عرض مشاركة واحدة
  #402  
قديم 08-03-2023, 09:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,411
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ هود
المجلد التاسع
صـ 3441 الى صـ 3455
الحلقة (402)





[ ص: 3441 ] ولما أخذت المياه تتناقص وتتراجع إلى الأرض شيئا فشيئا، وظهرت رؤوس الجبال، استقرت السفينة على الجودي، وهو جبل بالجزيرة قرب الموصل.

و بعدا مصدر منصوب بمقدر، أي وبعدوا بعدا. يقال: بعد بعدا، إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك، ولذلك اختص بدعاء السوء كـ (جدعا) و (تعسا). و (اللام) متعلقة بمحذوف، أو للبيان، أو متعلقة بـ (قيل) أي قيل لأجلهم هذا القول.

والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك، ولتذكر ما سبق من قوله: ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون

تنبيه:

هذه الآية بلغت من أسرار الإعجاز غايتها، وحوت من بدائع الفرائد نهايتها. وقد اهتم علماء البيان لإيضاح نخب من لطائفها، ومن أوسعهم مجالا في مضمار معارفها، الإمام السكاكي، فقد أطال وأطاب في كتابه (المفتاح) وتلطف في التبيان بألطف من نسيم الصباح، ونحن نورده بتمامه، لنعطر الألباب بعرف مبتدئه ومسك ختامه.

قال عليه الرحمة في بحث (البلاغة والفصاحة)، وتعريفه الأولى بأنها بلوغ المتكلم في تأدية المعاني حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها، وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها، ثم تقسيمه الفصاحة إلى ما يرجع إلى المعنى، وهو خلوص الكلام عن التعقيد. وإلى اللفظ، وهو كونه عربيا أصليا، جاريا على قوانين اللغة، أدور على ألسنة الفصحاء، أكثر في الاستعمال، ما صورته:

وإذ قد وقفت على البلاغة، وعثرت على الفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج، آية أكشف لك فيها، عن وجوه البلاغة والفصاحتين، ما عسى يسترها عنك، ثم إن ساعدك الذوق، أدركت منها ما قد أدرك من تحدوا بها، وهي قوله، علت كلمته: وقيل يا أرض ابلعي ماءك إلى الظالمين

[ ص: 3442 ] والنظر في هذه الآية من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني، وهما مرجعا البلاغة، ومن جهة الفصاحة المعنوية، ومن جهة الفصاحة اللفظية.

أما النظر فيها من جهة علم البيان، وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها، فنقول: إنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى: أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء، فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من الماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح، وهو إنجاز ما كنا وعدنا من إغراق قومه فقضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى ; بنى الكلام على تشبيه المراد بالمأمور الذي لا يتأتى منه، لكمال هيبته، العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود، تصويرا لاقتداره العظيم، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، إيجادا وإعداما، ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا، كأنها عقلاء مميزون، قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، والإذعان لحكمه، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مواده، وتصوروا مزيد اقتداره، فعظمت مهابته في نفوسهم، وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم، فكما يلوح لهم إشارته كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره كان المأمور به متمما، لا تلقي لإشارته [ ص: 3443 ] بغير الإمضاء والانقياد، ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال. ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام، فقال جل وعلا: (وقيل) على سبيل المجاز -أي المرسل- عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل، وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد وهو: يا أرض ويا سماء. ثم قال كما ترى: يا أرض ويا سماء، مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، ثم استعار لغؤور الماء في الأرض البلع، الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم، للشبه بينهما، وهو الذهاب إلى مقر خفي. ثم استعار الماء للغذاء، استعارة بالكناية، تشبيها له بالغذاء ; لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار، تقوي الآكل بالطعام. وجعل قرينة الاستعارة لفظة (ابلعي) لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء. ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره، وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء. ثم قال: ماءك بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز، تشبيها لاتصال الماء بالأرض، باتصال الملك بالمالك، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح. ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان. ثم أمر على سبيل الاستعارة، وخاطب في الأمر قائلا: أقلعي لمثل ما تقدم في ابلعي ثم قال: وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا لم يصرح بمن غاض الماء، ولا بمن قضي الأمر، وسوى السفينة. وقال: " بعدا" كما لم يصرح بقائل: يا أرض ويا سماء في صدر الآية، سلوكا في كل واحد من ذلك سبيل الكناية، أن تلك الأمور العظام لا تتأتى إلا من ذي قدرة [ ص: 3444 ] لا يكتنه، قهار لا يغالب. فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره -جلت عظمته- قائل يا أرض ويا سماء، ولا غائض مثل ما غاض، ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، وأن تكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره وإقراره. ثم ختم الكلام بالتعريض ; تنبيها لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل ظلما لأنفسهم لا غير، ختم إظهار ; لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إياه، وأن قيامة الطوفان، وتلك الصورة الهائلة، ما كانت إلا لظلمهم.

