عرض مشاركة واحدة
  #412  
قديم 29-04-2023, 06:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,259
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ يُوسُفَ
المجلد التاسع
صـ 3591 الى صـ 3605
الحلقة (412)




[ ص: 3591 ] ولعل الرازي عنى بالمحققين الصوفية، أو من يقف على الظاهر وقوفا بحتا، ولا يخفى أن أسلوب التنزيل في كناياته ومجازاته أسلوب فريد، ينبغي التفطن له.

وقد جوز في قوله: يأت بصيرا أن يكون معناه يصير بصيرا، أو يجيء إلي بصيرا، على حقيقة الإتيان فـ (بصيرا) حال. قيل: ينصره قوله: وأتوني بأهلكم أجمعين أي: بأبي وغيره، وفيه نظر; لأن اتحاد الفعلين هنا في المبنى لا يدل على اتحادهما في المعنى. ولا يقال: الأصل الحقيقة; لأن ذلك فيما يقتضيه السياق، ولا اقتضاء هنا. فالأول أرق وأبدع، لما فيه من التجانس.

روي أن يوسف عليه السلام، بعد أن دعا لهم بالمغفرة قال لهم: إن الله بعثني أمامكم لأحييكم، وقد مضت سنتا جوع في الأرض، وبقي خمس سنين، ليس فيها حرث ولا حصاد. فأرسلني الله أمامكم ليجعل لكم بقية في الأرض، ويستبقيكم لنجاة عظيمة. وقد جعلني سبحانه أبا لفرعون، وسيدا لجميع أهله، ومتسلطا على جميع أرض مصر، فبادروا وأشخصوا إلى أبي، وأخبروه بجميع مجدي بمصر، وما رأيتموه، وقولوا له: كذا قال ابنك يوسف: قد جعلني الله سيدا لجميع المصريين، فهلم إلي، فتقم في أرض جاسان، وتكون قريبا مني أنت وبنوك، وبنو بنيك، ومواشيك، وجميع ما هو لك، وأعولك، ها هنا، فقد بقي خمس سنين مجدبة، فأخشى أن يهلك الأهل والمال. وكان نما الخبر إلى بيت فرعون. وقيل: جاء إخوة يوسف، فسر بذلك فرعون وخاصته، وأمره أيضا بأن يؤكد عليهم إتيانهم بأبيهم وأهلهم، ووعدهم خير أرض في مصر تكون لهم; لئلا يأسفوا على ما خلفوا. ثم زود يوسف إخوته أحسن زاد، وأعطاهم من الحلل والثياب والدراهم مقدارا وافرا، وبعث إلى أبيه بمثل ذلك، وأصحبهم عجلات لأطفالهم ونسائهم، وأوصاهم ألا يتخاصموا في الطريق -والله أعلم-.

وقوله تعالى:
[ ص: 3592 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 94 ] ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون

ولما فصلت العير أي: خرجت من مصر. يقال: فصل القوم عن المكان وانفصلوا، بمعنى فارقوه. قال أبوهم أي: لحفدته ومن حوله من قومه، من عظم اشتياقه ليوسف، وانتظاره لروح الله: إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون الريح: الرائحة، توجد في النسيم. لأتنسم رائحته مقبلة إلي، كناية عن تحققه وجوده بما ألقى الله في روعه من حياته، وساق إليه من نسائم البشارة الغيبية بسلامته. وقد كان عظم رجاؤه بذلك من مولاه، ووثق بنيل مأموله ومبتغاه، ولذلك نهى بنيه عن الاستيئاس من روح الله. وإذا دنا أجل الضراء، أخذت تهب نسائم الفرج حاملة عرف السراء، يدري ذلك كل من قوي إحساسه، وعظمت فطنته، واستنارت بصيرته، فيكاد أن يلمس في نهاية الشدة زهر الفرج، ولا يحنث إن آلى أنه يجد من نسيمه أزكى الفرج. عرف ذلك من عرف، فأحرى بمن نالوا من النبوة ذروة الشرف.

وإضافة الريح إلى الولد معروفة في كلامهم: وفي حديث عند الطبراني: « ريح الولد من ريح الجنة » وقال الشاعر:


يا حبذا ريح الولد ريح الخزامى في البلد


وقوله: لولا أن تفندون بمعنى إلا أنكم تفندون. أو لولاه لصدقتموني. و(فنده)* نسبه إلى الفند بفتحتين. وهو ضعف الرأي والعقل من الهرم وكبر السن.

