عرض مشاركة واحدة
  #427  
قديم 30-04-2023, 05:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,470
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ اَلنَّحْلِ
المجلد العاشر
صـ 3826 الى صـ 3840
الحلقة (427)

القول في تأويل قوله تعالى :

[68-69] وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون .

وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون المراد من الوحي : الإلهام والهداية إلى بنائها تلك البيوت العجيبة المسدسة ، من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض ، مما لا يمكن مثله للبشر إلا بأدوات وآلات . وقد أرشدها تعالى إلى بنائها بيوتا تأوي إليها في ثلاثة أمكنة : الجبال . والشجر . وبيوت الناس ، حيث يعرشون ، أي : يبنون العروش ، جمع ( عرش ) وهو البيت الذي يستظل به كالعريش . وليس للنحل بيت في غير هذه الأمكنة : الجبال والشجر وبيوت الناس . وأكثر بيوتها ما كان في الجبال ، وهو المتقدم في الآية ، ثم في الشجر دون ذلك ، ثم في الثالث أقل .

فالنحل إذا نوعان : جبلية تسكن في الجبال والفيافي لا يتعهدها أحد من الناس . وأهلية تأوي إلى البيوت وتتعهد في الخلايا . ومن بديع الإلهام فيها اتخاذها البيوت قبل المرعى . فهي تتخذها أولا . فإذا استقر لها بيت خرجت منه ، فرعت ، وأكلت من الثمرات ، ثم أوت إلى بيوتها . وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله : ثم كلي من كل الثمرات أي : من كل ثمرة تشتهيها ، حلوها ومرها . فالعموم عرفي ، أو لفظ ( كل ) للتكثير ، أو هو عام مخصوص بالعادة . ولو أبقي الأمر على ظاهره لجاز ؛ لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها ؛ لأن الأمر للتخلية والإباحة .

[ ص: 3827 ] لطيفة :

إنما أوثر ( من ) في قوله تعالى : من الجبال إلخ ، على ( في ) دلالة على معنى التبعيض . وأن لا تبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ، ولا في كل مكان منها . نبه عليه الزمخشري .

قال الناصر : ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه في تبعيض ( من ) المتعلقة باتخاذ البيوت ، بإطلاق الأكل . كأنه تعالى وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها ، فلم يحجر عليها فيه ، وإن حجر عليها في البيوت وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض ؛ لأن مصلحة الآكل حاصلة على الإطلاق باستمرار مشتهاها منه . وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع . ولهذا المعنى دخلت ( ثم ) لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت ، والإطلاق لها في تناول الثمرات . كما تقول : راع الحلال فيما تأكله ، ثم كل أي شيء شئت . فتوسط ( ثم ) لتفاوت الحجر والإطلاق . فسبحان اللطيف الخبير .

وقوله تعالى : فاسلكي سبل ربك ذللا أي : الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل . فالسبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها ، أو على حقيقتها . أي : إذا أكلت الثمار في المواضع النائية ، فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك ، لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها . و ( ذللا ) جمع ذلول ، حال من ( السبل ) أي : مذللة ذللها الله لك وسهلها . فهي تسلك من هذا الجو العظيم ، والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة . ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة . وقوله تعالى : يخرج من بطونها شراب استئناف ، عدل به عن خطاب النحل ؛ لبيان ما يظهر منها من عجيب صنعه تعالى ؛ تعديدا للنعم ، وتنبيها على العبر ، وإرشادا إلى الآيات العظيمة من هذا الحيوان الضعيف . وسمي العسل شرابا ؛ لأنه يشرب مع الماء وغيره : مختلف ألوانه أي فمنه أبيض وأصفر وأحمر ؛ لاختلاف ما يؤكل من النور أو مزاجها : فيه شفاء للناس لأنه من جملة الأشفية والأدوية في بعض الأمراض . وله دخل في أكثر ما به الشفاء والمعاجين ، وقل [ ص: 3828 ] معجون من المعاجين ، لم يذكر الأطباء فيه العسل . وقد قام الآن مقامه السكر ، لكثرته بالنسبة إليه . وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه فقال : « اسقه عسلا » فذهب فسقاه عسلا ، فقال : يا رسول الله ! سقيته عسلا ما زاده إلا استطلاقا . قال : « اذهب فاسقه عسلا » فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يا رسول الله ! ما زاده إلا استطلاقا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « صدق الله وكذب بطن أخيك ، اذهب فاسقه عسلا . فذهب فسقاه عسلا فبرأ » .

