شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب البيع)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (272)
صـــــ(1) إلى صــ(16)
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [5]
من شروط صحة البيع: أن تكون العين مباحة المنفعة، فلا يجوز بيع الأعيان النجسة؛ لأنها محرمة الانتفاع، ومن الأعيان النجسة: السرجين أو ما يسمى بالسماد النجس، فقد ذهب جمهور العلماء إلى حرمة بيعه، ومنها: الأدهان والزيوت النجسة، فإنه يحرم كذلك بيعها وشراؤها.
ومن شروط صحة البيع: أن يكون البيع من مالك أو من يقوم مقامه، فمن باع أو اشترى شيئاً ليس في ملكه، فلا يصح منه ذلك ولا يتم حتى يجيزه المالك الحقيقي
الأشياء التي لا يجوز بيعها
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله تعالى في معرض بيانه للأعيان المحرمة البيع: [إلاّ الكلب والحشرات والمصحف والميتة والسرجين النجس].
ما زال المصنف رحمه الله في معرض بيانه لما لا يحلُّ بيعه، وهي الأعيان التي حكم الشرع بعدم جواز بيعها، فلا ثمن لها، فيكون إعطاء المال في مقابلها في البيع من باب أكل المال بالباطل؛ لأن الأصل في البيع أن يُدفع الثمن لقاء شيء له قيمة، فإذا كانت العين مما لا قيمة له في الشرع، فإنه حينئذٍ يكون دفع المال في مقابلها من الباطل
الأعيان النجسة
ذكر العلماء رحمهم الله أن الأصل في الأعيان النجسة عدم جواز بيعها، فلا يجوز بيع البول، ولا يجوز بيع العذرة -عذرة الإنسان النجسة- وهكذا في فضلات الحيوان النجسة.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن النجاسات، كما في الصحيح: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الدم)، والدم نجس لقوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام:145]، وفي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام)، قال العلماء رحمهم الله: إن هذا الحديث اشتمل على أربعة أعيان نجسة: إمّا نجاسة حسية، وإمّا نجاسة معنوية، وإمّا نجاسة الحس والمعنى معاً، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النجس من الحيوانات الحية: الخنزير، والنجس من الحيوانات الميتة وهي الميتة، حتى تقاس النجاسات من الحيوانات الحية على الخنزير، والنجس من الحيوانات الميتة تتبعه لأصل الميتة، ويقاس الجماد النجس المعنوي على الأصنام، ويقاس المائع من النجاسات على الخمر، وعلى هذا قال غير واحد من العلماء: حديث جابر هذا أصل في تحريم بيع الأعيان النجسة، والنجس حرمه الله على العباد، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله إذا حرم على قوم شيئاً حرم عليهم ثمنه)، وقد حرم الله النجاسات؛ فيحرم أخذ المال لقاءها.
والمبيع من حيث الأصل العام -حتى تكون الصورة واضحة- إما أن يكون طاهراً، وإما أن يكون نجساً، فالمبيعات الطاهرة من حيث الأصل جواز بيعها، والمبيعات النجسة من حيث الأصل عدم جواز بيعها، ويبقى شيء يُسمى: المتنجس.
فالنجس هو أن يكون نجس العين، مثل: الشحم المستخلص من الميتة، فإنه نجس العين، ونجس العين لا تستطيع تطهيره، فأصل عينه نجسة، فالخنزير لو غسلته مائة مرة فإنه سيبقى نجساً، فحينئذٍ يقال: نجس العين؛ لكن المتنجس تكون عينه في الأصل طاهرة ودخلت النجاسة عليه عارضة، بحيث يمكنك أن تزيلها، كثوب وقع عليه بول أو وقع عليه دم نجس فإنه حينئذ ثوب متنجس، انتقل عن أصله لعارضٍ وهو التنجس.