قال في (العناية): مأخوذ من الفند، وهو الحجر والصخرة، كأنه جعل حجرا لقلة فهمه، كما قال:


إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا


ثم اتسع فيه فقيل: فنده، إذا ضعف رأيه، ولامه على ما فعله.

وقوله تعالى:
[ ص: 3593 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 95 ] قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم

قالوا أي حفدته ومن عنده: تالله إنك لفي ضلالك القديم أي لفي ذهابك عن الصواب المتقدم، في إفراطك في محبة يوسف، ولهجتك بذكره، ورجائك للقائه، وكان عندهم أنه مات أو تشتت، فاستحال الاجتماع به، وجعله فيه لتمكنه ودوامه عليه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 96 ] فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون

فلما أن جاء البشير أي المخبر بما يسره من أمر يوسف ألقاه على وجهه أي: طرح البشير القميص على وجه يعقوب، أو ألقاه يعقوب نفسه على وجهه، فارتد بصيرا أي عاد بصيرا لما حدث فيه من السرور والانتعاش: قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون أي: من حياة يوسف، وإنزال الفرج، وجوز كون إني أعلم كلاما مبتدأ. والمقول " لا تيأسوا من روح الله" إن كان الخطاب لبنيه. أو إني لأجد ريح يوسف إن كان لحفدته ومن عنده.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 97 ] قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين

قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين الضمير لبنيه. طلبوا أن يستغفر لهم لما فرط منهم، أو لحفدته ومن عنده لقولهم: إنك لفي ضلالك القديم والأول أقرب وأصوب.

ولما كان من حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه، ويسأل له المغفرة، وعدهم بذلك.
[ ص: 3594 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 98 ] قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم

قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم أي: سوف أدعوه لكم، فإنه المتجاوز عن السيئات، الرحيم لمن تاب.

قال المهايمي: صرحوا بالذنوب دون الله; لمزيد اهتمامهم بها، وكأنهم غلب عليهم النظر إلى قهره. وصرح يعقوب بذكر الرب دون الذنوب، إذ لا مقدار لها بالنظر إلى رحمته التي ربى بها الكل. انتهى.

وهذا من دقائق لطائف التنزيل ومحاسنها فيه.

تنبيه:

قيل: في هذه الآيات دلالة على جواز التبشير ببشائر الدنيا واستحبابه، وجواز السرور بحصول النعم الحاصلة في الدنيا. وفيها دلالة على إرجاء الاستغفار والدعاء لوقت يرى أنه أحضر فيه قلبا من غيره أو أنه أفضل وأقرب للإجابة.

وقد روي أنه أخر الاستغفار إلى السحر. وتخصيص الأوقات الفاضلة بالاستغفار والدعاء معروف في السنة، ومنه شرع الاستغفار في السحر، وعقب الصلوات، وقضاء الحج. وكان الدعاء في السجود، وعند الأذان، وبينه وبين الإقامة، والإفطار من الصيام أقرب للإجابة مما عداه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 99 ] فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين

فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه إشارة إلى ورود يعقوب وآله على يوسف. [ ص: 3595 ] وذلك أنهم تخلوا عن آخرهم، وترحلوا من بلاد كنعان، وأركبوا أطفالهم ونساءهم على العجل التي بعث بها فرعون، وصحبوا ماشيتهم وسرحهم، وهبطوا أرض مصر -وروي أنهم كانوا سبعين نفسا- وتقدمهم يهوذا إلى يوسف ليدله على أرض (جاسان) فينزلوها. ثم خرج يوسف في مركبته، فتلقى أباه في (جاسان) ولما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه وبكى طويلا. والمراد بدخولهم على يوسف وصولهم لملتقاه خارج البلد، وبإيواء أبويه ضمهما إليه، واعتناقهما واصطحابه لهما في مركبه. قالوا: عنى بأبويه والده وخالته; لأن أمه راحيل توفيت وهي نفساء بأخيه بنيامين، وتنزيل الخالة منزلة الأم; لكونها مثلها في زوجة الأب، وقيامها مقامها وتوقيرها، كتنزيل العم منزلة الأب في قوله: وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق

وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين أي من القحط وأصناف المكاره.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 100 ] ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نـزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم

ورفع أبويه على العرش أي: أجلسهما معه على سرير ملكه تكريما لهما وخروا له سجدا أي سجد له أبوه وإخوته الباقون، وكانوا أحد عشر، تحية وتكرمة له. وكان السجود عندهم للكبير يجري مجرى التحية عندنا.

