عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 20-03-2023, 11:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,416
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 275 الى صــ 282
الحلقة (297)


الموفية عشرين : قوله تعالى : ثمنا قال الكوفيون : المعنى ذا ثمن أي : سلعة ذا ثمن ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، وعندنا وعند كثير من العلماء أن الثمن قد يكون هو ويكون السلعة ; فإن الثمن عندنا مشترى كما أن المثمون مشترى ; فكل واحد من المبيعين ثمنا ومثمونا كان البيع دائرا على عرض ونقد ، أو على عرضين ، أو على نقدين ; وعلى هذا الأصل تنبني مسألة : إذا أفلس المبتاع ووجد البائع متاعه هل يكون أولى به ؟ قال أبو حنيفة : لا يكون أولى به ; وبناه على هذا الأصل ، وقال : يكون صاحبها أسوة الغرماء ، وقال مالك : هو أحق بها في الفلس دون الموت ، وقال الشافعي : صاحبها أحق بها في الفلس والموت . تمسك أبو حنيفة بما ذكرنا ، وبأن الأصل الكلي أن الدين في ذمة المفلس والميت ، وما بأيديهما محل للوفاء ; فيشترك جميع الغرماء فيه بقدر رءوس أموالهم ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أعيان السلع موجودة أو لا ، إذ قد خرجت عن ملك بائعها ووجبت أثمانها لهم في الذمة بالإجماع ، [ ص: 275 ] فلا يكون لهم إلا أثمانها أو ما وجد منها . وخصص مالك والشافعي هذه القاعدة بأخبار رويت في هذا الباب رواها الأئمة أبو داود وغيره .

الحادية والعشرون : قوله تعالى : ولا نكتم شهادة الله أي : ما أعلمنا الله من الشهادة ، وفيها سبع قراءات من أرادها وجدها في ( التحصيل ) وغيره .

الثانية والعشرون : قوله تعالى : فإن عثر على أنهما استحقا إثما قال عمر : هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام ، وقال الزجاج : أصعب ما في القرآن من الإعراب قوله : من الذين استحق عليهم الأوليان . عثر على كذا أي اطلع عليه ; يقال : عثرت منه على خيانة أي اطلعت ، وأعثرت غيري عليه ، ومنه قوله تعالى : وكذلك أعثرنا عليهم ; لأنهم كانوا يطلبونهم وقد خفي عليهم موضعهم ، وأصل العثور الوقوع والسقوط على الشيء ; ومنه قولهم : عثر الرجل يعثر عثورا إذا وقعت إصبعه بشيء صدمته ، وعثرت إصبع فلان بكذا إذا صدمته فأصابته ووقعت عليه ، وعثر الفرس عثارا ; قال الأعشى :


بذات لوث عفرناة إذا عثرت فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا
والعثير الغبار الساطع ; لأنه يقع على الوجه ، والعثير الأثر الخفي لأنه يوقع عليه من خفاء ، والضمير في أنهما يعود على الوصيين اللذين ذكرا في قوله عز وجل : اثنان عن سعيد بن جبير ، وقيل : على الشاهدين ; عن ابن عباس . و ( استحقا ) أي استوجبا إثما يعني بالخيانة ، وأخذهما ما ليس لهما ، أو باليمين الكاذبة أو بالشهادة الباطلة ، وقال أبو علي : الإثم هنا اسم الشيء المأخوذ ; لأن آخذه بأخذه آثم ، فسمي إثما كما سمي ما يؤخذ بغير حق مظلمة ، وقال سيبويه : المظلمة اسم ما أخذ منك ; فكذلك سمي هذا المأخوذ باسم المصدر وهو الجام .

الثالثة والعشرون : قوله تعالى : فآخران يقومان مقامهما يعني في الأيمان أو في الشهادة ; وقال آخران بحسب أن الورثة كانا اثنين . وارتفع ( آخران ) بفعل مضمر . ( يقومان ) في موضع نعت . ( مقامهما ) مصدر ، وتقديره : مقاما مثل مقامهما ، ثم أقيم النعت مقام المنعوت ، والمضاف مقام المضاف إليه .