فأمّا بالنسبة للزيوت والشحوم والأدهان فمنها ما هو طاهر كالإلية، فإنك إذا ذبحت كبشاً وذكيته فإنّ جميع ما فيه طاهر؛ لأن التذكية تجعله حلالاً وطاهراً، فحينئذٍ لو أخذت الإلية وأذبت شحمها فنقول: هذا دُهنٌ طاهر، أما لو مات الكبش أو الضأن وأُخذت إليته وأُذيبت فنقول: هذا شحم نجس أو دهن نجس.
إذاً: هناك ما هو نجس العين، وهناك ما هو متنجس، والمتنجس يمكن تطهيره
السرجين وأنواعه
يقول المصنف رحمه الله: (والسرجين)، وهو السماد، والسماد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: السماد الطاهر، وهو فضلة ما يؤكل لحمه، على أصحِّ قولي العلماء، كما هو مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة من حيث الجملة؛ لأن فضلة ما يؤكل لحمه -كالإبل، والبقر، والغنم، والطيور غير الجارحة- طاهرة، فلو أن إنساناً جمع زريبة من روث أو فضلة الإبل أو البقر أو الغنم فإنها طاهرة من حيث الأصل، فنقول: هذا سماد طاهر، والدليل على طهارته عدة أدلة: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر العُرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل، وهي فضلة الإبل، فلو كان البول نجساً لما أمرهم أن يشربوه؛ لأن الله لم يجعل شفاء الأمة فيما حَرَّمَ عليها.
ثانياً: الإذن بالصلاة في مرابض الغنم، وهذا ثابت وصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت فضلة الغنم نجسة لما أذن بالصلاة فيها، وأما المنع من الصلاة في معاطن الإبل فهو لحكمة أخرى -كما نبهنا عليه في باب الصلاة- وذلك لأنها مواضع الشياطين.
وقد وصلى على بعيره، ومن المعلوم أن البعير ربما بال فلطخ ببوله فخذه وساقه، ومع ذلك صلى عليه، وطاف عليه، فدلَّ ذلك على طهارة فضلة ما يؤكل لحمه، وإنما خُصَّ البعير لأن البعير من حيث الأصل مما يؤكل لحمه، فقالوا: ما يؤكل لحمه فضلته طاهرة، وهذا يشمل الطيور كالعصافير والحمام وغيرها.
والسماد الذي يؤخذ من الحمام تستصلح به الحمضيات كأشجار الليمون، فإنه إذا وضع لها (ذرق) الحمام تنفع وتصلح بإذن الله عز وجل، فهذا سمادٌ طاهر.
وكذلك يؤخذ روث البقر لاستصلاح النخل، وهو من أفضل ما يكون لاستصلاح النخل.
والسماد الطاهر يجوز بيعه، فلو أن رجلاً عنده زريبة غنم وجاءه من يريد شراء ما فيها من الروث سماداً، فما حكم هذا البيع؟ نقول: السماد طاهر مقصود لمنفعة مباحة، وهي استصلاح الزرع، ومأذون بها شرعاً؛ بل ومقصودة شرعاً، فيجوز البيع إذا كان مستوفياً للشروط الأخرى المعتبرة في البيع.
وعلى هذا: فبيع السماد الطاهر جائز ولا بأس به؛ لأنه عينٌ مباحة، ومنفعتها مباحة ومقصودة شرعاً
حكم بيع السماد النجس
القسم الثاني: السماد النجس، وهو يشمل فضلة الآدمي من بوله وعذرته، وكذلك يشمل فضلة الحيوان غير مأكول اللحم؛ كالحمر الأهلية ونحوها، ولذلك لما أتى عبد الله بن مسعود للنبي صلى الله عليه وسلم بالروثة -قيل: إنها من الحمر- قال: (إنها ركس)، وعلى هذا يقول العلماء رحمهم الله: إذا كانت الفضلة من غير مأكول اللحم فهي نجسة، لكن هل يجوز أن يباع السماد النجس، أم لا يجوز؟ اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة على قولين: القول الأول: لا يجوز بيع السماد النجس أو الزبل النجس أو الرجيع النجس، والمعنى واحد، وهذا القول هو مذهب المالكية في المشهور، وهو مذهب الشافعية، والحنابلة في المشهور، وهو قول عند الحنفية رحمهم الله؛ لكن المذهب عندهم على الجواز.