وأما النظر فيها من حيث علم المعاني، وهو النظر في فائدة كل كلمة منها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، فذلك أنه اختير (يا) دون سائر أخواتها، لكونها أكثر في الاستعمال، وأنها دالة على بعد المنادي الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة، وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادي المؤذن بالتهاون به، ولم يقل: يا أرض، بالكسر ; لإمداد التهاون، ولم يقل: يا أيتها الأرض ; لقصد الاختصار مع الاحتراز عما في (أيتها) من تكلف التنبيه غير المناسب بالمقام. واختير لفظ (الأرض) دون سائر أسمائها، لكونه أخف وأدور. واختير لفظ السماء لمثل ما تقدم في الأرض، مع قصد المطابقة. واختير لفظ (ابلعي) على (ابتلعي) لكونه أخصر، ولمجيء خط التجانس بينه وبين (أقلعي) أوفر. وقيل ماءك بالإفراد دون الجمع، لما كان في الجمع من صورة الاستكثار المتأبي عنها [ ص: 3445 ] مقام إظهار الكبرياء والجبروت، وهو الوجه في إفراد (الأرض) و (السماء). وإنما لم يقل ابلعي بدون المفعول، أن لا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن، نظرا إلى مقام ورود الأمر، الذي هو مقام عظمة وكبرياء. ثم إذا بين المراد اختصر الكلام مع (أقلعي) احترازا عن الحشو المستغنى عنه، وهو -أي الاختصار- الوجه في أن لم يقل: قيل يا أرض ابلعي ماءك فبلعت، ويا سماء أقلعي فأقلعت. واختير (غيض) على (غيض) المشدد لكونه أخصر، وقيل (الماء)، دون أن يقال: ماء طوفان السماء. وكذا الأمر دون أن يقال: أمر نوح، وهو إنجاز ما كان الله وعد نوحا من إهلاك قومه، لقصد الاختصار والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك. ولم يقل: سويت على الجودي، بمعنى أقرت، على نحو: (قيل) و (غيض) و (قضي) في البناء للمفعول، اعتبارا لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله وهي تجري بهم في موج مع قصد الاختصار في اللفظ. ثم قيل: بعدا للقوم دون أن يقال: ليبعد القوم، طلبا للتأكيد مع الاختصار، وهو نزول " بعدا" وحده، منزلة ليبعدوا بعدا، مع فائدة أخرى: وهي استعمال اللام مع " بعدا" الدال على معنى أن البعد حق لهم، ثم أطلق الظلم ليتناول كل نوع، حتى يدخل فيه ظلمهم أنفسهم، لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في تكذيب الرسل. هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم.

وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل: فذاك أنه قد قدم النداء على الأمر، فقيل: " يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي" دون أن يقال: ابلعي يا أرض، وأقلعي يا سماء، جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة، من تقديم التنبيه، ليمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى، قصدا بذلك [ ص: 3446 ] لمعنى الترشيح. ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء، وابتدئ به لابتداء الطوفان منها، وبنزولها لذلك في القصة منزلة الأصل، والأصل بالتقديم أولى، ثم أتبعها قوله وغيض الماء لاتصاله بقصة الماء، وأخذه بحجزتها، ألا ترى أصل الكلام (قيل يا أرض ابلعي ماءك، فبلعت ماءها، ويا سماء أقلعي عن إرسال الماء، فأقلعت عن إرساله، وغيض الماء النازل من السماء فغاض). ثم أتبعه ما هو مقصود من القصة وهو قوله: وقضي الأمر أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة، وإنجاء نوح ومن معه في السفينة، ثم أتبعه حديث السفينة، وهو قوله واستوت على الجودي ثم ختمت القصة بما ختمت. هذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة.

