعدم شروطها يدل على أنه غير مخاطب بها حالة عدم شروطها فلا يترتب شيء في الذمة فلا يقضي ; قاله غير أبي عمر ، وعلى هذا تكون الطهارة من شروط الوجوب .

الموفية ثلاثين : قوله تعالى : فتيمموا صعيدا طيبا قد مضى في " النساء " اختلافهم [ ص: 68 ] في الصعيد ، وحديث عمران بن حصين نص على ما يقوله مالك ، إذ لو كان الصعيد التراب لقال عليه السلام للرجل عليك بالتراب فإنه يكفيك ، فلما قال : عليك بالصعيد أحاله على وجه الأرض . والله أعلم . تقدم في " النساء " الكلام فيه فتأمله هناك .

الحادية والثلاثون : وإذا انتهى القول بنا في الآي إلى هنا فاعلم أن العلماء تكلموا في فضل الوضوء والطهارة وهي خاتمة الباب : قال صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان أخرجه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري ، وقد تقدم في " البقرة " الكلام فيه ; قال ابن العربي : والوضوء أصل في الدين ، وطهارة المسلمين ، وخصوصا لهذه الأمة في العالمين ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وقال : هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء أبي إبراهيم وذلك لا يصح ; قال غيره : ليس هذا بمعارض لقوله عليه السلام : لكم سيما ليست لغيركم فإنهم كانوا يتوضئون ، وإنما الذي خص به هذه الأمة الغرة والتحجيل لا بالوضوء ، وهما تفضل من الله تعالى اختص بهما هذه الأمة شرفا لها ولنبيها صلى الله عليه وسلم كسائر فضائلها على سائر الأمم ، كما فضل نبيها صلى الله عليه وسلم بالمقام المحمود وغيره على سائر الأنبياء ; والله أعلم . قال أبو عمر : وقد يجوز أن يكون الأنبياء يتوضئون فيكتسبون بذلك الغرة والتحجيل ولا يتوضأ أتباعهم ، كما جاء عن موسى عليه السلام قال : " يا رب أجد أمة كلهم كالأنبياء فاجعلها أمتي " فقال له : " تلك أمة محمد " في حديث فيه طول ، وقد روى سالم بن عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار أنه سمع رجلا يحدث أنه رأى رؤيا في المنام أن الناس قد جمعوا للحساب ; ثم دعي الأنبياء مع كل نبي أمته ، وأنه رأى لكل نبي نورين يمشي بينهما ، ولمن اتبعه من أمته نورا واحدا يمشي به ، حتى دعي بمحمد صلى الله عليه وسلم فإذا شعر رأسه ووجهه نور كله يراه كل من نظر إليه ، وإذا لمن اتبعه من أمته نوران كنور الأنبياء ; فقال له كعب وهو لا يشعر أنها رؤيا : من حدثك بهذا الحديث وما علمك به ؟ فأخبره أنها رؤيا ; فأنشده كعب ، الله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت ما تقول في منامك ؟ فقال : نعم والله لقد رأيت ذلك ; فقال كعب : والذي نفسي بيده - أو قال والذي بعث محمدا بالحق - إن هذه لصفة أحمد وأمته ، وصفة الأنبياء في كتاب الله ، لكان ما تقوله من التوراة . أسنده في كتاب " التمهيد " قال أبو عمر : وقد قيل إن سائر الأمم كانوا يتوضئون والله أعلم ; وهذا لا أعرفه من وجه صحيح ، وخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو آخر [ ص: 69 ] قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة كان مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر السماء ، حتى يخرج نقيا من الذنوب ، وحديث مالك عن عبد الله الصنابحي أكمل ، والصواب أبو عبد الله لا عبد الله ، وهو مما وهم فيه مالك ، واسمه عبد الرحمن بن عسيلة تابعي شامي كبير لإدراكه أول خلافة أبي بكر ; قال أبو عبد الله الصنابحي : قدمت مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فلما وصلنا الجحفة إذا براكب قلنا له ما الخبر ؟ قال : دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ ثلاثة أيام . وهذه الأحاديث وما كان في معناها من حديث عمرو بن عبسة وغيره تفيدك أن المراد بها كون الوضوء مشروعا عبادة لدحض الآثام ; وذلك يقتضي افتقاره إلى نية شرعية ; لأنه شرع لمحو الإثم ورفع الدرجات عند الله تعالى .