القول الثاني: يجوز بيع الزبل النجس والسماد النجس، وهذا هو مذهب الحنفية، وقال به بعض أصحاب الإمام مالك كـ ابن الماجشون.
فالذين قالوا بالتحريم -وهم الجمهور- استدلوا بأدلة: أولاً: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]، قالوا: إن الله حرم علينا أكل المال بالباطل، والباطل هو الذي لا وجه له ولا حقَّ فيه، فإذا كان السماد نجساً فإن النجس لا قيمة له -النجاسة لا قيمة لها- فدفع المال في مقابله يكون من أكل أموال الناس بالباطل.
ثانياً: استدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا حرم على قوم شيئاً حرم عليهم ثمنه)، والسماد نجس حرام فيحرم أكل ثمنه.
ثالثاً: قالوا: إن الأصل عدم جواز بيع النجاسة، والزبل النجس من النجاسات، والأصل في هذا حديث جابر بن عبد الله كما قدمنا.
واستدل الذين قالوا بالجواز بدليلين:
الدليل الأول: الإجماع.
الدليل الثاني: العقل.
أما دليلهم بالإجماع فقالوا: إن الناس من العصور القديمة يتبايعون ويبيعون السماد والزبل النجس، ولم ينكر عليهم أحد، فيكون هذا بمثابة الإجماع.
والدليل الثاني: قالوا: إن الحاجة داعية إلى بيع الزبل النجس، ولو لم نقل بجواز بيعه لكان في ذلك حرجٌ ومشقة، والشريعة لا حرج فيها ولا مشقة، وبناءً على ذلك يجوز بيع الزبل النجس، ومعنى هذا الدليل الذي قرروه بالنظر: أن الزبل النجس يستصلح النبات، وهذا يحتاجه الفلاح، ويحتاجه الناس، أمّا الفلاح فلأنّ إنتاجه ومحصوله لا يصلح إلا بهذا النوع من السماد، وأمّا الناس فإنه إذا تضرر الفلاح وكان نتاج الفلاحة قليلاً؛ فإن هذا سيضر بالسوق وسيضر بالناس، فحينئذٍ يكون في تحريمه حرجٌ ومشقة، والشريعة لا توقع الناس في الحرج.
إذاً القول بعدم الجواز فيه حرج، فيجوز البيع دفعاً للحرج والمشقة، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
والذي يترجح هو القول بعدم جواز بيع الزبل النجس، وذلك لما يلي: أولاً: لصحة ما ذكره أصحاب هذا القول، فإن الأصل عدم جواز بيع النجاسات، وهذا الأصل قرره حديث جابر رضي الله عنه، ولذلك سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شحوم الميتة -وهي متفرعة من الميتة-: (أنه يُطلى بها السفن ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: لا، هو حرام، قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه)، وفي رواية: (فاستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل)، فدلَّ الحديث على أن الشيء النجس لا يجوز بيعه في الأصل.
ثانياً: أما بالنسبة لاستدلالهم بالإجماع، فهذا الإجماع قد رده غير واحد من العلماء، حتى قال الماوردي في كتابه النفيس (الحاوي)، وهو من كتب الخلافيات، بل ومن أوسعها، قال فيه: إن هذا الإجماع إجماع العوام، إنما وقع بفعل الناس وليس بإجماع من يُعتدُّ بقوله ويُعتدُّ بإجماعه؛ لأن الإجماع إنما يكون من المجتهدين وليس من العوام، فالذي يبيعه ويأخذه هم العوام وليس العلماء الذين يُحكم بإجماعهم واجتهادهم.
