عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 30-04-2023, 06:10 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ اَلْحِجْرِ
المجلد العاشر
صـ 3751 الى صـ 3765
الحلقة (422)



قال الناصر في (" الانتصاف ") : المراد ، والله أعلم ، يعني من الآيتين : إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها ، كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين المصدقين . فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء ، كل على علم وفهم : ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولئلا يكون للكفار على الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الإعجاز كما فهمها من آمن . فأعلمهم الله تعالى من الآن ، وهم في مهلة وإمكان ; أنهم ما كفروا إلا على علم ، معاندين باغين غير معذورين ، والله أعلم . ولذلك عقبه تعالى بقوله : ولو فتحنا عليهم الآية ، أي : هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه ، وولج ذلك في قلوبهم ووقر ، ولكنهم قوم سجيتهم العناد وسيمتهم اللدد ، حتى لو سلك بهم [ ص: 3751 ] أوضح السبيل وأدعاها إلى الإيمان بضرورة المشاهدة ، وذلك بأن يفتح لهم باب في السماء ، ويعرج بهم إليه حتى يدخلوا منها نهارا .

وإلى ذلك الإشارة بقوله : فظلوا لأن الظلول إنما يكون نهارا ; لقالوا بعد هذا الإيضاح العظيم المكشوف : إنما سكرت أبصارنا وسحرنا محمد. وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها . فأسجل عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم في التكذيب ، من عدم سماع ووعي ووصول إلى القلوب وفهم ، كما فهم غيرهم من المصدقين ; لأن ذلك كله حاصل لهم . وإنما بهم العناد واللدد والإصرار لا غيره . والله أعلم .
ثم بين تعالى دلائل وحدته وعظمته وقدرته الباهرة ، بقوله سبحانه :

القول في تأويل قوله تعالى :

[16-18] ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين .

ولقد جعلنا في السماء بروجا جمع (برج) يطلق على القصر والحصن وعلى المنازل الاثني عشر التي تنتقل فيها الشمس في ظاهر الرؤية .

وقد فسرت البروج في الآية بالنجوم وبالمنازل المذكورة وبالقصور ، على التشبيه بحصون الأرض وقصورها . فإن النجوم هياكل فخيمة عظيمة : وزيناها أي : السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والأضواء المرئية : للناظرين أي : إلى حركاتها وأضوائها . أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بها على قدرة موجدها ووحدانيته .

وحفظناها من كل شيطان رجيم

إلا من استرق أي : اختلس : السمع أي : من الملائكة السماوية : فأتبعه أي : تبعه ولحقه : شهاب مبين أي : لهب محرق ظاهر ، فيرجع أو فيحترق .

[ ص: 3752 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[19] والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون .

والأرض مددناها أي : بسطناها: وألقينا فيها رواسي أي : جبالا ثوابت : وأنبتنا فيها من كل شيء موزون أي : وزن بميزان الحكمة ، وقدر بمقدار تقتضيه ، لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان ، أو بمعنى مستحسن متناسب ، من قولهم : كلام موزون .

وقد ذكر الشريف المرتضى في (" الدرر ") أن العرب استعملته بهذا المعنى ، كقول عمر ابن أبي ربيعة .


وحديث ألذه هو مما تشتهيه النفوس يوزن وزنا
القول في تأويل قوله تعالى :

[20-21] وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننـزله إلا بقدر معلوم .

وجعلنا لكم فيها معايش أي : ما تعيشون به من المطاعم والملابس وغيرهما ، مما تقتضيه ضرورة الحياة : ومن لستم له برازقين أي : من الأنعام والدواب وما أشبهها . قال القاضي : وفذلكة الآية الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين ، مختلفة الأجزاء في الوضع ، محدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة وطبيعة ، مع جواز أن لا يكون كذلك ، على كمال قدرته وتناهي حكمته. والتفرد في الألوهية والامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك; ليوحدوه ويعبدوه . ثم بالغ في ذلك وقال : وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننـزله إلا بقدر معلوم

[ ص: 3753 ] أي : وما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه . شبه اقتداره على كل شيء وإيجاده بالخزائن المودعة فيها الأشياء ، المعدة لإخراج ما يشاء منها وما يخرجه إلا بقدر معلوم ، استعارة تمثيلية . أو شبه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إخراجها إلى كلفة واجتهاد ، استعارة مكنية ، ومعنى: ننـزله أي : نوجده ونخرجه في عالم الشهادة . والقدر المعلوم : الأجل المعين له ، حسبما تقتضيه الحكمة ، وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[22-23] وأرسلنا الرياح لواقح فأنـزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون .

وأرسلنا الرياح لواقح أي : تلقح السحاب ، أي : تجعلها حوامل بالماء ، وذلك أن السحاب بخار يصير ، بإصابته الهواء البارد حوامل للماء . قاله المهايمي. فاللواقح عليه جمع (ملقح) بحذف الزوائد . أو تلقح الشجر بجري مائها فيه ، أو تنميته ليثمر ويزهو . وجوز كون اللواقح جمع ( لاقح ) وهي الناقة الحامل . فشبهت الريح التي تجيء بالمزن الممطرة بها ، كما يشبه ما لا تكون كذلك بـ ( العقيم) فقيل : ريح عقيم فأنـزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين أي : بقادرين على إيجاده وإنزاله . و (الخزن) اتخاذ الخزائن يستعار للقدرة ، كما مر ، أو بحافظين له في أمكنة ينابيعه ، من سهول وجبال وعيون وآبار ، بل هو تعالى وحده الذي حفظه وسلكه ينابيع في الأرض وجعله عذبا ورحم بسقياه .

وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون أي : الباقون بعد هلاك الخلق كله . وقيل للباقي: وارث، استعارة من (وارث الميت ) لأنه يبقى بعد فنائه . ومنه قوله صلوات الله عليه في دعائه : « واجعله الوارث منا » . كذا في (" الكشاف ") .

[ ص: 3754 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[24-25] ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم .

ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين أي : من تقدم ولادة وموتا ، ومن تأخر من الأولين والآخرين. أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج بعد. أو من تقدم في الإسلام وسبق إلى الطاعة ومن تأخر . لا يخفى علينا شيء من أحوالكم . وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته ، فإن ما يدل على قدرته دليل على علمه ، وفي تكرير قوله : ولقد علمنا من كمال التأكيد ما لا يخفى .

وإن ربك هو يحشرهم أي : الأولين والآخرين على كثرتهم : إنه حكيم أي : يدبر أمرهم في الحشر على وفق الحكمة : عليم أي : بكل ما فيهم من خفايا الصفات الذميمة : سيجزيهم وصفهم

القول في تأويل قوله تعالى :

[26-27] ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون والجان خلقناه من قبل من نار السموم .

ولقد خلقنا الإنسان يعني آدم : من صلصال أي : طين يابس مصوت : من حمإ صفة لصلصال ، أي : كائن من طين متغير مسود : مسنون أي : مصور ، من (سنة الوجه) وهي صورته . أو مصبوب ، من (سن الماء ) صبه . أي : مفرغ على هيئة الإنسان . كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف ، فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم صيره جسدا ولحما ونفخ فيه من روحه .

والجان خلقناه من قبل أي : من قبل الإنسان .

من نار السموم أي : من نار الريح الشديد الحر .

[ ص: 3755 ] قال أبو السعود : ومساق الآية ، كما هو ، للدلالة على كمال قدرته تعالى ، وبيان بدء خلق الثقلين ; فهو التنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر ، وهو قبول المواد للجمع والإحياء .
القول في تأويل قوله تعالى :

[28-29] وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين .

وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته أي : عدلت خلقته وأكملتها : ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين أي : تحية له وتعظيما .
القول في تأويل قوله تعالى :

[30-33] فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون .

فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون

يعني : وقد خلقتني من نار ، فأنا خير منه ، كما صرح به في آية غيرها . وفي تكرير قوله : من صلصال إلخ تذكير للإنسان بأصله هذا المفضول ; ليكون كابحا من جماح غوايته ، وشدة تمرده .

[ ص: 3756 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[34-38] قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم .

قال فاخرج منها أي : من زمرة الملائكة المعززين : فإنك رجيم أي: مطرود من كل خير وكرامة . فإن من يطرد يرجم بالحجارة . أو شيطان يرجم بالشهب ، وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته . فإن من عارض النص بالقياس فهو رجيم ملعون . أفاده أبو السعود .

وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين أي : الجزاء . وهو يوم القيامة .

قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم وهو يوم البعث .
القول في تأويل قوله تعالى :

[39-41] قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم .

قال رب بما أغويتني لأزينن لهم أي : المعاصي : في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين أي : الذين أخلصتهم لطاعتك وجردتهم بالتوجه إليك . وقرئ بكسر اللام ، أي : الذين أخلصوا دينهم لك وأعمالهم من غير حظ لغيرك فيها .

[ ص: 3757 ] قال هذا صراط علي مستقيم أي : حق نهجه ومراعاته لا اعوجاج فيه . وهو أن لا سلطان لك على عبادي المخلصين ، إلا الذين يناسبونك في الغواية والبعد عن صراطي فيتبعونك ، كما قال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[42-44] إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم .

إن عبادي ليس لك عليهم سلطان أي : قهر على الإغراء .

إلا من اتبعك من الغاوين أي : المطبوعين على الغواية .

وإن جهنم لموعدهم أجمعين قال المهايمي: لأن غوايتهم إنما كانت بترك متابعة الدليل مع متابعة الأهوية الباطلة ; لغلبتها عليهم .

لها سبعة أبواب لكل باب منهم أي : الغواة : جزء مقسوم أي : حزب معين مفرز من غيره ، حسبما يقتضيه استعداده .
القول في تأويل قوله تعالى :

[45-48] إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها بسلام آمنين ونـزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين .

إن المتقين في جنات وعيون ادخلوها أي : يقال لهم ادخلوها : بسلام أي : سالمين أو مسلما عليكم : آمنين أي : من الآفات والزوال .

ونـزعنا ما في صدورهم من غل [ ص: 3758 ] أي : حقد كان في الدنيا ، لبعضهم على بعض : إخوانا حال من فاعل : { ادخلوها } أو الضمير في (آمنين) : على سرر أي : مراتب عالية : متقابلين لتساوي درجاتهم وتقارب مراتبهم . فيتلذذ بعضهم برؤية وجه بعض : متقابلين لا يمسهم فيها نصب أي : تعب : وما هم منها بمخرجين لسرمدية مقامهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[49-52] نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون .

نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم أي : لمن تاب وآمن وعمل صالحا .

وأن عذابي هو العذاب الأليم أي : لمن لم يتب من كفره . والجملة فذلكة لما سلف من الوعد والوعيد وتقرير له .

ونبئهم عن ضيف إبراهيم أي : عن نبئه . والضيف كالزور ، يقع على الواحد والجمع .

قال في " الكشاف " : عطف : ونبئهم على : نبئ عبادي ليتخذوا ما أحل من العذاب بقوم لوط ، عبرة يعتبرون بها سخط الله وانتقامه من المجرمين ، ويتحققوا عنده أن عذابه هو العذاب الأليم .

إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون أي : خائفون ، وذلك لما رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه .

[ ص: 3759 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[53-56] قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون .

قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم قال أبشرتموني على أن مسني الكبر أي: مع مس الكبر بأن يولد لي، والكبر مانع منه : فبم تبشرون قال الزمخشري : هي (ما) الاستفهامية دخلها معنى التعجب. كأنه قال : فبأي أعجوبة تبشروني . أو أراد إنكم تبشرونني بما هو غير متصور في العادة ، فبأي شيء تبشرون ؟ يعني لا تبشروني في الحقيقة بشيء ; لأن البشارة بمثل هذا ، بشارة بغير شيء .

قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين أي : الآيسين من ذلك.

قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون يعني لم أستنكر ذلك قنوطا من رحمته ، ولكن استبعادا له في العادة التي أجراها الله تعالى ، والتصريح برحمة الله في أحسن مواقعه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[57-60] قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين .

قال أي : إبراهيم ، بعد أن ذهب عنه الروع : فما خطبكم أي : أمركم الخطير [ ص: 3760 ] الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة : أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين أي : إلى إهلاكهم . يعنون قوم لوط .

إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين أي : الباقين مع الكفرة ، لتهلك معهم . وإسناد التقدير له مجازي من باب قول خواص الملك (دبرنا كذا وأمرنا بكذا ) وإنما يعنون دبر الملك وأمر . هذا إذا كان ( قدرنا ) بمعنى أردنا وقضينا . وإن كان بمعنى علمنا ، فلا غرو في علم الملائكة ذلك ، بإخباره تعالى إياهم به .

ومن الناس من يجعل ( قدرنا ) من كلامه تعالى ، غير محكي عن الملائكة . قال في ("الانتصاف ") : وهو الظاهر لاستغنائه عن التأويل .
القول في تأويل قوله تعالى :

[61-64] فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق وإنا لصادقون .

فلما جاء آل لوط المرسلون قال إنكم قوم منكرون أي : لا أعرفكم ولا أدري من أي الأقوام أنتم وما أقدمكم .

وقال المهايمي : أي : يخاف منكم تارة وعليكم أخرى . والظاهر أنه قال ذلك لهم بعد معاناته الشدائد من قومه لأجلهم ، كما فصل في سورة هود .

قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون أي : العذاب الذي كنت تتوعدهم به ، فيمرون به ويكذبونك.

وأتيناك بالحق أي : اليقين مع هلاكهم : وإنا لصادقون

[ ص: 3761 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[65-67] فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين وجاء أهل المدينة يستبشرون .

فأسر بأهلك أي : فاذهب بهم في الليل : بقطع من الليل أي : في طائفة منه ، وهي آخره : واتبع أدبارهم أي : كن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على حالهم : ولا يلتفت منكم أحد أي : لينظر ما وراءه ، فيرى من الهول ما لا يطيقه : وامضوا حيث تؤمرون

وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين أي : يستأصلون عن آخرهم ، حال كونهم داخلين في الصبح .

وجاء أهل المدينة أي : مدينة لوط ، وهي سدوم : يستبشرون أي : بأضيافه ، طمعا فيهم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[68-77] قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون قالوا أولم ننهك عن العالمين قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فأخذتهم الصيحة مشرقين فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل إن في ذلك لآيات للمتوسمين وإنها لبسبيل مقيم إن في ذلك لآية للمؤمنين .

[ ص: 3762 ] قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون أي : بالإساءة إليهم ، فإن الإساءة إليهم فضيحة للمضيف .

واتقوا الله ولا تخزون

قالوا أولم ننهك عن العالمين أي : عن أن تجير أحدا منهم ، أو تدفع عنهم ، أو تمنع بيننا وبينهم ، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد . وكان يقوم صلى الله عليه وسلم بالنهي عن المنكر والحجر بينهم وبين المتعرض له . فأوعدوه وقالوا : لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين أفاده الزمخشري .

قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين تقدم الكلام عليه في سورة هود مفصلا .

لعمرك قسم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم ، اعترض به تعبا من شدة غفلتهم وتكريما للمخاطب : إنهم لفي سكرتهم أي : غفلتهم التي ذهبت معها أحلامهم : يعمهون أي : يترددون فلا يفهمون ما يقال لهم . ولما لم يسمعوا منه النصيحة المبقية لهم ; أسمعهم الله الصيحة المهلكة لهم .

فأخذتهم الصيحة أي : صيحة العذاب : مشرقين أي : داخلين في وقت شروق الشمس .

فجعلنا أي : من تلك الصيحة المحركة للأرض : عاليها سافلها قال المهايمي : لجعلهم الرجال العالين كالنساء السافلات .

وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل أي : طين متحجر ; لرجمهم على لواطهم .

إن في ذلك لآيات للمتوسمين أي : الناظرين بطريق في الآيات .

وإنها يعني [ ص: 3763 ] مدينة قوم لوط المدمرة : لبسبيل مقيم أي : ثابت يسلكه الناس ، لم يندرس بعد ، وهم يبصرون تلك الآثار .

قال الزمخشري : وهو تنبيه لقريش ، كقوله : وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون

إن في ذلك لآية للمؤمنين أي : في هلاكهم لعبرة لهم .

