عرض مشاركة واحدة
  #409  
قديم 09-03-2023, 05:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,938
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُوسُفَ
المجلد التاسع
صـ 3546 الى صـ 3560
الحلقة (409)



[ ص: 3546 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 44 ] قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين

قالوا أي الملأ للملك أضغاث أحلام أي تخاليطها. جمع (ضغث). وهو في الأصل ما جمع من أخلاط النبات وحزم، ثم استعير لما تجمعه القوة المتخيلة من أحاديث النفس، ووساوس الشيطان، وتريها في المنام. و (الأحلام) جمع (حلم)، وهو ما يراه النائم، فهو مرادف للرؤيا، إلا أنها غلبت في رؤيا الخير، والشيء الحسن، وغلب الحلم على خلافه. وفي الحديث: « الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان » .

قال التوربشتي: الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا، والتفريق من الاصطلاحات التي سنها الشارع للفصل بين الحق والباطل، كأنه كره أن يسمى ما كان من الله وما كان من الشيطان باسم واحد، فجعل الرؤيا عبارة عن الصالح منها، لما في الرؤيا من الدلالة على المشاهدة بالبصر أو البصيرة، وجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان، لأن أصل الكلمة لم يستعمل إلا فيما يخيل للحالم في منامه من قضاء الشهوة، مما لا حقيقة له. انتهى.

والمراد بالجمع في (الأحلام) ما فوق الواحد، لأنهما حلمان، رأى كل واحد منهما إثر استيقاظه منه، كما روي، وفهم بعضهم أنه حلم واحد، فالتمس للجمع نكتة فقال: إما المبالغة في وصفه بالبطلان، أو تضمنه أشياء مختلفة، ولا حاجة إليه، كما بينا.

وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين يحتمل أن يريدوا بـ (الأحلام) المنامات الباطلة خاصة. أي: ليس لها تأويل عندنا، وإنما التأويل للرؤيا الصادقة. وأن يعترفوا بقصور علمهم، وأنهم ليسوا في التعبير بنحارير.

قال الناصر: وهذا هو الظاهر. وحمل الكلام على الأول يصيره من وادي:


على لاحب لا يهتدى بمناره


[ ص: 3547 ] كأنهم قالوا: ولا تأويل للأحلام الباطلة، فنكون به عالمين. وقول الملك لهم أولا: إن كنتم للرؤيا تعبرون دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها، لأنه أتى بكلمة الشك، وجاء اعترافهم بالقصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهامهم عن كونهم عالمين بالرؤيا أو لا. وقول الفتى: أنا أنبئكم بتأويله إلى قوله: لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون دليل أيضا على ذلك -والله أعلم-.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 45 ] وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون

وقال الذي نجا منهما أي من صاحبي السجن، وهو الساقي: وادكر بعد أمة أي تذكر بعد مدة، وكان تذكره، على ما روي، بعد سنتين أنا أنبئكم بتأويله أي أخبركم به بالتلقي عمن عنده علمه، لا من تلقاء نفسي، ولذلك لم يقل: أنا أفتيكم فيها، وعقبه بقوله فأرسلون أي فابعثوني إلى يوسف، وإنما لم يذكره ; ثقة بما سبق من التذكر، وما لحق من قوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 46 ] يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون

يوسف أيها الصديق أي أرسل إليه، فأتاه فقال: يا يوسف! ووصفه بالمبالغة في الصدق، حسبما ذاق أحواله، وتعرف صدقه في تأويل رؤياه، ورؤيا صاحبه، حيث جاء كما أول، لكونه بصدد اغتنام معارفه، فهو من باب براعة الاستهلال أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات أي في [ ص: 3548 ] تأويل رؤيا ذلك. ولم يغير لفظ الملك; لأن التعبير يكون على وفقه، كما بينوه. وفي قوله أفتنا مع أنه المستفتي وحده إشعار بأن الرؤيا ليست له، بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة، وأنه في ذلك معبر وسفير، كما آذن بذلك قوله: لعلي أرجع إلى الناس أي إلى الملك ومن عنده لعلهم يعلمون أي ذلك: فيعملون بمقتضاه، أو يعلمون فضلك ومكانك من العلم، فيطلبوك ويخلصوك من محنتك. وإنما لم يبت الكلام، بل قال (لعلي) و (لعلهم) مجاراة معه على نهج الأدب، واحترازا عن المجازفة; إذ لم يكن على يقين من الرجوع، فربما اخترم دونه.