وقال يا أبت هذا أي السجود تأويل أي تعبير رؤياي من قبل أي [ ص: 3596 ] التي رأيتها أيام الصبا، وهي سجود أحد عشر كوكبا والشمس والقمر قد جعلها ربي حقا أي: صدقا مطابقا للواقع في الحس، وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن أي نجاني من العبودية، وجعل الملك مطيعا لي مفوضا إلي خزائن الأرض. وفي الاقتصار على التحدث بالخروج من السجن على جلالة ملكه، وفخامة شأنه من التواضع، وتذكر ما سلف من الضراء، استدامة للشكر، ما فيه من أدب النفس الباهر. وفيه إشارة إلى النعمة في الانطلاق من الحبس; لأنه كما قال عبد الملك بن عبد العزيز، لما كان في حبس الرشيد:


ومحلة شمل المكاره أهلها وتقلدوا مشنوءة الأسماء دار يهاب بها اللئام وتتقى
وتقل فيها هيبة الكرماء ويقول علج ما أراد ولا ترى
حرا يقول برقة وحياء ويرق عن مس الملاحة وجهه
فيصونه بالصمت والإغضاء


وقال شاعر من المسجونين:


خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا


ويؤثر عن يوسف عليه السلام أنه كتب على باب السجن: هذه منازل البلاء، وتجربة الأصدقاء، وشماتة الأعداء، وقبور الأحياء.

هذا وقد حاول كثير من الأدباء مدح السجن بسحر بيانهم، فقال علي بن الجهم:


قالوا حبست فقلت ليس بضائري حبسي وأي مهند لا يغمد؟
أو ما رأيت الليث يألف غابه كبرا وأوباش السباع تردد
والبدر يدركه المحاق فتنجلي أيامه وكأنه متجدد
ولكل حال معقب ولربما أجلى لك المكروه عما تحمد
والسجن ما لم تغشه لدنية شنعاء نعم المنزل المتورد
بيت يجدد للكريم كرامة فيزار فيه ولا يزور ويحفد


[ ص: 3597 ] وأحسن ما قيل في تسلية المسجونين قول البحتري:


أما في رسول الله يوسف أسوة لمثلك محبوسا على الجور والإفك
أقام جميل الصبر في السجن برهة فآل به الصبر الجميل إلى الملك


نقله الثعالبي في (اللطائف واليواقيت).

وجاء بكم من البدو أي البادية، وقد كانوا أصحاب مواش، من بعد أن نـزغ أي أفسد الشيطان بيني وبين إخوتي أي بالحسد. وأسنده إلى الشيطان، لأنه بوسوسته وإلقائه. وفيه تفاد عن تثريبهم أيضا. وإنما ذكره لأن النعمة بعد البلاء أحسن موقعا.

إن ربي لطيف لما يشاء أي لطيف التدبير له، والرفق به، إنه هو العليم بوجوه المصالح، الحكيم في أفعاله وأقضيته.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 101 ] رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين

رب قد آتيتني من الملك أي بعضا منه عظيما، وهو ملك مصر، وعلمتني من تأويل الأحاديث أي تعبير الرؤيا، فاطر السماوات والأرض أي مبدعهما وخالقهما، أنت وليي أي مالك أموري، في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين أي من النبيين والمرسلين. دعا يوسف عليه السلام بهذا الدعاء لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وإخوته وما آثره به من العلم والملك، فسأل ربه عز وجل، كما أتم عليه نعمته في الدنيا، أن يحفظها عليه باقي عمره، حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام، وألحقه بالصالحين. فليس فيه تمن للموت، وطلب التوفي منجزا كما قيل.

[ ص: 3598 ] روى الإمام أحمد والشيخان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، إن كان محسنا فيزداد، وإن كان مسيئا فلعله يستعتب، ولكن ليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي » . وفي رواية: « وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي » .

تنبيهان:

الأول: في فقه هذه الآيات: قال بعض اليمانين: يستدل مما روي أن يوسف خرج للقاء أبيه، على حسن التعظيم باللقاء، وكذا يأتي مثله في التشييع، ومنه ما روي في تشييع الضيف: ويستدل مما روي أن المراد بأمه خالته -كما مر- أن من نسب رجلا إلى خالته فقال: يا ابن فلانة! لم يكن قاذفا لها. ويستدل من رفعهما على العرش -وهو السرير الرفيع- جواز اتخاذه، ورفع الغير، تعظيما للمرفوع، ويستدل من قوله: وجاء بكم من البدو على أن الانتقال منه نعمة، وذلك لما يلحق أهل البادية من الجفاء، والبعد عن موارد العلوم، وعن رفاهة المدنية، ولطف المعاشرة، والكمالات الإنسانية، وروي لجرير:


أرض الحراثة لو أتاها جرول أعني الحطيئة لاغتدى حراثا ما جئتها من أي وجه جئتها
إلا حسبت بيوتها أجداثا


[ ص: 3599 ] وفي الحديث: « من بدا جفا » أي: من حل البادية. وفي آخر: « إن الجفا والقسوة في الفدادين » . ففي هذا دليل على حسن النقلة من البوادي إلى المدن. اهـ. بزيادة.

الثاني: قص كثير نبأ استقرار يعقوب وآله بمصر. ومجمله: أن يوسف اختار لمستقرهم أرض جاسان، فلما دخلوا مصر أخبر يوسف فرعون بقدوم أبيه وإخوته وجميع ما لهم إلى أرض جاسان، ثم أدخل أباه على فرعون، فأكرمه وكلمه حصة. وسأله عن عمره، فأجابه: مائة وثلاثون سنة، وأقطعه وبنيه أجود أرض في مصر، وهي أرض رعمسيس، أي عين شمس، وملكها إياهم، ودعا له يعقوب ثم انصرف. ثم أخذ يوسف خمسة من إخوته، فمثلهم بين يدي فرعون، فقال لهم: ما حرفتكم فأجابوه -كما أوصاهم يوسف-: نحن وآباؤنا رعاة غنم! فقال فرعون ليوسف: إن كنت تعلم أن فيهم ذوي حذق، فأقمهم وكلاء على ماشيتي. وأجرى يوسف لأبيه وإخوته وسائر أهله طعاما على حسبهم. وأقاموا في أرض مصر بجاسان فتملكوا فيها، ونموا وكثروا جدا، وعاش يعقوب في أرض مصر سبع عشرة سنة، فكانت مدة عمره كله مائة وسبعا وأربعين سنة. ولما دنا أجله قال ليوسف: لا تدفني بمصر إذا مت، بل احملني منها إلى مدفن آبائي، فأجابه لذلك. ثم بعد مدة أخبر يوسف بمرض أبيه، فأخذ ولديه وسار إلى أبيه، فانتعش أبوه بمقدمه، ورأى ولديه، فقال: من هذان؟ فقال: ابناي رزقنيهما الله ها هنا. فقال: أدنهما مني، فأدناهما، فقبلهما، ودعا لهما، وقال له: لم أكن أظن أني أرى وجهك، والآن أراني الله نسلك أيضا. ثم أعلم يوسف بدنو أجله، وبشره بأن الله سيكون معكم، ويردكم إلى أرض آبائكم، ثم دعا بقية بنيه، ودعا لهم بالبركة، وأوصاهم بأن يضموه إلى قومه، ويدفنوه مع آبائه في المغارة التي في حبرون، وهي المعروفة اليوم بمدينة الخليل، فإن فيها دفن إبراهيم، [ ص: 3600 ] وسارة امرأته، وإسحاق ورفقة زوجته، وليأة امرأة يعقوب. ولما فرغ يعقوب من وصيته لبنيه فاضت روحه، فوقع يوسف على وجه أبيه، وبكى وقبله. ثم أمر الأطباء أن يحنطوه ويصبروه. ولما انقضت أيام التعزية به، استأذن يوسف فرعون بأن يبرح لدفن أبيه; عملا بوصيته، فأذن له وسار من مصر، وصحبه إخوته آل أبيه وحاشيته، ووجهاء مصر، وأتباع فرعون في موكب عظيم، إلى أن وصلوا أرض كنعان، ودفنوه في المغارة -كما أوصى- ثم عاد بمن معه إلى مصر، ولم يزل يوسف يرعى إخوته بالإكرام والإحسان، إلى أن قرب أجله، فأوصاهم بأن ينقلوه معهم إذا عادوا إلى الأرض التي كتبها الله لآبائهم. ثم توفي يوسف، وهو ابن مائة وعشر سنين، فحنطوه، وجعلوه في تابوت بمصر.