قال ابن كثير : قال بعض العلماء بالطب : كان هذا الرجل عنده فضلات . فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع ، فزاده إسهالا ، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره ، وهو مصلحة لأخيه ، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ، ثم سقاه فكذلك ، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن ، استمسك بطنه ، وصلح مزاجه واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته صلى الله عليه وسلم . انتهى .

وفي (" العناية ") للشهاب هنا ، قصة عن طبقات الأطباء فيها تأييد لقصة الأعرابي فانظرها .

إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون أي : فيعتبرون ويستدلون على وحدانيته سبحانه ، وانفراده بألوهيته ، وأنه هو الذي ألهم هذه الدواب الضعيفة فعلمت مساقط الأنداء ، من وراء البيداء ، فتقع على كل حرارة عبقة ، وزهرة أنقة ، ثم تصدر عنها بما تحفظه رضابا ، وتلفظه شرابا .

[ ص: 3829 ] قال الحجة الغزالي (" في الإحياء ") : انظر إلى النحل كيف أوحى الله إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتا . وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل . وجعل أحدهما ضياء والآخر شفاء . ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار ، واحترازها من النجاسات والأقذار ، وطاعتها لواحد من جملتها وهو أكبرها شخصا وهو أميرها ، ثم ما سخر الله لأميرها من العدل والإنصاف بينها ، حتى أنه ليقتل منها على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة ؛ لقضيت من ذلك العجب إن كنت بصيرا في نفسك ، وفارغا من هم بطنك وفرجك ، وشهوات نفسك في معاداة أقرانك ، وموالاة إخوانك . ثم دع عنك جميع ذلك ، وانظر إلى بنيانها بيتا من الشمع ، واختيارها من جميع الأشكال الشكل المسدس ، فلا تبني بيتها مستديرا ولا مربعا ولا مخمسا ، بل مسدسا لخاصية في الشكل المسدس ، يقصر فهم المهندس عن درك ذلك . وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستدير وما يقرب منه . فإن المربع تخرج منه زوايا ضائعة . وشكل النحل مستدير مستطيل . فترك المربع حتى لا تبقى الزوايا فارغة . ثم لو بناها مستديرة لبقي خارج البيوت فرج ضائعة ، فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة ، ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير . ثم تتراص الجملة منه بحيث لا تبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس . وهذه خاصية هذا الشكل . فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل ، على صغر جرمه ، ذلك ؛ لطفا به وعناية بوجوده فيما هو محتاج إليه ؛ ليهنأ عيشه . فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه . وفي طبعه أنه يهرب بعضه من بعض ويقاتل بعضه بعضا في الخلايا ويلسع من دنا من الخلية . وربما هلك الملسوع . وإذا أهلك شيء منها داخل الخلايا أخرجته الأحياء إلى خارج . وفي طبعه أيضا النظافة . فلذلك يخرج رجيعه من الخلية ؛ لأنه منتن الريح . وهو يعلم زماني الربيع والخريف . والذي يعمله في الربيع أجود . والصغير أعمل من الكبير ، وهو يشرب من الماء ما كان صافيا عذبا ، يطلبه حيث كان . ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعة . وإذا قل العسل في الخلية ، قذفه بالماء ليكثر ، خوفا على نفسه من نفاده ؛ لأنه إذا نفد أفسد النحل بيوت الملوك وبيوت الذكور . وربما قتلت ما كان منها هناك .

[ ص: 3830 ] قال حكيم من اليونان لتلامذته : كونوا كالنحل في الخلايا . قالوا : وكيف النحل في الخلايا ؟ قال : إنها لا تترك عندها بطالا إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية ، لأنه يضيق المكان ، ويفني العسل ، ويعلم النشيط الكسل .

والنحل يسلخ جلده كالحيات . وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة ، ويضره السوس . ودواؤه أن يطرح له في كل خلية كف ملح . وأن يفتح في كل شهر مرة ، ويدخن بأخثاء البقر . وفي طبعه أنه متى طار من الخلية ، يرعى ثم يعود ، فتعود كل نحلة إلى مكانها لا تخطئه . كذا في (" حياة الحيوان ") .