لعل المنايا دون ما تعداني
ولا من علمهم بذلك، فربما لم يعلموه -أشار إليه أبو السعود-.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 47 ] قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون [ 48 ] ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون [ 49 ] ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون

قال أي يوسف له في تأويلها تزرعون سبع سنين دأبا أي دائبين مواظبين كل عام منها فما حصدتم أي من الزرع فذروه في سنبله أي لا تدرسوه، فإنه أبقى له إلا قليلا مما تأكلون أي في تلك السنين، يعني بقدر ما تأكلون.

ثم يأتي من بعد ذلك أي السبع المذكورات سبع شداد أي سبع سنين صعاب على الناس، لقوة القحط يأكلن ما قدمتم لهن أي ما رفعتم لهن من الحبوب [ ص: 3549 ] المتروكة في سنابلها. ولما عبر عن البقرات بالسنين; نسب الأكل إلى السنين، كما رأى في الواقعة البقرات يأكلن حتى يحصل التطابق بين المعبر وهو المرئي في المنام، والمعبر به، وهو تأويله. ولا يتعين المجاز العقلي -أي يؤكل فيها- كما في: (نهاره صائم) لجواز أن يكون مشاكلة حينئذ. إلا قليلا مما تحصنون أي تحرزون وتخبئون للزراعة.

ثم يأتي من بعد ذلك أي السنين الموصوفة بالشدة، وأكل الغلال المدخرة عام فيه يغاث الناس أي يمطرون من الغيث، أو يغاثون من القحط، أو يرفع عنهم مكروهه من الغوث وفيه يعصرون أي ما كانوا يعصرونه على عادتهم من عنب وزيتون ونحوهما.

قال أبو السعود: والتعرض لذكر (العصر)، مع جواز الاكتفاء عنه بذكر (الغيث) المستلزم له عادة، كما اكتفى به عن ذكر تصرفهم في الحبوب، إما لأن استلزام الغيث له ليس كاستلزامه للحبوب، إذ المذكورات يتوقف صلاحها على مبادئ أخر غير المطر. وإما لمراعاة جانب المستفتي باعتبار حالته الخاصة به، بشارة له، وهي التي يدور عليها حسن موقع تغليبه على الناس، في القراءة بالفوقانية. وقيل: معنى (يعصرون) يحلبون الضروع. انتهى.

واللفظ بعموم معناه يشمله، لأن الحلب فيه عصر الضرع ليخرج الدر.

قال الزمخشري: تأويل البقرات السمان والسنبلات الخضر: بسنين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأن العام الثامن يجيء مباركا خصيبا، كثير الخير، غزير النعم، وذلك جهة الوحي.

تنبيه:

قال في (الإكليل): هذه الآية من أصول التعبير. وفيها أيضا صحة رؤيا الكفار، وجواز تسميته ملكا، وأن قولنا (الرؤيا لأول عابر) ليس عاما في كل رؤيا، لأنهم قالوا: [ ص: 3550 ] أضغاث أحلام ولم تسقط بقولهم ذلك، فتخص القاعدة بما يحتمل من الرؤيا وجوها، فيعبر بأحدها، فيقع عليه. وفي قوله: ثم يأتي من بعد ذلك عام إلخ، زيادة على ما وقع السؤال عنه، فيستدل به على أنه لا بأس بذلك في تعبير الرؤيا والفتوى. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 50 ] وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم

وقال الملك ائتوني به أي أخرجوه من السجن وأحضروه، لما علم من علمه وفضله، فلما جاءه الرسول أي يستدعيه إلى الملك قال أي يوسف له: ارجع إلى ربك أي سيدك الملك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن أي ما شأنهن وخبرهن؟ أمره بأن يسأله ويستفهمه عن ذلك، ولم يكشف له عن القصة، ولا أوضحها له; لأن السؤال مجملا، مما يهيج الملك على الكشف والبحث والاستعلام، فتحصل البراءة. وإنما كان السؤال المجمل يهيج الإنسان، ويحركه للبحث عنه. لأنه يأنف من جهله وعدم علمه به، ولو قال: سله أن يفتش عن ذلك، لكان طلبا للفحص عنه، وهو مما يتسامح ويتساهل به، وفيه جرأة عليه، فربما امتنع منه، ولم يلتفت إليه.

قال الزمخشري: إنما تأنى وتثبت في إجابة الملك، وقدم سؤال النسوة; ليظهر براءة ساحته عما قرف به وسجن فيه; لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده، ويجعلوه سلما إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا: ما خلد في السجن إلا لأمر عظيم وجرم كبير، حق به أن يسجن ويعذب، ويستكف شره. وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها. قال عليه السلام: « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن [ ص: 3551 ] مواقف التهم » . ومنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمارين به في معتكفه، وعنده بعض نسائه: « هي فلانة » ; اتقاء للتهمة.

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: « لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره، والله يغفر له، حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني. ولقد عجبت منه حيث أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبثت; لأسرعت الإجابة، وبادرتهم الباب، ولما ابتغيت العذر، إن كان لحليما ذا أناة » . انتهى.

رواه عبد الرزاق في مصنفه مرسلا عن عكرمة.

وقد روي في المسند والصحيحين مختصرا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي » . مدحه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأناة، وكان في طي هذه المدحة بالأناة والتثبت تنزيهه وتبرئته مما لعله يسبق إلى الوهم أنه هم بامرأة العزيز هما يؤاخذ به; لأنه إذا صبر وتثبت فيما له ألا يصبر فيه، وهو الخروج من السجن، مع أن الدواعي متوافرة على الخروج منه; فلأن يصبر فيما عليه أن يصبر فيه من الهم أولى وأجدر- أفاده الناصر.

قال أبو السعود: وإنما لم يتعرض لامرأة العزيز، مع ما لقي منها ما لقي، من مقاساة [ ص: 3552 ] الأحزان; محافظة على مواجب الحقوق، واحترازا عن مكرها، حيث اعتقدها مقيمة في عدوة العداوة. وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق، وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم، ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي، ولم يصرح بمراودتهن له، وقولهن (أطع مولاتك) واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله: إن ربي بكيدهن عليم يعني ما كدنه به، وفي إضافة علمه إلى الله إشارة إلى عظمه، وأن كنهه غير مأمول الوصول إليه، لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله. وفيه تشويق وبعث على معرفته، فهو تتميم لقوله: " اسأل" ، ودلالة على أنه بريء مما قرف به; للاستشهاد بعلمه تعالى عليه. وفيه الوعيد لهن على كيدهن، وأنه تعالى مجاز عليه، وقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 51 ] قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين .

قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه استئناف مبني على السؤال، كأنه قيل: فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل: قال الملك: ما خطبكن -أي شأنكن- إذ راودتن يوسف يوم الضيافة؟ يعني: هل وجدتن منه ميلا إليكن؟.

قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء أي: قبيح، بالغن في نفي جنسه عنه بالتنكير، وزيادة (من): قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق أي ثبت واستقر وظهر بعد خفائه، أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين أي في قوله: هي راودتني عن نفسي

قال الزمخشري: ولا مزيد على شهادتهن له بالبراءة، والنزاهة، واعترافهن على أنفسهن، بأنه لم يتعلق بشيء مما قرفنه به; لأنهن خصومه. وإذا اعترف الخصم بأن صاحبه على الحق، وهو على الباطل، لم يبق لأحد مقال. انتهى.


والفضل ما شهدت به الأعداء
[ ص: 3553 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 52 ] ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين

ذلك تقول امرأة العزيز: ذلك الذي اعترفت به على نفسي ليعلم أني لم أخنه بالغيب أي ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال الغيبة، وجئت بالصحيح والصدق فيما سئلت عنه، أو ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر، ولا وقع المحذور الأكبر، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع، فاعترفت ليعلم أني بريئة.

وأن الله لا يهدي كيد الخائنين أي لا يرضاه ولا يسدده.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 53 ] وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم

وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم تريد: وما أبرئ نفسي مع ذلك، فإن النفس تتحدث وتتمنى، ولهذا راودته. أو تعني: أني ما أبرئ نفسي من الخيانة، فإني قد خنته حين قرفته وقلت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن ؟ وأودعته السجن، تريد الاعتذار مما كان منها أن كل نفس لأمارة بالسوء، إلا نفسا رحمها الله بالعصمة، كنفس يوسف.

ثم إن تأويل قوله تعالى: ذلك ليعلم الآية -على أنه حكاية قول امرأة العزيز- قال ابن كثير: هو القول الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة، ومعاني الكلام. وقد حكاه الماوردي في تفسيره، وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، فأفرده بتصنيف على حدة. وقد قيل: إن ذلك من كلام يوسف، ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم سواه. والمعنى: ذلك التثبت والتأني والتشمر لظهور البراءة; ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في أهله، أو ليعلم الله أني لم أخنه; لأن المعصية خيانة. ثم أكد أمانته بقوله: [ ص: 3554 ] وأن الله لا يهدي كيد الخائنين وأنه لو كان خائنا لما هدى الله عز وجل أمره، أي: سدده وأحسن عاقبته، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته، وبالعزيز في خيانة أمانة الله تعالى، حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه، ثم أراد أن يتواضع لله، ويهضم نفسه; لئلا يكون لها مزكيا، وبحالها في الأمانة معجبا ومفتخرا، وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته، فقال: وما أبرئ نفسي أي لا أنزهها من الزلل، ولا أشهد لها بالبراءة الكلية، ولا أزكيها، فإن النفس البشرية تأمر بالسوء، وتحمل عليه بما فيها من الشهوات، إلا ما رحم الله من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المساوئ.

هذا خلاصة ما قرروه على أنه من كلام يوسف. قال ابن كثير: والقول الأول أقوى وأظهر; لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك، ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم، بل بعد ذلك أحضره الملك -والله أعلم-.

لطائف:

الأولى: محل قوله: (بالغيب) الحال من الفاعل أو المفعول، على معنى- وأنا غائب أو غائبة عنه، أو وهو غائب عني خفي عن عيني- أو هو ظرف، أي بمكان الغيب، وهو الخفاء والاستتار وراء الأبواب.

الثانية: قيل معنى لا يهدي كيد الخائنين أي: لا يهديهم بسبب كيدهم، أوقعت الهداية المنفية على الكيد، وهي واقعة عليهم تجوزا للمبالغة; لأنه إذا لم يهد السبب، علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى.

وقيل: المعنى لا يهديهم في كيدهم، كقوله تعالى: يضاهئون قول الذين كفروا أي: في قولهم.

[ ص: 3555 ] وقيل: هداية الكيد مجاز عن تنفيذه وتسديده.

الثالثة: قال في (الإكليل): وما أبرئ نفسي أصل في التواضع، وكسر النفس وهضمها.

الرابعة: قال الزمخشري: لقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة -ثم ساقها- وقال: وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسله.

