عرض مشاركة واحدة
  #392  
قديم 08-03-2023, 08:09 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,137
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ التوبة
المجلد الثامن
صـ 3276 الى صـ 3290
الحلقة (392)



[ ص: 3275 ] وعن ابن عباس : كل ما ذكر الله في القرآن من السياحة ، فهو الصيام .

وعن الحسن : السائحون الصائمون شهر رمضان .

قال الشهاب : استعيرت السياحة للصوم لأنه يعوق عن الشهوات ، كما أن السياحة تمنع عنها في الأكثر .

ونقل الرازي عن أبي مسلم أن السائحين : السائرون في الأرض ، وهو مأخوذ من السيح ، سيح الماء الجاري ، والمراد به من خرج مجاهدا مهاجرا .

وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد ، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين ، فينبغي أن يكونوا موصوفين بجميع هذه الصفات .

وروى مثله ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن أنه قال : هم المهاجرون .

وعن عكرمة أنهم المنتقلون لطلب العلم .

قال ابن كثير : جاء ما يدل على أن السياحة الجهاد ، فقد روى أبو داود من حديث أبي أمامة أن رجلا قال : يا رسول الله ! ائذن لي في السياحة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله » .

أقول : لو أخذ هذا الحديث تفسيرا للآية لالتقى مع كل ما روي عن السلف فيها ، لأن الجهاد في سبيل الله ، كما يطلق على قتال المشركين ، يطلق على كل ما فيه مجاهدة للنفس في عبادته تعالى ، ومنه الهجرة والصوم ، والسفر للتفقه في الدين أو للاعتبار ، بل ذلك هو الجهاد الأكبر .

هذا على إرادة التوفيق بين المأثورات ، أما لو أريد باللفظ أصل حقيقته اللغوية ، أعني الضرب في الأرض خاصة ، الذي عبر عنه عكرمة بالمنتقلين لطلب العلم ، لكان بمفرده كافيا في المعنى ، مشيرا إلى وصف عظيم ، وهذا ما حدا بأبي مسلم أن يقتصر عليه ، هو الحق في تأويل الآية .

[ ص: 3276 ] وقد رأيت لبعض المحققين مقالة في تأييده ، يجدر بالمحقق أن يقف عليها ، وهاك خلاصتها : قال : الكتاب الحكيم يأمر الإنسان كثيرا بأن يضحي قسما من حياته في السياحة والتسيار ، لأجل اكتشاف الآثار ، والوقوف على أخبار الأمم البائدة ليكون ذلك مثال عظة واعتبار ، يضرب على أدمغة الجامدين بيد من حديد .

ولا أريد أن أحشر لقارئ تلك الآيات ، فإن ذلك يؤدي إلى التطويل ، بل أريد أن أجتزئ منها بما يكفل ثبوت الدعوى ، وذلك في قوله تعالى : السائحون في هذه الآية ، ولم يقع لفظ ( سائحون ) في القرآن الكريم إلا هذه المرة الفذة .

ومع ذلك فقد تغلب عليها أهل التفسير ، فمنهم من قال هم الصائمون ، ومنهم من قال غيره .

والصحيح أن السائحون معناه السائرون ، مأخوذا من السيح وهو الجري على وجه الأرض ، والذهاب فيها ، وهذه المادة تشعر بالانتشار .

يقال : ساح الماء أي : جرى وانتشر ، والسيح أيضا الماء الجاري الذاهب في وجه الأرض .

ويطلق السائح على معنى يضاد الجامد ، وهو الماء المسفوح ، لأنه بانمياعه ينتشر في وعائه .

وقد عهدنا بألفاظ القرآن أنها يجب حملها على ظواهرها ، وعلى معانيها الحقيقية ، اللهم ما لم يمنع مانع عقلي ، ولا مانع هنا من إرادة الحقيقة وعليه فيجب حمل لفظ السائحون على معناه الظاهر الحقيقي ، وهو السائرون الذاهبون في الديار ، لأجل الوقوف على الآثار ، تواصلا للعظة بها والاعتبار ، ولغير ذلك من الفوائد التي عرفها التاريخ .