هذا ما قصه قدماء المؤرخين، والله أعلم بالحقائق. وإنما لم يذكر هذا القرآن الكريم; لأن القرآن لم يبن على قانون التاريخ، فليس فيه شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار، وإنما هي الآيات والعبر، تجلت في سياق الوقائع، ولذلك لم تذكر قصة بترتيبها وتفاصيلها، وإنما يذكر موضع العبرة فيها، كما سيأتي الإشارة إليه في قوله تعالى: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب وقوله: وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ومضى في المقدمة بسط هذا البحث، فراجعه. وسنذكر إن شاء الله في السورة شيئا من الحكم والعبر المقتبسة من نبأ يوسف، فانتظر.

وقوله تعالى:

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 102 ] ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون

ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف، البعيد درجة [ ص: 3601 ] كماله في جميع ما لا يتناهى من المحاسن والأسرار حتى صار معجزا. والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: هذا من أخبار الغيوب السابقة، نوحيه إليك، ونعلمك به، لما فيه من العبرة والاتعاظ.

وقوله تعالى: وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون كالدليل على كونه نبأ غيبيا ووحيا سماويا. أي: لم تعرف هذا النبأ إلا من جهة الوحي; لأنك لم تحضر إخوة يوسف، حين أجمعوا أمرهم على إلقاء أخيهم في البئر، وهم يمكرون به، إذ حثوه على الخروج معهم، يبغون له الغوائل، وبأبيهم في استئذانه ليرسله معهم، أي: فلم تشاهدهم حتى تقف على ظواهر أسرارهم وبواطنها.

قال أبو السعود: وليس المراد مجرد نفي حضوره عليه الصلاة والسلام في مشهد إجماعهم ومكرهم فقط، بل سائر المشاهد أيضا. وإنما تخصيصه بالذكر لكونه مطلع القصة، وأخفى أحوالها، كما ينبئ عنه قوله تعالى وهم يمكرون والخطاب -وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم- لكن المراد إلزام المكذبين. والمعنى: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك; إذ لا سبيل إلى معرفتك إياه سوى ذلك، إذ عدم سماعك ذلك من الغير، وعدم مطالعتك للكتب أمر لا يشك فيه المكذبون أيضا، ولم تكن بين ظهرانيهم عند وقوع الأمر حتى تعرفه كما هو، فتبلغه إليهم. وفيه تهكم بالكفار، فكأنهم يشكون في ذلك فيدفع شكهم. وفيه أيضا إيذان بأن ما ذكر من النبأ هو الحق المطابق للواقع. وما ينقله أهل الكتاب ليس على ما هو عليه. يعني: أن مثل هذا التحقيق بلا وحي لا يتصور إلا بالحضور والمشاهدة، وإذ ليس ذلك بالحضور فهو بالوحي. ومثله قوله تعالى: وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وقوله: وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر انتهى.

وقوله تعالى:
[ ص: 3602 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 103 ] وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين

وما أكثر الناس يريد به العموم، أو أهل مكة: ولو حرصت أي جهدت كل الجهد على إيمانهم، وبالغت في إظهار الآيات القاطعة الدالة على صدقك، بمؤمنين أي بالكتب والرسل; لميلهم إلى الكفر، وسبيل الشر. يعني: قد وضح بمثل هذا النبأ نبوته صلوات الله عليه، وقامت الحجة، ومع ذلك فما آمن أكثر الناس، كما قال تعالى: " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين " .

قال الرازي: ما معناه: وجه اتصال هذه الآية بما قبلها; أن كفار قريش، وجماعة من اليهود، طلبوا من النبي عليه الصلاة والسلام قص نبأ يوسف تعنتا، فكان يظن أنهم يؤمنون إذا تلي عليهم، فلما نزلت وأصروا على كفرهم ; قيل له: وما أكثر الناس إلخ. وكأنه إشارة إلى ما ذكر في قوله تعالى: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 104 ] وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين

وما تسألهم عليه أي على هذا النصح، والدعاء إلى الخير والرشد، من أجر أي أجرة إن هو أي ما هو، يعني القرآن، إلا ذكر للعالمين أي: عظة لهم، يتذكرون به ويهتدون وينجون في الدنيا والآخرة. يعني: أن هذا القرآن يشتمل على العظة البالغة، والمراشد القويمة، وأنت لا تطلب في تلاوته عليهم مالا، ولا جعلا. فلو كانوا عقلاء لقبلوا، ولم يتمردوا.