وذكر الإمام الغزالي أيضا في كتاب (" الحكمة في خلق المخلوقات ") : أن الله تعالى جعل للنحل رئيسا تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتها . فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه ؛ قتل أحدهما الآخر ، وذلك لمصلحة ظاهرة ، وهو خوف الافتراق ؛ لأنهما إذا كانا أميرين ، وسلك كل واحد منهما فجا ، افترق النحل خلفهما . ثم إنها ألهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار . فيستحيل في أجوافها عسلا . فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد ، من شراب فيه شفاء للناس ، كما أخبر سبحانه وتعالى . وفيه غذاء وملاذ للعباد . وفيه من أقوات فضلات عظيمة جعلت لمنافع بني آدم . فهي مثل ما يفضل من اللبن الذي خلق لمصالح أولاد البهائم وأقواتها . وما فضل من ذلك ففيه من البركة والكثرة ما ينتفع به الناس . ثم انظر ما تحمله النحل من الشمع في أرجلها ، لتوعي فيه العسل وتحفظه . فلا تكاد تجد وعاء أحفظ للعسل من الشمع في الأجناح . فانظر في هذه الذبابة ، هل في علمها وقدرتها جمع الشمع مع العسل ؟ أو عندها من المعرفة بحيث رتبت حفظ العسل مدة طويلة باستقراره في الشمع وصيانته في الجبال والشجر في المواضع التي تحفظه ولا يفسد فيها ! ثم انظر لخروجها نهارا لرعيها ورجوعها عشية إلى أماكنها وقد حملت ما يقوم بقوتها ويفضل عنها ، ولها في ترتيب بيوتها من الحكمة في بنائها حافظ لما تلقيه من أجوافها من العسل ، [ ص: 3831 ] ولها جهة أخرى تجعل فيها برازها مباعدا عن مواضع العسل . وفيها غير هذا مما انفرد الله بعلمه .

قال أبو السعود : ولما ذكر سبحانه من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل ؛ أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته فيما بين ذلك . وقد ضبطوا مراتب العمر في أربع : الأولى : سن النشوء والنماء . والثانية : سن الوقوف وهي سن الشباب . والثالثة : سن الانحطاط القليل وهي سن الكهولة . والرابعة : سن الانحطاط الكبير وهي سن الشيخوخة ، فقال سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[70-71] والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون .

والله خلقكم أي : أنشأكم من العدم : ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر أي : أضعفه وأردئه وهو الهرم . وقوله تعالى : لكي لا يعلم بعد علم شيئا اللام للصيرورة والعاقبة . أي : فيصير ، إن كان عالما جاهلا ، فيريكم من قدرته أنه كما قدر على نقله من العلم إلى الجهل ، أنه قادر على إحيائه بعد إماتته .

قال في (" العناية ") : وكونه غير عالم بعد علمه ، كناية عن النسيان ؛ لأن الناسي يعلم الشيء ثم ينساه ، فلا يعلم بعد ما علم . أو العالم بمعنى الإدراك والتعقل ، والمعنى : لا يترقى في إدراك عقله وفهمه ؛ لأن الشاب في الترقي ، والشيخ في التوقف والنقصان .

وفي (" الكشاف ") : ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في النسيان . وأن يعلم شيئا ثم [ ص: 3832 ] يسرع في نسيانه ، فلا يعلمه إن سئل عنه . وقيل : لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئا . وقيل : لئلا يعلم زيادة علم على علمه الأول . و ( شيئا ) منصوب على المصدرية أو المفعولية . وجوز فيه التنازع بين ( يعلم ) و ( علم ) وكون مفعول ( علم ) محذوفا لقصد العموم . أي : لا يعلم شيئا ما بعد علم أشياء كثيرة إن الله عليم قدير والله فضل بعضكم على بعض في الرزق أي : جعلكم متفاوتين فيه ، فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم ، وهم بشر مثلكم : فما الذين فضلوا أي : في الرزق ، وهم الملاك : برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم أي : بمعطيهم إياه : فهم فيه سواء أي : فيستووا مع عبيدهم في الرزق .

