عرض مشاركة واحدة
  #429  
قديم 30-04-2023, 05:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,147
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ اَلنَّحْلِ
المجلد العاشر
صـ 3856 الى صـ 3870
الحلقة (429)




القول في تأويل قوله تعالى :

[97] من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .

من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون هذا وعد منه تعالى لمن عمل صالحا . وهو العمل التابع لكتاب الله وسنة رسوله ، من ذكر أو أنثى ، وهو ثابت على إيمانه إلى الموت ، بأن يحييه الله تعالى حياة طيبة .

قال المهايمي : أي : فيتلذذ بعمله في الدنيا فوق تلذذ صاحب المال والجاه ، ولا يبطل تلذذه إعساره ؛ إذ يرضيه الله بقسمته فيقنعه ويقل اهتمامه بحفظ المال وتنميته . والكافر لا يهنأ عيشه بالمال والجاه ؛ إذ يزداد حرصا وخوف فوات . ويجزون بالأحسن في الآخرة . فلا يقال لهم : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا بل يكمل جزاء أعمالهم الأدنى بحيث يلحق بالأعلى . انتهى .

وعندي أن الحياة الطيبة هي الحياة التي فيه ثلج الصدور بلذة اليقين وحلاوة الإيمان والرغبة في الموعود والرضا بالقضاء . وعتق الروح مما كانوا يستعبدون له . والاستكانة إلى معبود واحد ، والتنور بسر الوجود الذي قام به ، وغير ذلك من مزاياه المقررة في مواضعها . هذا في الدنيا . وأما في الآخرة ، فله الجزاء الأحسن والثواب الأوفى .
القول في تأويل قوله تعالى :

[98-100] فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون .

فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان [ ص: 3857 ] على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون

لما كان القرآن هو الذكر الحكيم والحق المبين ، وكان لكل حق محارب وهو شيطان الجن أو الإنس يثير الشبهات بوساوسه ، ويفسد القلوب بدسائسه ؛ أمر صلى الله عليه وسلم بأن يستعيذ بالله ويلتجئ إليه ، عند تلاوة القرآن ، من وسوسته ؛ لأن قوة الإنسان تضعف عن دفعه بسهولة ، فيحتاج إلى الاستعانة عليه بالله واللياذ بجواره منه . وقد بينت آية : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم أن هذه عادة الشيطان إثر ما يتلوه كل نبي على أمته من الأحكام المتجددة التي يوحى بها لسعادة البشر ، أنه يحول عنها الأنظار ، ويسعى لهدم ما أقيمت لأجله . وإن الله يحكم آياته وينسخ شبه الشيطان ؛ ليحق الحق ويبطل الباطل . فلما كانت هذه عادته ، ولها من الأثر ما لها ، احتيج إلى الاستعاذة به تعالى منها ، عند قراءة الوحي ونشر تعاليمه .

ثم بين تعالى أن أثر وسوسته إنما يكون فيمن له سلطان عليهم . أي : تسلط وولاية من أوليائه المتبعين خطواته . وأما الذين آمنوا وتوكلوا على ربهم ، فصبروا على المكاره ولم يبالوا بما يلقون في سبيل الجهاد بالحق من العثرات ؛ فليس له عليهم سلطان . فهم يضادون أمانيه ويهدمون كل ما يلقيه ؛ لأن إيمانهم يفيدهم النور الكاشف عن مكره ، والتوكل على الله يفيدهم التقوية بالله ، فيمنع من معاندة الشيطان وقوة تأثيره . و ( الرجيم ) من أوصاف الشيطان الغالبة ، أي : الملعون المرجوم باللعنة أو المطرود أو المرجوم بالكواكب . والضمير في ( به ) لربهم والباء للتعدية ، أو للشيطان ، والباء للسببية ، أي : بسببه وغروره ووسوسته . ورجح باتحاد الضمائر فيه . وأشار بعضهم إلى أن المعنى : أشركوه في عبادة الله تعالى ، وكله مما يحتمله اللفظ الكريم ويصح إرادته .

[ ص: 3858 ] تنبيه :

في الآية مشروعية الاستعاذة قبل القراءة ، وهو شامل لحالة الصلاة وغيرها . وقال قوم بوجوبها لظاهر الأمر . وسرها في غيره صلى الله عليه وسلم : التحصن به تعالى أن لا يلبس الشيطان القراءة ، وأن لا يمنع من التدبر والتذكر .
القول في تأويل قوله تعالى :

[101-102] وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينـزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نـزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين .

وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينـزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نـزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين

التبديل : رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ، فتبديل الآية : رفعها بآية أخرى . والأكثرون : على أن المعنى نسخ آية من القرآن لفظا أو حكما بآية أخرى غيرها ؛ لحكمة باهرة أشير إليها بقوله : والله أعلم بما ينـزل من ناسخ قضت الحكمة أن يتبدل المنسوخ الأول به . وذهب قوم إلى أن المعنى تبديل آية من آيات الأنبياء المتقدمين ، كآية موسى وعيسى وغيرهما من الآيات الكونية الآفاقية ، بآية أخرى نفسية علمية ، وهي كون المنزل هدى ورحمة وبشارة يدركها العقل إذا تنبه لها وجرى على نظامه الفطري . وذلك لاستعداد الإنسان وقتئذ ؛ لأن يخاطب عقله ويستصرخ فمه ولبه . فلم يؤت من قبل الخوارق الكونية ويدهش بها كما كان لمن سلف . فبدلت تلك بآية هو كتاب العلم والهدى من نبي أمي لم يقرأ ولم [ ص: 3859 ] يكتب . وكون الكتاب بين الصدق قاطع البرهان ناصع البيان بالنسبة لمن أوتي ورزق الفهم . وهذا التأويل الثاني يرجحه على الأول ؛ أن السورة مكية ، وليس في المكي منسوخ بالمعنى الذي يريدونه . وللبحث تفصيل في موضع آخر . وقد أشرنا إلى ذلك في آيتين من سورة البقرة في قوله تعالى : وإن كنتم في ريب مما نـزلنا إلخ ، وقوله : ما ننسخ من آية والمقصود أنه تعالى ، لما رحم العالمين وجعل القرآن مكان ما تقدم ، نسبوا الموحى إليه به إلى الافتراء ؛ ردا للحق ، وعنادا للهدى ، وتوليا للشيطان ، وتعبدا لوسوسته ، وما ذاك إلا لجهلهم المتناهي ، كما قال : بل أكثرهم لا يعلمون واعتراض قوله : والله أعلم بما ينـزل لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم .

ثم أمره تعالى بأن يصدع بالحق في شأنه بقوله : قل نـزله أي : القرآن المدلول عليه بالآية : روح القدس يعني جبريل عليه السلام . أضيف إلى القدس وهو الطهر ، كما يقال : ( حاتم الجود ، وزيد الخير ، وخبر السوء ، ورجل صدق ) والمراد : الروح المقدس ، وحاتم الجود ، وزيد الخير ، والخبر السيئ ، والرجل الصادق . وإنما أضافوا الموصوف إلى مصدر الصفة للمبالغة في كثرة ملابسته له واختصاصه به . والمقدس : المطهر من الأدناس البشرية . وإضافة ( الرب ) إلى ضميره صلوات الله عليه في قوله تعالى : من ربك ؛ للدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية . وقوله : بالحق أي : متلبسا بالحق الثابت الموافق للحكمة التي اقتضاها دور عصره . وقوله تعالى : ليثبت الذين آمنوا أي : على الحق ونبذ وساوس الشياطين . وفي قوله تعالى : وهدى وبشرى للمسلمين تعريض بحصول أضداد هذه الصفات لغيرهم .

[ ص: 3860 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[103] ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين .

ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين

يخبر تعالى عن المشركين في قولهم غير ما نقل عنهم قبل من المقالة الشنعاء ، وكذبهم وبهتهم أن الرسول إنما يعلمه هذا الذي يتلوه من القرآن ، بشر . يعنون رجلا أعجميا كان بين أظهرهم يقرأ في الكتب المتقدمة . ربما يتحدث معه النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا . وإنما لم يصرح ؛ باسمه للإيذان بأن مدار خطئهم ليس بنسبته صلوات الله عليه إلى التعلم من شخص معين بل من البشر ، كائنا من كان . ثم أشار تعالى وضوح بطلان بهتهم ، بأن لسان الرجل الذي ينسبون إليه التعليم أعجمي غير مبين . وهذا القرآن الكريم لسان عربي مبين ، ذو بيان وفصاحة . ومن أين للأعجمي أن يذوق بلاغة هذا التنزيل ، وما حواه من العلوم ، فضلا أن ينطق به ، فضلا أن يكون معلما له ! . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[104-105] إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون .

إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم تهديد لهم على كفرهم بالقرآن ، بعد ما أماط شبهتهم ورد طعنهم فيه .

