عرض مشاركة واحدة
  #280  
قديم 05-03-2023, 03:04 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 139 الى صــ 146
الحلقة (280)



الرابعة : هذه الآية تدل على جريان القصاص فيما ذكر وقد تعلق ابن شبرمة بعموم قوله : [ ص: 139 ] والعين بالعين على أن اليمنى تفقأ باليسرى وكذلك على العكس ، وأجرى ذلك في اليد اليمنى واليسرى ، وقال : تؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية ; لعموم قوله تعالى : والسن بالسن . والذين خالفوه وهم علماء الأمة قالوا : العين اليمنى هي المأخوذة باليمنى عند وجودها ، ولا يتجاوز ذلك إلى اليسرى مع الرضا ; وذلك يبين لنا أن المراد بقوله : والعين بالعين استيفاء ما يماثله من الجاني ; فلا يجوز له أن يتعدى إلى غيره كما لا يتعدى من الرجل إلى اليد في الأحوال كلها ، وهذا لا ريب فيه .

الخامسة : وأجمع العلماء على أن العينين إذا أصيبتا خطأ ففيهما الدية ، وفي العين الواحدة نصف الدية ، وفي عين الأعور إذا فقئت الدية كاملة ; روي ذلك عن عمر وعثمان ، وبه قال عبد الملك بن مروان والزهري وقتادة ومالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق ، وقيل : نصف الدية ; روي ذلك عن عبد الله بن المغفل ومسروق والنخعي ; وبه قال الثوري والشافعي والنعمان . قال ابن المنذر : وبه نقول ; لأن في الحديث في العينين الدية ومعقول إذ كان كذلك أن في إحداهما نصف الدية . قال ابن العربي : وهو القياس الظاهر ، ولكن علماؤنا قالوا : إن منفعة الأعور ببصره كمنفعة السالم أو قريب من ذلك ، فوجب عليه مثل ديته .

السادسة : واختلفوا في الأعور يفقأ عين صحيح ; فروي عن عمر وعثمان وعلي أنه لا قود عليه ، وعليه الدية كاملة ; وبه قال عطاء وسعيد بن المسيب وأحمد بن حنبل ، وقال مالك : إن شاء اقتص فتركه أعمى ، وإن شاء أخذ الدية كاملة ( دية عين الأعور ) ، وقال النخعي : إن شاء اقتص وإن شاء أخذ نصف الدية . وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري : عليه القصاص ، وروي ذلك عن علي أيضا ، وهو قول مسروق وابن سيرين وابن معقل ، واختاره ابن المنذر وابن العربي ; لأن الله تعالى قال : والعين بالعين وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في العينين الدية ; ففي العين نصف الدية ، والقصاص بين صحيح العين والأعور كهيئته بين سائر الناس ، ومتعلق أحمد بن حنبل أن في القصاص منه أخذ جميع البصر ببعضه وذلك ليس بمساواة ، وبما روي عن عمر وعثمان وعلي في ذلك ، ومتمسك مالك أن الأدلة لما تعارضت خير المجني عليه . قال ابن العربي : والأخذ بعموم القرآن أولى ; فإنه أسلم عند الله تعالى .

السابعة : واختلفوا في عين الأعور التي لا يبصر بها ; فروي عن زيد بن ثابت أنه قال : فيها مائة دينار ، وعن عمر بن الخطاب أنه قال : فيها ثلث ديتها ; وبه قال إسحاق ، وقال مجاهد : فيها نصف ديتها ، وقال مسروق والزهري ومالك والشافعي وأبو ثور والنعمان : فيها حكومة ; قال ابن المنذر : وبه نقول لأنه الأقل مما قيل .

[ ص: 140 ] الثامنة : وفي إبطال البصر من العينين مع بقاء الحدقتين كمال الدية ، ويستوي فيه الأعمش والأخفش ، وفي إبطاله من إحداهما مع بقائها النصف . قال ابن المنذر وأحسن ما قيل في ذلك ما قاله علي بن أبي طالب : أنه أمر بعينه الصحيحة فغطيت وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره ، ثم أمر بخط عند ذلك ، ثم أمر بعينه الأخرى فغطيت وفتحت الصحيحة ، وأعطي رجل بيضة فانطلق بها وهو ينظر حتى انتهى نظره ثم خط عند ذلك ، ثم أمر به فحول إلى مكان آخر ففعل به مثل ذلك فوجده سواء ; فأعطى ما نقص من بصره من مال الآخر ، وهذا على مذهب الشافعي ; وهو قول علمائنا ، وهي :