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية، فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخصة مبينة، لا تعقيد يعثر الفكر في طلب المراد، ولا التواء يشبك الطريق إلى المرتاد، بل إذا جربت نفسك عند استماعها، وجدت ألفاظها تسابق معانيها، ومعانيها تسابق ألفاظها، فما من لفظة في تركيب الآية ونظمها تسبق إلى أذنك، إلا ومعناها أسبق إلى قلبك.

وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية، فألفاظها على ما نرى عربية، مستعملة جارية على قوانين اللغة، سليمة من التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذبات، سلسة على الأسلات، كل منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة، وكالنسيم [ ص: 3447 ] في الرقة. ولله در شأن التنزيل! لا يتأمل العالم آية من آياته، إلا أدرك لطائف لا تسع الحصر، ولا تظنن الآية مقصورة على ما ذكرت، فلعل ما تركت أكثر مما ذكرت ; لأن المقصود لم يكن إلا مجرد الإرشاد لكيفية اجتناء ثمرات علمي المعاني والبيان، وأن لا علم في باب التفسير (بعد علم الأصول) أقرأ منهما على المرء لمراد الله تعالى من كلامه، ولا أعون على تعاطي تأويل مشتبهاته، ولا أنفع في درك لطائف نكته وأسراره، ولا أكشف للقناع عن وجه إعجازه، وهو الذي يوفي كلام رب العزة من البلاغة حقه، ويصون له في مظان التأويل ماءه ورونقه. ولكم من آية من آيات القرآن، تراها قد ضيعت حقها، واستلبت ماءها ورونقها، إن وقعت إلى من ليسوا من أهل هذا العلم، فأخذوا بها في مآخذ مردودة، وحملوها على محامل غير مقصودة، وهم لا يدرون، ولا يدرون أنهم لا يدرون، فتلك الآي من مآخذهم في عويل، ومن محاملهم على ويل طويل، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا -انتهى كلام السكاكي-.

وقد تصدى أبو حيان أيضا في تفسيره المسمى بـ (النهر) للطائفها، وساق أحدا وعشرين نوعا من البديع. وألف السيد محمد بن إسماعيل الأمير رسالة فيها سماها (النهر المورود في تفسير آية هود) أورد تلك الأنواع البديعية أيضا، وهي: المناسبة، والمطابقة، والمجاز، والاستعارة، والإشارة، والتمثيل، والإرداف، والتعليل، وصحة التقسيم، والاحتراس، والإيضاح، والمساواة، وحسن النسق، والإيجاز، والتسهيم، والتهذيب، وحسن البيان، والتمكين، والتجنيس، والمقابلة، والذم، والوصف.

وقوله تعالى:
[ ص: 3448 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 45] ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين

ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي إعلام بأن نوحا حملته شفقة الأبوة، وتعطف الرحم والقرابة، على طلب نجاته ; لشدة تعلقه به، واهتمامه بأمره. وقد راعى مع ذلك أدب الحضرة، وحسن السؤال فقال: وإن وعدك الحق ولم يقل: لا تخلف وعدك بإنجاء أهلي، وإنما قال ذلك لفهمه من الأهل ذوي القرابة الصورية، والرحم النسبية، وغفل لفرط التأسف على ابنه عن استثنائه تعالى بقوله: إلا من سبق عليه القول ولم يتحقق أن ابنه هو الذي سبق عليه القول، فاستعطف ربه بالاسترحام، وعرض بقوله: وأنت أحكم الحاكمين إلى أن العالم العادل والحكيم لا يخلف وعده.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 46] قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين

قال يا نوح إنه ليس من أهلك أي الموعود إنجاؤهم، بل من المستثنين لكفرهم، أو ليس منهم أصلا، لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية، ولا علاقة بين المؤمن والكافر.

