عرض مشاركة واحدة
  #407  
قديم 09-03-2023, 03:58 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,422
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُوسُفَ
المجلد التاسع
صـ 3516 الى صـ 3530
الحلقة (407)




القول في تأويل قوله تعالى:

[ 10 ] قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين

قال قائل منهم أي صريحا ورضي به الباقون لا تقتلوا يوسف أي لأن القتل من الكبائر التي يخاف معها سد باب الصلاح. وإنما أظهره في مكان الإضمار استجلابا لشفقتهم عليه، أو استعظاما لقتله. وألقوه في غيابت الجب أي في غوره. و(الجب) البئر التي لا حجارة فيها. يلتقطه بعض السيارة أي بعض الأقوام الذين يسيرون [ ص: 3516 ] في الأرض، فيتملكه، فلا يمكنه الرجوع إلى أبيه، فيحصل مطلوبكم من غير ارتكاب كبيرة يخاف معها سد باب الصلاح.

إن كنتم فاعلين أي عازمين مصرين على أن تفرقوا بينه وبين أبيه. وقد روي أن القائل هو أخوهم الأكبر، بكر يعقوب (رؤوبين).

ولما تواطأوا على رأيه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 11 ] قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون

قالوا أي: لأبيهم يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أي لم تخافنا عليه، ونحن نريد له الخير ونحبه ونشفق عليه؟ أرادوا بذلك استنزاله عن عادته في حفظه منهم. وفيه دليل على أنه أحس منهم بما أوجب أن لا يأمنهم عليه -كذا في (الكشاف)-.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 12 ] أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون

أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون (الرتع): الأكل والشرب والسعي والنشاط، حيث يكون الخضر والمياه والزروع. يريدون: أن إلزامك إياه أن يكون بمكانك، موجب لملاله القاطع لنشاطه على العبادة، واكتساب الكمالات.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 13 ] قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون

قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون [ ص: 3517 ] يعني: وإن زعمتم أنكم له حافظون، فحفظكم إنما يكون ما دمتم ناظرين إليه، لكن لا يخلو الإنسان عن الغفلة، فأخاف غفلتكم عنه.

قال الزمخشري: اعتذر إليهم بشيئين:

أحدهما: أن ذهابهم به، ومفارقته إياه، مما يحزنه; لأنه كان لا يصبر عنه ساعة.

والثاني: خوفه عليه من عدوة الذئب إذا غفلوا عنه، برعيهم ولعبهم، أو قل به اهتمامهم، ولم تصدق بحفظه عنايتهم.

قال الناصر: وكان أشغل الأمرين لقلبه خوف الذئب عليه، لأنه مظنة هلاكه. وأما حزنه لمفارقته ريثما يرتع ويلعب ويعود سالما إليه عما قليل; فأمر سهل. فكأنهم لم يشتغلوا إلا بتأمينه وتطمينه من أشد الأمرين عليه. انتهى- أي فيما حكي عنهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 14 ] قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون

قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة أي جماعة أقوياء، يمكننا أن ننزعه من يد الذئب إنا إذا لخاسرون أي هالكون ضعفا وجبنا. أو عاجزون، أو مستحقون لأن يدعى عليهم بالخسارة والدمار.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 15 ] فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون

فلما ذهبوا به أي بعد مراجعة أبيهم في شأنه وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب فيه تعظيم لما أزمعوا، إذ أخذوه ليكرموه، ويدخلوا السرور على أبيه، ومكروا ما مكروا. وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا أي أعلمناه بإلقاء في روعه، أو بواسطة ملك عند ذلك تبشيرا له، بأنك ستخلص مما أنت فيه، وتحدثهم بما فعلوا بك.

[ ص: 3518 ] وقوله: وهم لا يشعرون إما متعلق بـ (أوحينا) أي أوحينا إليه ذلك وهم لا يشعرون; إيناسا له، وإزالة للوحشة، أو حال من الهاء في (لتنبئنهم)، أي: لتحدثنهم بذلك وهم لا يشعرون أنك يوسف، لعلو شأنك، كما سيأتي في قوله تعالى: فعرفهم وهم له منكرون

روي أنهم نزعوا قميص يوسف الموشى الذي عليه، وأخذوه، وطرحوه في البئر، وكانت فارغة لا ماء بها، وجلسوا بعد، يأكلون ويلهون إلى المساء.

