نغمات ساحرة
ويحدثنا المقريزي أن إمام “المدرسة البَقَرية” بالقاهرة زين الدين أبا بكر النحوي (ت بعد 746هـ/1345م) “كان الناس يرحلون إليه في شهر رمضان لسماع قراءته في صلاة التراويح لشجا صوته، وطيب نغمته، وحسن أدائه، ومعرفته بالقراءات السبع والعشر والشواذ”.
ويقول المؤرخ السخاوي -في ‘الضوء اللامع‘- إن ناصر الدين أبا الخير محمد بن أحمد الخزرجي الأخمِيمي الحنفي (ت بعد 891هـ/1486م) “أمَّ في التراويح بجامع الحاكم [بالقاهرة] وغيره.. وتزاحم الناس لسماعه والصلاة خلفه”. كما يخبرنا بأن أحمد بن محمد البُلْقِيني الشافعي القاهري (ت 838هـ/1435م) “كان حسن الصوت بالقرآن جدا، فكان الناس يهرعون إلى سماعه -سيما في قيام رمضان- من الأماكن النائية، بحيث يضيق الشارع بهم”.
ويبدو أن أئمة التراويح ذوي الأصوات المُطرِبة أغْرَوْا -بحسن تغنّيهم بالقرآن- الجماهيرَ حتى من غير المسلمين، كما نجده -لدى الخطيب البغدادي- في قصة الإمام علي بن عبد الله البَرَداني (ت بعد 375هـ/984م) الذي “كان يلقب ‘مصطبانس‘”، فسأله أحدهم عن مصدر لقبه الغريب هذا فأجابه: “كنت أصلي بقوم التراويح في شهر رمضان فسمع قراءتي قوم من النصارى، فاستحسنوها وقالوا: كأن قراءة هذا الرجل قراءة مصطبانس! يشيرون إِلَى قسّ لهم، فلقبني الناس بذلك”!!
ولم يكن حسن الصوت وحده عامل مفاضلة بين أئمة التراويح؛ بل ربما كان تخفيف أحدهم في تراويحه محبَّبا لدى طوائف من المصلين، ومن ذلك أن أحمد بن عبد الله الدُّوري المكي (ت 819هـ/1416م) “كان يصلي بالناس [في الحرم المكي] صلاة التراويح في رمضان، ويصلي خلفه الجمع الكثير لكثرة تخفيفه، ويلقبون صلاته بالمسلوقة”!! وفقا للفاسي في ‘العقد الثمين‘.
ويفيدنا الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- بأن أبا بكر ابن حُبَيش البغدادي الضرير (ت 314هـ/926م) كان “يقرأ بصوت شجيّ يقع في القلوب، ويصلي بالناس التراويح في الجامع” ببغداد.
حظر سياسي
أشرنا سابقا للخلاف الطائفي في مدى شرعية التراويح؛ ولكن المنع السياسي لإقامتها المؤيد بقوة السلطان كان أقوى تأثيرا من تلك الآراء الفِـرَقية التي ظلت محدودة الانتشار زمانا ومكانا؛ فقد عُرف الفاطميون –وهم مؤسسو دولة الشيعة الإسماعيلية- بمنع صلاة التراويح في حقب من تاريخ حكمهم الذي شمل الغرب الإسلامي ومصر والشام والحجاز.
فقد خاطب الفاطميون أتباعهم -وهم ما زالوا في طور التنظيم قبل تأسيس الدولة- قائلين لهم عند حلول أول رمضان بعد انطلاق دعوتهم في بلاد تونس: “إن رمضان قد جاء، ومذهبنا ألا تُصلَّى التراويح لأنها ليست من سنة النبي ﷺ وإنما سنّها عمر، ونحن نطوِّل القراءةَ في صلاة العشاء الأخيرة ونقرأ بالسُّور الطوال، فيكون ذلك عوضا عن التراويح”؛ حسبما يرويه ابن عِذاري المراكشي (ت بعد 712هـ/1312م) في ‘البيان المُغرب في أخبار الأندلس والمَغرب‘.