ثالثاً: استدلالهم بأن فيه حرجاً ومشقة، فيقولون: لو قلنا: لا يجوز بيع السماد النجس لكان فيه حرج ومشقة، هذا يحتاج إلى نظر؛ والسبب في هذا: أن الحرج والمشقة إنما يقعان في حالة عدم وجود البديل؛ لكن عند وجود البديل -وهو الزبل الطاهر وكونه يقوم بسدِّ الحاجة- فإنه حينئذٍ ينتفي قولهم: بأننا مضطرون إليه؛ لأننا نتكلم عن أصل عام؛ والأصل العام هو وجود الزبل النجس والطاهر: فالإبل، والبقر، والغنم، والطيور وغيرها موجودة فضلتها، وهي طاهرة ومباحة، وينتفع بها النبات كما ينتفع بالنجس؛ بل إن الطاهر آمنُ من النجس -كما سنبين إن شاء الله - فإذا وجد البديل -والبديل موجود وهو الزبل الطاهر- فإننا نقول بعدم صحة ما ذكروه من وجود الحاجة؛ لأن الحاجة شرطها: عدم وجود البديل، فالمرأة -مثلاً- إذا وجدت امرأة تقوم بعلاجها وتطبيبها فلا نقول: إنها مضطرة إلى الرجل؛ لأنه مع وجود البديل لا يحكم بالضرورة، ومع وجود البديل لا يحكم بالحاجة إذا سدَّ مسده.
رابعاً: أن الحاجة هنا حاجة كمال، فإن الزبل النجس والرجيع النجس والسماد النجس فيه مضرة أعظم من منفعته، وهذا ثابت، فقد ثبت الآن طبيّاً وجود الأمراض والأضرار من اغتذاء النبات به؛ بل إن المذهب الصحيح من أقوال العلماء: عدم جواز أكل النبات المستصلح من النجس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح: (أنه نهى عن أكل الجلالة)، والآدمي قوته على دفع الضرر أكثر من قوة النبات، ومن المعلوم أنه لو وضع الزبل النجس سماداً للكراث والفجل، فإنه يغتذي منه مباشرة، وكذلك نحوه من المزروعات، فهذه من أعظم ما يكون، حتى ثبت طبيّاً الآن أنها من أعظم ما تكون ضرراً على صحة الناس، وأكثر ما ينشأ فيها من الأمراض مظنة العدوى -والعياذ بالله-، فحينئذٍ نقول: إنه لو لم يحرم بوجود الدليل لحرم لوجود الضرر، والمصلحة والحاجة التي تطلب إنما هي مصلحة كمال وحاجة كمال، وقولنا: (مصلحة الكمال) أي أن هذا النبات يكون بصورة أو بشكل أفضل، لكنه من حيث المضمون -لوجود الضرر فيه- أسوأ وأردأ من الطاهر، وعلى هذا نقول: إنها ليست بحاجة ضرورة، ولكنها حاجة كمال، وفرقٌ بين حاجة الضرورة الموجبة للترخيص، وبين حاجة الكمال التي لا توجب رخصة، خاصة مع وجود البديل.
فالذي يترجح هو: عدم جواز بيع الزبل النجس.
ومسألة الجلالة يقول بعض العلماء -حينما جاءت مسألة بيع النباتات أو اغتذاء النباتات بالنجاسات-: إنّ الجلالة -كالبقرة أو الشاة أو الدجاجة- تتغذى بالنجاسات وتأكل النجاسات، فحينئذٍ تتضرر وتتأثر بهذه النجاسات، ومع أنّ في جسم الإنسان من القوة على دفع الضرر أكثر من النبات -وهذا ثابتٌ طبياً: أن قوة جسم الآدمي على دفع السموم أقوى من غيره؛ وذلك لما خلق الله فيه وفضَّله على كثير ممن خلق، فجعل فيه خاصية أقوى من غيره- فمع هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة حتى تحبس ويطيب لحمها بالمباح، فهذا يدل على التأثر بالاغتذاء بالنجس، وإذا كان هذا في البهيمة مع أنها أقدر على الدفع وقلة التأثر أكثر من الزروع التي تكون على وجه الأرض؛ فمن باب أولى ما هو دونها، وعليه: فإنه لا يجوز بيع الزبل النجس ولا شراؤه؛ وذلك لأن الأصل الموجب للتحريم يقتضي منع هذا النوع من البيع، وليس ثمَّ دليلٌ يوجب الترخيص
أنواع الأدهان والزيوت وأحكام بيعها
قال رحمه الله: [والأدهان النجسة والمتنجسة].