[ ص: 3603 ] قال بعض اليمانين: في الآية دليل على أن من تصدر للإرشاد، من تعليم ووعظ; فإن عليه اجتناب ما يمنع من قبول كلامه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 105 ] وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون

وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون أي: وكم من آية على وحدانية الخالق، وقدرته الباهرة، ونعوته الجليلة، في السماوات: من كواكبها وأفلاكها، وفي الأرض: من قطع متجاورات، وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وقفار شاسعات، وحيوان ونبات، وثمار مختلفات، وأحياء وأموات، يشاهدونها، ولا يعتبرون بها.

قال الرازي: يعني أنه لا عجب إذا لم يتأملوا في الدلائل الدالة على نبوتك، فإن العالم مملوء من دلائل التوحيد، والقدرة والحكمة، ثم إنهم يمرون عليها، ولا يلتفتون إليها، واعلم أن دلائل التوحيد والعلم والقدرة والحكمة والرحمة، لا بد وأن تكون من أمور محسوسة، وهي إما الأجرام الفلكية، وإما الأجرام العنصرية. أما الأجرام الفلكية فهي قسمان: أفلاك وكواكب. أما الأفلاك فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصانع. وقد يستدل بكون بعضها فوق البعض أو تحته. وقد يستدل بأحوال حركاتها، إما بسبب أن حركاتها مسبوقة بالعدم، فلا بد من محرك قادر، وإما بسبب كيفية حركاتها في سرعتها وبطئها، وإما بسبب اختلاف جهات تلك الحركات. وأما الأجرام الكوكبية: فتارة يستدل على وجود الصانع بمقاديرها وأحيازها وحركاتها، وتارة بألوانها وأضوائها، وتارة بتأثيراتها في حصول الأضواء والأظلال، والظلمات والنور.

وأما الدلائل المأخوذة من الأجرام العنصرية: فإما أن تكون مأخوذة من بسائط، وهي عجائب البر والبحر، وإما من المواليد وهي أقسام:

[ ص: 3604 ] أحدها: الآثار العلوية، كالرعد والبرق والسحاب والمطر والثلج والهواء وقوس قزح.

وثانيها: المعادن على اختلاف طبائعها وصفاتها وكيفياتها.

ثالثها: النبات وخاصية الخشب والورق والتمر، واختصاص كل واحد منها بطبع خاص وطعم خاص، وخاصية مخصوصة.

ورابعها: اختلاف أحوال الحيوانات في أشكالها وطبائعها وأصواتها وخلقتها.

وخامسها: تشريح أبدان الناس، وتشريح القوى الإنسانية، وبيان المنفعة الحاصلة فيها.

فهذه مجامع الدلائل.

ومن هذا الباب أيضا قصص الأولين، وحكايات الأقدمين، وأن الملوك إذا استولوا على الأرض وخربوا البلاد، وقهروا العباد; ماتوا ولم يبق منهم في الدنيا خبر ولا أثر، ثم بقي الوزر والعقاب.

ولما كان العقل البشري لا يفي بالإحاطة بشرح دلائل العالم الأعلى والأسفل; ذكر في الكتاب العزيز مجملا. انتهى.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 106 ] وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون

وما يؤمن أكثرهم أي: الناس، أو أهل مكة، بالله أي في إقرارهم بوجوده وخالقيته إلا وهم مشركون أي: بعبادتهم لغيره، وباتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا، وبقولهم باتخاذه تعالى ولدا. سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.

تنبيه:

كما تدل الآية على النعي عليهم بالشرك الأكبر، وهو أن يعبد مع الله غيره. فإنها تشير إلى [ ص: 3605 ] ما يتخلل الأفئدة وينغمس به الأكثرون من الشرك الخفي، الذي لا يشعر صاحبه به غالبا. ومنه قول الحسن في هذه الآية: ذاك المنافق، يعمل إذا عمل رئاء الناس، وهو مشرك بعمله. يعني: الشرك في العبادة. فصاحبه، وإن اعتقد وحدانيته تعالى -ولكن لا يخلص له في عبوديته بل يعمل لحظ نفسه، أو طلب الدنيا، أو طلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق; فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب. وهذا حال أكثر الناس، وهو الشرك الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه ابن حبان في صحيحه: « الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل » . فالرياء كله شرك، وهو محبط للعبادة، مبطل ثواب العمل، ويعاقب عليه إذا كان العمل واجبا. فإنه تعالى أمر بعبادته خالصة. قال تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء فمن لم يخلص لله في عبادته; لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير المأمور، فلا يقبل منه.

وروى مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه » .

وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد، رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: « إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر! قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء» .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.08 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.26%)]