قال القاشاني: أي أن أهلك في الحقيقة هو الذي بينك وبينه القرابة الدينية، واللحمة المعنوية، والاتصال الحقيقي لا الصوري. كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: ألا وإن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته. ألا وإن عدو محمد من عصى الله، وإن قربت لحمته.

إنه عمل غير صالح بين انتفاء كونه من أهله بأنه غير صالح، تنبيها على أن أهله [ ص: 3449 ] هم الصلحاء، أهل دينه وشريعته، وإنه لتماديه في الفساد والغي، كأن نفسه عمل غير صالح، وتلويحا بأن سبب النجاة ليس إلا الصلاح، لا قرابته منك بحسب الصورة، فمن لا صلاح له، لا نجاة له، وهذا سر إيثار غير صالح على (عمل فاسد).

وقد قرأ يعقوب والكسائي (عمل) بلفظ الماضي، والباقون بلفظ المصدر، بجعله نفس العمل، مبالغة، كما بينا.

فلا تسألني ما ليس لك به علم أي لا تلتمس مني ملتمسا أو التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب؟ حتى تقف على كنهه. قالوا: والنهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة له إليه أصلا، إما لأنه لا يهم، أو لأنه قامت القرائن على حاله، كما هنا، لا عن السؤال للاسترشاد.

إني أعظك أن تكون من الجاهلين أي أنهاك أن تكون منهم بسؤالك إياي ما لم تعلم. وقد تنبه، عليه السلام، عند ذلك التأديب الإلهي، والعتاب الرباني، وتعوذ بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 47] قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين

قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي أي ما فرط مني وترحمني أي بالوقوف على ما تحب وترضى أكن من الخاسرين أي الذين خسروا أنفسهم، بالاحتجاب عن علمك وحكمتك.

تنبيه:

ظاهر التنزيل أن ابنه المذكور لصلبه، ويروى عن الحسن ومجاهد ومحمد بن جعفر الباقر أنه كان ابن امرأته، ربيبه. وأيده بعضهم بقراءة علي: (ونادى نوح ابنها) -والله أعلم-.

ثم أنبأ تعالى عما قيل لنوح، بعد أن أرست السفينة على الجودي، بقوله:
[ ص: 3450 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 48] قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم

قيل يا نوح اهبط أي انزل من السفينة بسلام منا أي: سلامة وبركات عليك وعلى أمم ممن معك أي في السفينة على دينك وطريقتك إلى آخر الزمان وأمم أي ومنهم أمم سنمتعهم أي في الحياة الدنيا لاحتجابهم بها ثم يمسهم منا عذاب أليم أي في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما.

لطيفة:

ذهب العلماء، في الطوفان، مذاهب شتى. فالأكثرون على أنه عم الأرض بأسرها، ومن ذاهب إلى أنه لم يعم إلا الأرض المأهولة وقتئذ بالبشر، ومن جانح إلى أنه لم يعمها كلها ولم يهلك البشر كلهم. ولكل فريق حجج يدعم بها مذهبه:

قال تقي الدين المقريزي في (الخطط): إن جميع أهل الشرائع، أتباع الأنبياء من المسلمين واليهود والنصارى قد أجمعوا على أن نوحا هو الأب الثاني للبشر، وأن العقب من آدم عليه السلام انحصر فيه، ومنه ذرأ الله جميع أولاد آدم، فليس أحد من بني آدم إلا وهو من أولاد نوح، وخالفت القبط والمجوس وأهل الهند والصين ذلك، فأنكروا الطوفان. وزعم بعضهم أن الطوفان إنما حدث في إقليم بابل وما وراءه من البلاد الغربية فقط، وأن أولاد (كيومرت) الذي هو عندهم (الإنسان الأول) كانوا بالبلاد الشرقية من بابل، فلم يصل الطوفان إليهم، ولا إلى الهند والصين، والحق ما عليه أهل الشرائع، وأن نوحا عليه السلام، لما أنجاه الله ومن معه بالسفينة، نزل بهم، وهم ثمانون رجلا سوى أولاده، فماتوا بعد ذلك، ولم يعقبوا، وصار العقب من نوح في أولاده الثلاثة. ويؤيد هذا قول الله تعالى عن نوح: وجعلنا ذريته هم الباقين اهـ.