الأدهان: جمع دهن، وهو يشمل الزيوت والطيب وغيرها، فمثلاً: السمن نقول: هو دهن؛ لأنه يمكن أن يكون طعاماً، ويمكن أن يدهن به الإنسان، وكذلك زيت الزيتون، وزيت الذرة، وزيت السمسم، فكل هذه تسمى بالأدهان.
والأدهان تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أدهان طاهرة.
القسم الثاني: أدهان غير طاهرة.
فالأدهان الطاهرة: كزيت الزيتون، وزيت السمسم، وزيت الذرة، وغيرها من الزيوت الطاهرة.
والزيت غير الطاهر ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: زيتٌ نجس.
القسم الثاني: زيتٌ متنجس.
أمّا الزيت النجس فهو الذي يستخلص من عين نجسة، مثل: الزيت الذي يؤخذ من شحوم الميتة؛ فإنه زيتٌ نجس، أي: عينه نجسة، فمهما غسلته ومهما فعلت به فلا يمكن أن يطهر.
وأما الزيت المتنجس، فأصله طاهر، كزيت الزيتون مثلاً؛ ولكن وقعت فيه نجاسة كقطرات بولٍ، فحينئذٍ يتنجس، ومن هنا حكمنا بتنجسه.
أمّا بالنسبة للزيت الطاهر فلا إشكال في جواز بيعه، والزيت النجس لا إشكال في حرمة بيعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن شحوم الميتة وذكروا له: (أنه يُطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، قال: لا، هو حرام)، أي: بيعها؛ لأن أصل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ الله ورسوله حرم بيع الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام، قالوا: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنه يُطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟! قال: لا، هو حرام).
وقد اختلف العلماء في قوله: (لا، هو حرام) هل الضمير عائد على طلي السفن ودهن الجلود والاستصباح بها -لأن السفن تمشي على البحار والأنهار، فوجود الزيت يدفع عنها الماء، ولذلك لا يتشرب الخشب للماء- فحينئذٍ يحرم أن يُطلى بها، ويحرم أن يدهن بها، ويحرم أن يستصبح بها، أم أن الضمير في قوله: (لا هو حرام) عائد على البيع؛ لأن أصل الحديث: (إن الله ورسوله حرم بيع الميتة)، فسألوه عن شحوم الميتة وقالوا: إن فيها منفعة، فهل يجوز بيعها؟ والقاعدة: (أن السياق والسباق محكم)، وسياق الحديث وسباقه كان في الكلام على البيع، فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن شحوم الميتة من جهة بيعها من أجل الطلاء والدهن والاستصباح فقال: (لا، هو حرام)، وهذا أقوى، وهو أنه عائدٌ على البيع، ومن هنا يعتبر الحديث أصلاً في تحريم بيع الزيت النجس، وأما الزيت المتنجس ففيه تفصيل سنذكره
حكم الزيوت المشتقة من البترول
إذاً: الزيوت المستخلصة من الميتة نجسة، لكن يبقى الكلام عن مسألة عارضة الآن يكثر الكلام حولها، وهي: مسألة الزيوت البترولية، وما يشتق من البترول، والسبب الذي جعل بعض طلاب العلم تلتبس عليه هذه المسألة: أنهم كانوا يقولون: إن أصل البترول من الحيوانات القديمة التي ماتت ثم ضغطت بين أطباق الأرض، ثم مع فعل الحرارة وسخونة الأرض تحولت إلى بترول، وهذا القول أنبه على أنه قول أهل الطبيعة الذين لا يؤمنون بوجود الله جل جلاله، كما أخبر الله عز وجل أن الإنسان كفور مبين، وكفره من أكفر ما يكون -نسأل الله السلامة والعافية- فالله تعالى يغدق عليه ويسكن له كنوز الأرض في الأرض، ويعطيها له