الثانية والثلاثون : قوله تعالى : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج أي : من ضيق في الدين ; دليله قوله تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج . و ( من ) صلة ؛ أي : ليجعل عليكم حرجا . ولكن يريد ليطهركم أي : من الذنوب كما ذكرنا من حديث أبي هريرة والصنابحي ، وقيل : من الحدث والجنابة ، وقيل : لتستحقوا الوصف بالطهارة التي يوصف بها أهل الطاعة . وقرأ سعيد بن المسيب " ليطهركم " والمعنى واحد ، كما يقال : نجاه وأنجاه . وليتم نعمته عليكم أي : بالترخيص في التيمم عند المرض والسفر ، وقيل : بتبيان الشرائع ، وقيل : بغفران الذنوب ; وفي الخبر ( تمام النعمة دخول الجنة والنجاة من النار ) . لعلكم تشكرون أي : لتشكروا نعمته فتقبلوا على طاعته .
قوله تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور

قوله تعالى : واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به قيل : هو الميثاق الذي في قوله عز وجل : وإذ أخذ ربك من بني آدم ; قال مجاهد وغيره ، ونحن وإن لم [ ص: 70 ] نذكره فقد أخبرنا الصادق به ، فيجوز أن نؤمر بالوفاء به ، وقيل : هو خطاب لليهود بحفظ ما أخذ عليهم في التوراة ; والذي عليه الجمهور من المفسرين كابن عباس والسدي هو العهد والميثاق الذي جرى لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره إذ قالوا : سمعنا وأطعنا ، كما جرى ليلة العقبة وتحت الشجرة ، وأضافه تعالى إلى نفسه كما قال : إنما يبايعون الله فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم ، وأن يرحل إليهم هو وأصحابه ، وكان أول من بايعه البراء بن معرور ، وكان له في تلك الليلة المقام المحمود في التوثق لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والشد لعقد أمره ، وهو القائل : والذي بعثك بالحق لأمنعنك مما نمنع منه أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر . الخبر المشهور في سيرة ابن إسحاق ، ويأتي ذكر بيعة الرضوان في موضعها ، وقد اتصل هذا بقوله تعالى : أوفوا بالعقود فوفوا بما قالوا ; جزاهم الله تعالى عن نبيهم وعن الإسلام خيرا ، ورضي الله عنهم وأرضاهم . واتقوا الله أي : في مخالفته إنه عالم بكل شيء .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم

قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين الآية تقدم معناها في " النساء " ، والمعنى : أتممت عليكم نعمتي فكونوا قوامين لله ، أي : لأجل ثواب الله ; فقوموا بحقه ، واشهدوا بالحق من غير ميل إلى أقاربكم ، وحيف على أعدائكم . ولا يجرمنكم شنآن قوم على ترك العدل وإيثار العدوان على الحق ، وفي هذا دليل على نفوذ حكم العدو [ ص: 71 ] على عدوه في الله تعالى ونفوذ شهادته عليه ; لأنه أمر بالعدل وإن أبغضه ، ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز فيه مع البغض له لما كان لأمره بالعدل فيه وجه ، ودلت الآية أيضا على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه ، وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق ، وأن المثلة بهم غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمونا بذلك ; فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدا لإيصال الغم والحزن إليهم ; وإليه أشار عبد الله بن رواحة بقوله في القصة المشهورة : هذا معنى الآية . وتقدم في صدر هذه السورة معنى قوله : ولا يجرمنكم شنآن قوم ، وقرئ " ولا يجرمنكم " قال الكسائي : هما لغتان . وقال الزجاج : معنى " لا يجرمنكم " لا يدخلنكم في الجرم ; كما تقول : آثمني أي : أدخلني في الإثم . ومعنى : هو أقرب للتقوى أي : لأن تتقوا الله ، وقيل : لأن تتقوا النار . ومعنى لهم مغفرة وأجر عظيم أي : قال الله في حق المؤمنين : لهم مغفرة وأجر عظيم أي : لا تعرف كنهه أفهام الخلق ; كما قال : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ، وإذا قال الله تعالى : أجر عظيم و أجر كريم و أجر كبير فمن ذا الذي يقدر قدره ؟ ، ولما كان الوعد من قبيل القول حسن إدخال اللام في قوله : لهم مغفرة وهو في موضع نصب ; لأنه وقع موقع الموعود به ، على معنى وعدهم أن لهم مغفرة أو وعدهم مغفرة إلا أن الجملة وقعت موقع المفرد ; كما قال الشاعر :