وجواب (لما) في الآية محذوف، مثل فعلوا ما فعلوا، أو طرحوه فيها. وقيل: الجواب (أوحينا) والواو زائدة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 16 ] وجاءوا أباهم عشاء يبكون

وجاءوا أباهم عشاء يبكون بيان لمكرهم بأبيهم بطريق الاعتذار الموهم موته القاطع عنه متمناه، لتنقطع محبته عنه، ولو بعد حين، فيرجع إليهم بالحب الكلي. وقدموا عشاء لكونه وقت الظلمة المانعة من احتشامه في الاعتذار الكذب، ومن تفرسه من وجوههم الكذب، وأوهموا ببكائهم وتفجعهم عليه، إفراط محبتهم له المانعة من الجرأة عليه. ثم نادوه باسم (الأب) المضاف إليهم ليرحمهم، فيترك غضبه عليهم، الداعي إلى تكذيبهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 17 ] قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين

قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق أي في العدو والرمي بالنصل وتركنا يوسف [ ص: 3519 ] عند متاعنا أي ما يتمتع به من الثياب والأزواد وغيرهما ليحفظه فأكله الذئب أي كما حذرت.

وقوله تعالى: وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه. يقولون: ونحن نعلم أنك لا تصدقنا في هذه الحالة، ولو كنا عندك صادقين، فكيف وأنت تتهمنا، وغير واثق بقولنا؟!.

وقد استفيد من الآية أحكام:

منها: أن بكاء المرء لا يدل على صدقه; لاحتمال أن يكون تصنعا -نقله ابن العربي-.

ومنها: مشروعية المسابقة، وفيه من الطب رياضة النفس والدواب، وتمرين الأعضاء على التصرف -كذا في (الإكليل)-.

قال بعض اليمانين: اللعب إن كان بين الصغار جاز بما لا مفسدة فيه، ولا تشبه بالفسقة، وأما بين الكبار، ففيه ثلاثة أقسام:

الأول: أن يكون في معنى القمار، فلا يجوز.

الثاني: أن لا يكون في معناه، وفيه استعانة وحث على القوة والجهاد، كالمناضلة بالقسي، والمسابقة على الخيل، فذلك جائز وفاقا.

الثالث: أن لا يكون فيه عوض كالمصارعة ونحوها. ففي ذلك قولان للشافعية: رجح الجواز، إن كان بغير عوض، أو بعوض يكون دفعه على سبيل الرضا ; لأنه صلى الله عليه وسلم صارع يزيد بن ركانة.

وروي أن عائشة قالت: سابقت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، فسبقته في المرة الأولى، فلما بدنت سبقني وقال: « هذه بتلك » .

وفي الحديث: « ليس من اللهو ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه بقوسه » . انتهى.
[ ص: 3520 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 18 ] وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون

وجاءوا على قميصه بدم كذب بيان لما تآمروا عليه من المكيدة، وهو أنهم أخذوا قميصه الموشى، وغمسوه في دم معز كانوا ذبحوه. و (كذب) مصدر بتقدير مضاف، أي: ذي كذب. أو وصف به مبالغة، كرجل عدل. و (على) ظرف لـ (جاءوا) مشعر بتضمنه معنى (افتروا).

وقوله: قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا أي من تغيب يوسف، وتفريقه عني، والاعتذار الكاذب.

قال الناصر: وقواه على اتهامهم، أنهم ادعوا الوجه الخاص الذي خاف يعقوب، عليه السلام، هلاكه بسببه أولا، وهو أكل الذئب، فاتهمهم أن يكونوا تلقفوا العذر من قوله لهم: وأخاف أن يأكله الذئب وكثيرا ما تتفق الأعذار الباطلة، من قلق في المخاطب المعتذر إليه، حتى كان بعض أمراء المؤمنين يلقنون السارق الإنكار. انتهى.

وفي (الإكليل): استنبط، من هذا، الحكم بالأمارات، والنظر إلى التهمة، حيث قال: بل سولت الآية.

لطائف:

قال المهايمي: في الآية من الفوائد أن الجاه يدعو إلى الحسد، كالمال، وهو يمنع من المحبة الأصلية من القرابة ونحوها، بل يجعل عداوتهم أشد من عداوة الأجانب، وأن الحسد يدعو إلى المكر بالمحسود، وبمن يراعيه، وأنه إنما يكون برؤية الماكر نفسه أكمل عقلا من الممكور به. وأن الحاسد إذا ادعى النصح والحفظ والمحبة، بل أظهره فعلا ; لم يعتمد عليه.

