عرض مشاركة واحدة
  #401  
قديم 08-03-2023, 09:33 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,476
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ هود
المجلد التاسع
صـ 3426 الى صـ 3440
الحلقة (401)





[ ص: 3426 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 21 ] أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون

أولئك الذين خسروا أنفسهم أي: سعادتها وراحتها، أو بتسليمها لعبادة الأوثان وتركها ما خلقت له من عبادته تعالى، وهذا الخسران في النفس أعظم خسارة، كما قيل:


إذا كان رأس المال عمرك فاحترس عليه من الإنفاق في غير واجب


وضل عنهم ما كانوا يفترون أي غاب عنهم الآلهة وشفاعتها، ولم تجدهم شيئا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 22 ] لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون

لا جرم أي حقا، أو لا محالة أنهم في الآخرة هم الأخسرون
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 23 ] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون

إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أي خشعوا له وحده، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 24 ] مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون

مثل الفريقين أي الكفار والمؤمنين كالأعمى والأصم مثل للكافر والبصير والسميع مثل للمؤمنين هل يستويان أي الفريقان مثلا أي حالا وصفة أفلا تذكرون أي بضرب الأمثال وتدبرها.

[ ص: 3427 ] ثم قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم من أنباء الرسل ما يثبت فيه فؤاده، ليتسلى بما يشاهده من معاناة الرسل قبله من أممهم، ومقاساتهم الشدائد من جهتهم، وليعلم قومه أن رسالته كرسالة من تقدمه، وأن سنة الله فيهم معروفة، كما قال تعالى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 25 ] ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين

ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه وكانت امتلأت الأرض من شركهم وشرورهم إني لكم نذير مبين أي بأني، وقرئ بالكسر. أي: فقال إني لكم نذير مبين، أبين لكم موجبات العذاب، ووجه الخلاص منه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 26 ] أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم

أن لا تعبدوا إلا الله (الباء) مقدرة هنا للتعدية، و (لا) ناهية. أي أرسلناه متلبسا بالنهي عن عبادة غير الله. إني أخاف عليكم أي إن عبدتم غيره عذاب يوم أليم أي مؤلم في الدنيا والآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 27 ] فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين

فقال الملأ الذين كفروا من قومه أي السادة والكبراء، ما نراك إلا [ ص: 3428 ] بشرا مثلنا أي: لست بملك، ولكنك بشر، فكيف أوحي إليك من دوننا.

قال القاشاني: أي فقال الأشراف المليئون بأمور الدنيا، القادرون عليها، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق ما نراك إلا بشرا مثلنا لكونهم ظاهريين، واقفين على حد العقل المشوب بالوهم، المتحير بالهوى، الذي هو عقل المعاش، لا يرون لأحد طورا وراء ما بلغوا إليه من العقل، غير مطلعين على مراتب الاستعدادات والكمالات، طورا بعد طور، ورتبة فوق رتبة، إلى ما لا يعلمه إلا الله، فلم يشعروا بمقام النبوة ومعناها.

وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا أي فقراؤنا الأدنون منا ; إذ المرتبة الرفعة عندهم بالمال والجاه ليس إلا، كما قال تعالى: يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون

وقوله تعالى: بادي الرأي أي بديهة الرأي; لأنهم ضعاف العقول، عاجزون عن كسب المعاش، ونحن أصحاب فكر ونظر. قالوا ذلك لاحتجابهم بعقلهم القاصر عن إدراك الحقيقة والفضيلة المعنوية ; لقصر تصرفه على كسب المعاش، والوقوف على حده. وأما أتباع نوح عليه السلام، فإنهم أصحاب همم بعيدة، وعقول حائمة حول القدس، غير ملتفتة إلى ما يلتفت غيرهم إليه، فلذلك استنزلوا عقولهم واستحقروها.

تنبيه:

(بادي) قرأه أبو عمرو بالهمزة، والباقون بالياء.