التاسعة : ولا خلاف بين أهل العلم على أن لا قود في بعض البصر ، إذ غير ممكن الوصول إليه ، وكيفية القود في العين أن تحمى مرآة ثم توضع على العين الأخرى قطنة ، ثم تقرب المرآة من عينه حتى يسيل إنسانها ; روي عن علي رضي الله عنه ; ذكره المهدوي وابن العربي . واختلف في جفن العين ; فقال زيد بن ثابت : فيه ربع الدية ، وهو قول الشعبي والحسن وقتادة وأبي هاشم والثوري والشافعي وأصحاب الرأي ، وروي عن الشعبي أنه قال : في الجفن الأعلى ثلث الدية وفي الجفن الأسفل ثلثا الدية ، وبه قال مالك .

العاشرة : قوله تعالى : والأنف بالأنف جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية . قال ابن المنذر : وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على القول به ; والقصاص من الأنف إذا كانت الجناية عمدا كالقصاص من سائر الأعضاء على كتاب الله تعالى ، واختلفوا في كسر الأنف . فكان مالك يرى في العمد منه القود ، وفي الخطأ الاجتهاد ، وروى ابن نافع أنه لا دية للأنف حتى يستأصله من أصله . قال أبو إسحاق التونسي : وهذا شاذ ، والمعروف الأول ، وإذا فرعنا على المعروف ففي بعض المارن من الدية بحسابه من المارن . قال ابن المنذر : وما قطع من الأنف فبحسابه ; روي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والشعبي ، وبه قال الشافعي . قال أبو عمر : واختلفوا في المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف ; فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم إلى أن في ذلك الدية كاملة ، ثم إن قطع منه شيء بعد ذلك ففيه حكومة . قال مالك : الذي فيه الدية من الأنف أن يقطع المارن ; وهو دون العظم . قال ابن القاسم : وسواء قطع المارن من العظم أو استؤصل الأنف من العظم من تحت العينين إنما فيه الدية ; كالحشفة فيها الدية : وفي استئصال الذكر الدية .

الحادية عشرة : قال ابن القاسم : وإذا خرم الأنف أو كسر فبرئ على عثم ففيه الاجتهاد ، وليس فيه دية معلومة . وإن برئ على غير عثم فلا شيء فيه . قال : وليس الأنف إذا [ ص: 141 ] خرم فبرئ على غير عثم كالموضحة تبرأ على غير عثم فيكون فيها ديتها ; لأن تلك جاءت بها السنة ، وليس في خرم الأنف أثر . قال : والأنف عظم منفرد ليس فيه موضحة ، واتفق مالك والشافعي وأصحابهما على أن لا جائفة فيه ، ولا جائفة عندهم إلا فيما كان في الجوف ، والمارن ما لان من الأنف ; وكذلك قال الخليل وغيره . قال أبو عمر : وأظن روثته مارنه ، وأرنبته طرفه ، وقد قيل : الأرنبة والروثة والعرتمة طرف الأنف . والذي عليه الفقهاء مالك والشافعي والكوفيون ومن تبعهم ، في الشم إذا نقص أو فقد حكومة .

الثانية عشرة : قوله تعالى : والأذن بالأذن قال علماؤنا رحمة الله عليهم في الذي يقطع أذني رجل : عليه حكومة ، وإنما تكون عليه الدية في السمع ، ويقاس في نقصانه كما يقاس في البصر ، وفي إبطاله من إحداهما نصف الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها ، بخلاف العين العوراء فيها الدية كاملة ; على ما تقدم ، وقال أشهب : إن كان السمع إذا سئل عنه قيل إن أحد السمعين يسمع ما يسمع السمعان فهو عندي كالبصر ، وإذا شك في السمع جرب بأن يصاح به من مواضع عدة ، يقاس ذلك ; فإن تساوت أو تقاربت أعطي بقدر ما ذهب من سمعه ويحلف على ذلك . قال أشهب : ويحسب له ذلك على سمع وسط من الرجال مثله ; فإن اختبر فاختلف قوله لم يكن له شيء ، وقال عيسى بن دينار : إذا اختلف قوله عقل له الأقل مع يمينه .