والآية مثل ضرب للذين جعلوا له تعالى شركاء . أي : أنتم لا تسوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ، ولا تجعلونهم فيه شركاء ، ولا ترضون ذلك لأنفسكم . فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي شركاء في الإلهية والتعظيم ؟ كما قال في الأخرى : ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم

أفبنعمة الله يجحدون أي : فيشركون معه غيره وهو المنعم عليهم . أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج البالغة بعد ما أنعم بها عليهم ؟ ! فإنه لا نعمة على العالم أجل من إقامة الحجج وإيضاح السبل بإرسال الرسل .

[ ص: 3833 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[72-74] والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون .

والله جعل لكم من أنفسكم أي : في جنسكم وشكلكم إناثا أزواجا لتأنسوا بها وتحصل المودة والألفة والرحمة : وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة أي : بنات وأولاد أولاد : ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وهو منفعة الأصنام وشفاعتها : وبنعمت الله هم يكفرون أي : في إضافة نعمه إلى الأصنام ، أو في تحريم ما أحل لهم .

ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا أي : من مطر أو نبات و ( شيئا ) نصب على المفعولية من ( رزق ) إن كان مصدرا ، وإن جعل اسما للمرزوق فـ ( شيئا ) بدل منه بمعنى قليلا . و ( من السماوات ) متعلق بـ ( يملك ) على كون الرزق مصدرا . أو هو صفة لـ ( رزقا ) : ولا يستطيعون أي : أن يتملكوه . أو لا استطاعة لهم أصلا . أو الضمير للمشركين . أي : ولا يستطيعون مع أنهم أحياء متصرفون فكيف بالجماد ؟ ! .

فلا تضربوا لله الأمثال أي : فلا تجعلوا له أندادا وأمثالا . والضرب للمثل فيه معنى الجعل . والأمثال جمع ( مثل ) بكسر فسكون على هذا ، وقيل : جمع ( مثل ) بفتحتين ، والآية استعارة تمثيلية للإشراك به . حيث جعل المشرك به الذي يشبهه بخلقه ، بمنزلة ضارب المثل . [ ص: 3834 ] فإن المشبه المخذول يشبه صفة بصفة ، وذاتا بذات . كما أن ضارب المثل كذلك . فكأنه قيل : ولا تشركوا . وعدل عنه لما ذكر ؛ دلالة على التعميم في النهي عن التشبيه وصفا وذاتا . وفي لفظة ( الأمثال ) لمن لا مثال له ، نعي عظيم على سوء فعلهم . كذا في (" شرح الكشاف ") .

إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون أي : يعلم قبح ما تشركون وأنتم لا تعلمونه . ولو علمتموه لما جرأتم عليه ، فهو تعليل للنهي . أو يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمونه ، فدعوا رأيكم وقياسكم دون نصه . ولما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك ؛ عقبه بالكشف لذي البصيرة ، عن حالهم في تلك الغفلة ، وحال من تابعهم ، بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[75] ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون .

ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون يعني أن مثل هؤلاء في إشراكهم ، مثل من سوى بين عبد مملوك عاجز عن التصرف ، وبين حر مالك يتصرف في ماله كيف يشاء ، ولا مساواة بينهما ، مع أنهما سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وتعالى . فما الظن برب العالمين حيث يشركون به أعجز المخلوقات ؟ ! وإيثار قوله : ومن رزقناه إلخ على ( مالكا ) للتنبيه على أن ما بيده ، هو من فضل الله ورزقه ، وعلى تذكيره الإنفاق منه في السر والجهر ، ليكون عاملا بأمر الله فيه .

[ ص: 3835 ] وقوله تعالى : الحمد لله أي : على ما هدى أولياءه . وأنعم عليهم من التوحيد . أو الحمد كله له لا يستحقه شيء من الأصنام . أو الحمد لله على قوة هذه الحجة وظهور المحبة وأكثرهم لا يعلمونها ، مع أنها في غاية ظهورها ونهاية وضوحها .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[76] وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم .

وضرب الله مثلا أي : مثلا آخر يدل على ما دل عليه المثل السابق على وجه أوضح : رجلين أحدهما أبكم أي : أخرس : لا يقدر على شيء أي : مما يقدر عليه المنطيق المفصح عما في نفسه : وهو كل على مولاه أي : ثقيل على من يلي أمره ، لعدم اهتمامه بإقامة مصالح نفسه : أينما يوجهه لا يأت بخير أي : حيث يرسله في أمر لا يأت بنجحه وكفاية مهمه : هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل أي : ومن هو بليغ منطيق ذو كفاية ورشد لينفع الناس ، بحثهم على العدل الشامل لجميع الفضائل .

