عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 30-04-2023, 06:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ اَلنَّحْلِ
المجلد العاشر
صـ 3811 الى صـ 3825
الحلقة (426)

[ ص: 3811 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[41] والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون .

والذين هاجروا في الله أي : مخلصين لوجهه ، أو في حقه ، وهم إما مهاجرة الحبشة الذين اشتد أذى قومهم بمكة ، حتى خرجوا من بين أظهرهم إلى بلاد الحبش بأمره صلى الله عليه وسلم ، وذلك مخافة الفتنة وفرارا إليه تعالى بدينهم ، وكانوا ثلاثة وثمانين رجلا سوى صغار أبنائهم ، وهي أول هجرة في الإسلام . ويؤيده كون السورة مكية .

أو هم مهاجرة المدينة ، أخبر به قبل وقوعه أو بعده ، إلا أنها ألحقت بالمكية . وقوله تعالى : من بعد ما ظلموا أي : أوذوا ، وأريد فتنتهم عن الدين : لنبوئنهم في الدنيا حسنة يعني بالغلبة على من ظلمهم ، وإيراثهم أرضهم وديارهم : ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون يعني مضطهديهم وظالميهم . وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه ، يقول : " خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر لك في الآخرة أفضل " . ثم وصفهم تعالى بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[42-44] الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنـزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نـزل إليهم ولعلهم يتفكرون .

الذين صبروا أي : على ما أوذوا في سبيل الله : وعلى ربهم يتوكلون أي : فلا [ ص: 3812 ] يخشون أحدا غيره . والوصفان المذكوران : الصبر والتوكل ، من أمهات الصفات التي يجب على الداعي إلى الحق ، والمدافع عنه ، أن يكونا خلقا له ؛ إذ لا ظفر بغاية إلا بهما . ولما عجبوا من إيحاء الله لرسوله ، واصطفائه برسالته ؛ قيل في درء شبهتهم .

وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون يعني أهل الكتاب أو علماء الأحبار ؛ ليعلموكم أنه لم يرسل للدعوة العامة ملك من أهل السماء . فالذكر : إما بمعنى الكتاب لما فيه من الذكر والعظة ، كقوله : إن هو إلا ذكر أو بمعنى الحفظ لأخبار الأمم السالفة . وفي الآية دليل على وجوب الرجوع إلى العلماء فيما لا يعلم . واستدل بها بعضهم على جواز التقليد في الفروع للعامي . وفي ذلك بحث طويل في " إيقاظ الهمم " للفلاني ، فارجع إليه إن شئت . وأشار إلى طرف منه في " فتح البيان " .

وقوله تعالى : بالبينات والزبر أي : بالآيات المبرهنة على صدقهم والكتب المرشدة إلى مصالح الخلق . والجار متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله ، أي : أرسلناهم . أو بـ (ما أرسلنا) . أو بـ (نوحي) أو بـ (لا تعلمون) ، على أن الشرط للتبكيت والإلزام : وأنـزلنا إليك الذكر أي : القرآن المذكر والموقظ من سنة الغفلة : لتبين للناس ما نـزل إليهم أي : مما أمروا ونهوا ووعدوا وأوعدوا : ولعلهم يتفكرون أي : ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين . أو يتأملون ما فيه من العبر فيحترزون عما أصاب الأولين . ولذا تأثره بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[45] أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون .

أفأمن الذين مكروا السيئات أي : المسكرات السيئات التي قصت عنهم . فهي [ ص: 3813 ] صفة لمصدر محذوف أو مفعول لـ ( مكروا ) بتضمينه معنى ) عملوا ) : أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون

أي : من جهة لا يعلمون بها ، كما لا يشعر الممكور بقصد الماكر .
القول في تأويل قوله تعالى :

[46-48] أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون .

أو يأخذهم في تقلبهم أي : سعيهم في المعايش واشتغالهم بها : فما هم بمعجزين أي : لا يعجزون ربهم على أي حال كانوا .