تنبيهان :

الأول : قال ابن القيم في " أقسام القرآن " : أكثر المفسرين من السلف والخلف ، بل لا يعرف السلف فيه نزاعا - أن هذا - يعني قوله تعالى : لعمرك قسم من الله بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم . وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الرب عز وجل بحياته . وهذه مزية لا تعرف لغيره .

ولم يوفق الزمخشري لذلك ، فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط وإنه من قول الملائكة .

فقال : هو على إرادة القول أي : قالت الملائكة للوط عليه السلام : لعمرك الآية ، وليس في اللفظ ما يدل على واحد من الأمرين ، بل ظاهر اللفظ وسياقه إنما يدل على أن ما فهمه السلف أطيب ، لا أهل التعطيل والاعتزال .

قال ابن عباس رضي الله عنهما : لعمرك أي : حياتك ، قال : وما أقسم الله تعالى بحياة نبي غيره . والعمر والعمر واحد ، إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإثبات الأخف ; لكثرة دور الخلف على ألسنتهم . وأيضا فإن العمر حياة مخصوصة ، فهو عمر شريف عظيم أهل أن يقسم به ; لمزيته على كل عمر من أعمار بني آدم . ولا ريب أن عمره وحياته من أعظم النعم والآيات ، فهو أهل أن يقسم به . والقسم به أولى من القسم بغيره من المخلوقات . ثم [ ص: 3764 ] قال ابن القيم : وإنما وصف الله سبحانه اللوطية بالسكرة ; لأن للعشق سكرة مثل سكرة الخمر كما قال القائل :


سكران" سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاقة من به سكران


الثاني : قوله تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسمين قال السيوطي في " الإكليل " : هذه الآية أصل في الفراسة . أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعا : « اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله » ، ثم قرأ هذه الآية . وقد كان بعض قضاة المالكية يحكم بالفراسة في الأحكام ، جريا على طريق إياس بن معاوية . انتهى .

وقد أجاد الكلام في الفراسة الراغب الأصفهاني في كتاب (" الذريعة ") حيث قال في الباب السابع : وأما الفراسة ، فالاستدلال بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله ، على أخلاقه وفضائله ورذائله .

وربما يقال : هي صناعة صيادة لمعرفة أخلاق الإنسان وأحواله . وقد نبه الله تعالى على صدقها بقوله : إن في ذلك لآيات للمتوسمين وقوله : تعرفهم بسيماهم وقوله : ولتعرفنهم في لحن القول ولفظها من قولهم ( فرس السبع الشاة ) فكأن الفراسة اختلاس المعارف ، وذلك ضربان : ضرب يحصل للإنسان عن خاطر لا يعرف سببه ، وذلك ضرب من الإلهام ، بل ضرب من الوحي ، وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : « المؤمن [ ص: 3765 ] ينظر بنور الله » وهو الذي يسمى صاحبه : المروع والمحدث . وقال عليه الصلاة والسلام : « إن يكن في هذه الأمة محدث فهو عمر » .

وقيل في قوله تعالى : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب الآية ، إنما كان وحيا بإلقائه في الروع ، وذلك للأنبياء كما قال عز وجل : نـزل به الروح الأمين على قلبك وقد يكون بإلهام في حال اليقظة ، وقد يكون في حال المنام . ولأجل ذلك قال عليه الصلاة والسلام : « الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة » .

والضرب الثاني من الفراسة يكون بضاعة متعلمة وهي معرفة ما بين الألوان والأشكال ، وما بين الأمزجة والأخلاق والأفعال الطبيعية . ومن عرف ذلك كان ذا فهم ثاقب بالفراسة . وقد عمل في ذلك كتب ، من تتبع الصحيح منها اطلع على صدق ما ضمنوه . والفراسة ضرب من الظن . وسئل بعض محصلة الصوفية عن الفرق بينهما فقال : الظن بتقلب القلب ، والفراسة بنور الرب . ومن قوي فيه نور الروح المذكور في قوله تعالى : ونفخت فيه من روحي وكان ممن وصفه بقوله : أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه وكان ذلك النور شاهدا ; أصاب فيما حكم به . ومن الفراسة قوله عليه السلام في المتلاعنين : « إن أمرهما بين ، لولا حكم الله » .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.50 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 48.87 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.27%)]