{ وهو } أي : في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام : على صراط مستقيم أي : على سيرة صالحة ودين قويم ، لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي وأسهله .

قال الأزهري : ضرب تعالى مثلا للصنم الذي عبدوه وهو لا يقدر على شيء ، فهو كل على مولاه ؛ لأنه يحمله إذا ظعن فيحوله من مكان إلى مكان . فقال الله تعالى : هل يستوي هذا الصنم الكل ، ومن يأمر بالعدل ؟ استفهام معناه التوبيخ ، كأنه قال : لا تسووا بين الصنم وبين الخالق جل جلاله . انتهى .

[ ص: 3836 ] وإليه أشار الزمخشري بقوله : وهذا مثل ضربه الله لنفسه ، ولما يفيض على عباده ويشملهم مع آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية . وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع . انتهى .

وناقش الرازي في حمله على الصنم بأن الوصف بالرجل وبالبكم وبالكل وبالتوجه في جهات المنافع ، يمنع من حملها على الوثن . وكذا الوصف في الثاني بأنه على صراط مستقيم ، يمنع من حمله على الله تعالى . انتهى .

وقد يقال في جوابه : بأن الأوصاف الأول ، وإن كانت ظاهرة في الإنسان ) والأصل في الإطلاق ما يتبادر وهو الحقيقة ) إلا أن المقام صرفها إلى الوثن ؛ لأن الآيات في بيان حقارة ما يعبد من دونه تعالى ، وكونه لا يصلح للألوهية بوجه ما ؛ لما فيه من صفات النقص . وأما الوصف في قوله : على صراط مستقيم فكقوله تعالى : إن ربي على صراط مستقيم فصح الحمل .

ثم رأيت للإمام ابن القيم في (" أعلام الموقعين ") ما يؤيد ما اعتمدناه حيث قال في بحث أمثال القرآن ، في هذين المثلين ما صورته :

فالمثل الأول : يعني قوله تعالى : ضرب الله مثلا عبدا مملوكا الآية ، ضربه الله سبحانه لنفسه وللأوثان . فالله سبحانه هو المالك لكل شيء . ينفق كيف يشاء على عبيده سرا وجهرا وليلا ونهارا . يمينه ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار . والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء ، فكيف يجعلونها شركاء إلي ويعبدونها من دوني ، مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين ؟ هذا قول مجاهد وغيره .

وقال ابن عباس : هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده ثم رزقه منه حسنا ، فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرا وجهرا . والكافر بمنزلة عبد مملوك [ ص: 3837 ] عاجز لا يقدر على شيء ؛ لأنه لا خير عنده . فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء ؟ والقول الأول أشبه بالمراد ، فإنه أظهر في بطلان الشرك ، وأوضح عند المخاطب ، وأعظم في إقامة الحجة ، وأقرب نسبا بقوله : ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ثم قال : ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحد ممن رزقه منه رزقا حسنا . والكافر المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء . فهذا مما ينبه عليه المثل وأرشد إليه . فذكره ابن عباس منبها على إرادته ، لا أن الآية اختصت به . فتأمله فإنك تجده كثيرا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن . فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره ، فيحكيه قوله .

