
05-03-2023, 02:44 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,175
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 91 الى صــ 98
الحلقة (274)
وروي أن آدم حضر ذلك ، والله أعلم . وقد روي في هذا الباب عن جعفر الصادق : أن آدم لم يكن يزوج [ ص: 91 ] ابنته من ابنه ; ولو فعل ذلك آدم لما رغب عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا كان دين آدم إلا دين النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن الله تعالى لما أهبط آدم وحواء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حواء بنتا فسماها عناقا فبغت ، وهي أول من بغى على وجه الأرض ; فسلط الله عليها من قتلها ، ثم ولدت لآدم قابيل ، ثم ولدت له هابيل ; فلما أدرك قابيل أظهر الله له جنية من ولد الجن ، يقال لها : جمالة في صورة إنسية ; وأوحى الله إلى آدم أن زوجها من قابيل فزوجها منه . فلما أدرك هابيل أهبط الله إلى آدم حورية في صفة إنسية وخلق لها رحما ، وكان اسمها بزلة ، فلما نظر إليها هابيل أحبها ; فأوحى الله إلى آدم أن زوج بزلة من هابيل ففعل . فقال قابيل : يا أبت ألست أكبر من أخي ؟ قال : نعم . قال : فكنت أحق بما فعلت به منه ! فقال له آدم : يا بني إن الله قد أمرني بذلك ، وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، فقال : لا والله ، ولكنك آثرته علي . فقال آدم : " فقربا قربانا فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بالفضل " .
قلت : هذه القصة عن جعفر ما أظنها تصح ، وأن القول ما ذكرناه من أنه كان يزوج غلام هذا البطن لجارية تلك البطن ، والدليل على هذا من الكتاب قوله تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، وهذا كالنص ثم نسخ ذلك ، حسبما تقدم بيانه في سورة " البقرة " . وكان جميع ما ولدته حواء أربعين من ذكر وأنثى في عشرين بطنا ; أولهم قابيل وتوأمته إقليمياء ، وآخرهم عبد المغيث . ثم بارك الله في نسل آدم . قال ابن عباس : لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا ، وما روي عن جعفر - من قوله : فولدت بنتا وأنها بغت - فيقال : مع من بغت ؟ أمع جني تسول لها ! ومثل هذا يحتاج إلى نقل صحيح يقطع العذر ، وذلك معدوم ، والله أعلم .
الثانية : وفي قول هابيل قال إنما يتقبل الله من المتقين كلام قبله محذوف ; لأنه لما قال له قابيل : لأقتلنك قال له : ولم تقتلني وأنا لم أجن شيئا ؟ ، ولا ذنب لي في قبول الله قرباني ، أما إني اتقيته وكنت على لاحب الحق وإنما يتقبل الله من المتقين . قال ابن عطية : المراد بالتقوى هنا اتقاء الشرك بإجماع أهل السنة ; فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة ; وأما المتقي الشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والختم بالرحمة ; علم ذلك بإخبار الله تعالى لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلا ، وقال عدي بن ثابت وغيره : قربان متقي هذه الأمة الصلاة .
قلت : وهذا خاص في نوع من العبادات ، وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال قال [ ص: 92 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله تبارك وتعالى قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته .
قوله تعالى : لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : لئن بسطت إلي يدك الآية . أي : لئن قصدت قتلي فأنا لا أقصد قتلك ; فهذا استسلام منه . وفي الخبر : ( إذا كانت الفتنة فكن كخير ابني آدم ) ، وروى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال قلت يا رسول الله : إن دخل علي بيتي وبسط يده إلي ليقتلني ؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كن كخير ابني آدم وتلا هذه الآية لئن بسطت إلي يدك لتقتلني . قال مجاهد : كان الفرض عليهم حينئذ ألا يستل أحد سيفا ، وألا يمتنع ممن يريد قتله . قال علماؤنا : وذلك مما يجوز ورود التعبد به ، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعا ، وفي وجوب ذلك عليه خلاف ، والأصح وجوب ذلك ; لما فيه من النهي عن المنكر ، وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه الدفع ; واحتجوا بحديث أبي ذر ، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة ، وكف اليد عند الشبهة ; على ما بيناه في كتاب " التذكرة " ، وقال عبد الله بن عمرو وجمهور الناس : كان هابيل أشد قوة من قابيل ولكنه تحرج . قال ابن عطية : وهذا هو الأظهر ، ومن هاهنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر ; لأنه لو كان كافرا لم يكن للتحرج هنا وجه ، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحدا ، ويرضى بأن يظلم ليجازى في الآخرة ; ونحو هذا فعل عثمان رضي الله عنه ، وقيل : المعنى لا أقصد قتلك بل أقصد الدفع عن نفسي ، وعلى هذا قيل : كان نائما فجاء قابيل ورضخ رأسه بحجر على ما يأتي ، ومدافعة الإنسان عمن يريد ظلمه جائزة وإن أتى على نفس العادي ، وقيل : لئن بدأت بقتلي فلا أبدأ بالقتل . وقيل : أراد لئن بسطت إلي يدك ظلما فما أنا بظالم ; إني أخاف الله رب العالمين .
[ ص: 93 ] الثانية : قوله تعالى : إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك قيل : معناه معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : إنه كان حريصا على قتل صاحبه وكان هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك ; فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي ، وقيل : المعنى بإثمي الذي يختص بي فيما فرطت ; أي : يؤخذ من سيئاتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي ، وتبوء بإثمك في قتلك ; وهذا يعضده قوله عليه الصلاة والسلام : يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه . أخرجه مسلم بمعناه ، وقد تقدم ، ويعضده قوله تعالى : وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وهذا بين لا إشكال فيه ، وقيل : المعنى إني أريد ألا تبوء بإثمي وإثمك كما قال تعالى : وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم أي : لئلا تميد بكم . وقوله تعالى : يبين الله لكم أن تضلوا أي : لئلا تضلوا فحذف " لا " .
قلت : وهذا ضعيف ; لقوله عليه السلام : لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل ، فثبت بهذا أن إثم القتل حاصل ; ولهذا قال أكثر العلماء : إن المعنى ترجع بإثم قتلي وإثمك الذي عملته قبل قتلي . قال الثعلبي : هذا قول عامة أكثر المفسرين ، وقيل : هو استفهام ، أي : أو إني أريد ؟ على جهة الإنكار ; كقوله تعالى : وتلك نعمة أي : أو تلك نعمة ؟ وهذا لأن إرادة القتل معصية . حكاه القشيري وسئل أبو الحسن بن كيسان : كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار ؟ فقال : إنما وقعت الإرادة بعدما بسط يده إليه بالقتل ; والمعنى : لئن بسطت إلي يدك لتقتلني لأمتنعن من ذلك مريدا للثواب ; فقيل له : فكيف قال : بإثمي وإثمك ; وأي إثم له إذا قتل ؟ فقال : فيه ثلاثة أجوبة :
أحدها : أن تبوء بإثم قتلي وإثم ذنبك الذي من أجله لم يتقبل قربانك ، ويروى هذا القول عن مجاهد .
والوجه الآخر : أن تبوء بإثم قتلي وإثم اعتدائك علي ; لأنه قد يأثم بالاعتداء وإن لم يقتل .
والوجه الثالث : أنه لو بسط يده إليه أثم ; فرأى أنه إذا أمسك عن ذلك [ ص: 94 ] فإثمه يرجع على صاحبه . فصار هذا مثل قولك : المال بينه وبين زيد ; أي المال بينهما ، فالمعنى أن تبوء بإثمنا ، وأصل " باء " رجع إلى المباءة ، وهي المنزل . وباءوا بغضب من الله أي : رجعوا ، وقد مضى في " البقرة " مستوفى ، وقال الشاعر :
ألا تنتهي عنا ملوك وتتقي محارمنا لا يبوء الدم بالدم أي : لا يرجع الدم بالدم في القود .