فأما الأول فمعناه أول الرأي. بمعنى أنه صدر من غير روية وتأمل، أول وهلة.

وأما الثاني: فيحتمل أن أصله ما تقدم، فقلبت الياء عن الهمزة تخفيفا، ويحتمل أنها أصلية من بدا يبدو، كعلا يعلو. والمعنى: ظاهر الرأي دون باطنه، ولو تؤمل لعرف باطنه، وهو في المعنى كالأول. وعلى كليهما، هو منصوب على الظرفية. والعامل فيه إما (نراك) أو (اتبعك).

قال الناصر: زعم هؤلاء أن يحجوا نوحا بمن اتبعه من وجهين:

أحدهما: أن المتبعين آراءه ليسوا قدوة ولا أسوة.

[ ص: 3429 ] والثاني: أنهم مع ذلك لم يترووا في اتباعه، ولا أمعنوا الفكرة في صحة ما جاء به، وإنما بادروا إلى ذلك من غير فكرة ولا روية، وغرض هؤلاء ألا تقوم عليهم حجة بأن منهم من صدقه وآمن به -انتهى-.

أي وكلا الوجهين يبرهنان على جهلهم وقصر عقلهم، أما الأول فلا خفاء في أنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه، بل أتباعه هم الأشراف، ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأدنون، ولو كانوا أغنياء. وفي الغالب، ما يتبع الحق إلا ضعفة الخلق، كما يغلب على الكبراء مخالفته، كما قال تعالى: وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ولما سأل هرقل ملك الروم، أبا سفيان عن نعوت النبي صلى الله عليه وسلم، قال لهم فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: هم أتباع الرسل.

وأما الثاني: فإن البدار لاعتناق الحق من أسمى الفضائل; لأن الحق إذا وضح فلا يبقى للرأي ولا للفكر مجال، ولا بد من اتباعه حالتئذ لكل ذي فطنة، ولا يتردد إلا غبي أو عيي، ولا أجلى مما يدعو إليه الرسل عليهم السلام.

وقوله تعالى: وما نرى لكم خطاب لنوح وأتباعه علينا من فضل أي تقدم يؤهلكم للنبوة واستحقاق المتابعة; لأن الفضل محصور عندهم بالغنى والمال.

قال الزمخشري: كان الأشراف عندهم من له جاه ومال، كما ترى أكثر المتسمين بالإسلام يعتقدون ذلك، ويبنون عليه إكرامهم وإهانتهم. ولقد زل عنهم أن التقدم في الدنيا لا يقرب أحدا من الله، وإنما يبعده ولا يرفعه، بل يضعه، فضلا عن أن يجعله سببا في الاختيار للنبوة، والتأهيل لها، على أن الأنبياء عليهم السلام بعثوا مرغبين في طلب الآخرة، [ ص: 3430 ] مصغرين لشأن الدنيا، وشأن من أخلد إليها، فما أبعد حالهم عليهم السلام من الاتصاف بما يبعد من الله، والتشرف بما هو ضعة عند الله!

وقوله تعالى: بل نظنكم كاذبين أي فيما تدعونه من الإصلاح وترتب السعادة والنجاة عليه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 28 ] قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون

قال أي نوح يا قوم أرأيتم أي: أخبروني إن كنت على بينة أي برهان من ربي وآتاني رحمة أي هداية خاصة كشفية من عنده أي فوق طور العقل من العلوم اللدنية، ومقام النبوة فعميت عليكم أي لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن، وبالخليقة عن الحقيقة أنلزمكموها وأنتم لها كارهون يعني أنكرهكم على قبولها، ونقسركم على الاهتداء بها، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، و لا إكراه في الدين فالاستفهام للإنكار، أي لا نقدر على ذلك، والذي في وسعنا دعوتكم إلى الله، لا أن نضطركم إليها، فإن شئتم تلقيها فزكوا نفوسكم، واتركوا إنكاركم، وفي طي جوابه عليه السلام حث على تدبرها، ورد عن الإعراض عنها، بأسلوب فائق.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 29 ] ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون

ويا قوم لا أسألكم عليه أي على تبليغ التوحيد مالا إن أجري إلا على الله [ ص: 3431 ] قال القاشاني: أي الغرض عندكم من كل أمر، محصور في حصول المعاش، وأنا لا أطلب ذلك منكم، فتنبهوا لغرضي، وأنتم عقلاء بزعمكم.