الثالثة عشرة : قوله تعالى : والسن بالسن قال ابن المنذر : وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أقاد من سن وقال : كتاب الله القصاص . وجاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : في السن خمس من الإبل . قال ابن المنذر : فبظاهر هذا الحديث نقول ; لا فضل للثنايا منها على الأنياب والأضراس والرباعيات ; لدخولها كلها في ظاهر الحديث ; وبه يقول الأكثر من أهل العلم ، وممن قال بظاهر الحديث ولم يفضل شيئا منها على شيء عروة بن الزبير وطاوس والزهري وقتادة ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان وابن الحسن ، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عباس ومعاوية ، وفيه قول ثان - رويناه عن عمر بن الخطاب أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض خمس فرائض ، وذلك خمسون دينارا ، قيمة كل فريضة عشرة دنانير ، وفي الأضراس ببعير بعير ، وكان عطاء يقول : في السن والرباعيتين والنابين خمس خمس ، وفيما بقي بعيران بعيران ، أعلى الفم وأسفله سواء ، والأضراس سواء ; قال أبو عمر : أما ما رواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر قضى في الأضراس ببعير بعير فإن المعنى في ذلك أن الأضراس عشرون ضرسا ، والأسنان اثنا [ ص: 142 ] عشر سنا : أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربع أنياب ; فعلى قول عمر تصير الدية ثمانين بعيرا ; في الأسنان خمسة خمسة ، وفي الأضراس بعير بعير ، وعلى قول معاوية في الأضراس والأسنان خمسة أبعرة خمسة أبعرة ; تصير الدية ستين ومائة بعير . وعلى قول سعيد بن المسيب ، بعيرين بعيرين في الأضراس وهي عشرون ضرسا . يجب لها أربعون ، وفي الأسنان خمسة أبعرة فذلك ستون ، وهي تتمة المائة بعير ، وهي الدية كاملة من الإبل ، والاختلاف بينهم إنما هو في الأضراس لا في الأسنان . قال أبو عمر : واختلاف العلماء من الصحابة والتابعين في ديات الأسنان وتفضيل بعضها على بعض كثير جدا ، والحجة قائمة لما ذهب إليه الفقهاء مالك وأبو حنيفة والثوري ; بظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : وفي السن خمس من الإبل والضرس سن من الأسنان . روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الأصابع سواء والأسنان سواء الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء وهذا نص أخرجه أبو داود ، وروى أبو داود أيضا عن ابن عباس قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابع اليدين والرجلين سواء . قال أبو عمر : على هذه الآثار جماعة فقهاء الأمصار وجمهور أهل العلم أن الأصابع في الدية كلها سواء ، وأن الأسنان في الدية كلها سواء ، الثنايا والأضراس والأنياب لا يفضل شيء منها على شيء ; على ما في كتاب عمرو بن حزم . ذكر الثوري عن أزهر بن محارب قال : اختصم إلى شريح رجلان ضرب أحدهما ثنية الآخر وأصاب الآخر ضرسه فقال شريح : الثنية وجمالها والضرس ومنفعته سن بسن قوما . قال أبو عمر : على هذا العمل اليوم في جميع الأمصار ، والله أعلم .

الرابعة عشرة : فإن ضرب سنه فاسودت ففيها ديتها كاملة عند مالك والليث بن سعد ، وبه قال أبو حنيفة ، وروي عن زيد بن ثابت ; وهو قول سعيد بن المسيب والزهري والحسن وابن سيرين وشريح . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن فيها ثلث ديتها ; وبه قال أحمد وإسحاق ، وقال الشافعي وأبو ثور : فيها حكومة . قال ابن العربي : وهذا عندي خلاف يئول إلى وفاق ; فإنه إن كان سوادها أذهب منفعتها وإنما بقيت صورتها كاليد الشلاء والعين العمياء ، فلا خلاف في وجوب الدية ; ثم إن كان بقي من منفعتها شيء أو جميعها لم يجب إلا بمقدار ما نقص من المنفعة حكومة ; وما روي عن عمر رضي الله عنه فيها ثلث ديتها لم يصح عنه سندا ولا فقها .