ويخبرنا سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) -في ‘مرآة الزمان‘- أن خليفة الفاطميين المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله (ت 334هـ/946م) خالف سيرة أبيه وجدِّه في الحكم فـ”أقام التراويح والسُّنن” في تونس قبل مقدم خليفتهم منها إلى مصر سنة 362هـ/973م.
وأفاد المؤرخ ابن سعيد الأنطاكي (ت 458هـ/1067م) -في تاريخه- بأنه في سنة 370هـ/981م مَنَع خليفة الفاطميين الثاني بمصر العزيزُ بالله (ت 386هـ/997م) صلاةَ التراويح بمصر فـ”عظُم ذلك على كافة أهل السُّنة من المسلمين”.
لكن خلَفـَه الحاكم بأمر الله (ت بعد 411هـ/1021م) سمح بإقامتها مؤقتا ثم منعها عشر سنوات حتى كانت عقوبة من يصليها الإعدام؛ فقد قال المقريزي -في ‘اتعاظ الحنفا‘- إنه في سنة 399هـ/1011م أمر الحاكم بـ”قتل رجاء بن أبي الحسين (ت 399هـ/1010م) من أجل أنه صلى صلاة التراويح في شهر رمضان”.
وفي المسجد الأقصى بالقدس ضُرب الشيخ الصالح أبو القاسم الواسطي (ت القرن 4-5هـ/الـ10-الـ11م) حتى أوشك على الهلاك لأنه اعترض على “أمر السلطان [الفاطمي] بقطع صلاة التراويح”؛ طبقا لابن عساكر.
ثم سمح الحاكم الفاطمي بإقامة التراويح في المساجد مرة أخرى سنة 408هـ/1018م، وأصدر بذلك قرارا رسميا قرئ في مساجد مصر وغيرها فاستمرت إقامتها حتى وفاته؛ وكانت دوامة المنع والإذن تلك للتراويح من أمثلة قرارات الحاكم المزاجية التي عُرف بها عهده المتقلب المواقف والقرارات.
دوافع متعددة
وفي الجناح الشرقي من الخلافة العباسية؛ منع “الحشاشون” -وهم فصيل من الشيعة الإسماعيلية منشق عن الدولة الفاطمية الأمّ بمصر- صلاة التراويح بالمناطق التي سيطروا عليها في فارس وخراسان، ثم سمحوا بإقامتها في نهاية عمر كيانهم هناك.
فقد ذكر المؤرخ ابن تَغْرِي بَرْدي (ت 874هـ/1469م) -في ‘النجوم الزاهرة‘- أنه في سنة 608هـ/1211م “قدِم بغدادَ رسولُ جلال الدين حسن (ت 618هـ/1221م) صاحب [قلعة] ألَمُوتْ يخبر الخليفة [الناصر العباسي (ت 622هـ/1225م)] بأنهم تبرؤوا من الباطنية، وبنوا الجوامع والمساجد…، وصلّوا التراويح في شهر رمضان؛ فسُرَّ الخليفة والناس بذلك”.
وربما كان تدخل السلطة في شعائر العبادات بالمساجد -ومنها التراويح- نتيجة لحسابات الصراع السياسي مع الخصوم الإقليميين أكثر من كونه اقتناعا حقيقيا باختيار مذهبي معين؛ فالإمام الذهبي يخبرنا -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه “في رمضان [سنة 494هـ/1101م] أمر المستظهر باللَّه بفتح جامع القصر [ببغداد]، وأن تصلى فيه التراويح، وأن يجهر بالبسملة، ولم تَجْرِ بهذا عادة؛ وإنّما تركوا (= العباسيون) الجهر بالبسملة في جوامع بغداد مخالفةً للشّيعة [الفاطميين] أصحاب مصر”.