قال الناصر: ولقد صدق في التوريك على نقلة هذه الزيادات بالبهت، وذلك شأن المبطلة من كل طائفة. ويحق الله الحق بكلماته ويبطل الباطل.

الخامسة: رأيت لابن القيم في (الجواب الكافي ) في عجيب صبر يوسف وعفته، مع الدواعي من وجوه. قال عليه الرحمة، بعد أن مهد مقدمة في مفاسد عشق الصور العاجلة والآجلة: إنها أضعاف ما يذكره ذاكر، فإنه يفسد القلب بالذات، وإذا فسد فسدت الإرادات والأقوال والأعمال، وفسد ثغر التوحيد. والله تعالى إنما حكى هذا المرض عن طائفتين من الناس: وهم اللوطية والنساء، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف، وما راودته، وكادته به، وأخبر عن الحال التي صار إليها يوسف، لصبره وعفته وتقواه، مع أن الذي ابتلي به أمر لا يصبر عليه إلا من صبره الله عليه. فإن موافقة الفعل، بحسب قوة الداعي، وزوال المانع، وكان الداعي هاهنا في غاية القوة وذلك لوجوه:

أحدها: ما ركب الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المرأة كما يميل العطشان إلى الماء، والجائع إلى الطعام، حتى إن كثيرا من الناس يصبر عن الطعام والشراب، ولا يصبر عن النساء، وهذا لا يذم إذا صادف حلالا، بل يحمد.

الثاني: أن يوسف عليه السلام كان شابا، وشهوة الشباب وحدته أقوى.

الثالث: أنه كان عزبا لا زوجة له ولا سرية تكسر شدة الشهوة.

الرابع: أنه كان في بلاد غربة يتأتى للغريب فيها من قضاء الوطر ما لا يتأتى لغيره في وطنه، وبين أهله ومعارفه.

[ ص: 3556 ] الخامس: أن المرأة كانت ذات منصب وجمال، بحيث أن كل واحد من هذين الأمرين يدعو إلى مواقعتها.

السادس: أنها غير آبية ولا ممتنعة، فإن كثيرا من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها; لما يجد في نفسه من ذل الخضوع والسؤال لها، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع زيادة حب، كما قال الشاعر:


وزادني كلفا في الحب أن منعت أحب شيء إلى الإنسان ما منعا


فطباع الناس مختلفة في ذلك، فمنهم من يتضاعف حبه عند بذل المرأة ورغبتها، وتضمحل عند إبائها وامتناعها، ومنهم من يتضاعف حبه وإرادته بالمنع، ويشتد شوقه بكل ما منع، ويحصل له من اللذة بالظفر نظير ما يحصل من لذة الظفر بعد امتناعه ونفاره. واللذة بإدراك المسألة بعد استصعابها، وشدة الحرص على إدراكها.

السابع: أنها طلبت وأرادت وبذلت الجهد، فكفته مؤنة الطلب، وذل الرغبة إليها، بل كانت هي الراغبة الذليلة، وهو العزيز المرغوب إليه.

الثامن: أنه في دارها، وتحت سلطانها وقهرها، بحيث يخشى، إن لم يطاوعها، من أذاها له، فاجتمع داعي الرغبة والرهبة.

التاسع: أنه لا يخشى أن تنمى عليه هي، ولا أحد من جهتها، فإنها هي الطالبة والراغبة، وقد غلقت الأبواب، وغيبت الرقباء.

العاشر: أنه كان مملوكا لها في الدار، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها، ولا ينكر عليه، وكان الأنس سابقا على الطلب، وهو من أقوى الدواعي، كما قيل لامرأة من العرب: ما حملك على كذا؟ قالت: قرب الوساد، وطول السواد. تعني: قرب وساد الرجل من وسادتي، وطول السواد بيننا.