[ ص: 3521 ] وكذا من أظهر الأمانة قولا وفعلا يفعل الخيانة. وأن الإذلال والإعزاز بيد الله، لا الخلق. وأن من طلب مراده بمعصية الله بعد عنه، وأن الخوف من الخلق يورث البلاء، وأن الإنسان وإن كان نبيا، يخلق أولا على طبع البشرية. وأن اتباع الشهوات يورث الحزن الطويل. وأن القدر كائن، وأن الحذر لا يغني من القدر.

قيل للهدهد: كيف ترى الماء تحت الأرض، ولا ترى الشبكة فوقها؟ قال: إذا جاء القضاء عمي البصر.

و (التسويل) تزيين النفس للمرء ما يحرص عليه، وتصوير القبيح بصورة الحسن. فصبر جميل (صبر) خبر أو مبتدأ، لكونه موصوفا، أي فشأني صبر جميل. أو فصبر جميل أجمل، والصبر قوة للنفس على احتمال الآلام كالمصائب إذا عرضت، والجميل منه هو ما لا شكوى فيه إلى الخلق ولا جزع، رضا بقضاء الله، ووقوفا مع مقتضى العبودية.

والله المستعان على ما تصفون أي المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف -كذا قدروه- وحقق أبو السعود; أن المعنى على إظهار حال ما تصفون، وبيان كونه كذبا، وإظهار سلامته، فإنه علم في الكذب، قال سبحانه: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وهو الأليق بما سيجيء من قوله تعالى: فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا وتفسير المستعان عليه باحتمال ما يصفون من هلاك يوسف، والصبر على الرزء فيه; يأباه تكذيبه عليه السلام لهم في ذلك، ولا تساعده الصيغة، فإنها قد غلبت في وصف الشيء بما ليس فيه، كما أشير إليه. انتهى.

وفي قوله: والله المستعان اعتراف بأن تلبسه بالصبر لا يكون إلا بمعونته تعالى.

قال الرازي: لأن الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع، وهي قوية. والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر والرضا. فكأنهما في تحارب وتجالد. فما لم تحصل إعانته تعالى [ ص: 3522 ] لم تحصل الغلبة، فقوله: فصبر جميل يجري مجرى قوله: إياك نعبد وقوله: والله المستعان يجري مجرى قوله: وإياك نستعين انتهى.

ثم ذكر تعالى ما جرى على يوسف في الجب، بعد ما تقدم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 19 ] وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون

وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم أي الذي يرد الماء ويستقي لهم فأدلى دلوه أي أرسلها في الجب ليملأها، فتعلق بها يوسف للخروج، فلما رآه قال يا بشرى هذا غلام وقرئ (يا بشراي) بالإضافة والمنادى محذوف. أو نزلت منزلة من ينادي، ويقال: إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء.

قال الزجاج: معنى النداء في هذه الأشياء التي لا تجيب هو تنبيه المخاطبين، وتوكيد القصة. فإذا قلت: يا عجباه! فكأنك قلت: اعجبوا.

و (الغلام): الطار الشارب، أو من ولادته إلى أن يشب. والتنوين للتعظيم.

وأسروه بضاعة أي أخفوه متاعا للتجارة. فـ بضاعة حال. وفي (الفرائد): أنه ضمن (أسروه) معنى (جعلوه) أي جعلوه بضاعة مسرين، فهو مفعول به، أو مفعول له. أي: لأجل التجارة. و (البضاعة) من البضع، وهو القطع لأنه قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة: والله عليم بما يعملون
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 20 ] وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين

وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين الضمير [ ص: 3523 ] في (أسروه) و (شروه) للسيارة; لأنها بمعنى القوم السائرين. وقد روي أنهم كانوا تجارا من بلدة مدين. فلما أصعد واردهم يوسف، وضموه إلى بضاعتهم; باعوه لقافلة مرت بهم سائرة إلى مصر بعشرين درهما من الفضة، ثم أتوا بيوسف إلى مصر. و (دراهم) بدل من الثمن. و (المعدود)، كناية عن القليل; لأن الكثير يوزن عندهم. و(الزهد) فيه بمعنى الرغبة عنه.

فوائد:

قال في (الإكليل)، استنبط الناس من هذه الآية أحكام اللقيط، فأخذوا منها أن اللقيط يؤخذ ولا يترك. ومن قوله: (هذا غلام) أنه كان صغيرا، وأن الالتقاط خاص به، فلا يلتقط الكبير، وكذا قوله: وأخاف أن يأكله الذئب لأن ذلك أمر يختص بالصغار. ومن قوله: وشروه بثمن بخس أن اللقيط يحكم بحريته، وأن ثمن الحر حرام. قال بعضهم: وجه الاستدلال لأنهم باعوه بثمن حقير لكونه لقيطا، وهو لا يملك; إذ لو ملك استوفوا ثمنه.