[ ص: 3451 ] ونحوه في الكامل لابن الأثير.

وقال ابن خلدون: اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن نوح وبدعوته، ذهب بعمران الأرض أجمع، بما كان من خراب المعمور، وهلك الذين ركبوا معه في السفينة، ولم يعقبوا، فصار أهل الأرض كلهم من نسله، وعاد أبا ثانيا للخليقة -انتهى.

قال بعضهم (في تقرير عموم الطوفان، مبرهنا عليه) إن مياه الطوفان قد تركت آثارا عجيبة في طبقات الأرض الظاهرة، فيشاهد في أماكن رواسب بحرية ممتزجة بالأصداف، حتى في قمم الجبال، ويرى في السهول والمفاوز بقايا حيوانية ونباتية مختلطة بمواد بحرية، بعضها ظاهر على سطحها، وبعضها مدفون على مقربة منه، واكتشف في الكهوف عظام حيوانية متخالفة الطباع، بعيدة الائتلاف، معها بقايا آلات صناعية، وآثار بشرية، مما يثبت أن طوفانا قادها إلى ذاك المكان، وجمعها قسرا فأبادها، فتغلغلت بين طبقات الطين فتحجرت، وظلت شهادة على ما كان، بأمر الخالق تعالى -انتهى-.

وقد سئل مفتي مصر الإمام الشيخ محمد عبده عن تحقيق عموم الطوفان، وعموم رسالة نوح، فأجاب بما صورته:

أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على عموم الطوفان، ولا عموم رسالة نوح عليه السلام، وما ورد من الأحاديث، على فرض صحة سنده، فهو آحاد لا يوجب اليقين. والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن، إذا عد اعتقادها من عقائد الدين. وأما المؤرخ، ومريد الاطلاع، فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ، أو صاحب الرأي. وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية، أو عدم الثقة بها، ولا يتخذ دليلا قطعيا على معتقد ديني. أما مسألة عموم الطوفان في نفسها، فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان، وأهل النظر في طبقات الأرض، وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم. فأهل الكتاب، وعلماء الأمة الإسلامية; على أن الطوفان كان [ ص: 3452 ] عاما لكل الأرض، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال; لأن هذه الأشياء مما لا يتكون إلا في البحر، فظهورها في رؤوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض. ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عاما، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها، غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاما، لمجرد حكايات عن أهل الصين، أو لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز. بل على كل من يعتقد بالدين، ألا ينفي شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها، وينصرف عنها إلى التأويل، إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير مراد، والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل، وعناء شديد، وعلم غزير في طبقات الأرض، وما تحتوي عليه، وذلك يتوقف على علوم شتى، نقلية وعقلية. ومن هدي برأيه بدون علم يقيني فهو مجازف، ولا يسمع له قول، ولا يسمح له ببث جهالاته، والله سبحانه وتعالى أعلم.

واستظهر بعضهم أن الطوفان كان عاما، إذ لم يكن العمران قائما إلا بقوم نوح، فكان عاما لهم، وإن كان من جهة خاصا بهم ; إذ ليس ثم غيرهم، قال:

هبط آدم إلى الأرض، وهو ليس بأمة، إذا مضت عليها قرون ولدت أمما، بل هو واحد تمضي عليه السنون، بل القرون، ونمو عشيرته لا يكاد يكون إلا كما يتقلص الظل قليلا قليلا من آدم إلى نوح ثمانية آباء، فإن كان ثمانية آباء يعطون من الذرية أضعافا وآلافا، حتى يطؤوا وجه الأرض بالأقدام، وينشروا العمران في تلك الأيام، فتلك قضية من أعظم ما يذكره التاريخ أعجوبة للعالمين! أما تلك الجبال التي وجدت فوقها عظام الأسماك، فإن كانت مما وصل إليه الطوفان، من المكان الخاص الذي سبق به البيان ; فلا برهان. وإن كانت في غير ذلك المكان، فإن لم يكن وضعها إنسان، كما وجدها إنسان; كان نقل الجوارح [ ص: 3453 ] والكواسر لتلك العظام، إلى تلك الجبال مما يسوغه الإمكان. بهذا وبغيره مما لا يغيب عن الأفهام، تعلم أن الطوفان خاص عام: خاص بمكان، عام سائر المكان -والله أعلم-.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 49] تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين

تلك إشارة إلى قصة نوح عليه السلام من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا أي الإيحاء إليك، والإخبار بها. وفي ذكرهم تنبيه على أنه لم يتعلمها; إذ لم يخالط غيرهم، وأنهم مع كثرتهم لم يسمعوها، فكيف بواحد منهم؟ فاصبر أي على تبليغ الرسالة، وأذى قومك، كما صبر نوح، وتوقع في العاقبة لك، ولمن كذبك، نحو ما قيض لنوح ولقومه -كذا في (الكشاف)- إن العاقبة أي في الدنيا بالنصر والظفر، وفي الآخرة بالنعيم الأبدي للمتقين أي عن الشرك والمعاصي.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 50] وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون

وإلى عاد أخاهم هودا عطف على قوله (نوحا). أي: وأرسلنا إلى عاد و (أخاهم) بمعنى (واحدا) منهم كما يقولون: (يا أخا العرب) قال يا قوم اعبدوا الله [ ص: 3454 ] أي: وحده، ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون أي باتخاذ الأوثان شركاء، وجعلها شفعاء.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 51] يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون

يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني إنما خاطب كل رسول به قومه، إزاحة للتهمة، وتمحيضا للنصيحة، فإنها لا تنجع ما دامت مشوبة بالمطامعأفلا تعقلون أي تتفكرون، إذ تردون نصيحة من لا يسألكم أجرا، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك، أو تتدبرون الصواب من الخطأ.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 52] ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين

ويا قوم استغفروا ربكم أي من الوقوف مع الهوى بالشرك ثم توبوا إليه أي من عبادة غيره، بالتوجه إلى التوحيد يرسل السماء عليكم مدرارا أي كثير الدر، أي الأمطار، منصوب على الحال من (السماء). ولم يؤنث مع أنه من مؤنث، إما لأن المراد بالسماء السحاب أو المطر، فذكر على المعنى، أو (مفعال) للمبالغة، يستوي فيه المذكر والمؤنث كصبور، أو الهاء حذفت من (مفعال) على طريق النسب -أفاده السمين-: ويزدكم قوة إلى قوتكم" أي مضمومة إليها أو معها. أي شدة إلى شدتكم بالقوة البدنية، أو بالمال أو البنين. وإنما استمالهم إلى الإيمان ورغبهم فيه، بكثرة المطر، وزيادة القوة; لأن القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين، حراصا على التقوي بما ذكر، لثراء مالهم، [ ص: 3455 ] وترهيب أعدائهم، وقد كانوا مثلا في القوة، كما قالوا: من أشد منا قوة ولا تتولوا أي: تعرضوا عما أدعوكم إليه مجرمين أي مصرين على إجرامكم وآثامكم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 53] قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين

قالوا يا هود ما جئتنا ببينة أي بحجة تدل على صحة دعواك، وذلك لقصور فهمهم، وعمى بصيرتهم عن إدراك البرهان; لمكان الغشاوات الطبيعية، وإذا لم يدركوه أنكروه بالضرورة وما نحن بتاركي آلهتنا أي عبادتها عن قولك حال من ضمير (تاركي) أي تركا صادرا عن قولك، أو (عن) للتعليل، كهي في قوله: إلا عن موعدة أي لأجلها، فتتعلق (بتاركي) والأول أبلغ; لدلالته على كونه علة فاعلية، ولا يفيده (الباء واللام). وهذا كقولهم في الأعراف: أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا

وما نحن لك بمؤمنين أي مصدقين. إقناط له من الإجابة.







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.83 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.21 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.37%)]