الخامسة عشرة : واختلفوا في سن الصبي يقلع قبل أن يثغر ; فكان مالك والشافعي [ ص: 143 ] وأصحاب الرأي يقولون : إذا قلعت سن الصبي فنبتت فلا شيء على القالع ، إلا أن مالكا والشافعي قالا : إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من أرشها بقدر نقصها ، وقالت طائفة : فيها حكومة ، وروي ذلك عن الشعبي ; وبه قال النعمان . قال ابن المنذر : يستأنى بها إلى الوقت الذي يقول أهل المعرفة إنها لا تنبت ، فإذا كان ذلك كان فيها قدرها تاما ; على ظاهر الحديث ، وإن نبتت رد الأرش ، وأكثر من يحفظ عنه من أهل العلم يقولون : يستأنى بها سنة ; روي ذلك عن علي وزيد وعمر بن عبد العزيز وشريح والنخعي وقتادة ومالك وأصحاب الرأي ، ولم يجعل الشافعي لهذا مدة معلومة .

السادسة عشرة : إذا قلع سن الكبير فأخذ ديتها ثم نبتت ; فقال مالك لا يرد ما أخذ ، وقال الكوفيون : يرد إذا نبتت ، وللشافعي قولان : يرد ولا يرد ; لأن هذا نبات لم تجر به عادة ، ولا يثبت الحكم بالنادر ; هذا قول علمائنا . تمسك الكوفيون بأن عوضها قد نبت فيرد ; أصله سن الصغير . قال الشافعي : ولو جنى عليها جان آخر وقد نبتت صحيحة كان فيها أرشها تاما . قال ابن المنذر : هذا أصح القولين ; لأن كل واحد منهما قالع سن ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم في السن خمسا من الإبل .

السابعة عشرة : فلو قلع رجل سن رجل فردها صاحبها فالتحمت فلا شيء فيها عندنا ، وقال الشافعي : ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة ; وقاله ابن المسيب وعطاء ، ولو ردها أعاد كل صلاة صلاها لأنها ميتة ; وكذلك لو قطعت أذنه فردها بحرارة الدم فالتزقت مثله ، وقال عطاء : يجبره السلطان على قلعها لأنها ميتة ألصقها . قال ابن العربي : وهذا غلط ، وقد جهل من خفي عليه أن ردها وعودها بصورتها لا يوجب عودها بحكمها ; لأن النجاسة كانت فيها للانفصال ، وقد عادت متصلة ، وأحكام الشريعة ليست صفات للأعيان ، وإنما هي أحكام تعود إلى قول الله سبحانه فيها وإخباره عنها .

قلت : ما حكاه ابن العربي عن عطاء خلاف ما حكاه ابن المنذر عنه ; قال ابن المنذر : واختلفوا في السن تقلع قودا ثم ترد مكانها فتنبت ; فقال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح : لا بأس بذلك . وقال الثوري وأحمد وإسحاق : تقلع ; لأن القصاص للشين ، وقال الشافعي : ليس له أن يردها من قبل أنها نجسة ، ويجبره السلطان على القلع .

الثامنة عشرة : فلو كانت له سن زائدة فقلعت ففيها حكومة ; وبه قال فقهاء الأمصار ، وقال زيد بن ثابت : فيها ثلث الدية . قال ابن العربي : وليس في التقدير دليل ، فالحكومة [ ص: 144 ] أعدل . قال ابن المنذر : ولا يصح ما روي عن زيد ; وقد روي عن علي أنه قال : في السن إذا كسر بعضها أعطي صاحبها بحساب ما نقص منه ; وهذا قول مالك والشافعي وغيرهما .

قلت : وهنا انتهى ما نص الله عز وجل عليه من الأعضاء ، ولم يذكر الشفتين واللسان وهي :

التاسعة عشرة : فقال الجمهور : وفي الشفتين الدية ، وفي كل واحدة منهما نصف الدية لا فضل للعليا منهما على السفلى ، وروي عن زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والزهري : في الشفة العليا ثلث الدية ، وفي الشفة السفلى ثلثا الدية . وقال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول ; للحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : وفي الشفتين الدية ولأن في اليدين الدية ومنافعهما مختلفة ، وما قطع من الشفتين فبحساب ذلك ، وأما اللسان فجاء الحديثعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في اللسان الدية . وأجمع أهل العلم من أهل المدينة وأهل الكوفة وأصحاب الحديث وأهل الرأي على القول به ; قاله ابن المنذر .