فتكون من أصحاب النار دليل على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد ، وقد استدل بقول هابيل لأخيه قابيل : فتكون من أصحاب النار على أنه كان كافرا ; لأن لفظ أصحاب النار إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن ، وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية ، ومعنى من أصحاب النار مدة كونك فيها ، والله أعلم .
قوله تعالى : فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين
فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : فطوعت له نفسه . أي : سولت وسهلت نفسه عليه الأمر وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع سهل له يقال : طاع الشيء يطوع أي : سهل وانقاد . وطوعه فلان له أي : سهله . قال الهروي : طوعت وأطاعت واحد ; يقال : طاع له كذا إذا أتاه طوعا . وقيل : طاوعته نفسه في قتل أخيه ; فنزع الخافض فانتصب . وروي أنه جهل كيف يقتله فجاء إبليس بطائر - أو حيوان غيره - فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل ; قاله ابن جريج ومجاهد وغيرهما ، وقال ابن عباس وابن مسعود : وجده نائما فشدخ رأسه بحجر وكان ذلك في ثور - جبل بمكة - قاله ابن عباس ، وقيل : عند عقبة حراء ; حكاه محمد بن جرير الطبري ، وقال جعفر الصادق : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم ، وكان لهابيل يوم قتله قابيل عشرون سنة ، ويقال : إن قابيل كان يعرف القتل بطبعه ; لأن الإنسان وإن لم ير القتل فإنه يعلم بطبعه أن النفس فانية ويمكن إتلافها ; فأخذ حجرا فقتله بأرض الهند ، والله أعلم . ولما قتله ندم فقعد يبكي عند رأسه إذ أقبل غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ثم حفر له حفرة فدفنه ; ففعل القاتل بأخيه كذا ، والسوءة يراد بها العورة ، وقيل : يراد بها جيفة المقتول ; ثم إنه هرب إلى أرض [ ص: 95 ] عدن من اليمن ، فأتاه إبليس وقال : إنما أكلت النار قربان أخيك لأنه كان يعبد النار ، فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك ، فبنى بيت نار ، فهو أول من عبد النار فيما قيل ، والله أعلم .
وروي عن ابن عباس أنه لما قتله وآدم بمكة اشتاك الشجر ، وتغيرت الأطعمة ، وحمضت الفواكه ، وملحت المياه ، واغبرت الأرض ; فقال آدم عليه السلام : قد حدث في الأرض حدث ، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل . وقيل : إن قابيل هو الذي انصرف إلى آدم ، فلما وصل إليه قال له : أين هابيل ؟ فقال : لا أدري كأنك وكلتني بحفظه . فقال له آدم : أفعلتها ؟ ! والله إن دمه لينادي ، اللهم العن أرضا شربت دم هابيل . فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دما . ثم إن آدم بقي مائة سنة لم يضحك ، حتى جاءه ملك فقال له : حياك الله يا آدم وبياك . فقال : ما بياك ؟ قال : أضحكك ; قال مجاهد وسالم بن أبي الجعد . ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة - وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له شيثا ، وتفسيره هبة الله ، أي : خلفا من هابيل ، وقال مقاتل : كان قبل قتل قابيل هابيل السباع والطيور تستأنس بآدم ، فلما قتل قابيل هابيل هربوا ، فلحقت الطيور بالهواء ، والوحوش بالبرية ، ولحقت السباع بالغياض . وروي أن آدم لما تغيرت الحال قال :
تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي طعم ولون
وقل بشاشة الوجه المليح في أبيات كثيرة ذكرها الثعلبي وغيره . قال ابن عطية : هكذا هو الشعر بنصب " بشاشة " وكف التنوين . قال القشيري وغيره قال ابن عباس : ما قال آدم الشعر ، وإن محمدا والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء ; لكن لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سرياني ، فهي مرثية بلسان السريانية أوصى بها إلى ابنه شيث وقال : إنك وصيي فاحفظ مني هذا الكلام ليتوارث ; فحفظت منه إلى زمان يعرب بن قحطان ، فترجم عنه يعرب بالعربية وجعله شعرا .