وقوله تعالى : إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله رد لقولهم : إنما أنت مفتر وقلب للأمر عليهم ، ببيان [ ص: 3861 ] أنهم هم المفترون لا هو . يعني : إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن ، لأنه لا يخاف عقابا يردعه عنه . وقوله تعالى : وأولئك هم الكاذبون إشارة إلى الذين لا يؤمنون ، ويدخل فيهم قريش دخولا أوليا . أي : الكاذبون في الحقيقة ونفس الأمر . أو الكاملون فيه ؛ لأنه لا كذب أعظم من تكذيب آياته تعالى ، والطعن فيها بأمثال هاتيك الأباطيل . ولا يخفى ما في الحصر ، بعد القصر ، من العناية بمقامه صلوات الله عليه . وقد كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا ، معروفا بالصدق في قومه ، لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يدعى بينهم إلا بـ ( الأمين محمد ) . ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها ، من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان فيما قال له : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا . فقال هرقل : ما كان ليدع الكذب على الناس ، ويذهب فيكذب على الله تعالى .

تنبيه :

في هذه الآية دلالة قوية على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش . والدليل عليه : أن كلمة : { إنما } للحصر . والمعنى : أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله ، وإلا من كان كافرا . وهذا تهديد في النهاية .

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : هل يكذب المؤمن ؟ قال : لا . ثم قرأ هذه الآية . أفاده الرازي . وقوله تعالى :

[ ص: 3862 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[106-109] من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون .

من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون

لما بين تعالى فضل من آمن وصبر على أذى المشركين ، في المحاماة عن الدين ، تأثره ببيان ما للردة وإيثار الضلال على الهدى ، من الوعد الشديد ، بهذه الآيات . واستثنى المكره المطمئن القلب بالإيمان بالله ورسوله ؛ فإنه إذا وافق المشركين بلفظ ، لإيلام قوي وإيذاء شديد وتهديد بقتل ، فلا جناح عليه . إنما الجناح على من شرح بالكفر صدرا ، أي : طاب به نفسا واعتقده ، استحبابا للحياة الدنيا الفانية ، أي : إيثارا لها على الآخرة الباقية ، فذاك الذي له [ ص: 3863 ] من الوعيد ما بينته الآيات الكريمة ، من غضب الله عليهم أولا ، وعذابه العظيم لهم ، وهو عذاب النار ثانيا . وعدم هدايتهم باختيارهم الكفر ثالثا . ورابعا بالطبع على قلوبهم بقساوتها وكدورتها . فلم ينفتح لهم طريق الفهم ، وعلى سمعهم وأبصارهم بسد طريق المعنى المراد من مسموعاتهم وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب . فلم يؤثر فيهم شيء من أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض العلم وإشراق النور . ولا من طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع . وخامسا بكونهم هم الغافلين بالحقيقة ، لعدم انتباههم بوجه من الوجوه . وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من الأسباب . وجلي ، أن كل نقمة من هذه الخمس ، على انفرادها ، من أعظم الحواجز عن الفوز بالخيرات والسعادات . فكيف بها كلها ! .

قال الرازي : ومعلوم أنه إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة . فإذا حصلت هذه الموانع عظم خسرانه . فلهذا قال : لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون أي : الذين ضاعت دنياهم التي استنفدوا في تحصيلها وسعهم ، وأتلفوا في طلبها أعمارهم ، وليسوا من الآخرة في شيء إلا في وبال التحسرات .

تنبيهات :

الأول : ( من ) في قوله تعالى : من كفر موصول مبتدأ خبره : فعليهم غضب وقوله : إلا من أكره استثناء مقدم من حكم الغضب . وقوله : ولكن من شرح بالكفر صدرا رجوع إلى صدر الآية وحكمها ، بأسلوب مبين لمن كفر ، موضح له . بمثابة عطف البيان أو عطف التفسير . وهذا الوجه من الإعراب لم أره لأحد ، ولا يظهر غيره لمن ذاق حلاوة أسلوب القرآن .

الثاني : استدل بالآية على أن المكره غير مكلف . وأن الإكراه يبيح التلفظ بكلمة [ ص: 3864 ] الكفر ، بشرط طمأنينة القلب على الإيمان . واستدل العلماء بالآية على نفي طلاق المكره وعتاقه ، وكل قول أو فعل صدر منه ، إلا ما استثنى . أفاده السيوطي في " الإكليل " .

الثالث : روي عن ابن عباس : أنها نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم فوافقهم مكرها . ثم جاء معتذرا . قال ابن جرير : أخذ المشركون عمارا فعذبوه ، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا . فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : « كيف تجد قلبك ؟ » قال : مطمئنا بالإيمان . قال صلى الله عليه وسلم : « إن عادوا فعد » .