الحادي عشر: أنها استعانت عليه بأئمة المكر والاحتيال، فأرته إياهن، وشكت [ ص: 3557 ] حالها إليهن; لتستعين بهن عليه، فاستعان هو بالله عليهن، فقال: وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين

الثاني عشر: أنها توعدته بالسجن والصغار، وهذا نوع إكراه; إذ هو تهديد ممن يغلب على الظن وقوع ما هدد به، فيجتمع داعي الشهوة، وداعي السلامة، من ضيق السجن والصغار.

الثالث عشر: إن الزوج لم يظهر من الغيرة والقوة ما يفرق به بينهما، ويبعد كلا منهما عن صاحبه، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف: " أعرض عن هذا " ، وللمرأة: /" استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين " ، وشدة الغيرة للرجل من أقوى الموانع، وهنا لم يظهر منه غيرة.

ومع هذه الدواعي فآثر مرضاة الله وخوفه، وحمله حبه لله على أن اختار السجن على الزنى، فقال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه، وأن ربه تعالى إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه، وكان من الجاهلين، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه، وفي هذه القصة من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة. انتهى كلام ابن القيم.

ثم أشار تعالى إلى ما امتن به على يوسف من رفع قدره بصبره، وإعلاء منزلته برحمته بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 54 ] وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين

وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي أي أخصه بها، دون العزيز، جريا على عادة الملوك من الاستئثار بالنفيس العزيز. قال ذلك لما تحقق براءته مما نسب إليه، وكرم [ ص: 3558 ] نفسه، وسعة علمه: فلما كلمه أي فلما أتوا به وكلمه، أي خاطبه الملك وعرفه، وشاهد فضله وحكمته وبراءته -وجوز أن يكون فاعل (كلمه) يوسف عليه السلام -: قال إنك اليوم لدينا مكين أي ذو مكانة ومنزل أمين أي مؤتمن على كل شيء.

روي أن يوسف عليه السلام لما حضر الملك، وعبر له رؤياه ابتهج بحديثه هو وخاصته، وقال لهم: هل نجد مثله رجلا مهبطا للإمداد الرباني؟ وقال ليوسف: بعد أن عرفك الله هذا فلا يكون حكيم مثلك، وأنت على بيتي، وإلى كلمتك تنقاد رعيتي، ولا أكون أعظم منك إلا بعرشي، وقد أقمتك على جميع أرض مصر. ونزع خاتمه من يده، ووضعه في إصبعه، وألبسه ثياب بز، وجعل طوقا من ذهب في عنقه وأركبه مركبته، وأمر أن يطاف به في شوارع مصر، وينادى أمامه بالخضوع له، وقال له الملك: لا يمضي أمر، ولا ينفذ شأن في مصر إلا برأيك ومشورتك، وسماه مخلص العالم، وزوجه بنت أحد العظماء لديه. وكان يوسف وقتئذ ابن ثلاثين سنة -والله أعلم-.

قال بعضهم: إن من أمعن النظر في قصة يوسف عليه السلام، علم يقينا أن التقي الأمين لا يضيع الله سعيه، بل يحسن عاقبته، ويعلي منزلته في الدنيا والآخرة، وأن المعتصم بالصبر لا يخشى حدثان الدهر وتجاربه، ولا يخاف صروفه ونوائبه، فإن الله يعضده وينجح مسعاه ويخلد ذكره العاطر على ممر الأدهار. فإن يوسف عليه السلام لما لم يخش للنوائب وعيدا ولا للتجارب تهديدا. ولم يخف للسجن ظلما وشرا، ولا للتنكيل به ألما وضرا، بل ألقى توكله على الرب، وصبر إزاء تلك البلية ثابت القلب; نال بطهارته وتقواه تاج الفخر ولسان الصدق طول أيام الدهر. وها إن فضيلته لم يعف جميل ذكراها مرور الأيام، ولم يعبث بنضارتها كرور الأعوام، بل ادخرت لنا مثالا نقتفي أثره عند طروء التجارب، وملاذا نعوذ به في المحن والمصائب، ومقتدى نتدرب به على التثبت في مواقف العثار، وننهج منهاجه في التقوى وطيب الإزار. فننال في الدنيا سمة المجد، ونفوز في الآخرة بدار الخلد.