الثانية : روي من حديث أنس قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال : يوم الدم فيه حاضت حواء وفيه قتل ابن آدم أخاه ، وثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل ، وهذا نص على التعليل ; وبهذا الاعتبار يكون على إبليس كفل من معصية كل من عصى بالسجود ; لأنه أول من عصى به ، وكذلك كل من أحدث في دين الله ما لا يجوز من البدع والأهواء ; قال صلى الله عليه وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم [ ص: 96 ] القيامة ، وهذا نص في الخير والشر ، وقال صلى الله عليه وسلم : إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون ، وهذا كله صريح ، ونص صحيح في معنى الآية ، وهذا ما لم يتب الفاعل من تلك المعصية ، لأن آدم عليه السلام كان أول من خالف في أكل ما نهي عنه ، ولا يكون عليه شيء من أوزار من عصى بأكل ما نهي عنه ولا شربه من بعده بالإجماع ; لأن آدم تاب من ذلك وتاب الله عليه ، فصار كمن لم يجن .
ووجه آخر : فإنه أكل ناسيا على الصحيح من الأقوال ، كما بيناه في " البقرة " والناسي غير آثم ولا مؤاخذ .
الثالثة : تضمنت هذه الآية البيان عن حال الحاسد ، حتى إنه قد يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه قرابة ، وأمسه به رحما ، وأولاهم بالحنو عليه ودفع الأذية عنه .
الرابعة : قوله تعالى : فأصبح من الخاسرين أي : ممن خسر حسناته ، وقال ، مجاهد : علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه إلى الشمس حيثما دارت ، عليه في الصيف حظيرة من نار ، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج . قال ابن عطية : فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى : فأصبح من الخاسرين وإلا فالخسران يعم خسران الدنيا والآخرة .
قلت : ولعل هذا يكون عقوبته على القول بأنه عاص لا كافر ; فيكون المعنى فأصبح من الخاسرين أي : في الدنيا ، والله أعلم .
قوله تعالى : فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين
فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى : فبعث الله غرابا يبحث في الأرض قال مجاهد : بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر فدفنه ، وكان ابن آدم هذا أول من قتل ، وقيل : إن الغراب بحث الأرض على طعمه ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه ; لأنه من عادة الغراب فعل ذلك ; فتنبه قابيل بذلك على مواراة أخيه . وروي أن قابيل لما قتل هابيل جعله في جراب ، [ ص: 97 ] ومشى به يحمله في عنقه مائة سنة ; قاله مجاهد ، وروى ابن القاسم عن مالك أنه حمله سنة واحدة ; وقاله ابن عباس ، وقيل : حتى أروح ولا يدري ما يصنع به إلى أن اقتدى بالغراب كما تقدم ، وفي الخبر عن أنس قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : امتن الله على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث بالريح بعد الروح فلولا أن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميما وبالدود في الجثة فلولا أن الدود يقع في الجثة لاكتنزتها الملوك وكانت خيرا لهم من الدراهم والدنانير وبالموت بعد الكبر وإن الرجل ليكبر حتى يمل نفسه ويمله أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أستر له ، وقال قوم : كان قابيل يعلم الدفن ، ولكن ترك أخاه بالعراء استخفافا به ، فبعث الله غرابا يبحث التراب على هابيل ليدفنه ، فقال عند ذلك : يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ، حيث رأى إكرام الله لهابيل بأن قيض له الغراب حتى واراه ، ولم يكن ذلك ندم توبة ، وقيل : إنما ندمه كان على فقده لا على قتله ، وإن كان فلم يكن موفيا شروطه . أو ندم ولم يستمر ندمه ; فقال ابن عباس : ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه ، ويقال : إن آدم وحواء أتيا قبره وبكيا أياما عليه . ثم إن قابيل كان على ذروة جبل فنطحه ثور فوقع إلى السفح وقد تفرقت