الرابعة والعشرون : قوله تعالى : من الذين استحق عليهم الأوليان قال ابن السري : [ ص: 276 ] المعنى استحق عليهم الإيصاء ; قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل فيه ; لأنه لا يجعل حرف بدلا من حرف ; واختاره ابن العربي ; وأيضا فإن التفسير عليه ; لأن المعنى عند أهل التفسير : من الذين استحقت عليهم الوصية . و ( الأوليان ) بدل من قوله : فآخران قاله ابن السري ، واختاره النحاس وهو بدل المعرفة من النكرة وإبدال المعرفة من النكرة جائز ، وقيل : النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد ذكرها صارت معرفة ; كقوله تعالى : كمشكاة فيها مصباح ثم قال : المصباح في زجاجة ثم قال : الزجاجة ، وقيل : وهو بدل من الضمير في يقومان كأنه قال : فيقوم الأوليان أو خبر ابتداء محذوف ; التقدير : فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان ، وقال ابن عيسى : " الأوليان " مفعول " استحق " على حذف المضاف ; أي استحق فيهم وبسببهم إثم الأوليين فعليهم بمعنى فيهم مثل على ملك سليمان أي : في ملك سليمان ، وقال الشاعر :


متى ما تنكروها تعرفوها على أقطارها علق نفيث
أي : في أقطارها ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة " الأولين " جمع أول على أنه بدل من اللذين أو من الهاء والميم في عليهم وقرأ حفص : استحق بفتح التاء والحاء ، وروي عن أبي بن كعب ، وفاعله الأوليان والمفعول محذوف ، والتقدير : من الذين استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها ، وقيل : استحق عليهم الأوليان رد الأيمان ، وروي عن الحسن : " الأولان " وعن ابن سيرين : " الأولين " قال النحاس : والقراءتان لحن ; لا يقال في مثنى ; مثنان ، غير أنه قد روي عن الحسن " الأولان " .

الخامسة والعشرون : قوله تعالى : فيقسمان بالله أي : يحلفان الآخران اللذان يقومان مقام الشاهدين ( أن الذي قال صاحبنا في وصيته حق ، وأن المال الذي وصى به إليكما كان أكثر مما أتيتمانا به وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه وكتبه في وصيته ، وأنكما خنتما ) فذلك قوله : لشهادتنا أحق من شهادتهما أي : يميننا أحق من يمينهما ; فصح أن الشهادة قد تكون بمعنى اليمين ، ومنه قوله تعالى : فشهادة أحدهم أربع شهادات . وقد روى معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال : قام رجلان من أولياء الميت فحلفا . [ ص: 277 ] لشهادتنا أحق ابتداء وخبر . وقوله : وما اعتدينا أي : تجاوزنا الحق في قسمنا . إنا إذا لمن الظالمين أي : إن كنا حلفنا على باطل ، وأخذنا ما ليس لنا .

السادسة والعشرون : ذلك أدنى ابتداء وخبر . أن في موضع نصب . ( يأتوا ) نصب ب أن . ( أو يخافوا ) عطف عليه . ( أن ترد ) في موضع نصب ب ( يخافوا ) . أيمان بعد أيمانهم قيل : الضمير في يأتوا ويخافوا راجع إلى الموصى إليهما ; وهو الأليق بمساق الآية ، وقيل : المراد به الناس ، أي : أحرى أن يحذر الناس الخيانة فيشهدوا بالحق خوف الفضيحة في رد اليمين على المدعي ، والله أعلم .

السابعة والعشرون : قوله تعالى : واتقوا الله واسمعوا أمر ; ولذلك حذفت منه النون ، أي اسمعوا ما يقال لكم ، قابلين له متبعين أمر الله فيه . والله لا يهدي القوم الفاسقين فسق يفسق ويفسق إذا خرج من الطاعة إلى المعصية ، وقد تقدم ، والله أعلم .