وكذلك عهدنا بالمعنى المجازي أنه لا تجوز إرادته إلا عند قيام القرينة على منع المعنى الحقيقي ، في حال أن الأمر هنا بالعكس ، لكثرة القرائن التي تطالب بإرادة المعنى الحقيقي دون المجازي ، وذلك مثل آية : سيروا [ ص: 3277 ] أولم يسيروا أفلم يسيروا فسيروا وآخرون يضربون في الأرض ومن يهاجر في سبيل الله الآية .

فهذه الآيات هي قرائن نيرة تؤذن بأن السيح معناه السير ، فإنها وإن تكن من مادة أخرى ، إلا أن معناه يلاقي معنى السيح ، على أننا لا نعدم قرينة على ذلك من نفس المادة ، وذلك كآية : فسيحوا في الأرض أربعة فكلمة سيحوا هنا تفسر السائحون في الآية هذه ، وهم يقولون : خير ما فسرته بالوارد .

وبالجملة ، فصرف هذا اللفظ عن ظاهره تكسيل للأمة ، وتدبير على فتور همتها ، وضعف نشاطها ، وحيلولة بينها وبين سعادة الإحاطة بآثار الأمم البائدة ، ورؤية عمران المسكونة ، الأمر الذي هو الآن الضالة المنشودة عند الغربيين ، وفيه ستر لنور الكتاب الذي هو أول مرشد للعالم ألا يألوا جهدا في السير والسياحة ، وأن ينقلب في البلاد أي : تنقيب .

وسيأتي تتمة لهذا في تفسير آية : سائحات في سورة التحريم إن شاء الله تعالى .

قال الرازي : للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس ، لأنه يلقاه أنواع من الضر والبؤس ، [ ص: 3278 ] فلا بد له من الصبر عليها ، وقد يلقى أفاضل مختلفين ، فيستفيد من كل ما ليس عند الآخر .

وقد يلقى الأكابر من الناس ، فيحقر نفسه في مقابلتهم ، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة ، فينتفع بها ، وقد يشاهد اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحول الخاصة بهم ، فتقوى معرفته .

وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين . انتهى .

وقال بعضهم : لا يعزب عنك أيها اللبيب أنه تعالى حث بني الإنسان على السفر في محكم كتابه العزيز ، وندد على من ارتدا منهم رداء الكسل ، وأوقع نفسه في وهدة الخمول ، وتلذذ بالتقاعد عن جوب البلاد ، وقطع الوهاد ، فقال تعالى : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها وقال صلى الله عليه وسلم : « سافروا تصحوا واغزوا تستغنوا » .

وقد تكلم كثير من العلماء والحكماء والأدباء على مزايا السفر نظما ونثرا .

ومن أجل فوائده زيادة علمه ، وانتفاع غيره بما يعلمه وما يكتسبه ، ومنها ، وهو أعظمها ، رضا ربه ، ومزيد ثوابه بنفعه لعباده ، وأحب عباد الله إلى الله أنفعهم لعباده .

وكذلك باتعاظه بأحوال الناس ، واعتباره بأمورهم ، واطلاعه في ساحته على الأسرار المكنونة ، والحكم التي دبر الله بها أمر المخلوقات وأحكم بها صنع الكائنات .

فمن وقف على سر الخالق زاد في تعظيمه وتقرب إليه بالطاعة والامتثال لأوامره ونواهيه ، وليس بخاف ما وقع للأنبياء والمرسلين ، والصحابة والتابعين ، والأولياء والصالحين ، من التنقلات والأسفار ، في القرى والأمصار ، للنظر والاعتبار .