الموفية عشرين : واختلفوا في الرجل يجني على لسان الرجل فيقطع من اللسان شيئا ، ويذهب من الكلام بعضه ; فقال أكثر أهل العلم : ينظر إلى مقدار ما ذهب من الكلام من ثمانية وعشرين حرفا فيكون عليه من الدية بقدر ما ذهب من كلامه ، وإن ذهب الكلام كله ففيه الدية ; هذا قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، وقال مالك : ليس في اللسان قود لعدم الإحاطة باستيفاء القود . فإن أمكن فالقود هو الأصل .

الحادية والثلاثون : واختلفوا في لسان الأخرس يقطع ; فقال الشعبي ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي وأبو ثور والنعمان وصاحباه : فيه حكومة . قال ابن المنذر : وفيه قولان شاذان : أحدهما : قول النخعي إن فيه الدية ، والآخر : قول قتادة إن فيه ثلث الدية . قال ابن المنذر : والقول الأول أصح ; لأنه الأقل مما قيل . قال ابن العربي : نص الله سبحانه على أمهات الأعضاء وترك باقيها للقياس عليها ; فكل عضو فيه القصاص إذا أمكن ولم يخش عليه الموت ، وكذلك كل عضو بطلت منفعته وبقيت صورته فلا قود فيه ، وفيه الدية لعدم إمكان القود فيه .

الثانية والعشرون : قوله تعالى : والجروح قصاص أي : مقاصة ، وقد تقدم في " البقرة " ، ولا قصاص في كل مخوف ولا فيما لا يوصل إلى القصاص فيه إلا بأن يخطئ الضارب أو يزيد أو ينقص ، ويقاد من جراح العمد إذا كان مما يمكن القود منه ، وهذا كله في [ ص: 145 ] العمد ; فأما الخطأ فالدية ، وإذا كانت الدية في قتل الخطأ فكذلك في الجراح ، وفي صحيح مسلم عن أنس أن أخت الربيع - أم حارثة - جرحت إنسانا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القصاص القصاص ، فقالت أم الربيع : يا رسول الله أيقتص من فلانة ؟ ! والله لا يقتص منها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله قالت : لا والله لا يقتص منها أبدا ; قال فما زالت حتى قبلوا الدية ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره .

قلت : المجروح في هذا الحديث جارية ، والجرح كسر ثنيتها ; أخرجه النسائي عن أنس أيضا أن عمته كسرت ثنية جارية فقضى نبي الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص ; فقال أخوها أنس بن النضر : أتكسر ثنية فلانة ؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها . قال : وكانوا قبل ذلك سألوا أهلها العفو والأرش ، فلما حلف أخوها وهو عم أنس - وهو الشهيد يوم أحد - رضي القوم بالعفو ; فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره . وخرجه أبو داود أيضا ، وقال : سمعت أحمد بن حنبل قيل له : كيف يقتص من السن ؟ قال : تبرد .

قلت : ولا تعارض بين الحديثين ; فإنه يحتمل أن يكون كل واحد منهما حلف فبر الله قسمهما ، وفي هذا ما يدل على كرامات الأولياء على ما يأتي بيانه في قصة الخضر إن شاء الله تعالى . فنسأل الله التثبت على الإيمان بكراماتهم وأن ينظمنا في سلكهم من غير محنة ولا فتنة .

الثالثة والعشرون : أجمع العلماء على أن قوله تعالى : والسن بالسن أنه في العمد ; فمن أصاب سن أحد عمدا ففيه القصاص على حديث أنس ، واختلفوا في سائر عظام الجسد إذا كسرت عمدا ; فقال مالك : عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان مخوفا مثل الفخذ والصلب والمأمومة والمنقلة والهاشمة ، ففي ذلك الدية ، وقال الكوفيون : لا قصاص في عظم يكسر ما خلا السن ; لقوله تعالى : والسن بالسن وهو قول الليث والشافعي . قال الشافعي : لا يكون كسر ككسر أبدا ; فهو ممنوع . قال الطحاوي : اتفقوا على أنه لا قصاص في عظم الرأس ; فكذلك في سائر العظام ، والحجة لمالك حديث أنس في السن وهي عظم ; فكذلك سائر العظام إلا عظما أجمعوا على أنه لا قصاص فيه ; لخوف ذهاب النفس منه . قال ابن [ ص: 146 ] المنذر : ومن قال لا قصاص في عظم فهو مخالف للحديث ; والخروج إلى النظير غير جائز مع وجود الخبر .