ثم لما بين أن لا وجه لكراهة دعوته ; إذ لا تنقصهم من دنياهم شيئا، فلم يبق إلا خسة أتباعه، ولا ترتفع إلا بطردهم، قال وما أنا بطارد الذين آمنوا أي لأنهم أهل القربة والمنزلة عند الله، وطردهم قد يكون مانعا لهم من الإيمان أو لأمثالهم. ولا يفعل ذلك إلا عدو لله مناوئ لأوليائه. ولو كان طردهم سبب إيمانكم ولم يرتدوا، أخاف من طردهم شكايتهم، وهذا معنى قوله: إنهم ملاقو ربهم أي فيخاصمون طاردهم عنده. أو المعنى: إنهم يلاقونه ويفوزون بقربه، فكيف أطردهم؟

ثم أشار إلى أن خستهم ليست مانعة من الإيمان; إذ لا تلحقهم، بقوله: ولكني أراكم قوما تجهلون أي فتخافون لحوق خستهم، لمشاركتكم إياهم في الإيمان من جهلكم ; إذ الخسيس لا تترك مشاركته في كل شيء. أو تجهلون ما يصلح به المرء للقاء الله، ولا تعرفون الله ولا لقاءه، لذهاب عقولكم في الدنيا. أو تسفهون وتؤذون المؤمنين، وتدعونهم أراذل، أو تجهلون أنهم خير منكم، كما قال تعالى: وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين

ثم أشار إلى أن طردهم يستوجب عقابه تعالى بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 30 ] ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون

ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أي: فإن أفادكم طردهم تعززكم، فإني أستوجب قهره بطردهم، ومن يدفعه عني؟ وفيه إعلام بأن الطرد ظلم موجب لحلول السخط قطعا، وإنما لم يصرح به إشعارا بأنه غني عن البيان، لا سيما وقد تقدم ما يلوح به [ ص: 3432 ] من كرامتهم بإيمانهم بالله واليوم الآخر. أفلا تذكرون تتعظون فتنزجروا عما تقولون؟

تنبيه:

قال بعضهم: ثمرة ذلك وجوب تعظيم المؤمن، وتحريم الاستخفاف به، وإن كان فقيرا عادما للجاه، متعلقا بالحرف الوضيعة; لأنه تعالى حكى كلام نوح وتجهيله للرؤساء، لما طلبوا طرد من عدوه من الأراذل. وهي نظير قوله تعالى: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي

ثم أشار إلى أنه عليه السلام بشر مثلهم، أوثر بالوحي والرسالة فلا يدعي ما ليس له، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 31 ] ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين

ولا أقول لكم عندي خزائن الله أي رزقه وأمواله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك أي أنا أدعي الفضل بالنبوة، لا بالغنى وكثرة المال، ولا بالاطلاع على الغيب، ولا بالملكية، حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك ولا أقول للذين تزدري أعينكم أي تحتقرهم، وهم الفقراء المؤمنون لن يؤتيهم الله خيرا أي في الدنيا والآخرة، لهوانهم عليه، كما تقولون ; إذ الخير عندي ما عند الله، لا المال الله أعلم بما في أنفسهم أي من الخير، مني ومنكم، وهو أعرف بقدرهم وخطرهم، وما يعلم أحد قدر خيرهم لعظمه.