أو يأخذهم على تخوف أي : توقع للهلاك ومخافة له ، فإنه يكون أبلغ وأشد . أو ننقص في أبدانهم وأموالهم وثمارهم حتى يهلكوا . يقال : تخوفه : تنقصه وأخذ من أطرافه : فإن ربكم لرءوف رحيم أي : حيث يحلم عنكم ولا يعاجلكم بالعقوبة . ثم أخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه بانقياد سائر مخلوقاته : جمادات وحيوانات ومكلفين من الجن والإنس والملائكة له سبحانه ، بقوله : أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء أي : جسم قائم له ظل : يتفيأ ظلاله أي : يرجع شيئا فشيئا : عن اليمين والشمائل أي : عن جانبي كل واحد منها ، بكرة وعشيا : سجدا لله أي : منقادة له على حسب مشيئته في الامتداد والتقلص وغيرهما ، غير ممتنعة عليه فيما سخرها له : وهم داخرون أي : صاغرون . وغلب في جمعها من يعقل ، فأتى بالواو . أو لأن الدخور من أوصاف العقلاء . فهو إما تغليب أو استعارة ، وكذا ضمير ( هم ) أيضا ؛ لأنه مخصوص بالعقلاء ، فيجوز أن يعتبر ما ذكر فيه ، ويجعل ما بعده جاريا على المشاكلة .

[ ص: 3814 ] لطيفة :

لابن الصائغ في سر توحيد اليمين وجمع الشمائل توجيه لطيف ، وملخصه : أنه نظر إلى الغاية فيهما ؛ لأن ظل الغداة يضمحل بحيث لا يبقى منه إلا اليسير ، فكأنه في جهة واحدة . وهو في العشي على العكس ، لاستيلائه على جميع الجهات . فلحظت الغايتان . هذا من جهة المعنى .

وأما من جهة اللفظ فجمع ليطابق ( سجدا ) المجاور له ، كما أفرد الأول لمجاورة ضمير ( ظلاله ) وقدم الإفراد لأنه أصل أخف . و ( عن اليمين ) متعلق بـ ( يتفيأ ) أو حال . كذا في (" العناية ") .
ثم بين سجود سائر المخلوقات سواء كانت لها ظلال أم لا ، بقوله تعالى :

القول في تأويل قوله تعالى :

[49] ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون .

ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم أي : الملائكة ، مع علو شأنهم : لا يستكبرون أي : عن عبادته والسجود له .
القول في تأويل قوله تعالى :

[50] يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون .

يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون أي : من الطاعات والتدبير . واستدل بقوله : من فوقهم على ثبوت الفوقية والعلو له تعالى . وقد صنف في ذلك الحافظ الذهبي كتاب (" العلو ") وابن القيم كتاب (" الجيوش الإسلامية ") وغيرهما . وأطنب فيها الحكيم ابن رشد في (" مناهج الدولة ") فليرجع إليها . وكلهم متفقون على أنه علو بلا تشبيه ولا تمثيل . وانفرد السلف بخطر التأويل والتعطيل . وقوله :
[ ص: 3815 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[51] وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون .

وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون إعلام بنهيه الصريح عن الإشراك . وبأمره بعبادته وحده ، وإنما خصص هذا العدد ؛ لأنه الأقل ، فيعلم انتفاء ما فوقه بالدلالة . فإن قيل : الواحد والمثنى نص في معناهما ، لا يحتاج معهما إلى ذكر العدد ، كما يذكر مع الجميع . أي : في نحو رجال ثلاثة ، وأفراس أربعة ؛ لأن المعدود عار عن الدلالة على العدد الخاص ، فلم ذكر العدد فيهما ؟ أجيب بأن العدد يدل على أمرين : الجنسية والعدد المخصوص . فلما أريد الثاني صرح به للدلالة على أنه المقصود الذي سيق له الكلام وتوجه له النهي دون غيره . فإنه قد يراد بالمفرد الجنس ، نحو : نعم الرجل زيد . وكذا المثنى كقوله :


فإن النار بالعودين تذكى وإن الحرب أولها الكلام


وقيل : ذكر العدد للإيماء بأن الاثنينية تنافي الألوهية . فهو في معنى قوله : لو كان [ ص: 3816 ] فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فلذا صرح بها ، وعقبت بذكر الوحدة التي هي من لوازم الألوهية .

قال الشهاب : ولا حاجة إلى جعل الضمير للمعبود بحق المراد من الجلالة على طريق الاستخدام .