وقال ابن إسحاق : إن المشركين عدوا على من أسلم واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه . فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين . فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش . وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر . يفتنونهم عن دينهم . فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبه . ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم . وكان بلال رضي الله عنه عبدا لبعض بني جمح ، يخرجه أمية بن خلف ، إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره . ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى . فيقول ( وهو في ذلك البلاء ) : أحد ، أحد ، حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه .

وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه ، رضي الله عنهم ، إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة ، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : « صبرا آل ياسر ، موعدكم الجنة » فأما أمه فقتلوها وهي تأبى إلا الإسلام .

[ ص: 3865 ] قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ؟ قال : نعم . والله ! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ، حتى ما يقدر على أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي نزل به ، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة . حتى يقولوا له : اللات والعزى إلهك من دون الله ؟ فيقول : نعم . حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له : هذا الجعل إلهك من دون الله ؟ فيقول : نعم ؛ افتداء منهم ، مما يبلغون من جهده .

وقد ذكر ابن هشام في (" السيرة ") في بحث (" عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة ") غرائب في هذا الباب ، فانظره .

قال ابن كثير : ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي ؛ إبقاء لمهجته . ويجوز له أن يأبى ، كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ، وهم يفعلون به الأفاعيل ، وهو يقول : أحد ، أحد . ويقول : والله ! لو أعلم كلمة أغيظ لكم منها لقلتها . رضي الله عنه وأرضاه . وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري ، لما قال له مسيلمة الكذاب : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ فيقول : نعم . فيقول : أتشهد أني رسول الله ؟ فيقول : لا أسمع . فلم يزل يقطعه إربا إربا ، وهو ثابت على ذلك .

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمي ، أحد الصحابة ، أنه أسرته الروم ، فجاءوا به إلى ملكهم . فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي . فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب ، على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ، ما فعلت . فقال : إذا أقتلك . فقال : أنت وذاك . فأمر به فصلب . وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه ، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى . ثم أمر به فأنزل .

[ ص: 3866 ] ثم أمر بقدر فأحميت . وجاء بأسير من المسلمين فألقاه وهو ينظر ، فإذا هو عظام تلوح ، وعرض عليه فأبى . فأمر به أن يلقى فيها . فرفع بالبكرة ليلقى فيها فبكى . فطمع فيه ودعاه ، فقال : إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة ، تلقى في هذا القدر الساعة . فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي ، نفس تعذب هذا العذاب في الله .

وفي بعض الروايات : أنه سجنه ومنعه الطعام والشراب أياما . ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه . ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل ؟ فقال : أما هو فقد حل لي . ولكن لم أكن لأشمتك في . فقال له الملك : فقبل رأسي وأنا أطلقك وأطلق جميع أسارى المسلمين . قال : فقبل رأسه . وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده . فلما رجع قال عمر بن الخطاب : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ، وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[110] ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم .

ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم بيان للذين كانوا مستضعفين بمكة ، مهانين في قومهم ، وافقوهم على الفتنة ظاهرا ، ثم أمكنهم الخلاص بالهجرة ، فتركوا بلادهم وأهاليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وجاهدوا الكافرين وصبروا على مشاق الجهاد . أخبر تعالى أن هؤلاء من بعد الفتنة المذكورة ، أي : إجابتهم إليها : لغفور رحيم فيغفر لهم ما فرط منهم ويرحمهم بالجزاء الحسن .

والجار في قوله : للذين متعلق بالخبر على نية التقديم والتأخير ، والخبر لـ ( إن ) الأولى . والثانية مكررة للتأكيد . أو للثانية وخبر الأولى مقدر ، وشمل قوله : هاجروا [ ص: 3867 ] من هاجر إلى الحبشة من مكة فرارا بدينه من الفتنة ، ومن هاجر بعد إلى المدينة كذلك . كما شمل قوله : جاهدوا في بث الحق ونشر كلمة الإيمان والدفاع عنه . أو قاتلوا في سبيل الله ، ولأجل هذا الاحتمال في الفعلين قيل : الآية مدنية ، وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[111] يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون .

يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها منصوب بـ ( رحيم ) أو بـ ( اذكر ) واليوم يوم القيامة . ومعنى : تجادل أي : تحاج وتسعى في خلاصها . لا يهمها إلا ذاتها وشأنها . ولا يغني عنها مال ولا أب ولا ابن ولا شيء ما : وتوفى كل نفس ما عملت أي : من خير وشر : وهم لا يظلمون في ذلك . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[112-113] وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون .

وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون

اعلم أنه لما هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة ، أنذرهم بنقمته في الدنيا أيضا بالجوع والخوف . ومعنى [ ص: 3868 ] قوله تعالى : وضرب الله مثلا قرية أي : جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم . فأبطرتهم النعمة ، فكفروا وتولوا ، فأنزل الله بهم نقمته . فيدخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا ، أو لقوم معينين ، وهم أهل مكة . والقرية إما مقدرة بهذه الصفة غير معينة ؛ إذ لا يلزم وجود المشبه به . أو معينة من قرى الأولين . وقد ضمن ( ضرب ) معنى ( جعل ) و ( مثلا ) مفعول ثان ، و ( قرية ) مفعول أول .

قال أبو السعود : وتأخير ( قرية ) مع كونها مفعولا أول ؛ لئلا يحول المفعول الثاني بينها وبين صفتها وما يترتب عليها ؛ إذ التأخير عن الكل مخل بتجاذب أطراف النظم وتجاوبها . ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس ترقبا لوروده ، وتشوقا إليه . لا سيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه . فإن المثل مما يدعو إلى المحافظة على تفاصيل أحوال ما هو مثل . فيتمكن المؤخر عند وروده لديها فضل تمكن . والمراد بالقرية : أهلها مجازا ، أو بتقدير مضاف . ومعنى كونها : آمنة مطمئنة أنه لا يزعجها خوف . و ( الرغد ) الواسع . و ( الأنعم ) جمع نعمة .

وفي قوله تعالى : فأذاقها الله لباس الجوع والخوف شبه أثر الجوع والخوف وضررهما المحيط بهم ، باللباس الغاشي للابس . فاستعير له اسمه ، وأوقع عليه الإذاقة المستعارة ؛ لمطلق الإيصال المنبئة عن شدة الإصابة ، بما فيها من اجتماع إدراكي اللامسة والذائقة ، على نهج التجريد . فإنها لشيوع استعمالها في ذلك ، وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة .

قال ابن كثير : هذا مثل أريد به أهل مكة . فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة ، يتخطف الناس من حولها ، ومن دخلها كان آمنا لا يخاف ، كما قال تعالى : وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل [ ص: 3869 ] شيء رزقا من لدنا وهكذا قال ها هنا ، و : يأتيها رزقها رغدا أي : هنيئا سهلا : من كل مكان فكفرت بأنعم الله أي : جحدت آلاء الله عليها ، وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، كما قال تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما ، فقال : فأذاقها الله لباس الجوع والخوف أي : ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها من كل مكان ، وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه ، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم ، فأكلوا العلهز : ) هو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحر ) وقوله : والخوف وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة ، من سطوته وسراياه وجيوشه ، وجعل كل ما لهم في دمار وسفال . حتى فتحها الله عليهم . وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم . وامتن به عليهم في قوله : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم الآية . وقوله تعالى : فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنـزل الله إليكم ذكرا رسولا وقوله : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة إلى قوله : ولا تكفرون وكما أنه انعكس على الكافرين حالهم فخافوا بعد الأمن ، وجاعوا بعد الرغد ؛ بدل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنا ، ورزقهم بعد العيلة ، وجعلهم أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم . انتهى .
[ ص: 3870 ] ثم بين تعالى ضلال المشركين في تحريم ما أحل الله من البحائر والسوائب وغيرها ، مفصلا ما حرمه مما ليس فيه كانوا يحرمونه بأهوائهم . وهو مأذون بأكله كما قال :

القول في تأويل قوله تعالى :

[114] فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون .

فكلوا مما رزقكم الله أي : من الحرث والأنعام : حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون أي : تريدون عبادته فاستحلوها ، فإن عبادته في تحليلها . واشكروه فإنه المنعم المتفضل بذلك وحده .

ثم ذكر ما حرمه عليهم ، مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم ، بقوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[115] إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم .

إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزير وما أهل لغير الله به أي : ذبح على اسم غيره تعالى : فمن اضطر أي : أجهد إلى ما حرم الله : غير باغ ولا عاد أي : متعد قدر الضرورة وسد الرمق : فإن الله غفور رحيم أي : فلا يؤاخذه بذلك .

وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية . فأغنى عن إعادته .

ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من الأسماء بآرائهم ، في البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغيرها ، مما كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم ، فقال :



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 48.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.58 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.30%)]