[ ص: 3279 ] الثاني : قال القاضي : إنما جعل ذكر الركوع والسجود ، كناية عن الصلاة ، لأن سائر أشكال المصلي موافق للعادة ، هو قيامه وقعوده ، والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود ، وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره .

ويمكن أن يقال : القيام أول مراتب التواضع لله تعالى ، والركوع وسطها ، والسجود غايتها . فخص الركوع والسجود بالذكر ، لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية ، وتنبيها على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم . ذكره الرازي .

الثالث : ذكروا في سر العطف في موضعين من هذه النعوت وجوها :

فأما الأول : أعني قوله تعالى : والناهون عن المنكر فقالوا : سر العطف فيه إما الدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة ، وصفة واحدة ، لأن بينهما تلازما في الذهن والخارج ، لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاة بحسب الظاهر ، لأن أحدهما طلب فعل ، والآخر طلب ترك ، فكانا بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضي للعطف ، بخلاف ما قبلهما ، أو لأنه لما عدد صفاتهم ، عطف هذين ليدل على أنه شيء واحد ، وخصلة واحدة ، والمعدود مجموعهما ، كأنه قيل : الجامعون بين الوصفين ، أو العطف لما بينهما من التقابل ، أو لدفع الإيهام ، وهذا معنى قول ( " المغني " ) : الظاهر أن العطف في هذا الوصف إنما كان من جهة أن الأمر والنهي من حيث أمر ونهي ، متقابلان بخلاف بقية الصفات ، أو لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر ، وهو ترك المعروف ، والناهي عن المنكر آمر بالمعروف . فأشير إلى الاعتداد بكل من الوصفين ، وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر .

وأما الثاني : أعني قوله تعالى : والحافظون لحدود الله فقيل : سر العطف فيه الإيذان بأن التعداد قد تم بالسبع ، من حيث إن السبعة هو العدد التام ، والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ، ولذلك تسمى ( واو الثمانية ) ونظر فيه بأن الدال على التمام لفظ [ ص: 3280 ] ( سبعة ) لاستعماله في التكثير ، لا معدوده .

والقول بواو الثمانية ذكروه في قوله تعالى : سبعة وثامنهم كلبهم وضعفه في ( " المغني " ) .

وقيل : سر العطف التنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل ، وهذا مجملها ، لأنه شامل لما قبله وغيره ، ومثله يؤتى به معطوفا ، نحو: زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء ، فلمغايرته لما قبله ، بالإجمال والتفصيل ، والعموم ، والخصوص ، عطف عليه .

وقيل : بقوة الجامع بالتلازم ، لأن من حصل الأوصاف السابقة ، فقد حفظ حدود الله .

وقيل : المراد بحفظ الحدود ظاهره ، وهي إقامة الحدود ، كالقصاص على من استحقه .

والصفات الأولى إلى قوله : الآمرون صفات محمودة للشخص في نفسه ، وهذه له باعتبار غيره ، فلذا تغير تعبير الصنفين ، فترك العاطف في القسم الأول ، وعطف في الثاني .

ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد ، ترك فيها العطف لشدة الاتصال ، بخلاف هذه ، فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به .

وهذا هو الداعي لإعراب التائبون مبتدأ موصوفا بما بعده ، والآمرون خبره .

فكأنه قيل : الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم ، وقدم الأول لأن المكمل لا يكون مكملا حتى يكون كاملا في نفسه ، وبهذا اتسق النظم أحسن نسق من غير تكلف ، والله أعلم بمراده . كذا في ( " العناية " ) و ( " حواشي المغني " ) .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 113 - 114 ] ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى [ ص: 3281 ] من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم .

ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم

لما بين تعالى في أول السورة وما بعدها أن البراءة من المشركين والمنافقين واجبة ، بين سبحانه هنا ما يزيد ذلك تأكيدا ، حيث نهى عن الاستغفار لهم بعد تبين شركهم وكفرهم ، لأن ظهوره موجب لقطع الموالاة ، حتى مع الأقرباء ، لأن قرابتهم وإن أفادتهم المناسبة بهم والرحمة بهم ، فلا تفيدهم قبول نور الاستغفار إن الله لا يغفر أن يشرك به فطلب المغفرة لهم في حكم المخالفة لوعد الله ووعيده .