ولم تكن القرارات السياسية المدفوعة بالتحيزات المذهبية هي الوحيدة التي تعطلت بسببها التراويح؛ إذ ترصد كتب التاريخ بعض الأزمات العامة من جوائح الأوبئة أو الحروب التي تزامن وقوعها ببعض البلدان الإسلامية مع حلول رمضان، فتوقفت جراءها صلوات الجماعة -بما فيها التراويح- كليا أو جزئيا.
فقد أورد ابن الجوزي -في أحداث سنة 439هـ/1048م- أنه “في رمضان غلا السعر ببغداد، وورد كتاب من الموصل أن الغلاء اشتد بها حتى أكلوا الميتة، وكثر الموت حتى إنه أحصِي جميع من صلى الجمعة فكانوا أربعمئة. وإذا تعطلت الجمعة في رمضان -وهي شعيرة واجبة الأداء نصًّا وإجماعا- فمن باب أولى أن يتوقف المصلون عن إقامة التراويح وهي نافلة.
وفي الغرب الإسلامي يقدم لنا المؤرخ المغربي أبو العباس الناصري (ت 1315هـ/1897م) -في كتابه ‘الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى‘- نصا صريحا في تعطل التراويح بسبب الاضطراب الأمني؛ فيقول إنه “لما قُـتل السلطان عبد الملك بن زيدان (السّعدي سلطان المغرب ت 1040هـ/1629م).. بُويع أخوه الوليد بن زيدان (ت 1045هـ/1634م)…، وعظُمت الفتن بفاس حتى عُطلت الجمعة والتراويح من جامع القرويين مدة، ولم يصلِّ به ليلةَ القدر إلا رجل واحد من شدة الهول والحروب”!!
محاريب متعددة
كان من أغرب سمات إقامة التراويح في الحرم المكي تعددُ محاريبها وجماعاتها وفقا للمذاهب الفقهية، وهو مشهد آخر من مشاهد تمزق وحدة المسلمين تاريخيا جراء جناية التعصب المذهبي والطائفي حتى وهم يجتمعون في حرم كعبتهم وقِبلتهم الموّحِّدة، ويؤدون شعيرة موَّحَّدة النُّسُك، وضمن طائفة واحدة (أربعة مذاهب سنية)!!
ولذا كان من المألوف أيامها أن “يصلي إمام الشافعية في مقام إبراهيم تجاه باب الكعبة، ثم إمام الحنفية مقابل حِجْر إسماعيل تجاه الميزاب، ثم إمام المالكية بين الركنين اليماني والشامي، ثم إمام الحنابلة مقابل الحَجَر الأسْود”؛ طبقا لوصف مُجير الدين العُلَيْمي الحنبلي (ت 928هـ/1522م) في كتابه ‘الأنس الجليل‘.
وهي عادة بدأ العمل بها على الأقل منذ سنة 497هـ/1104م، ولم تختفِ إلا بعد إكمال آل سعود سيطرتهم على الحجاز سنة 1344هـ/1923م؛ ففي سنة 497هـ/1104م حج الإمام أبو طاهر السِّلَفي (ت 576هـ/1180م) فوصف تعدد محاريب المذاهب في الحرم المكي وكيف يكون ترتيبهم في أداء الصلوات، وقال إن إمام الشافعية هو “أول من يصلي من أئمة الحرم.. قبل المالكية والحنفية والزيدية”؛ طبقا للفاسي في ‘شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام‘.
وبعد قرون من شهادة السِّلَفي؛ تحدث مؤرخ المدينة المنورة السمهودي عن تقليد تعدد المحاريب المذهبية وانتشاره في الأقطار، فقال إن حدوثه في المدينة النبوية كان -في منشئه- بسعي من الفقيه الحنفي طُوغان شيخ المحمدي (ت 881هـ/1476م) “فبرزت المراسيم [السلطانية] به بعد الستين وثمانمئة (860هـ/1456م)”، مشيرا إلى أن “هذا الأمر دَبّ إلى المدينة الشريفة من مكة المشرفة”.