قوله تعالى : يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب

قوله تعالى : يوم يجمع الله الرسل يقال : ما وجه اتصال هذه الآية بما قبلها ؟ فالجواب : أنه اتصال الزجر عن الإظهار خلاف الإبطان في وصية أو غيرها مما ينبئ أن المجازي عليه عالم به . ويوم ظرف زمان والعامل فيه واسمعوا أي : واسمعوا خبر يوم ، وقيل : التقدير واتقوا يوم يجمع الله الرسل عن الزجاج ، وقيل : التقدير اذكروا أو احذروا يوم القيامة حين يجمع الله الرسل ، والمعنى متقارب ; والمراد التهديد والتخويف . فيقول ماذا أجبتم أي : ما الذي أجابتكم به أممكم ؟ وما الذي رد عليكم قومكم حين دعوتموهم إلى توحيدي ؟ قالوا أي : فيقولون : لا علم لنا واختلف أهل التأويل في المعنى المراد بقولهم : لا علم لنا فقيل : معناه لا علم لنا بباطن ما أجاب به أممنا ; لأن ذلك هو الذي يقع عليه الجزاء ; وهذا مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : المعنى لا علم لنا إلا ما علمتنا ، فحذف ; عن ابن عباس ومجاهد بخلاف ، وقال ابن عباس أيضا : معناه لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا ، وقيل : إنهم يذهلون من هول ذلك ويفزعون من الجواب ، ثم يجيبون بعدما تثوب [ ص: 278 ] إليهم عقولهم فيقولون : لا علم لنا قاله النحاس ومجاهد والسدي . قال النحاس : وهذا لا يصح ; لأن الرسل صلوات الله عليهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

قلت : هذا في أكثر مواطن القيامة ; ففي الخبر ( إن جهنم إذا جيء بها زفرت زفرة فلا يبقى نبي ولا صديق إلا جثا لركبتيه ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خوفني جبريل يوم القيامة حتى أبكاني فقلت يا جبريل ألم يغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ؟ فقال لي : يا محمد لتشهدن من هول ذلك اليوم ما ينسيك المغفرة .

قلت : فإن كان السؤال عند زفرة جهنم - كما قال بعضهم - فقول مجاهد والحسن صحيح ; والله أعلم . قال النحاس : والصحيح في هذا أن المعنى : ماذا أجبتم في السر والعلانية ليكون هذا توبيخا للكفار ; فيقولون : لا علم لنا ; فيكون هذا تكذيبا لمن اتخذ المسيح إلها ، وقال ابن جريج : معنى قوله : ماذا أجبتم ماذا عملوا بعدكم ؟ قالوا : لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب . قال أبو عبيد : ويشبه هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : يرد علي أقوام الحوض فيختلجون فأقول أمتي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، وكسر الغين من الغيوب حمزة والكسائي وأبو بكر ، وضم الباقون . قال الماوردي فإن قيل : فلم سألهم عما هو أعلم به منهم ؟ فعنه جوابان : أحدهما : أنه سألهم ليعلمهم ما لم يعلموا من كفر أممهم ونفاقهم وكذبهم عليهم من بعدهم . الثاني : أنه أراد أن يفضحهم بذلك على رءوس الأشهاد ليكون ذلك نوعا من العقوبة لهم .
قوله تعالى : إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين

قوله تعالى : إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك هذا من صفة يوم [ ص: 279 ] القيامة كأنه قال : اذكر يوم يجمع الله الرسل وإذ يقول الله لعيسى كذا ; قاله المهدوي . و ( عيسى ) يجوز أن يكون في موضع رفع على أن يكون ابن مريم نداء ثانيا ، ويجوز أن يكون في موضع نصب ; لأنه نداء منصوب كما قال :


يا حكم بن المنذر بن الجارود
ولا يجوز الرفع في الثاني إذا كان مضافا إلا عند الطوال .