[ ص: 3433 ] قاله القاشاني: وحمل غيره هذا على تفويض ما في أنفسهم من الإيمان إلى علم الله إرشادا إلى أن اللائق لكل أحد ألا يبت القول إلا فيما يعلمه يقينا، ويبني أموره على الشواهد الظاهرة، ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة. إني إذا أي إذا قلت ذلك لمن الظالمين أي لبخس حقهم، وحط قدرهم ; فإن الإيمان الظاهر منهم، رفع شأنهم، فإذا ضموا إلى ذلك الإيمان القلبي، كما هو الظاهر منهم ; فلهم جزاء الحسنى، فمن قطع لهم بعدم نيل الخير، بعد ما آمنوا، كان ظالما. وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 32 ] قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين

قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا أي: أطلته، أو أتيته بأنواعه، فأتنا بما تعدنا أي من العذاب إن كنت من الصادقين
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 33 ] قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين

قال إنما يأتيكم به الله إن شاء يعني أنه ليس موكولا إلي، وإنما يتولاه الله الذي كفرتم به وما أنتم بمعجزين أي بالهرب أو بدفعه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 34 ] ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون

ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم [ ص: 3434 ] أي أي شيء يجديه إبلاغي ونصحي، بدعوتكم إلى التوحيد والتحذير من العذاب، إن كان الله يريد إغواءكم ليدمركم؟ هو ربكم أي مالك أمركم وإليه ترجعون أي بعد الموت فيجازيكم بأعمالكم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 35 ] أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون

أم يقولون أي قوم نوح افتراه أي النصح، فهو من تتمة نبأ نوح، أو ضمير الجمع لكفار مكة، يعنون افتراء محمد صلوات الله عليه لنبأ نوح، جيء به معترضا في تضاعيفه، تحقيقا له، وتأكيدا لوقوعه، وتشويقا للسامعين إلى استماعه ; إذ بقي منها الأهم وهو نتيجته قل إن افتريته فعلي إجرامي أي إثم كسب ذنبي وأنا بريء مما تجرمون
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 36 ] وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون

وأوحي إلى نوح أي بعد مبالغته في بذل الوسع في النصح مع عدم نفعه إياهم: أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس أي لا تحزن بما كانوا يفعلون أي من التكذيب والإيذاء، فقد انتهى أمرهم، وحان وقت الانتقام منهم. وقيل: المعنى لا تبتئس، أي لإهلاكهم شفقة عليهم ; لأنهم إنما يهلكون بما كانوا يفعلون من معاندتهم معك، فليسوا محلا لشفقتك ولا لرحمتنا.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 37 ] واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون

واصنع الفلك أي للتخلص من عذابهم بأعيننا أي بحفظنا وكلاءتنا، كأن [ ص: 3435 ] معه من الله عز وجل حفاظا وحراسا، يكلأونه بأعينهم من التعدي من الكفرة، ومن الزيغ في الصنعة ووحينا أي إليك، كيف تصنعها، وتعليمنا وإلهامنا. قيل لم يكن قبله سفينة. ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي ولا تدعني، في استدفاع العذاب عنهم بشفاعتك إنهم مغرقون أي محكوم عليهم بالطوفان، وقد وجب ذلك، فلا سبيل إلى كفه، كقوله تعالى: يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 38 ] ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون

ويصنع الفلك حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة. وقيل: تقديره وأخذ يصنع الفلك، وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه أي هزئوا به، بمعالجة السفينة قال إن تسخروا منا أي في صنع الفلك فإنا نسخر منكم أي لجهلكم كما تسخرون
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 39 ] فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم

فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه أي في الدنيا فيجعله محلا للسخرية ويحل عليه عذاب مقيم أي في الآخرة، يدوم معه الخزي.