ويصور لنا ابن جبير -في رحلته- مظاهر الاحتفال برمضان في مكة كما شاهدها؛ فيقول إنه لما دخل رمضان سنة 579هـ/1183م “وقع الاحتفال في المسجد الحرام لهذا الشهر المبارك.. حتى تلألأ الحرم نورا وسطع ضياءً، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فِرَقاً (حسب المذهب الفقهي).. كل فرقة منها قد نصبت إماما لها في ناحية من نواحي المسجد…، وكاد لا يبقى في المسجد زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة خلفه، فيرتجّ المسجد لأصوات القراءة من كل ناحية”. وقد يتعدد أئمة تراويح المذهب الفقهي الواحد، فالمالكية مثلا قال إنها “اجتمعت على ثلاثة قراء يتناوبون القراءة”!
ومن الحرم المكي انتقل تعدد المحاريب إلى المسجد الأقصى وغيره، إذْ “جرى مثله في بيت المقدس وجامع مصر”؛ وفقا للسمهودي. كما انتقل هذا التعدد أيضا إلى مسجد الخليل -عليه السلام- في فلسطين؛ حسب العُلَيْمي الحنبلي في ‘الأنس الجليل‘.
ضبط تنظيمي
ويبدو أن بروز هذه الظاهرة في الأقصى -فيما يخص التراويح تحديدا- لم يتأخر كثيرا عن تاريخ ظهورها في الحرم المكي إن لم يكن مزامنا له، بدليل أن الإمام ابن العربي المالكي (ت 543هـ/1148م) شاهد هذا الأمر في الأقصى حين زاره أواخر ثمانينيات القرن الخامس الهجري/الـ11 الميلادي.
يقول ابن العربي في تفسيره ‘أحكام القرآن‘: “وقد رأيت على باب الأسباط -فيما يقرب منه- إماما من جملة الثمانية والعشرين إماما، كان فيه يصلي التراويح في رمضان بالأتراك، فيقرأ في كل ركعة بالحمد لله وقل هو الله أحد، حتى يتم التراويح؛ تخفيفا عليهم ورغبة في فضلها”.
كما يحدثنا الرحالة الأندلسي القاضي أبو البقاء البَلَوي (ت بعد 767هـ/1365م) عن مشاهداته الرمضانية في “المسجد الأقصى… أعظم مساجد الدنيا” حين زاره في رحلته إلى المشرق، ويصف كثرة جماعات التراويح فيه؛ فيقول: “ولقد عددت مواضع الإشفاع وصلاة التراويح بها في شهر رمضان المعظم فألفينا نحو الأربعين موضعا”!!
وأحيانا تتدخل السلطات لتنظيم “فوضى” التراويح المتعددة في المسجد الواحد، وما ينتج عن هذا التعدد من تداخل لأصوات الأئمة المقرئين وتشويش على المصلين المستمعين.
ولذا يذكر الإمام ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- أنه كان في الجامع الأموي بدمشق محاريب متعددة للمذاهب الأربعة، ولكن في زمنه تدخلت السلطة لتوحيدهم “في صلاة التراويح، [فـ]ـاجتمع الناس على قارئ واحد وهو الإمام الكبير في المحراب المقدَّم عند المنبر”، كما يشير إلى واقعة تدخُّل أخرى للسلطة سبقت تلك بأكثر من قرن سنة 635هـ/1237م.
وجاء في كتاب ‘مفاكهة الخلان‘ لشمس الدين ابن طولون الدمشقي (ت 953هـ/1546م) أنه في رمضان سنة 926هـ/1520م أمر حاكم دمشق العثماني “إمامَ الحنفية بالجامع الأموي… بأن يتروّح (= يصلي التراويح) بالمقصورة ليلة… و[يصليها الإمام] الشافعي ليلة، وفُعل ذلك وتركت التراويح بمحراب الحنفية، ولم يسهل ذلك على متعصبي الشافعية” الذين لم يتقبلوا القرار بأريحية.