سهلةً ميسرة ليقول: لا إله إلاّ الله، وليقول: الحمد لله، لكنه يقول: لا، منذ ألف مليون سنة كان يوجد حيوان اسمه (الديناصور)! ألف مليون سنة متى كانت؟! لا يوجد أكذب من الكافر إذا كذب على ربه؛ لأنه كفر بالله فطمس الله على قلبه وعلى بصيرته، ثم هذا (الديناصور) ما لقي أن يتوفى وأن يموت إلَاّ داخل المحيط! وممكن أن تقبل أنه توفي على وجه الأرض؛ لكن ما الذي ذهب به إلى أعماق المحيطات حتى يوجد البترول في أعماق المحيطات -تكذيباً لهم -؟ فهم لا يريدون أن يقولوا: إن الله هو الذي أوجده، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن في الأرض كنوزاً، وأن الله قدر في الأرض أقواتها منذ أن خلقها، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من علامات الساعة أن تخرج الأرض كنوزها)، وهذا يدل على أن الله أوجدها فيها، فنحن لا نقول بما يقوله الكفار، ولكن نقول: إن الذي أوجده هو الله، وهو نعمة من الله سبحانه وتعالى، والله على كل شيء قدير، ولو كان الأمر كما ذكروا وكما زعموا، فإن هذه المقابر الموجودة منذ سنوات عديدة مديدة ما وجدنا تحتها البترول، ولا وجدنا أنها تتحول إلى زيوت ولا إلى طبقات معينة من الأرض، لكن -كما ذكرنا- هو كفرٌ بالله وعدم تسليم بوحدانيته عز وجل، فيردون كل شيء إلى الطبيعة: وهو أن الأشياء وجدت صدفة! وأن الإنسان ينظر إلى هذه الأشياء على أنها أشياء طبيعية.
ومن أجل ذلك نشأ عند البعض شعور بأنه ما دام أن (الديناصور) قد مات فيعتبر ميتة، وشحم الميتة نجس، فمعنى ذلك: أن البترول نجس، وأن كل ما يتولد من البترول نجس، وهذا خطأ، فإن البترول طاهر، وجميع ما يُشتق منه طاهر، سواءٌ كان زيتاً أو كان بنزيناً أو غير ذلك من المشتقات، فهي كلها طاهرة؛ لأن الأصل أنها طاهرة، وليس هناك دليل يدل على نجاستها.
وبناءً على هذا: فلا يدخل في مسألة الزيوت النجسة والمتنجسة ما يشتق من البترول، فهو ليس بنجس ولا متنجس، وبيعه جائز وحلال، وهو مما سخره الله لابن آدم لينتفع ويرتفق به، والحمد لله على فضله، وله الشكر على نعمه، لا نحصي ثناءً عليه، جلَّ جلاله وتقدست أسماؤه، وتعالى الله عما يقول الكافرون علواً عظيماً
أحكام الزيت المتنجس
يبقى النظر في الزيت المتنجس، وفيه مسائل: المسألة الأولى: نحتاج أن نبحث في مسألة: كيف يتنجس الزيت؟ المسألة الثانية: ما هو نوع النجاسة إذا حكمنا بكون الزيت يتنجس؟ المسألة الثالثة: هل يمكن للزيت أن يطهر إذا حكمنا بنجاسته؟ المسألة الأولى: كيف يتنجس الزيت؟ الذي يجعلنا نبحث هذه المسألة أن في الزيت خاصية تختلف عن غيره، فمن الملاحظ أن الزيت إذا وقعت فيه قطرة ماء فإنها لا تدخل في الزيت وتتحلل فيه، بل لو صببت الماء على الزيت لانفصل الماء عن الزيت، وهذا أمر ملموس، فنجد أن للزيت خاصية تدفع ولا تمكّن غيره من الامتزاج به، ومن هنا قسّم العلماء وقوع النجاسة في الأشياء إلى قسمين: القسم الأول: أن تقع النجاسة فتتحلل في الشيء، كنجاسة الماء والخل والمرقة ونحوها من المائعات، فإن الماء إذا وقعت فيه قطرة البول انتشرت فيه وتحللت، فحينئذٍ يقولون: إن نجاسته نجاسة ممازجة، أي: امتزج الماء مع البول، وهذا أقوى صور التنجيس، ويتأثر الشيء الطاهر بوقوع النجاسة فيه على هذا الوجه.