عروقه . ويقال : دعا عليه آدم فانخسفت به الأرض ، ويقال : إن قابيل استوحش بعد قتل هابيل ولزم البرية ، وكان لا يقدر على ما يأكله إلا من الوحش ، فكان إذا ظفر به وقذه حتى يموت ثم يأكله . قال ابن عباس : فكانت الموقوذة حراما من لدن قابيل بن آدم ، وهو أول من يساق من الآدميين إلى النار ; وذلك قوله تعالى : ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس الآية ، فإبليس رأس الكافرين من الجن ، وقابيل رأس الخطيئة من الإنس ; على ما يأتي بيانه في " حم فصلت " إن شاء الله تعالى ، وقد قيل : إن الندم في ذلك الوقت لم يكن توبة ، والله بكل ذلك أعلم وأحكم ، وظاهر الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم ; ولذلك جهلت سنة المواراة ; وكذلك حكى الطبري عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بما في كتب الأوائل ، وقوله يبحث معناه يفتش التراب بمنقاره ويثيره . ومن هذا سميت سورة " براءة " البحوث ; لأنها فتشت عن المنافقين ; ومن ذلك قول الشاعر :
إن الناس غطوني تغطيت عنهم وإن بحثوني كان فيهم مباحث وفي المثل : لا تكن كالباحث على الشفرة ; قال الشاعر :
فكانت كعنز السوء قامت برجلها إلى مدية مدفونة تستثيرها
[ ص: 98 ] الثانية : بعث الله الغراب حكمة ; ليرى ابن آدم كيفية المواراة ، وهو معنى قوله تعالى : ثم أماته فأقبره ، فصار فعل الغراب في المواراة سنة باقية في الخلق ، فرضا على جميع الناس على الكفاية ، من فعله منهم سقط فرضه عن الباقين . وأخص الناس به الأقربون الذين يلونه ، ثم الجيرة ، ثم سائر المسلمين ، وأما الكفار فقد روى أبو داود عن علي قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إن عمك الشيخ الضال قد مات ; قال : اذهب فوار أباك التراب ثم لا تحدثن شيئا حتى تأتيني فذهبت فواريته وجئته فأمرني فاغتسلت ودعا لي .
الثالثة : ويستحب في القبر سعته وإحسانه ; لما رواه ابن ماجه عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احفروا وأوسعوا وأحسنوا ، وروي عن الأدرع السلمي قال : جئت ليلة أحرس النبي صلى الله عليه وسلم ; فإذا رجل قراءته عالية ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله : هذا مراء ; قال : فمات بالمدينة ففرغوا من جهازه فحملوا نعشه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارفقوا به رفق الله به إنه كان يحب الله ورسوله . قال : وحضر حفرته فقال : أوسعوا له وسع الله عليه فقال بعض أصحابه : يا رسول الله لقد حزنت عليه ؟ فقال : أجل إنه كان يحب الله ورسوله ; أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن زيد بن الحباب عن موسى بن عبيدة عن سعيد بن أبي سعيد . قال أبو عمر بن عبد البر : أدرع السلمي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا واحدا ، وروى عنه سعيد بن أبي سعيد المقبري ; وأما هشام بن عامر بن أمية بن الحسحاس بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري ، كان يسمى في الجاهلية شهابا فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه فسماه هشاما ، واستشهد أبوه عامر يوم أحد . سكن هشام البصرة ومات بها ; ذكر هذا في كتاب الصحابة .
الرابعة : ثم قيل : اللحد أفضل من الشق ; فإنه الذي اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي كان بالمدينة رجلان أحدهما يلحد والآخر لا يلحد ; فقالوا : أيهما جاء أولا عمل عمله ، فجاء الذي يلحد فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ; ذكره مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه ، وأخرجه ابن ماجه عن أنس بن مالك وعائشة رضي الله عنهما ، والرجلان هما أبو طلحة وأبو عبيدة ; وكان أبو طلحة يلحد وأبو عبيدة يشق ، واللحد هو أن يحفر في جانب القبر إن كانت تربة صلبة ، يوضع فيه الميت ثم يوضع عليه اللبن ثم يهال التراب ;
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|