إمامة الصبيان
ما حكم إمامة الصبيان لصلاة التراويح؟
ومن الأمور الطريفة التي اقترنت -على مدى قرون- بشهر رمضان “إمامة الصبيان” للتراويح في بعض جوامع الحواضر الكبرى وفي الحرم المكي خاصة؛ رغم أنه وقع ”في صلاة التراوِيح خَلْفَ الصبيان اختلافٌ” بين العلماء في صحتها؛ كما يقول ابن الضياء الحنفي (ت 854هـ/1450م) في ‘تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام‘.
ومن أقدم نماذج ذلك تاريخيا ما ذكره الرحالة المقدسي من أن أهل شيراز “يصلون التراويح… ويقدّمون فيها الصبيان”، وما قاله ابن الجوزي (ت 595هـ/1199م) -في ‘المنتظم‘- عن اختيار سلطان البويهيين ببغداد في سنة 395هـ/1006م كلا من أبي الحسين بن الرَّفَّاء وأبي عبد الله بن الزجاجي وأبي عبد الله بن البهلول -وكانوا “من أحسن الناس قراءة”- ليكونوا أئمة رسميين “لصلاة التراويح.. وهم أحداث (= غير بالغين)، وكانوا يتناوبون الصلاة.. ورغب [الناسُ] لأجلهم في صلاة التراويح”.
وقد أصبح عادةً في الحجاز ومصر أن يَؤُمَّ الطفلُ الناسَ في التراويح إذا أكمل حفظ القرآن وأتم اثنتيْ عشرة سنة من عمره، ولذلك نجد في ‘رحلة ابن جبير‘ معلومات وافرة عن إمامة الصبيان في التراويح بالحرم المكي والاحتفالات المصاحبة لها، والتي جعلت بعضهم يقرّر أن من “محاسن الإسلام: يوم الجمعة ببغداد وصلاة التراويح بمكة”؛ وفقا للقاضي أبي علي التنوخي (ت 384هـ/995م) في ‘نشوار المحاضرة‘.
فقد ذكر ابن جبير أن “ليلة إحدى وعشرين خَتم فيها أحد أبناء أهل مكة…؛ فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيبا، ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور إلى [وليمة في] منزله.. ثم بعد ذلك ليلة ثلاث وعشرين، وكان المختتِم فيها أحد أبناء المكيين ذوي اليسار غلاما لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة…، وحضر الإمامُ الطفلُ فصلى التراويح وختم، وقد انحشد أهل المسجد الحرام إليه رجالا ونساء، وهو في محرابه”.
وامتدت عادة إمامة الأطفال في تراويح الحرم إلى عصر الرحالة ابن بطوطة (ت 779هـ/1377م) وما بعده؛ إذ يخبرنا -في رحلته- أن لكل مذهب فقهي محرابا خاصا بأصحابه، وأنهم ”في كل ليلة وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان يختمون القرآن، ويحضر الختم القاضي والفقهاء والكبراء، ويكون الذي يختم بهم أحد أبناء كبراء أهل مكة؛ فإذا ختم نُصب له منبر مزين بالحرير وأوقد الشمع وخطب، فإذا فرغ من خطبته استدعى أبوه الناس إلى منزله فأطعمهم الأطعمة الكثيرة والحلاوات”.
وورد في ترجمة القاضي الشافعي جلال الدين البُلْقِيني (ت 824هـ/1421م) أنه “حفظ القرآن وصلى به التراويح وهو صغير”؛ حسبما في ‘رفع الإصْر عن قضاة مصر‘ لابن حجر. كما أن الإمام ابن حجر نفسه أمَّ الناس في التراويح بالحرم المكي وعمره اثنتا عشرة سنة عام 785هـ/1383م ”على جاري العادة” في مَن يُكمل حفظ القرآن من الأطفال؛ طبقا للسخاوي في ‘الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر‘.