ثم ذكر تعالى أن السبب في استغفار إبراهيم لأبيه ، أنه كان لأجل وعد تقدم منه له ، بقوله : سأستغفر لك ربي وقوله : لأستغفرن لك وأنه كان قبل أن يتحقق إصراره على الشرك فلما تبين له ذلك تبرأ منه أي : من أبيه بالكلية ، فضلا عن الاستغفار له .

وبين تعالى الحامل لإبراهيم على الاستغفار ، بأنه فرط ترحمه وصبره بقوله : إن إبراهيم لأواه أي : كثير التأوه من فرط الرحمة ، ورقة القلب حليم أي : صبور على ما يعترضه من الإيذاء ، ولذلك حلم عن أبيه ، مع توعده له بقوله :

لئن لم تنته لأرجمنك واستغفر له بقوله : سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وذلك قبل التبيين ، فليس لغيره أن يأتسي به في ذلك .

وفي الآية تأكيد لوجوب الاجتناب بعد التبيين ، بأنه صلى الله عليه وسلم تبرأ من أبيه بعد التبيين ، وهو في كمال رقة القلب والحلم ، فلا بد أن يكون غيره أكثر منه اجتنابا وتبرؤا .

[ ص: 3282 ] تنبيهات :

الأول : ساق المفسرون ههنا روايات عديدة في نزول الآية ، ولما رآها بعضهم متنافية ، حاول الجمع بينها بتعدد النزول ، ولا تنافي ، لما قدمناه من أن قولهم ( نزلت في كذا ) قد يراد به أن حكم الآية يشمل ما وقع من كذا بمعنى أن نزولها يتناوله . وقد يراد به أن كذا كان سببا لنزولها ، وما هنا من الأول ، ونظائره كثيرة في التنزيل ، وقد نبهنا عليه مرارا ، لا سيما في المقدمة . فاحفظه .

الثاني : قال عطاء بن أبي الرباح : ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ، ولو كانت حبشية حبلى من الزنى ، لأني لم أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين ، ثم قرأ الآية . وهذا فقه جيد .

الثالث : قال بعض اليمانيين : استدل بالآية على أن من تأوه في الصلاة لم تبطل . وهذا يحكى عن أبي جعفر : إذا قال : ( آه ) لم تبطل صلاته ، لأنه تعالى مدح إبراهيم عليه السلام بذلك ، ومذهب الأئمة بطلانها ، سواء قال : ( آه ) أو ( أوه ) ، لأن ذلك من كلام الناس ، ولم يذكر تعالى أن تأوه إبراهيم كان في الصلاة . انتهى .

الرابع : قال في ( " العناية " ) : ( أواه ) فعال للمبالغة من ( التأوه ) ، وقياس فعله أن يكون ثلاثيا ، لأن أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها منه وحكى قطرب له فعلا ثلاثيا ، وهو ( آه يؤوه ) ، كقام يقوم ، أوها ، وأنكر عليه غيره بأن لا يقال إلا أوه وتأوه قال :


إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين


[ ص: 3283 ] والتأوه قول ( آه ) ونحوه مما يقوله الحزين ، فلذا كني به عن الحزن ، ورقة القلب . انتهى .

و ( أوه ) بفتح الواو المشددة ساكنة الهاء ، وأواه ، وأوه بسكون الواو ، والحركات الثلاث قال :


فأوه على زيارة أم عمرو فكيف مع العدا ومع الوشاة ؟


وربما قلبوا الواو ألفا ، فقالوا : آه من كذا قال :


آه من تياك آها تركت قلبي متاها


و ( آه ) بكسر الهاء منونة وحكي أيضا آها وواها ، وفيها لغات أخرى أوصلها " التاج " إلى اثنتين وعشرين لغة ، وكلها كلمات تقال عند الشكاية والتوجع والتحزن ، مبنيات على ما لزم آخرها إلا ( آها ) ، فانتصابها لإجرائها مجرى المصادر ، كأنه قيل : أتأسف تأسفا .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 115 ] وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم .

وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون هذا من تتمة ما تقدم من تأكد مباينة المشركين ، والبراءة منهم ، وترك الاستغفار لهم ، وذلك لأنهم حقت عليهم الكلمة ، حيث قامت عليهم الحجة بإبلاغ الرسول إليهم ما يتقون ، ودلالته إياهم على الصراط السوي فضلوا عنه ، فأضلهم الله ، واستحقوا عقابه .

[ ص: 3284 ] وقوله تعالى : إن الله بكل شيء عليم تعليل لما سبق ، أي : إنه تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل بمعرفته ، فبين لهم ذلك ، كما فعل هنا .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 116 ] إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير .

إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير تقوية لما تقدم من التبرؤ منهم ، وإرشاد للمؤمنين بأن يتكلوا على ربهم ، ولا يرهبوا من أولئك ، فإنه إذا كان ناصرهم فلا يضرهم كيدهم ، وتنبيه على لزوم امتثال أمره ، والانقياد لحكمه ، والتوجه إليه وحده ، إذ لا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه تعالى .

تنبيه :

وقف كثير من المفسرين في الآية هنا ، أعني قوله تعالى : وما كان الله ليضل قوما الآية ، على ما روي في الآية قبلها ، من نزولها في استغفار وقع من المؤمنين للمشركين ، فربطوا هذه الآية بتلك ، على الرواية المذكورة ، ونزلوها على المؤمنين ، فقالوا : وما كان الله ليضل قوما أي : ليحكم عليهم باستغفارهم للمشركين بالضلال بعد إذ هداهم بالنبوة والإيمان ، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه ، فتتركوا ، فأما إذا لم يبين فلا ضلال ، إلى آخر ما قالوه . . . .

وما أبعده من تفسير وتأويل الرازي ذكره وجها ، وأشفعه بما اعتمدناه ، وهو الحق .
[ ص: 3285 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[ 117 ] لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم .

لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم

اعلم أن الله تعالى لما بين فيما تقدم مراتب الناس في أيام غزوة تبوك ، مؤمنهم ومنافقهم ، والمنفق لها طوعا أو كرها ، والمرغب فيها أو عنها ، والمتخلف نفاقا أو كسلا ، وأنبأ عما لحق كلا من الوعد والوعيد ، وميز الصادقين من غيرهم ، ختم بفرقة منهم كانوا تخلفوا ميلا للدعة وهم صادقون في إيمانهم ، ثم ندموا فتابوا وأنابوا ، وعلم الله صدق توبتهم ، فقبلها ، ثم أنزل توبتهم في هذه الآية ، وصدرها بتوبته على رسوله ، وكبار صحبه جبرا لقلوبهم ، وتنويها لشأنهم بضمهم مع المقطوع بالرضا عنهم وبعثا للمؤمنين على التوبة ، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار ، حتى النبي والمهاجرين والأنصار ، كل على حسبه ، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله ، وأنها صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء ، كما وصفهم بالصالحين ، ليظهر فضيلة الصلاح والوصف للمدح ، كما يكون لمدح الموصوف ، يكون لمدح الصفة ، وهذا من لطائف البلاغة ، وهو كما قال حسان رضي الله عنه :


ما إن مدحت محمدا بمقالتي لكن مدحت مقالتي بمحمد


وفي الآية بيان فضل المهاجرين والأنصار .