قال بعض الزيدية، ورد هذا الاستدلال بأن فعلهم ليس شريعة. وأما الآن فلا شبهة أن ظاهر اللقيط الحرية، كما أن ظاهره الإسلام. اهـ.

قال المهايمي: ومن الفوائد أن الفرج قد يحصل من حيث لا يحتسب، وأنه ينتظر للشدة. وأن من خرج لطلب شيء قد يجد ما لم يكن في خاطره. وأن الشيء الخطير قد يعرض فيه ما يهونه. وأن البشرى قد يعقبها الحزن، والعزة قد يعقبها الذلة. وبالعكس. اهـ.
[ ص: 3524 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 21 ] وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا يخبر تعالى عن لطفه بيوسف، إذ يسر له من اشتراه في مصر، فاعتنى به، وأوصى أهله، وتوسم فيه الخير والصلاح. ومعنى أكرمي مثواه اجعلي مقامه حسنا مرضيا. و (المثوى) محل الثواء، وهو الإقامة.

قال الشهاب: وإكرام مثواه كناية عن إكرامه على أبلغ وجه وأتمه ; لأن من أكرم المحل بإحسان الأسرة، واتخاذ الفراش ونحوه، فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به. أو (المثوى) مقحم. كما يقال: المقام السامي.

روي أن القافلة لما نزلت مصر اشتراه منهم رئيس الشرط عند ملك مصر، فأقام في بيت سيده، والعناية الربانية تحفه، والنجاح يحوطه، فكان يرى سيده أن كل ما يأتي به ينجحه الله تعالى على يده، فنال حظوة لديه، وأقامه قيما على كل ما يملكه، وضاعف تعالى البركة في زرعه وماله وحوزته.

وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث أي كما جعلنا له مثوى كريما في منزل العزيز وقلبه، جعلنا له تصرفا بالأمر والنهي، ومكانة رفيعة في أرض مصر، ووجاهة في أهلها، ومحبة في قلوبهم، ليكون عاقبة ذلك تعليمه تأويل الرؤيا التي ستقع من الملك، وتفضيبيوسف إلى الرياسة العظمى.

والله غالب على أمره أي لا يمنع عما يشاء، ولا ينازع فيما يريد. أو على أمر يوسف، أريد به من الفتنة ما أريد غير مرة، فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة.

[ ص: 3525 ] ولكن أكثر الناس لا يعلمون أي أن الأمر كله بيده، فيأتون ويذرون زعما أن لهم شيئا من الأمر. أو لا يعلمون لطائف صنعه، وخفايا لطفه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 22 ] ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين

ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين هذه الآية كالتي قبلها، تخللت تضاعيف نظم القصة لمعنى بديع، وهو البدار إلى الإعلام بنتائج صبر يوسف، وثمرات مجاهداته، وعجائب صنع الله تعالى في مراداته، إذ طوى له المنح في تلك المحن، وذخر له السيادة في تلك العبودية. ومعنى بلغ أشده أي زمان اشتداد جسمه وقوته.

قال أبو عبيدة: العرب تقول: بلغ فلان أشده، إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوته قبل أن يأخذ في النقصان. و (الحكم) إما الحكمة وهو العلم المؤيد بالعمل، أو الحكم بين الناس.

قال الزمخشري: وفي قوله تعالى: وكذلك نجزي المحسنين تنبيه على أنه كان محسنا في عمله، متقيا في عنفوان أمره، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه.

وعن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته، آتاه الله الحكمة في اكتهاله.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 23 ] وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون

وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون هذا رجوع إلى شرح ما جرى على يوسف في منزل العزيز بعد ما أمر امرأته بإكرام مثواه، من مراودتها له وإبائه. [ ص: 3526 ] والمراودة: المطالبة. أي: طلبت منه أن يواقعها. وتعديتها بـ (عن) لتضمينها معنى المخادعة. والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على السر والستر، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز، لتقرير المراودة. فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك. قيل لامرأة: ما حملك على ما لا خير فيه؟ قالت: قرب الوساد، وطول السواد. ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام -كما سيأتي-.