ويذكر السخاوي أن شيخه ابن حجر بعد أن صار إماما عظيما “حضر ليلةً من ليالي رمضان بجامع الحاكم للصلاة خلف ابن الكُويز، إذ صلّى للناس التراويح عقب ختمه القرآن على جاري عادة الأولاد”. بل إن الفاسي يفيدنا -في ‘العقد الثمين‘- بأن قاضي مكة ومفتيها محب الدين بن ظهيرة (ت 827هـ/1424م) “حفظ القرآن الكريم… وصلى التراويح في سنة تسع وتسعين وسبعمئة (799هـ/1397م)”، وعمره حينها عشر سنوات فقط لكونه وُلد عام 789هـ/1387م.
مقادير ومؤلفات
أما مقادير ركعات التراويح تاريخيا فإنها اختلفت وفقا لاختيارات المذاهب الفقهية؛ وإذا أخذنا بما استقر عليه الأمر في الحرمين الشريفين فسنجد أن عدد ركعاتها ظل مختلفا فيهما طوال أكثر من ألف سنة، ولم يتّحد الأمر فيهما حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجري في ظل الحكم السعودي.
فقد كان المكيون -وفقا لابن بطوطة- يصلون “التراويح المعتادة وهي عشرون ركعة” ثم يتبعونها بركعات الوتر الثلاث، وأما المدنيون فقد عزا النووي -حسبما ينقله عنه السمهودي في ‘وفاء الوفاء‘- إلى الإمام الشافعي قوله: “رأيت أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين ركعة، منها ثلاث للوتر”.
ويفيدنا السخاوي -في ‘التحفة اللطيفة‘- بأنه في أواخر القرن الثامن الهجري/الـ14 الميلادي كان المحدّث الحافظ زين الدين عبد الرحيم العراقي الكردي (ت 806هـ/1403م) من مدرسي الحرم النبوي في المدينة، وعلى يديه تغير عُرف المدنيين في عدد ركعات التراويح؛ إذ كان “يصلي التراويح بالناس عقب صلاة العشاء عشرين ركعة ويوتر بثلاث، فإذا كان آخر الليل صلى بالناس ست عشرة ركعة. واقتدى به في ذلك الأئمة بالحرم النبوي”.
أما مقدار التراويح في مساجد مصر فقد تراوح بين الاختيار الفقهي المذهبي الحرّ والتحديد الحكومي الرسمي الملزِم؛ وفي ذلك يقول المقريزي في ‘المواعظ والاعتبار‘: “ولم يزل أهل مصر يصلونها ستًّا (= 6 ترويحات: 12 ركعة) إلى شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين ومائتين (253هـ/867م)”، ففي هذه السنة عينت السلطات العباسية ببغداد أرجوز (أو: أزجور بن أولغ التركي ت بعد 254هـ/868م) واليا على مصر فـ”أمَرَ أن تُصلَّى التراويحُ في رمضان خمس تراويح (= 10 ركعات)”.
هذا وقد بينت كتب الفقه العامة وشروح الحديث النبوي أحكام صلاة التراويح ومقاديرها، كما أفردها بعض العلماء بمؤلفات خاصة بها يبدو أن أغلبها لم يصلنا منه إلا عنوانه. ومن تلك المصنفات: كتاب “فضل التراويح” للحافظ أبي بكر محمد بن الحسن النقاش (ت 351هـ/962م)؛ و”كتاب التراويح” للإمام حسام الدين الشهيد (ت 536هـ/1141م)؛ و”كتاب التراويح” لمفتي خوارزم أبي العباس أَحْمد بن إِسْمَعِيل التُّمُرْتَاشِيّ الحنفي (ت قرابة 600هـ/1203م).
ومن هذه المؤلفات أيضا: كتاب “صلاة التراويح” للمحدّث ابن عبد الهادي الجمّاعيلي الحنبلي (ت 744هـ/1343م)؛ و”ضوء المصابيح في صلاة التراويح” و”إشراق المصابيح في صلاة التراويح” كلاهما لقاضي القضاة تقي الدين السبكي الشافعي (ت 756هـ/1355م)؛ و”إقامة البرهان على كميّة التراويح في رمضان” لأبي الضياء الغيثي الشافعي (ت 975هـ/1567م).