قلت : ويدل على هذا أيضا قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، وقوله : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وما أجمعوا عليه فغير داخل في الآية ، والله أعلم وبالله التوفيق .

الرابعة والعشرون : قال أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الموضحة ، وما جاء عن غيره في الشجاج . قال الأصمعي وغيره : دخل كلام بعضهم في بعض ; أول الشجاج - الحارصة وهي : التي تحرص الجلد - يعني التي تشقه قليلا - ومنه قيل : حرص القصار الثوب إذا شقه ; وقد يقال لها : الحرصة أيضا . ثم الباضعة - وهي : التي تشق اللحم تبضعه بعد الجلد . ثم المتلاحمة - وهي : التي أخذت في الجلد ولم تبلغ السمحاق ، والسمحاق : جلدة أو قشرة رقيقة بين اللحم والعظم ، وقال الواقدي : هي عندنا الملطى ، وقال غيره : هي الملطاة ، قال : وهي التي جاء فيها الحديث يقضى في الملطاة بدمها . ثم الموضحة - وهي : التي تكشط عنها ذلك القشر أو تشق حتى يبدو وضح العظم ، فتلك الموضحة . قال أبو عبيد : وليس في شيء من الشجاج قصاص إلا في الموضحة خاصة ; لأنه ليس منها شيء له حد ينتهى إليه سواها ، وأما غيرها من الشجاج ففيها ديتها . ثم الهاشمة - وهي التي تهشم العظم . ثم المنقلة - بكسر القاف حكاه الجوهري - وهي التي تنقل العظم - أي : تكسره - حتى يخرج منها فراش العظام مع الدواء . ثم الآمة - ويقال لها المأمومة - وهي التي تبلغ أم الرأس ، يعني الدماغ . قال أبو عبيد ويقال في قوله : ويقضى في الملطاة بدمها أنه إذا شج الشاج حكم عليه للمشجوج بمبلغ الشجة ساعة شج ولا يستأنى بها . قال : وسائر الشجاج عندنا يستأنى بها حتى ينظر إلى ما يصير أمرها ثم يحكم فيها حينئذ . قال أبو عبيد : والأمر عندنا في الشجاج كلها والجراحات كلها أنه يستأنى بها ; حدثنا هشيم عن حصين قال : قال عمر بن عبد العزيز : ما دون الموضحة خدوش وفيها صلح ، وقال الحسن البصري : ليس فيما دون الموضحة قصاص ، وقال مالك : القصاص فيما دون الموضحة الملطى والدامية والباضعة وما أشبه ذلك ; وكذلك قال الكوفيون وزادوا السمحاق ، حكاه ابن المنذر ، وقال أبو عبيد : الدامية التي تدمى من غير أن يسيل منها دم ، والدامعة : أن يسيل منها دم ، وليس فيما دون الموضحة قصاص ، وقال الجوهري : والدامية الشجة التي تدمى ولا تسيل . وقال علماؤنا : الدامية هي التي تسيل الدم ، [ ص: 147 ] ولا قصاص فيما بعد الموضحة ، من الهاشمة للعظم ، والمنقلة - على خلاف فيها خاصة - والآمة هي البالغة إلى أم الرأس ، والدامغة الخارقة لخريطة الدماغ ، وفي هاشمة الجسد القصاص ، إلا ما هو مخوف كالفخذ وشبهه ، وأما هاشمة الرأس فقال ابن القاسم : لا قود فيها ; لأنها لا بد تعود منقلة ، وقال أشهب : فيها القصاص ، إلا أن تنقل فتصير منقلة لا قود فيها ، وأما الأطراف فيجب القصاص في جميع المفاصل إلا المخوف منها ، وفي معنى المفاصل أبعاض المارن والأذنين والذكر والأجفان والشفتين ; لأنها تقبل التقدير ، وفي اللسان روايتان ، والقصاص في كسر العظام ، إلا ما كان متلفا كعظام الصدر والعنق والصلب والفخذ وشبهه ، وفي كسر عظام العضد القصاص ، وقضى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم في رجل كسر فخذ رجل أن يكسر فخذه ; وفعل ذلك عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بمكة ، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه فعله ; وهذا مذهب مالك على ما ذكرنا ، وقال : إنه الأمر المجمع عليه عندهم ، والمعمول به في بلادنا في الرجل يضرب الرجل فيتقيه بيده فيكسرها يقاد منه .






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.10 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.26%)]