القسم الثاني: نجاسة المجاورة، وتكون هذه النجاسة بجوار الطاهر، وهي تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: إمّا أن تلتصق به.
القسم الثاني: وإمّا أن تكون بجواره فقط، وتأتي الريح فتنقل رائحة النجاسة، فمثلاً: غدير الماء حينما يكون بجواره ميتة؛ كبعير أو بقرة أو شاة، فيأتي الهواء فينقل رائحة النجاسة إلى الغدير، فحينئذٍ يتنجس الغدير بالرائحة، أو ينقل أجزاءها فتقع في الغدير، إذاً: المجاور ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: مجاور ملتصق.
القسم الثاني: مجاور غير ملتصق.
فالمجاور الذي لا يلتصق بالماء لا يضر مطلقاً، لكن إذا التصق به ولم يكن متحللاً، وغير اللون أو الطعم، فإنه يؤثر وجهاً واحداً، وأما إذا غير الرائحة ففيه خلاف؛ لكن الصحيح عند طائفة من العلماء أنه يؤثر، وإلى ذلك أشار بعض العلماء بقوله: ليْسَ المجاَوِرُ إِذَا لَمْ يِلْتَصِقْ يَضَرُّ مُطْلَقَاً وَضَرَّ إِنْ لَصِقْ فِي اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ بِالاتِّفَاقِ كَالرِّيْحِ فِيْ مُعْتَمَدِ الشِّقَاقِ نرجع إلى مسألة الزيت إذا وقعت فيه نجاسة: فيقولون: إنها نجاسة مجاورة ملاصقة؛ لأنها وقعت في داخل الزيت، لكنها لا تتحلل ولا تنتشر، فاختلف العلماء رحمهم الله في هذا النوع من النجاسة، وقد قلنا: إن الزيت تنجس، وحكمنا بأن نجاسته نجاسة مجاورة، وليست بنجاسة ممازجة ومخالطة.
يبقى السؤال الثالث والأخير وهو الذي عليه مدار المسألة التي سنذكرها في البيع وهي: إذا تنجس الزيت فهل يمكن تطهيره، أو لا يمكن تطهيره؟ قال بعض العلماء: إذا تنجس الزيت فلا يمكن تطهيره، وعند هؤلاء تنتقل المسألة إلى المسألة الأولى وهي بيع الزيت النجس، فعندهم أن النجس والمتنجس حكمه واحد؛ لأنهم يرون أن الزيت إذا تنجس فلا يمكن تطهيره، وهذا هو القول الأول.
القول الثاني: أن الزيت إذا تنجس فإنه يمكن تطهيره، ولتطهيره طريقتان: الطريقة الأولى: يسموها: طريقة الطبخ.
الطريقة الثانية: يسمونها: طريقة الغسل.
فأمّا طريقة الطبخ فهي أن توقد النار تحت الزيت فيغلي، وإذا غلى فإنه تتبخر النجاسة ويبقى الزيت، فإذا وقع فيه البول وغلي غلياناً شديداً فإنه يتبخر البول لخاصية في الزيت، ولو ترسب شيء قليل لكنه لا يؤثر، خاصة إذا كان الزيت كثيراً، فيقولون: إنه يحكم بطهارته في هذه الحالة.