وقوله تعالى:
[ ص: 3559 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 55 ] قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم

قال أي يوسف للملك اجعلني على خزائن الأرض أي ولني خزائن أرضك. يعني جميع الغلات لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها، فيتصرف لهم على الوجه الأرشد والأصلح، ثم بين اقتداره في ذلك فقال: إني حفيظ عليم أي أمين أحفظ ما تستحفظنيه، عالم بوجوه التصرف فيه.

قال الزمخشري: وصف نفسه بالأمانة والكفاية اللتين هم طلبة الملوك ممن يولونه.

وإنما قال ذلك ليتوصل إلى إمضاء أحكام الله تعالى، وإقامة الحق، وبسط العدل. والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك، فطلب التولية ابتغاء وجه الله، لا لحب الملك والدنيا.

فإن قلت: كيف جاز أن يتولى عملا من يد كافر، ويكون تبعا له، وتحت أمره وطاعته؟.

قلت: روى مجاهد أنه كان قد أسلم، وعن قتادة هو دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسان عملا من يد سلطان جائر. وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة البغاة ويرونه. وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكين الملك الكافر أو الفاسق، فله أن يستظهر به.

وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه، ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع له والمطيع. انتهى.

وهذه الآية أصل في طلب الولاية كالقضاء ونحوه، لمن وثق من نفسه بالقيام بحقوقه، وجواز التولية عن الكافر والظالم. وأصل في جواز مدح الإنسان نفسه لمصلحته، وفي أن المتولي أمرا; شرطه أن يكون عالما به، خبيرا، ذكي الفطنة. كذا في (الإكليل).

قال أبو السعود: وإنما لم يذكر إجابة الملك إلى ما سأله، عليه السلام، من جعله على [ ص: 3560 ] خزائن الأرض، إيذانا بأن ذلك أمر لا مرد له، غني عن التصريح، ولا سيما بعد تقديم ما يندرج تحته من أحكام السلطنة بحذافيرها، من قوله: إنك اليوم لدينا مكين أمين وللتنبيه على أن كل ذلك من الله عز وجل، وإنما الملك آلة في ذلك.

تنبيه:

قال ابن كثير: خزائن الأرض هي الأهرام التي يجمع فيها الغلات..... إلخ.

ولم أر الآن مستنده في كون الأهرام كانت مجمع الغلات، ولم أقف عليه في كلام غيره.

و (الأهرام) بفتح الهمزة، جمع هرم بفتحتين، وهي مبان مربعة الدوائر، مخروطية الشكل، بقي منها الآن ثلاثة في الجيزة، بعيدة أميالا عن القاهرة، معدودة من غرائب الدنيا، دعيت لرؤياها أيام رحلتي للديار المصرية عام 1321 هـ. وقد استقر رأي المتأخرين في تحقيق شأنها على أنها كانت مدافن لملوكهم.

ففي كتاب (الأثر الجليل لقدماء وادي النيل): جميع الأهرام ليست إلا مقابر ملوكية آثر أصحابها أن يتميزوا بها بعد موتهم عن سائر الناس، كما تميزوا عنهم مدة حياتهم، وتوخوا أن يبقى ذكرهم بسببها على تطاول الدهور، وتراخي العصور، وقد أجمع مؤرخو هذا العصر على أن الهرم الأكبر قبر للملك (خوفو) والثاني (خفرع) والثالث للملك (منقرع) وجميعهم من العائلة المنفيسية. ولا عبرة بقول من زعم أنها معابد أو مراصد للكواكب، أو مدرسة للمعارف الكهنوتية، أو غير ذلك. انتهى.

وقوله تعالى:




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 48.75 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 48.13 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.29%)]