[ ص: 3286 ] قال الحاكم : ودلت على فضل عثمان ، لأنه جهز جيش العسرة بمال لم يبلغ غيره مبلغه ، وقد جمع تعالى بين ذكر نبيه وذكرهم ، ووصفهم باتباعه ، فوجب القطع بموالاتهم .

وقوله تعالى : في ساعة العسرة أي : في وقتها ، والساعة تستعمل في معنى الزمان المطلق ، كما تستعمل الغداة والعشية واليوم ، والعسرة حالهم في غزوة تبوك ، كانوا في عسرة من الظهر ، يعتقب العشرة على بعير واحد ، وفي عسرة من الزاد ، حتى إن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما ، وكان النفر يتدالون التمرة بينهم ، يمصها هذا ، ثم يشرب عليها ، ثم يمصها الآخر ، ثم يشرب عليها : وفي عسرة من شدة لهبان الحر ومن الجدب ، وفي عسرة من الماء ، حتى بلغ بأحدهم العطش أن نحر بعيره ، فعصر فرثه فشربه ، وجعل ما بقي على كبده .

وقد حكى القالي في " أماليه " أن العرب كانوا إذا أرادوا توغل الفلوات التي لا ماء فيها ، سقوا الإبل على أتم أظمائها ثم قطعوا مشافرها ، أو خزموها لئلا ترعى ، فإذا احتاجوا إلى الماء افتظوا كروشها ، فشربوا ثميلها ، وهو كثير في الأشعار . كذا في ( " العناية " ) .

ونقل الرازي عن أبي مسلم ، أنه يجوز أن يكون المراد بساعة العسرة ، جميع الأحوال والأوقات الشديدة على الرسول ، وعلى المؤمنين ، فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها .

وقد ذكر تعالى بعضها في كتابه كقوله سبحانه : وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وقوله : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم والمقصود منه وصف المهاجرين والأنصار بأنهم اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الأوقات الشديدة ، والأحوال الصعبة ، وذلك يفيد نهاية المدح والتعظيم . انتهى .

[ ص: 3287 ] أقول هذا الاحتمال ، وإن كان مما يسعه اللفظ الكريم ، إلا أنه يبعده عنه سياق الآية ، وسباقها ، القاصران على غزوة تبوك ، ولم يتفق في غيرها عسر في الخروج ، واتباعه عليه السلام ، بل وقع أحيانا في مصاف القتال .

وقد اتفق علماء الأثر والسير على تسميتها ( غزوة العسرة ) ، ومن خرج فيها ( جيش العسرة ) .

وقوله تعالى : من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم أي : عن الحق ، أو الثبات على الإتباع للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم .

وفي تكرير التوبة عليهم بقوله تعالى : ثم تاب عليهم تأكيد ظاهر ، واعتناء بشأنها ، هذا إذا كان الضمير راجعا إلى من تقدم ذكر التوبة عنهم ، وإن كان الضمير إلى الفريق الثاني ، فلا تكرار .

قال بعضهم : ذكر التوبة أولا قبل ذكر الذنب ، تفضلا منه ، وتطييبا لقلوبهم . ثم ذكر الذنب بعد ذلك ، وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى ، تعظيما لشأنهم ، وليعلموا أنه تعالى قد قبل توبتهم ، وعفا عنهم . ثم أتبعه بقوله : إنه بهم رءوف رحيم تأكيدا لذلك .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 118 ] وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم .

وعلى الثلاثة الذين خلفوا أي : تركوا وأخروا عن قبول التوبة في الحال ، كما قبلت توبة أولئك المتخلفين المتقدم ذكرهم ، والثلاثة هم كعب بن مالك ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، وكلهم من الأنصار ، لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم توبتهم حتى نزل القرآن بتوبتهم .