احتفاء واسع
هكذا إذن على مدى التاريخ الإسلامي؛ ظل اهتمام المسلمين بصلاة التراويح عظيما وشاملا باعتبارها أبرز ملامح احتفائهم برمضان، إذ أقبلت على تفيُّؤ ظلال إيمانياتها كافة الفئات والشرائح في المجتمعات المسلمة رجالا ونساء وأطفالا، حتى إن الرحالة ابن بطوطة يحدثنا عن “سوق المغنين” في الهند فيقول إن فيه مساجد، وإن “النساء المغنيات الساكنات هناك يصلين التراويح في شهر رمضان بتلك المساجد مجتمعات، ويَؤُمُّ بهن الأئمة وعددُهن كثير، وكذلك الرجال المغنّون”!!
وفي كتابه ‘المواعظ والاعتبار‘ يصف المقريزي “سوق الشمّاعين” بالقاهرة المملوكية، وما كان يشهده من رواجٍ كبير لمعروضات بضائعه من الشموع والقناديل في ليالي رمضان؛ فيذكر أنه “كان به في شهر رمضان موسم عظيم لكثرة ما يُشْتَرَى ويُكْتَرَى من الشموع الموكبية…. برسم ركوب الصبيان لصلاة التراويح، فيمرّ في ليالي شهر رمضان من ذلك ما يعجز البليغ عن حكاية وصفه”!
كما يروي لنا أبو البركات السويدي البغدادي (ت 1174هـ/1760م) -في ‘النفحة المسكية فى الرحلة المكية‘- ذكرياته الرمضانية في دمشق حين زارها؛ فيقول واصفا صلاة التراويح بالجامع الأموي وما كان يرافقها من حفاوة اجتماعية تصل حد الضجيج: “ومن عجيب أمرهم أن النساء يختلطن بالرجال… وقتَ التراويح، ومرةً صليتُ التراويح في [الجامع] الأموي فرأيت الناس جلوسا بين الصفوف يتحدثون، والأولاد لهم صياح وعياط ولعب بحيث يشوشون على المصلين”!!
على أن إقامة التراويح لم تخلُ أحيانا من منغِّصات أدهى وأمرّ من صخب الأطفال وصراخهم في فضائها الروحاني المهيب؛ فمؤرخ يوميات دمشق شهاب الدين البديري (ت 1175هـ/1761م) يسجّل -في كتابه ‘حوادث دمشق اليومية‘- أنه في يوم “الاثنين [من سنة 1173هـ/1759م] ثبت رمضان المبارك، وثالث ليلة منه -والناس في صلاة التراويح- صارت زلزلةٌ مزعجِةٌ، فقطعت الناس صلاة التراويح، وتهاربت الناس وداست بعضها بعضا، وانذهلت عقولهم”!!
ولئن كان للفواجع نصيبها من تعكير صفو الجموع المحتشدة للتراويح؛ فقد أخذ الشعراء قسطهم من التوظيف الأدبي الظريف في تلك المناسبات، ومن ذلك ما يحكيه المحدِّث قطب الدين اليُونِيني (ت 726هـ/1326م) -في ‘ذيل مرآة الزمان‘- من أن الشاعر جمال الدين المصري المعروف بابن الجزّار (ت 679هـ/1278م) “بات ليلة في شهر رمضان عند الصاحب بهاء الدين أحمد بن حنّا (الوزير المملوكي ت 677هـ/1278م)..، فصلى عنده التراويح وقرأ الإمام في تلك الليلة سورة الأنعام في ركعة واحدة! فقال [ابنُ الجزار]:
ما لي على "الأنعام" من قدرة لا سيما في ركــعة واحــدة فلا تسوموني حضــوراً سوى في ليلة "الأنفال" و"المائدة"!