و (هيت) قرئت كـ (ليت وقيل وحيث)، وبكسر الهاء وبهمزة ساكنة بعدها، وفتح التاء وضمها. وهي في هذه اللغات اسم فعل بمعنى (تعال). واللام لتبيين المفعول أي المخاطب. ونقل عن الفراء أنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها.

قال ابن الأبياري: هذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران، كما اتفقت لغة العرب والروم في (القسطاس) ونحوه.

و (معاذ الله) منصوب على المصدر. أي: أعوذ بالله معاذا مما تدعينني إليه، لكونه زنى وخيانة فيما اؤتمنت عليه، وضرا لمن توقع النفع، وإساءة إلى المحسن.

قال أبو السعود: وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل! يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه، وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهده بما أراه الله تعالى من البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح، ونهاية السوء.

وقوله: إنه ربي أحسن مثواي تعليل للامتناع ببعض الأسباب الخارجية، مما عسى أن يكون مؤثرا عندها، وداعيا لها إلى اعتباره بعد التنبيه على سببه الذاتي الذي تكاد تقبله لما سولته لها نفسها. والضمير للشأن. وفائدة تصدير الجملة به ; الإيذان بفخامة مضمونها، مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن، فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر، فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه، فيتمكن عند وروده له فضل تمكن. فكأنه قيل: إن الشأن الخطير هذا، وهو ربي، أي سيدي العزيز، أحسن مثواي، أي تعهدي، حيث أمرك بإكرامي، فكيف يمكن أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه؟ وفيه إرشاد لها إلى رعاية [ ص: 3527 ] حق العزيز بألطف وجه. وقيل: الضمير لله عز وجل، و (ربي) خبر، و (إن)، و (أحسن مثواي) خبر ثان. أو هو الخبر والأول بدل من الضمير. والمعنى: أن الحال هكذا، فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة؟ وفيه تحذير لها من عقاب الله عز وجل. وعلى التقديرين، ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض للامتناع عما دعته إليه; إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته، وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلا.

وقوله تعالى: إنه لا يفلح الظالمون تعليل للامتناع المذكور، غب تعليل. و (الفلاح) الظفر، أو البقاء في الخير. ومعنى (أفلح) دخل فيه، كأصبح وأخواته. والمراد بـ (الظالمين) كل من ظلم، كائنا من كان، فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة، والعصاة لأمر الله تعالى، دخولا أوليا. وقيل: الزناة، لأنهم ظالمون لأنفسهم، وللمزني بأهله. انتهى.

وقال بعض اليمانين: ثمرات هذه الآية ثلاث:

الأولى: أن الواجب عند الدعاء إلى المعصية الاستعاذة بالله من ذلك، ليعصمه منها، ويدخل فيه دعاء الشيطان، ودعاء شياطين الإنس، ودعاء هوى النفس.

الثانية: أن السيد والمالك يسمى (ربا).

الثالثة: أنه يجوز ترك القبيح لقبحه، ورعاية حق غيره، وخشية العار، أو الفقر، أو الخوف، ونحو ذلك. ولا يقال: التشريك غير مفيد في كونه تاركا للقبيح، وأنه لا يثاب. وتدل أيضا على لزوم حسن المكافأة بالجميل، وأن من أخل بالمكافأة عليه كان ظالما. انتهى.
[ ص: 3528 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 24 ] ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين

ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين (الهم): يكون بمعنى القصد والإرادة، ويكون فوق الإرادة ودون العزم، إذا أريد به اجتماع النفس على الأمر والإزماع عليه، وبالعزم: القصد إلى إمضائه، فهو أول العزيمة. وهذا معنى قولهم: الهم همان: هم ثابت معه عزم وعقد ورضا، وهو مذموم مؤاخذ به. وهم بمعنى خاطر، وحديث نفس، من غير تصميم، وهو غير مؤاخذ به. لأن خطور المناهي في الصدور، وتصورها في الأذهان، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان.

روى الشيخان وأهل السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به، أو تعمل به » . ورواه الطبراني عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.

فمعنى قوله تعالى: ولقد همت به أي بمخالطته، أي: قصدتها وعزمت عليها عزما جازما، لا يلويها عنه صارف، بعد ما باشرت مبادئها من المراودة، وتغليق الأبواب، ودعوته إلى الإسراع إليها بقولها: هيت لك مما اضطره إلى الهرب إلى الباب.

ومعنى قوله: وهم بها لولا أن رأى برهان ربه أي: لولا رؤيته برهان ربه لهم بها، كما همت به، لتوفر الدواعي. ولكنه رأى من تأييد الله له بالبرهان ما صرف عنه السوء والفحشاء.