وقوله تعالى : وقال الله معطوف على قوله : ولله يسجد أو على قوله : وأنـزلنا إليك الذكر وقيل : إنه معطوف على : ما خلق الله على أسلوب :


علفتها تبنا وماء باردا


[ ص: 3817 ] أي : أولم يروا إلى ما خلق الله ولم يسمعوا ما قال الله ؟ ولا يخفى تكلفه . وفي قوله : فإياي فارهبون التفات عن الغيبة ، مبالغة في الترهيب . فإن تخويف الحاضر مواجهة ، أبلغ من ترهيب الغائب ، لا سيما بعد وصفه بالوحدة والألوهية المقتضية للعظمة والقدرة التامة على الانتقام . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[52-55] وله ما في السماوات والأرض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون .

وله ما في السماوات والأرض معطوف على قوله : إنما هو إله واحد أو على الخبر ، أو مستأنف وله الدين واصبا أي : العبادة لازمة له وحده . ولزومها له ينافي خوف الغير ؛ إذ يقتضي تخصيصه تعالى بالرهبة والخشية ، وهذا كقوله : أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون

أفغير الله تتقون أي : وهو مالك النفع والضر . 50 وما بكم من نعمة فمن الله أي فمن فضله وإحسانه : ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون أي : لا تتضرعون إلا إليه ؛ لعلمكم أنه لا يقدر على كشفه إلا هو سبحانه . والجؤار : رفع الصوت . يقال : جأر إذا أفرط في الدعاء والتضرع ، وأصله صياح الوحش .

ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون أي : بنسبة النعمة إلى غيره ورؤيتها منه . وكذا بنسبة الضر إلى الغير ، وإحالة الذنب في ذلك عليه ، [ ص: 3818 ] والاستعانة في رفعه به . وذلك هو كفران النعمة ، والغفلة عن المنعم المشار إليهما بقوله :

ليكفروا بما آتيناهم أي : من نعمة الكشف عنهم . واللام للعاقبة والصيرورة : فتمتعوا فسوف تعلمون أي : وبال ذلك الكفر . وفيه إشعار بشدة الوعيد ، وأنه إنما يعلم بالمشاهدة ، ولا يمكن وصفه ، فلذا أبهم .

وللقاشاني وجه آخر ، قال : أو فسوف تعلمون ، بظهور التوحيد ، أن لا تأثير لغير الله في شيء .
ثم بين تعالى من مثالب المشركين بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

[56-57] ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون .

ويجعلون لما لا يعلمون أي : لآلهتهم التي لا علم لها ؛ لأنها جماد : نصيبا مما رزقناهم أي : من الزرع والأنعام وغيرهما تقربا إليها : تالله لتسألن عما كنتم تفترون أي : من أنها آلهة يتقرب إليها . ومر نظير الآية في سورة الأنعام في قوله سبحانه : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا الآية ، فانظر تفصيلها ثمة .

ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون هذا بيان لعظيمة من عظائمهم ، وهو جعلهم الملائكة الذين هم عباد الرحمن بنات لله ، فنسبوا له تعالى ولدا ولا ولد له . واجترءوا على التفوه بمثل ذلك ، وعلى نسبة أدنى القسمين له من الأولاد ، وهو البنات ، وهم لا يرضونها لأنفسهم ؛ لأنهم يشتهون الذكور ، أي : يختارونهم لأنفسهم ويأنفون من البنات . وقد نزه مقامه الأقدس عن ذلك بقوله : سبحانه أي : عن إفكهم وقولهم . وفيه تعجب من جراءتهم على التفوه بهذا المنكر من القول ، ومن مقاسمتهم لجلاله بالاستئثار كما قال سبحانه : ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا [ ص: 3819 ] قسمة ضيزى وقال تعالى : ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون ثم أشار إلى شدة كراهتهم للإناث ، بما يمثل عظم تلك النسبة إلى الجناب الأقدس وفظاعتها ، بقوله سبحانه وتعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[58-59] وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون .

وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه أي : صار أو دام النهار كله : مسودا أي : متغيرا من الغم والحزن والغيظ والكراهية التي حصلت له عند هذه البشارة . وسواد الوجه وبياضه يعبر عن المساءة والمسرة ، كناية أو مجازا وهو كظيم أي : مشتد الغيظ على امرأته ؛ لأنه بزعمه ، حصل له منها ما يوجب أشد الحياء ، حتى أنه : يتوارى من القوم أي : يستخفي منهم : من سوء ما بشر به أي : من أجله وخوف التعيير به . ثم يفكر فيما يصنع به ، وهو قوله تعالى : أيمسكه على هون أي : محدثا نفسه متفكرا في أن يتركه على هوان وذل ، لا يورثه ولا يعتني به ، ويفضل ذكور ولده عليه :أم يدسه في التراب أي : يخفيه ويدفنه فيه حيا : ألا ساء ما يحكمون أي : حيث يجعلون الولد الذي هذا شأنه من الحقارة والهون عندهم ، لله تعالى وتقدس ، ويجعلون لأنفسهم من هو على عكس هذا الوصف . وقوله تعالى :
[ ص: 3820 ] القول في تأويل قوله تعالى :

[60] للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم .

للذين لا يؤمنون بالآخرة أي : مثل من ذكرت مساوئهم : مثل السوء أي : صفات الذل من الحاجة إلى الأولاد وكراهية الإناث ووأدهن ، خشية الإملاق ، المنادى كل ذلك بالعجز والقصور والشح البالغ . ووضع الموصول موضع الضمير ؛ للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك القبائح هو الكفر بالآخرة : ولله المثل الأعلى أي : الوصف العالي الشأن ، وهو الغني عن العالمين ، والكمال المطلق والتقدس عن سمات المخلوقين : وهو العزيز الحكيم

ثم أخبر تعالى عن حلمه بخلقه ، مع ظلمهم ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[61-62] ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون .

ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم أي : بكفرهم ومعاصيهم التي منها ما عدد من المساوئ المتقدمة : ما ترك عليها أي : على الأرض المدلول عليها بالناس ، وبقوله تعالى : من دابة أي : لأهلكها بالمرة بشؤم ظلم الظالمين : ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى [ ص: 3821 ] أي : وقت معين تقتضيه الحكمة . يستغفر منهم من يستغفر فيغفر له ، ويصر من يصر فيزداد عذابا : فإذا جاء أجلهم أي : المسمى : لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون

ويجعلون لله أي : ينسون إليه : ما يكرهون أي : من البنات ومن الشركاء . وهم يأنفون من الأولى كما يكرهون مشاركة أحد لهم في مالهم . وهو تكرير لما سبق ، تثنية للتقريع وتوطئة لقوله تعالى :

وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى أي : يجعلون لله ذلك ، مع دعواهم أن لهم العاقبة الحسنى عند الله ، إن كان ثم معاد ، كما قصه تعالى عنهم بقوله : ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى يعني جمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني المحال ، بأن يجازوا على ذلك حسنا .

وقد روي أنه وجد في أحد أحجار الكعبة لما جددت مكتوبا ) تعملون السيئات وتجزون الحسنات . أجل . كما يجتبى من الشوك العنب ) و : أن لهم إلخ بدل من (الكذب ) أو بتقدير بأن لهم .

قال الشهاب : قوله تعالى : قوله : وتصف ألسنتهم الكذب من بليغ الكلام وبديعه كقولهم : (عينها تصف السحر ) أي : ساحرة . وقدها يصف الهيف ، أي : هيفاء .

قال أبو العلاء المعري :


سرى برق المعرة بعد وهن فبات برامة يصف الكلالا


[ ص: 3822 ] ثم رد كلامهم وأثبت ضده بقوله سبحانه : لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون أي : معجلون إليها ومقدمون . من ( الفرط ) وهو السابق إلى الورد . يقال : أفرطته في طلب الماء إذا قدمته . أو متروكون منسيون في النار . من ( أفرطته ) بمعنى تركته ونسيته ، على ما حكاه الفراء ، كقوله تعالى : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وقرأ نافع (مفرطون ) بكسر الراء . اسم فاعل من ( أفرط ) إذا تجاوز ، أي : متجاوزو الحد في معاصي الله . وقرأ أبو جعفر بكسر الراء المشددة من ( فرط في كذا ) إذا قصر . ويقرب من الآية ما قص عنهم في قوله تعالى : ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ وقال تعالى : ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا

ثم ذكر تعالى نعمته في إرسال الرسل وتكذيب أممهم ؛ ليتأسى صلوات الله عليه بهم بقوله سبحانه :

[ ص: 3823 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[63-64] تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم وما أنـزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون .

تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم أي : من الكفر والتكذيب والعناد : فهو وليهم اليوم أي : قرينهم ، يغويهم . أو المراد باليوم : يوم القيامة . والولي بمعنى الناصر . وجعله ناصرا فيه ، مع أنهم لا ينصرون ؛ مبالغة في نفيه وتهكم ، على حد ( عتابه السيف ) : ولهم عذاب أليم وما أنـزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه أي : فالقرآن هو الفرقان الفاصل بين الحق والباطل ، وكل ما يتنازع فيه : وهدى أي : للقلوب : ورحمة لقوم يؤمنون ثم أشار إلى عظيم قدرته في آياته الكونية الدالة على وحدانيته ، إثر قدرته في إحياء القلوب الميتة بالكفر ، بما أنزله من وحيه وهداه ورحمته ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[65-66] والله أنـزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين .

والله أنـزل من السماء أي : المزن : ماء فأحيا به الأرض بعد موتها أي : [ ص: 3824 ] بالنبات والزرع ، بعد جدبها ويبسها : إن في ذلك لآية لقوم يسمعون أي : هذا التذكير ، ويعقلون وجه دلالته .

وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث وهو ما في الكرش من الثفل : ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين أي : سهل المرور في حلقهم .

بين تعالى آيته في الأنعام بما ذكر ؛ ليستدل به على وحدانيته وانفراده بالألوهية ، وليستدل به أيضا على الحشر . فإن العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والتراب . فقلب الطين نباتا وعشبا ، ثم تبديله دما في جوف الحيوان ، ثم تحويله إلى لبن ؛ أعظم عبرة على قدرته تعالى على قلب هذه الأجسام الميتة من صفة إلى صفة . وإنما ذكر الضمير في بطونه هنا ، وأنثه في سورة المؤمنين ؛ لكون الأنعام اسم جمع ، فيذكر ويفرد ضميره ، باعتبار لفظه . ويؤنث ويجمع باعتبار معناه .

وقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[67] ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون .

ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون بيان لآيته تعالى في الثمرات المذكورة ، ومنته في المشروب منها والمطعوم . و ( السكر ) : مصدر سمي به الخمر . فهو بمعنى السكر كالرشد والرشد .

قال الفراء : السكر : الخمر نفسها . والرزق الحسن : الزبيب والتمر وما أشبههما ، ولا يقال : الخمر محرمة ، فكيف ذكرها الله في معرض الإنعام ؟ لأن هذه السورة مكية ، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة . وكان نزول هذه الآية في الوقت الذي كانت الخمر فيه غير محرمة . وأجاب الرازي بجواب ثان .

[ ص: 3825 ] وهو : أنه لا حاجة إلى التزام هذا النسخ ، وذلك لأنه تعالى ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع ، وخاطب المشركين بها ، والخمر من أشربتهم ، فهي منفعة في حقهم .

قال : ثم إنه تعالى نبه في هذه الآية أيضا على تحريمها . وذلك لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر ، فوجب أن لا يكون السكر رزقا حسنا . ولا شك أنه حسن بحسب الشهوة فوجب أن يقال : الرجوع عن كونه حسنا بحسب الشريعة . وهذا إنما يكون كذلك إذا كانت محرمة . انتهى .

تنبيه :

قال ابن كثير : دلت الآية على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب كما هو مذهب الجمهور .

وفي (" فتح البيان ") قد حمل السكر جماعة من الحنفية على ما لا يسكر من الأنبذة وعلى ما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يشتد إلى حد السكر . كما في (" الكشاف ") .

قالوا : إنما يمتن الله على عباده بما أحله لا بما حرمه عليهم . وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة المتواترة على فرض تأخره عن آية تحريم الخمر . انتهى .

وليس هذا موضع بسط ذلك . قال ابن كثير : وقد ناسب ذكر العقل ها هنا في قوله تعالى : لقوم يعقلون فإنه أشرف ما في الإنسان . ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة ؛ صيانة لعقولها . انتهى .

ولما بين تعالى أن إخراج الألبان من النعم ، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب ، دلائل قاهرة وبينات باهرة ، على أن لهذا العالم إلها واحدا قادرا مختارا حكما ؛ أرشد إلى آيته الساطعة في النحل أيضا بقوله سبحانه :




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.42 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.36%)]