وقوله تعالى:
[ ص: 3436 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 40 ] حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل

حتى إذا جاء أمرنا أي بإهلاك قومه. و " حتى" غاية لقوله (ويصنع) وما بينهما حال من الضمير فيه، و سخروا منه جواب " كلما" . وفار التنور أي وجه الأرض، أو كل مفجر ماء، أو محفل ماء الوادي، أو عين ماء معروفة، أو الكانون الذي يخبز فيه، أو تنوير الفجر -أقوال حكاها اللغويون والمفسرون- زاد بعضهم احتمال أن يكون هذا كناية عن اشتداد الأمر، كما يقال: (حمي الوطيس) والوطيس التنور، وهو من فصيح الكلام وبليغه، وعندي أنه أظهر الأوجه المذكورة وأرقها وأبدعها وأبلغها، وإن حاول الرازي رده، كأنه قيل: واشتد الأمر، وقوي انهمار الماء ونبوعه. وهذا الإيجاز في مجازه الرهيب، قد بينته آيات أخر، وهي: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر الآيات، ومما يؤيده شموله لشدة الأمر من السماء والأرض، فيطابق هذه الآيات. وأما غيره فمقصور على ناحية الأرض فقط، وجلي أن الأمر كان أعم -والله أعلم-.

قلنا احمل فيها أي في السفينة من كل زوجين أي: صنفين من البهائم والطيور وما يدب على وجه الأرض اثنين أي ذكرا وأنثى.

قال أبو البقاء: يقرأ " كل" بالإضافة، وفيه وجهان:

أحدهما: أن مفعول " احمل" " اثنين" و " من" حال.

والثاني: أن (من) زائدة والمفعول (كل)، و (اثنين) توكيد. ويقرأ من [ ص: 3437 ] كل (بالتنوين)، فـ (زوجين) مفعول (احمل)، و (اثنين) توكيد له، و (من) متعلقة بـ (احمل) أو حال. انتهى.

وأهلك أي: من يتصل بك في دينك وسيرتك من أقاربك إلا من سبق عليه أي وجب عليه القول أي بالإغراق بسبب ظلمه، ومن آمن أي احمله معك فيها. قال أبو السعود: وإفراد الأهل منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الإفراد في (آمن) محافظة على لفظ (من) للإيذان بقلتهم، كما أعرب عنه قوله عز قائلا: وما آمن معه إلا قليل
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 41 ] وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم

وقال أي نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين اركبوا فيها أي السفينة بسم الله مجراها ومرساها قال الزمخشري: يجوز أن يكون كلاما واحدا، وكلامين، فالكلام الواحد أن يتصل (بسم الله) بـ (اركبوا) حالا من الواو، بمعنى: اركبوا فيها مسمين الله، أو قائلين بسم الله وقت إجرائها، ووقت إرسائها، إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران، كالإجراء والإرسال، حذف منهما الوقت المضاف، كقولهم: (خفوق النجم) و (مقدم الحاج) ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء. وانتصابهما، بما في (بسم الله) من معنى الفعل، أو بما فيه من إرادة القول.

والكلامان: أن يكون بسم الله مجراها ومرساها جملة من مبتدأ وخبر مقتضبة، أي: بسم الله إجراؤها وإرساؤها، يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال: بسم الله، فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله، فرست. ويجوز أن يقحم الاسم، كقوله:


ثم اسم السلام عليكما


ويراد: بالله إجراؤها وإرساؤها، أي بقدرته وأمره. ومعنى قولنا: (جملة [ ص: 3438 ] مقتضبة) أن نوحا عليه السلام أمرهم بالركوب، ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. ويحتمل أن يكون غير مقتضبة، بأن تكون في موضع الحال من ضمير (الفلك) كأنه قيل: اركبوا فيها مجراة ومرساة بسم الله، بمعنى التقدير، كقوله: فادخلوها خالدين –انتهى-.

تنبيهات:

الأول: قرأ الإخوان -حمزة والكسائي وحفص- (مجراها) بفتح الميم، والباقون بضمها. واتفق السبعة على ضم ميم (مرساها). وقد قرأ ابن مسعود والثقفي (مرساها) بفتح الميم أيضا. وقرئ بضم الميم وكسر الراء والسين وياء بعدهما، بلفظ اسم الفاعل، مجروري المحل، صفتين لله.