قوله تعالى : اذكر نعمتي عليك إنما ذكر الله تعالى عيسى نعمته عليه وعلى والدته وإن كان لهما ذاكرا لأمرين : أحدهما : ليتلو على الأمم ما خصهما به من الكرامة ، وميزهما به من علو المنزلة . الثاني : ليؤكد به حجته ، ويرد به جاحده . ثم أخذ في تعديد نعمه فقال : إذ أيدتك يعني قويتك ; مأخوذ من الأيد وهو القوة ، وقد تقدم . وفي روح القدس وجهان : أحدهما : أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها كما تقدم في قوله وروح منه . الثاني : أنه جبريل عليه السلام وهو الأصح ، كما تقدم في " البقرة " . تكلم الناس يعني وتكلم الناس في المهد صبيا ، وفي الكهولة نبيا ، وقد تقدم ما في هذا في ( آل عمران ) فلا معنى لإعادته . كففت معناه دفعت وصرفت بني إسرائيل عنك حين هموا بقتلك إذ جئتهم بالبينات أي الدلالات والمعجزات ، وهي المذكورة في الآية . فقال الذين كفروا يعني الذين لم يؤمنوا بك وجحدوا نبوتك . إن هذا أي المعجزات إلا سحر مبين وقرأ حمزة والكسائي " ساحر " أي : إن هذا الرجل إلا ساحر قوي على السحر .
قوله تعالى : وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون

قوله تعالى : وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قد تقدم القول في معاني هذه الآية ، والوحي في كلام العرب معناه الإلهام ويكون على أقسام : وحي بمعنى إرسال جبريل إلى الرسل عليهم السلام ، ووحي بمعنى الإلهام كما في هذه الآية ; أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم ; ومنه قوله تعالى : وأوحى ربك إلى النحل وأوحينا إلى أم موسى ووحي بمعنى الإعلام في اليقظة والمنام قال أبو عبيدة : أوحيت بمعنى أمرت ، [ ص: 280 ] وإلى صلة يقال : وحى وأوحى بمعنى ; قال الله تعالى : بأن ربك أوحى لها وقال العجاج :


وحى لها القرار فاستقرت بإذنه الأرض وما تعتت
أي : أمرها بالقرار فاستقرت ، وقيل : أوحيت هنا بمعنى أمرتهم وقيل : بينت لهم . واشهد بأننا مسلمون على الأصل ; ومن العرب من يحذف إحدى النونين ; أي : واشهد يا رب ، وقيل : يا عيسى بأننا مسلمون لله .
قوله تعالى : إذ قال الحواريون ياعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين

قوله تعالى : إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم على ما تقدم من الإعراب . هل يستطيع ربك . قراءة الكسائي وعلي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد " هل تستطيع " بالتاء " ربك " بالنصب ، وأدغم الكسائي اللام من هل في التاء ، وقرأ الباقون بالياء ، " ربك " بالرفع ، وهذه القراءة أشكل من الأولى ; فقال السدي : المعنى هل يطيعك ربك إن سألته أن ينزل فيستطيع بمعنى يطيع ; كما قالوا : استجاب بمعنى أجاب ، وكذلك استطاع بمعنى أطاع ، وقيل المعنى : هل يقدر ربك وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل ; ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز : اتقوا الله إن كنتم مؤمنين أي : لا تشكوا في قدرة الله تعالى .

قلت : وهذا فيه نظر ; لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال : من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ، وقال عليه السلام : لكل نبي حواري وحواري الزبير ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاءوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوز وما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم ; فكيف يخفى ذلك على من باطنهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى ؟ إلا أنه يجوز أن يقال : إن ذلك صدر ممن [ ص: 281 ] كان معهم ، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم : اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، وكما قال من قال من قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة على ما يأتي بيانه في " الأعراف " إن شاء الله تعالى ، وقيل : إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين ، وإنما هو كقولك للرجل : هل يستطيع فلان أن يأتي وقد علمت أنه يستطيع ; فالمعنى : هل يفعل ذلك ؟ وهل يجيبني إلى ذلك أم لا ؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك ; كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم : رب أرني كيف تحي الموتى على ما تقدم ، وقد كان إبراهيم علم لذلك علم خبر ونظر ، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة ; لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات ، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك ، ولذلك قال الحواريون : وتطمئن قلوبنا كما قال إبراهيم : ولكن ليطمئن قلبي .