الحالة الثانية: أن يغسل الزيت،
و
السؤال
كيف يغسل الزيت؟ أو كيف يمكن غسل الزيت؟ هل يعصر، أم يوضع في خلاطة؟ وهذا يحتاج إلى نظر، فقد قال بعض العلماء: غسل الزيت المراد به طهارة المكاثرة، فمثلاً: إذا وقعت قطرة من البول في الزيت، فتصب عليه ماءً طهوراً أضعاف أضعاف القطرة من البول، بحيث لو خالط ذلك الماء البول فإنه يذهب عنه وصفه بالنجاسة، وتطهر النجاسة بهذا الماء؛ لأنها ستختلط مع الماء، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم صبّ على بول الأعرابي ذنوباً من ماء، وقد كان البول قليلاً والماء كثيراً، فلما ورد الكثير من الماء على القليل من النجاسة طهرت النجاسة، فحينئذٍ قالوا: إذا كان في الوعاء قطرة من البول، فيأخذ (فنجاناً) مثلاً من الماء الطهور ويصبه، فيختلط مع النجاسة، فتصبح النجاسة منعدمة التأثير، ثم بعد ذلك تسحب بطريقة عند المختصين، فيسحبون الماء بالنجاسة، وحينئذٍ يبقى الزيت طاهراً على أصله.
لكن لماذا ذكرنا هذه المسألة هنا مع أنها من مسائل الطهارة؟ ذكرنا هذه المسألة؛ لأن الصحيح أن الزيت إذا وقعت فيه النجاسة، وكانت نجاسته ليست عينية مثل زيت الميتات؛ فإنه يمكننا أن نطهره، فحينئذٍ لو باع رجلٌ زيتاً متنجساً فإنه يمكنه أن يزيل هذه النجاسة، فيصبح في حكم من باع ثوباً متنجساً، والمتنجس ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أن يمكن تطهيره.
القسم الثاني: ألَاّ يمكن تطهيره.
والذي يمكن تطهيره مثل الثوب، فلو جاء شخص وفي ثوبه دم نجس أو قطرة من البول، وقال: سأبيع هذا الثوب بعشرة ولكن فيه نجاسة، فنقول: بالإجماع أن البيع صحيح؛ لأن هذه النجاسة يمكن إزالتها، فليست مؤثرة في بيع الثوب، وليس هذا من باب بيع النجاسات؛ لأن العين طاهرة، ومن هنا فإذا قلنا: إن الزيت لا يتطهر، فلا يدخل في هذا؛ لأنه من باب بيع الأعيان النجسة؛ لكن إذا كان الزيت يمكن تطهيره بالطبخ وبالغسل، فحينئذٍ من باع زيتاً متنجساً، فإنه كمن باع ثوباً متنجساً، فكما أنه يأخذ الثوب ويغسله، كذلك يأخذ الزيت ويغسله، ومن هنا يقوى القول بأنه يجوز بيع الزيت المتنجس.
والذي لا يمكن تطهيره ببقاء عينه مثل السكر، فلو أن السكر وقع عليه بول وتنجس، فإنه لا يمكن تطهيره؛ لأنه إذا صُبَّ عليه الماء ذاب، فلا يمكن تطهيره ببقاء عين السكر؛ لكن لو أنه أخذ ماءً كثيراً وصبه على السكر حتى تحلل، بحيث صار الماء أضعاف النجاسة الموجودة في السكر؛ فإنه يكون طاهراً، لكن أن تبقى عين السكر فلا يمكن.
إذاً: هناك شيء يمكن تطهيره مع بقاء عينه، وهناك شيء لا يمكن تطهيره إلاّ بذهاب عينه، فبالنسبة للزيت يمكن تطهيره مع بقاء عينه مثل الثوب، وعليه فإنه يجوز بيع الزيت المتنجس؛ لكن بشرط: أن يُبين أنه متنجس، ولذلك نقل ابن رشد عن القائلين بجواز بيع الزيت المتنجس في البداية فقال: وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه -أي: الزيت المتنجس- إذا بيّن، أي: قال للمشتري: إنه نجس؛ والسبب في هذا: أن الزيت يؤكل ويدّهن به، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (كلوا الزيت وادّهنوا به، فإنه من شجرة مباركة)، فلو أخذه وهو متنجس، فإنه مظنة أن يدهن به فيتنجس، ومظنة أن يأكله وهو متنجس، ولا يجوز أكل المتنجس، ومن هنا قال العلماء: شرط جواز بيعه إذا بيّن البائع للمشتري أنه متنجس
يتبع