الثاني: ما وقع بعد الراء من الألفات المنقلبة عن الياء، التي للتأنيث، أو للإلحاق، أماله حمزة والكسائي وأبو عمرو، ووافقهم حفص في إمالة (مجراها) هنا، ولم يمل غيره.

الثالث: أخذ بعضهم من الوجه الأول في بسم الله مجراها ومرساها أعني تقدير قائلين، استحباب التسمية، وذكره تعالى عند ابتداء الجري والإرساء، وهو مؤيد بقوله تعالى في سورة المؤمنون: فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وقل رب أنـزلني منـزلا مباركا وأنت خير المنـزلين وقوله تعالى: والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا الآية، وجاءت السنة بالحث على ذلك، والندب إليه أيضا.

[ ص: 3439 ] وقوله تعالى: إن ربي لغفور رحيم جملة مستأنفة، بيان للموجب للإنجاء، أي لولا مغفرته ورحمته لغرقتم وهلكتم مثل قومكم، أو تعليل لـ (اركبوا) لما فيه من الإشارة إلى النجاة، فكأنه قيل: اركبوا لينجيكم الله.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 42 ] وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين

وهي تجري بهم متصل بمحذوف دل عليه (اركبوا)، أي فاركبوا مسمين وهي تجري، وهم فيها. في موج كالجبال وذلك أنه لما تفتحت أبواب السماء بالماء، وتفجرت ينابيع الأرض تعاظمت المياه، وعلت أكناف الأرض، وارتفعت فوق الجبال الشامخة بخمسة عشر ذراعا، وكان ما يرتفع من الماء عند اضطرابه من أمواجه كالجبال.

ونادى نوح ابنه وكان في معزل أي في متنحى عن أبيه يا بني اركب معنا أي ادخل في ديننا، واصحبنا في السفينة ولا تكن مع الكافرين أي في الدين والانعزال، الهالكين.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 43 ] قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين

قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء أي فلا أغرق قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم أي لا مانع اليوم من بلائه، وهو الطوفان، إلا الراحم وهو الله تعالى. أو لا عاصم إلا مكان من رحم، وهم المؤمنون، يعني السفينة. أو لا عاصم، [ ص: 3440 ] بمعنى لا ذا عصمة إلا من رحمه الله. أو (إلا) منقطعة، أي لكن من رحمه فهو المعصوم.

قال الناصر: الاحتمالات الممكنة أربعة: لا عاصم إلا راحم، ولا معصوم إلا مرحوم، ولا عاصم إلا مرحوم، ولا معصوم إلا راحم. فالأولان استثناء من الجنس، والآخران من غير الجنس. أي: فيكون منقطعا. أي لكن المرحوم يعصم، على الأول. ولكن الراحم يعصم من أراد، على الثاني.

وزاد الزمخشري خامسا وهو: لا عاصم إلا مرحوم، على أنه من الجنس، بتأويل حذف المضاف، تقديره: لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم، والمراد بالنفي التعريض بعدم عصمة الجبل، وبالمثبت التعريض بعصمة السفينة، والكل جائز، وبعضها أقرب من بعض -انتهى-.

وحال بينهما الموج أي: صار حائلا بين نوح وابنه، أو بين ابنه والجبل، لارتفاعه فوقه فكان أي ابنه مع كونه فوق الجبل من المغرقين أي الهالكين بالغرق.

وفيه دلالة على هلاك سائر الكفرة على أبلغ وجه، فكان ذلك أمرا مقرر الوقوع، غير مفتقر إلى البيان. وفي إيراد (كان) دون (صار) مبالغة في كونه منهم -أفاده أبو السعود- وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 44 ] وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين

وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين إعلام بأنه لما غرق أهل الأرض، ولم يبق ممن كفر بالله ديار، أمر تعالى الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها، واجتمع عليها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، فنضب الماء، وقضي أمر الله بإنجاء من نجا، وإهلاك من هلك.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.80 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.17 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.31%)]