وقوله تعالى : حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت أي : مع سعتها ، وهو مثل الحيرة في أمرهم ، كأنهم لا يجدون فيها مكانا يقرون فيه ، قلقا وجزعا مما هم فيه ، إذ لم يمكنهم [ ص: 3288 ] الذهاب لأحد ، لمنع النبي صلى الله عليه وسلم من مجالستهم ومحادثتهم . و ( إذا ) ، يجوز كونها شرطية جوابها مقدر ، وأن تكون ظرفية غاية لما قبلها .

وضاقت عليهم أنفسهم أي : قلوبهم من فرط الوحشة والجفوة والغم ، بحيث لا يسعها أنس ولا سرور ، وذلك لأنهم لازموا بيوتهم ، وهجروا نحوا من خمسين ليلة ، وفيه ترق من ضيق الأرض إلى ضيقهم في أنفسهم ، وهو في غاية البلاغة وظنوا أي : علموا أن لا ملجأ من الله أي : لا مفر من غضب الله إلا إليه أي : إلى استغفاره ثم تاب عليهم ليتوبوا أي : ليستقيموا على توبتهم ، ويستمروا عليها ، أو ليعدوا من جملة التائبين ، أو المعنى : قبل توبتهم ليتوبوا في المستقبل ، إذا صدرت منهم هفوة ، ولا يقنطوا من كرمه : إن الله هو التواب الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 119 ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين .

يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين أي : في إيمانهم ومعاهدتهم لله ولرسوله على الطاعة ، من قوله تعالى : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه أو هم الثلاثة ، أي : كونوا مثلهم في صدقهم وخلوص نيتهم .

تنبيهات :

الأول : روى الإمام أحمد والشيخان حديث كعب وصاحبيه مبسوطا بما يوضح هذه الآية :

قال الزهري : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه - وكان قائد كعب من بنيه ، حين عمي - قال : سمعت كعبا يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 3289 ] في غزوة تبوك .

قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قط ، إلا في غزوة تبوك ، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ، ولم يعاتب أحد تخلف عنها ، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .

ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، حين توافقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر .

وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط ، حتى جمعتهما في تلك الغزاة .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها ، إلا ورى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة ، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز ، واستقبل عدوا كثيرا ، فجلى للمسلمين أمرهم ، ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فأخبرهم وجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير ، لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان ـ .

قال كعب : فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ، ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل .

وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة ، حين طابت الثمار والظلال وأنا إليها أصعر - أي : أميل - فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه ، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم ، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا ، فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا ، والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئا ، وقلت : أتجهز بعد يوم أو يومين ، ثم ألحقه ، فغدوت بعد لأتجهز ، فرجعت ولم أقض شيئا ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فألحقهم - وليتني فعلت - ثم لم يقدر ذلك لي .

فكنت إذا خرجت في الناس ، بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق ، أو رجلا ممن عذره الله عز وجل . ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك . فقال وهو جالس في القوم بتبوك : « ما فعل كعب بن مالك ؟ » فقال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله برداه ، والنظر في عطفيه ! فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت . والله ! يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا ! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 3290 ] قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك ، حضرني بثي أتذكر الكذب ، وأقول : بم أخرج من سخطته غدا ؟ وأستعين على ذلك بك ذي رأي من أهلي .

فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما ، زاح عن الباطل ، وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا ، فأجمعت صدقه ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس للناس - فلما فعل ذلك ، جاءه المتخلفون ، فطفقوا يعتذرون إليه ، ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلا ، فيقبل منهم رسول الله علانيتهم ، ويستغفر لهم ، ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت ، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال لي : « تعال ! » فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : « ما خلفك ؟ ألم تكن قد اشتريت ظهرا ؟ » فقلت يا رسول الله ! إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر . لقد أعطيت جدلا ، ولكني ، والله لقد علمت ، لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ، ليوشكن الله أن يسخطك علي ، ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه ، إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل . والله ما كان لي عذر ، والله ! ما كنت قط أفزع ولا أيسر مني حين تخلفت عنك .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.55 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 48.93 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.27%)]