وأما المثل الثاني ، فهو مثل ضربه الله سبحانه وتعالى لنفسه ولما يعبدون من دونه أيضا . فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق . بل وهو أبكم القلب واللسان ، قد عدم النطق القلبي واللساني ، مع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتة . وعلى هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير ، ولا يقضي لك حاجة . والله سبحانه حي قادر متكلم يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم . وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد . فإن أمره بالعدل ، وهو الحق يتضمن أنه سبحانه عالم به معلم له ، راض به آمر لعباده به ، محب لأهله لا يأمر بسواه ، بل تنزه عن ضده الذي هو الجور والظلم والسفه والباطل . بل أمره وشرعه عدل كله . وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه . وهم المجاورون له عند يمينه ، على منابر من نور . وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني . وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه . كما في الحديث الصحيح : « اللهم إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك » . فقضاؤه [ ص: 3838 ] هو أمره الكوني : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فلا يأمر إلا بحق وعدل . وقضاؤه وقدره القائم به حق وعدل . وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم ، فالقضاء غير المقضي ، والقدر غير المقدر . ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم ، وهذا نظير قول رسوله شعيب : إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم وقوله : ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها نظير قوله ( ناصيتي بيدك ) وقوله : إن ربي على صراط مستقيم نظير قوله ( عدل في قضاؤك ) فالأول ملكه ، والثاني حمده . وهو سبحانه له الملك وله الحمد . وكونه سبحانه على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق ، ولا يأمر إلا بالعدل ، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة ورحمة وحكمة وعدل . فهو على الحق في أقواله وأفعاله . فلا يقضي على العبد بما يكون ظالما به ولا يؤخذ بغير ذنبه . ولا ينقصه من حسناته شيئا . ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ، ولم يتسبب إليها شيئا . ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ، ولا يفعل قط ما لا يحمد عليه ويثنى به عليه ويكون له فيه العواقب الحميدة والغايات المطلوبة . فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله .

قال محمد بن جرير الطبري : وقوله : إن ربي على صراط مستقيم يقول : إن ربي على طريق الحق يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته ، لا يظلم أحدا منهم ولا يقبل منهم إلا الإسلام له والإيمان به .

ثم حكي عن مجاهد من طريق شبل بن أبي نجيح عنه : إن ربي على صراط مستقيم قال : الحق . وكذلك رواه ابن جريج عنه .

[ ص: 3839 ] وقالت فرقة : هي مثل قوله : إن ربك لبالمرصاد وهذا اختلاف عبارة . فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته .

وقالت فرقة : في الكلام حذف تقديره : إن ربي يحثكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه . وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها . فليس كما زعموا ولا دليل على هذا المقدر . وقد فرق سبحانه بين كونه آمرا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم . وإن أرادوا أن حثه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم ، فقد أصابوا .

وقالت فرقة أخرى : معنى كونه على صراط مستقيم : أن مرد العباد والأمور كلها إلى الله لا يفوته شيء منها . وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك . وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه ، فهو حق .

وقالت فرقة أخرى : معناه كل شيء تحت قدرته وقهره في ملكه وقبضته ، وهذا وإن كان حقا فليس هو معنى الآية . وقد فرق شعيب بين قوله : ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وبين قوله : إن ربي على صراط مستقيم فهما معنيان مستقلان .

فالقول قول مجاهد . وهو قول أئمة التفسير . ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه .

وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز :


أمير المؤمنين على صراط إذا اعوج الموارد مستقيم


وقد قال تعالى : من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم [ ص: 3840 ] وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط المستقيم في أقوالهم وأفعالهم فهو سبحانه أحق بأن يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله . وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره ، فصراطه الذي هو سبحانه عليه ، هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قوله الحق وفعله ، وبالله التوفيق .

وفي الآية قول ثان مثل الآية الأولى سواء : إنه مثل ضربه الله للمؤمن والكافر . وقد تقدم ما في هذا القول ، وبالله التوفيق . انتهى بحروفه . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[77] ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير .

ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير

الآية إما جواب لاستعجالهم ما يوعدون ، أو لاستبطائهم الساعة ، أو لبيان كماله في العلم والقدرة ؛ تعريضا بأن معبوداتهم عرية منهما . فأشار إلى الأول بقوله : ولله غيب السماوات والأرض أي : يختص به علم ما غاب فيهما عن العباد وخفي عليهم علمه ، أو غيبهما : هو يوم القيامة ، فإن علمه غائب عن أهلهما ، لم يطلع عليه أحد منهم ، وأشار إلى الثاني بقوله : وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب و ( الساعة ) : الوقت الذي تقوم فيه القيامة . و ( اللمح ) : النظر بسرعة . أي : كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها ) أو هو أقرب ) من ذلك ، أي : أسرع زمانا ، بأن يقع في بعض زمانه . وفيه من كمال تقرير قدرته تعالى ما لا يخفى . وقوله : إن الله على كل شيء قدير تعليل له ، إشارة إلى أن مقدوراته تعالى لا تتناهى ، وأن ما يذكر بعض منها . وقوله تعالى :




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.48 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.86 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.32%)]