[ ص: 3529 ] قال أبو حيان: ونظيره (قارفت الإثم لولا أن الله عصمك). ولا نقول: إن جواب (لولا) يتقدم عليها، وإن لم يقم دليل على امتناعه، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف فيها، حتى ذهب الكوفيون وأعلام البصريين إلى جواز تقدمه، بل نقول: هو محذوف لدلالة ما قبله عليه. لأن المحذوف في الشرط يقدر من جنس ما قبله. انتهى.

فالآية حينئذ ناطقة بأنه لم يهم أصلا. وقيل: جواب (لولا) لغشيها ونحوه. فمعنى (الهم) حينئذ ما قاله الإمام الرازي: من أنه خطور الشيء بالبال، أو ميل الطبع. كالصائم في الصيف. يرى الماء البارد، فتحمله نفسه على الميل إليه، وطلب شربه، ولكن يمنعه دينه عنه. وكالمرأة الفائقة حسنا وجمالا، تتهيأ للشاب النامي القوي، فتقع بين الشهوة والعفة، وبين النفس والعقل، مجاذبة ومنازعة. (فالهم) هنا عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان جواذب الحكمة. وهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحال أشد، كانت القوة على لوازم العبودية أكمل. انتهى.

وكذا قال أبو السعود: إن همه بها بمعنى ميله إليها، بمقتضى الطبيعة البشرية، وشهوة الشباب وقرمه، ميلا جبليا، لا يكاد يدخل تحت التكليف، لا أنه قصدها قصدا اختياريا، ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبئ عن كمال كراهيته له، ونفرته عنه، وحكمه بعدم إفلاح الظالمين؟ وهل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهم منه -عليه السلام- تسجيلا محكما؟ وإنما عبر عنه بالهم; لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر، بطريق المشاكلة، لا لشبهه به كما قيل. ولقد أشير إلى تباينهما، حيث لم يلزا في قرن واحد من التعبير، بأن قيل: ولقد هما بالمخالطة، أو هم كل منهما بالآخر. وصدر الأول بما يقرر وجوده من التوكيد القسمي، وعقب الثاني بما يعفو أثره من قوله عز وجل: لولا أن رأى برهان ربه أي حجته الباهرة، الدالة على كمال قبح الزنى، وسوء سبيله. والمراد برؤيته لها كمال إيقانه، ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين. وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى [ ص: 3530 ] بموجب ذلك البرهان النير، على ما هو عليه في حد ذاته أقبح ما يكون، وأوجب ما يجب أن يحذر منه، ولذلك فعل ما فعل من الاستعصام، والحكم بعدم إفلاح من يرتكبه.

وجواب (لولا) محذوف، يدل عليه الكلام. أي: لولا مشاهدة برهان ربه في شأن الزنى لجرى على موجب ميله الجبلي، ولكن حيث كان مشاهدا له من قبل; استمر على ما هو عليه من قضية البرهان. وفائدة هذه الشرطية بيان أن امتناعه عليه السلام، لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة، بل لمحض العفة والنزاهة، مع وفور الدواعي الداخلية، وترتيب المقدمات الخارجية، الموجبة لظهور الأحكام الطبيعية. انتهى.

فاتضح أن لا شبهة فيها على عصمة يوسف عليه السلام، فإن الأنبياء ليسوا بمعصومين من حديث النفس، وخواطر الشهوة الجبلية، ولكنهم معصومون من طاعتها، والانقياد إليها. ولو لم توجد عندهم دواع جبلية لكانوا إما ملائكة أو عالما آخر، ولما كانوا مأجورين على ترك المناهي، لأنهم يكونون مقهورين على تركها طبعا. والعنين لا يؤجر ويثاب على ترك الزنى; لأن الأجر لا يكون إلا على عمل، والترك بغير داعية ليس عملا، وأما الترك مع الداعية، فهو كف النفس عما تتشوف إليه فهو عمل نفسي.

وحقيقة عصمة الأنبياء هي نزاهتهم، وبعدهم عن ارتكاب الفواحش والمنكرات التي بعثوا لتزكية الناس منها ; لئلا يكونوا قدوة سيئة، مفسدين للأخلاق والآداب، وحجة للسفهاء على انتهاك حرمات الشرائع. وليس معناها أنهم آلهة منزهون عن جميع ما يقتضيه الطبع البشري.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.68 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.05 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.32%)]