قلت : وهذا تأويل حسن ; وأحسن منه أن ذلك كان من قول من كان مع الحواريين ; على ما يأتي بيانه وقد أدخل ابن العربي المستطيع في أسماء الله تعالى ، وقال : لم يرد به كتاب ولا سنة اسما وقد ورد فعلا ، وذكر قول الحواريين : هل يستطيع ربك ورده عليه ابن الحصار في كتاب شرح السنة له وغيره ; قال ابن الحصار : وقوله سبحانه مخبرا عن الحواريين لعيسى : هل يستطيع ربك ليس بشك في الاستطاعة ، وإنما هو تلطف في السؤال ، وأدب مع الله تعالى ; إذ ليس كل ممكن سبق في علمه وقوعه ولا لكل أحد ، والحواريون هم كانوا خيرة من آمن بعيسى ، فكيف يظن بهم الجهل باقتدار الله تعالى على كل شيء ممكن ؟ ! وأما قراءة " التاء " فقيل المعنى هل تستطيع أن تسأل ربك ، هذا قول عائشة ومجاهد - رضي الله عنهما ; قالت عائشة رضي الله عنها : كان القوم أعلم بالله عز وجل من أن يقولوا هل يستطيع ربك قالت : ولكن " هل تستطيع ربك " ، وروي عنها أيضا أنها قالت : كان الحواريون لا يشكون أن الله يقدر على إنزال مائدة ولكن قالوا : " هل تستطيع ربك " وعن معاذ بن جبل قال : أقرأنا النبي صلى الله عليه وسلم " هل تستطيع ربك " قال معاذ : وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم مرارا يقرأ بالتاء " هل تسطيع ربك " وقال الزجاج : المعنى هل تستدعي طاعة ربك فيما تسأله ، وقيل : هل تستطيع أن تدعو ربك أو تسأله ; والمعنى متقارب ، ولا بد من محذوف ، كما قال : واسأل القرية وعلى قراءة الياء لا يحتاج إلى حذف . قال اتقوا الله أي اتقوا معاصيه وكثرة السؤال ; فإنكم لا [ ص: 282 ] تدرون ما يحل بكم عند اقتراح الآيات ; إذ كان الله عز وجل إنما يفعل الأصلح لعباده . إن كنتم مؤمنين أي : إن كنتم مؤمنين به وبما جئت به فقد جاءكم من الآيات ما فيه غنى .
قوله تعالى : قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين

قوله تعالى : قالوا نريد أن نأكل منها نصب بأن . وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين عطف كله بينوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه ، وفي قولهم : نأكل منها وجهان : أحدهما : أنهم أرادوا الأكل منها للحاجة الداعية إليها ; وذلك أن عيسى عليه السلام كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر ، بعضهم كانوا أصحابه ، وبعضهم كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو علة ، إذ كانوا زمنى أو عميانا ، وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون ، فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة ، ولم يكن معهم نفقة فجاعوا وقالوا للحواريين : قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل علينا مائدة من السماء ; فجاءه شمعون رأس الحواريين وأخبره أن الناس يطلبون بأن تدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء ، فقال عيسى لشمعون : " قل لهم اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " فأخبر بذلك شمعون القوم فقالوا له : قل له : نريد أن نأكل منها الآية . الثاني : نأكل منها لننال بركتها لا لحاجة دعتهم إليها ، قال الماوردي : وهذا أشبه ; لأنهم لو احتاجوا لم ينهوا عن السؤال وقولهم : وتطمئن قلوبنا يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها : تطمئن إلى أن الله تعالى بعثك إلينا نبيا . الثاني : تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لدعوتنا . الثالث : تطمئن إلى أن الله تعالى قد أجابنا إلى ما سألنا ; ذكرها الماوردي وقال المهدوي : أي : تطمئن بأن الله قد قبل صومنا وعملنا . قال الثعلبي : نستيقن قدرته فتسكن قلوبنا . ونعلم أن قد صدقتنا بأنك رسول الله ونكون عليها من الشاهدين لله بالوحدانية ، ولك بالرسالة والنبوة ، وقيل : ونكون عليها من الشاهدين لك عند من لم يرها إذا رجعنا إليهم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.00 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.37 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.43%)]