وجدنا الصالحين لهم جزاء وجنات وعين سلسبيل
وموضع الجملة نصب ; ولذلك عطف عليها بالنصب ، وقيل : هو في موضع رفع على أن يكون الموعود به محذوفا ; على تقدير لهم مغفرة وأجر عظيم فيما وعدهم به ، وهذا المعنى عن الحسن . والذين كفروا نزلت في بني النضير ، وقيل في جميع الكفار .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون

قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم [ ص: 72 ] قال جماعة : نزلت بسبب فعل الأعرابي في غزوة ذات الرقاع حين اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم وقال : من يعصمك مني يا محمد ؟ كما تقدم في " النساء " ، وفي البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه ، وذكر الواقدي وابن أبي حاتم أنه أسلم ، وذكر قوم أنه ضرب برأسه في ساق شجرة حتى مات ، وفي البخاري في غزوة ذات الرقاع أن اسم الرجل غورث بن الحارث ( بالغين منقوطة مفتوحة وسكون الواو بعدها راء وثاء مثلثة ) وقد ضم بعضهم الغين ، والأول أصح ، وذكر أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي ، وأبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي أن اسمه دعثور بن الحارث ، وذكر أنه أسلم كما تقدم ، وذكر محمد بن إسحاق أن اسمه عمرو بن جحاش وهو أخو بني النضير ، وذكر بعضهم أن قصة عمرو بن جحاش في غير هذه القصة ، والله أعلم ، وقال قتادة ومجاهد وغيرهما : نزلت في قوم من اليهود جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية فهموا بقتله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله منهم . قال القشيري : وقد تنزل الآية في قصة ثم ينزل ذكرها مرة أخرى لادكار ما سبق . أن يبسطوا إليكم أيديهم أي : بالسوء . فكف أيديهم عنكم أي : منعهم .
قوله تعالى : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل

قوله تعالى : ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قال ابن عطية : هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوي أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في بني النضير ، واختلف أهل التأويل في كيفية بعث هؤلاء النقباء بعد الإجماع على أن النقيب كبير القوم ، القائم بأمورهم الذي ينقب عنها [ ص: 73 ] وعن مصالحهم فيها ، والنقاب : الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة ; ومنه قيل في عمر رضي الله عنه : إنه كان لنقابا . فالنقباء الضمان ، واحدهم نقيب ، وهو شاهد القوم وضمينهم ; يقال : نقب عليهم ، وهو حسن النقيبة أي : حسن الخليقة ، والنقب والنقب الطريق في الجبل ، وإنما قيل : نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم ، ويعرف مناقبهم وهو الطريق إلى معرفة أمورهم ، وقال قوم : النقباء الأمناء على قومهم ; وهذا كله قريب بعضه من بعض ، والنقيب أكبر مكانة من العريف . قال عطاء بن يسار : حملة القرآن عرفاء أهل الجنة ; ذكره الدارمي في مسنده . قال قتادة - رحمه الله - وغيره : هؤلاء النقباء قوم كبار من كل سبط ، تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله ; ونحو هذا كان النقباء ليلة العقبة ; بايع فيها سبعون رجلا وامرأتان . فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعين اثني عشر رجلا ، وسماهم النقباء اقتداء بموسى صلى الله عليه وسلم ، وقال الربيع والسدي وغيرهما : إنما بعث النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبارين والسبر لقوتهم ومنعتهم ; فساروا ليختبروا حال من بها ، ويعلموه بما اطلعوا عليه فيها حتى ينظر في الغزو إليهم ; فاطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة - على ما يأتي - وظنوا أنهم لا قبل لهم بها ; فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل ، وأن يعلموا به موسى عليه السلام ، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم ، ومن وثقوه على سرهم ; ففشا الخبر حتى اعوج أمر بني إسرائيل فقالوا : فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون .

الثانية : ففي الآية دليل على قبول خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء ، ويحتاج إلى اطلاعه من حاجاته الدينية والدنيوية ; فتركب عليه الأحكام ، ويرتبط به الحلال والحرام ; وقد جاء أيضا مثله في الإسلام ; قال صلى الله عليه وسلم لهوازن : ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم . أخرجه البخاري .

الثالثة : وفيها أيضا دليل على اتخاذ الجاسوس ، والتجسس : التبحث ، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبسة عينا ; أخرجه مسلم ، وسيأتي حكم الجاسوس في " الممتحنة " إن شاء الله تعالى ، وأما أسماء نقباء بني إسرائيل فقد ذكر أسماءهم محمد بن حبيب في " المحبر " فقال : من سبط روبيل شموع بن ركوب ، ومن سبط شمعون شوقوط بن حوري ، ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا ، ومن سبط الساحر يوغول بن يوسف ، ومن سبط أفراثيم بن يوسف يوشع بن النون ، ومن سبط بنيامين يلظى بن روقو ، ومن سبط ربالون كرابيل بن سودا ومن سبط [ ص: 74 ] منشا بن يوسف كدي بن سوشا ، ومن سبط دان عمائيل بن كسل ، ومن سبط شير ستور بن ميخائيل ، ومن سبط نفتال يوحنا بن وقوشا ، ومن سبط كاذاكوال بن موخي ; فالمؤمنون منهم يوشع وكالب ، ودعا موسى عليه السلام على الآخرين فهلكوا مسخوطا عليهم ; قاله الماوردي ، وأما نقباء ليلة العقبة فمذكورون في سيرة ابن إسحاق فلينظروا هناك .

قوله تعالى : وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة قال الربيع بن أنس : قال ذلك للنقباء ، وقال غيره : قال ذلك لجميع بني إسرائيل ، وكسرت " إن " لأنها مبتدأة . معكم لأنه ظرف ، أي : بالنصر والعون . ثم ابتدأ فقال : لئن أقمتم الصلاة إلى أن قال لأكفرن عنكم سيئاتكم أي : إن فعلتم ذلك ولأدخلنكم جنات واللام في لئن لام توكيد ومعناها القسم ; وكذا لأكفرن عنكم ، ولأدخلنكم ، وقيل : المعنى لئن أقمتم الصلاة لأكفرن عنكم سيئاتكم ، وتضمن شرطا آخر لقوله : لأكفرن أي : إن فعلتم ذلك لأكفرن ، وقيل : قوله لئن أقمتم الصلاة جزاء لقوله : إني معكم وشرط لقوله : لأكفرن والتعزير : التعظيم والتوقير ; وأنشد أبو عبيدة :


وكم من ماجد لهم كريم ومن ليث يعزر في الندي
أي : يعظم ويوقر ، والتعزير : الضرب دون الحد ، والرد ; تقول : عزرت فلانا إذا أدبته ورددته عن القبيح . فقوله : عزرتموهم أي : رددتم عنهم أعداءهم . أي : رددتم عنهم أعداءهم . وأقرضتم الله قرضا حسنا يعني الصدقات ; ولم يقل إقراضا ، وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله : والله أنبتكم من الأرض نباتا ، فتقبلها ربها بقبول حسن وقد تقدم . ثم قيل : حسنا أي : طيبة بها نفوسكم ، وقيل : يبتغون بها وجه الله ، وقيل : حلالا ، وقيل : قرضا اسم لا مصدر . فمن كفر بعد ذلك منكم أي : بعد الميثاق . فقد ضل سواء السبيل أي : أخطأ قصد الطريق ، والله أعلم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.28 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.65 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.45%)]